موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (78-83)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

ذَرَأَكُمْ: أي: أنشَأَكُم، وبثَّكُم، وخلَقَكُم، وأصْلُ (ذرأ): كالشَّيءِ يُبذَرُ ويُزرَعُ .
أَسَاطِيرُ: الأساطيرُ: الأباطيلُ والتُّرَّهاتُ، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يمتنُّ اللهُ تعالى على عبادِه بأنَّه هو الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ الذي به يسمعونَ، والأبصارَ التي بها يبصرونَ، والقلوبَ التي بها يعقلونَ، لكِنَّهم لا يشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا.
ويخبرُ أيضًا أنَّه هو الَّذي خلَقَهم وبثَّهم في الأرضِ، وإليه وَحْدَه يُجمَعونَ يومَ القيامةِ للحِسابِ، وأنَّه هو وحْدَه الَّذي يُحيي ويُميتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهما يتعاقبانِ بقدرتِه؛ أفليس لهم عقولٌ يُدركونَ بها ذلك؟!
لكِنْ هؤلاء الكفَّارُ لا يعقِلونَ تلك الأدلَّةَ، بل أنكَروا البَعثَ، فقالوا مِثلَ ما قال أسْلافُهم المنكِرونَ له؛ قالوا: إذا مِتْنا وصِرْنا ترابًا وعظامًا في قبورِنا هل نُبعثُ بعد ذلك؟! هذا لا يكونُ أبدًا، لقد وُعِدَ آباؤُنا بمِثْلِ هذا مِن قَبْلُ، كما وُعِدْنا نحنُ به الآنَ، لكن لم نَرَ لهذا الوعدِ حقيقةً، ما هذا البعثُ الذي وُعِدنا به إلَّا أكاذيبُ الأوَّلينَ ورواياتُهم المختلقةُ الَّتي سَطَّروها مِنْ عندِ أنفُسِهم في كتُبِهم!

تفسير الآيات:

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعدَ أنْ ذكَر سبحانَه إعراضَ المشركينَ عن سماعِ الأدلَّةِ، ورؤيةِ العِبَرِ والتأمُّلِ فى الحقائقِ- أردفَ ذلك الامتِنانَ على عبادِه بأنَّه قد أعطاهم الحواسَّ؛ مِن السمعِ والبصرِ وغيرِهما، ووفَّقهم لاستعمالِها، وكان مِن حقِّهم أن يَسْتفيدوا بها؛ لِيَستبينَ لهم الرُّشدُ مِن الغَيِّ، لكنَّها لم تُغْنِ عنهم شيئًا، فكأنَّهم فقَدوها، كما قال: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ [الأحقاف: 26] .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي أوجَدَ لكم السَّمعَ الَّذي تَسمَعونَ به، والأبصارَ الَّتي تُبصِرونَ بها، والقُلوبَ الَّتي تَعقِلونَ بها، فتَنتَفِعونَ بها في مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم .
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
أي: لا تَشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا على ما أنْعَمَ به عليكم .
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79).
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
أي: واللهُ هو الَّذي خلَقَكم وبثَّكُم -أيُّها النَّاسُ- بالتَّناسُلِ في سائِرِ جِهاتِ الأرضِ، على اخْتِلافِ أجناسِكم وصِفاتِكم ولُغاتِكم .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه تُجمَعونَ يومَ القِيامةِ، فيُحْييكم بَعْدَ مَوتِكم لِيُحاسِبَكم ويُجازِيَكم بما عَمِلتُم مِن خَيرٍ وشَرٍّ .
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80).
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: واللهُ وَحْدَه الَّذي يُحْيي خَلْقَه بنَفخِ الرُّوحِ فيهم، وهو يُمِيتُهم بَعدَ أنْ أحْياهم .
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن الإحياءِ خَلقُ الإيقاظِ، ومِن الإماتةِ خَلقُ النَّومِ،كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] الآيةَ؛ عَطَف على ذلك أنَّ بقُدرتِه اختِلافَ اللَّيلِ والنَّهارِ؛ لتِلك المُناسَبةِ .
وأيضًا لَمَّا كانت حَقيقةُ البَعثِ إيجادَ الشَّيءِ كما هو بَعْدَ إعْدامِه؛ ذَكَّرَهم بأمْرٍ طالَمَا لابَسوهُ وعالَجوهُ ومارسوهُ، فقال :
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: وللهِ وَحْدَه اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهو الذي جعَلَهما يَتناوبانِ ويتعاقبان بقُدرتِه سُبحانَه، فيَذهبُ باللَّيلِ، ويأْتي بالنَّهارِ، ثُمَّ يَذهبُ بالنَّهارِ، ويَأْتي باللَّيلِ .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6] .
وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أفليسَتْ لكم عُقولٌ تُدرِكونَ بها أنَّ الَّذي خلَقَ لكم السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ، وذرَأَكم في الأرضِ، ويُحْيي ويُمِيتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ -هو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَرِيكَ له، وأنَّه القادِرُ على بَعْثِكم بَعدَ مَوتِكم ؟!
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أوضَحَ اللهُ سُبحانَه القولَ في دَلائلِ التَّوحيدِ؛ عقَّبَه بذِكْرِ المَعادِ، فقال: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ في إنْكارِ البَعثِ مع وُضوحِ الدَّلائلِ .
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
أي: هم لا يَعقِلونَ تلك الأدِلَّةَ والحُجَجَ، ولا يَعتَبِرونَ بها، ولكنَّهم يقولونَ بإنكارِ البَعثِ بَعدَ الموتِ، كما قال أسلافُهم المُكذِّبون به !
قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82).
أي: قالوا: أإذا مِتْنا وصِرْنا تُرابًا وعِظامًا في قُبورِنا، أإنَّا لَمُعادونَ بَعدَ ذلك أحياءً؟! ذلك أمْرٌ لا يُعقَلُ، ولا يكونُ أبدًا !
كما قال تعالى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 47-48] .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)  .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ.
أي: لقد سبَقَ أنْ وُعِدَ آباؤُنا مِن قَبْلِنا بالبَعثِ، كما وُعِدْنا نحنُ به، ولم نَرَ له حَقيقةً .
إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أي: ما هذا البَعثُ الَّذي وُعِدْنا به إلَّا أخبارٌ باطِلةٌ، وقَصَصٌ وأحاديثُ خُرافيَّةٌ، ورِواياتٌ مُخْتَلَقةٌ لا صِحَّةَ لها، سطَّرَها الأوَّلونَ في كُتُبِهم؛ بقَصدِ المُسامَرةِ والتَّلهِّي بها .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فذَكَر أنَّه قد جعَلَ لهم ما يُدرِكونَ به المسموعاتِ والمُبصَراتِ والمعقولاتِ؛ إيضاحًا للحُجَّةِ، وقَطعًا للمَعذِرةِ، وذمًّا لهم على عدَمِ شُكرِ نِعَمِ اللهِ؛ ولهذا قال: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فيه ثلاثةُ مَعانٍ: أحدُها: إظهارُ النِّعمةِ. وثانيها: مُطالَبةُ العبادِ بالشُّكرِ عليها. وثالِثُها:الإخبار أنَّ الشَّاكِرَ قَليلٌ ، والشُّكرُ هو القيامُ بطاعةِ المُنعِمِ إقرارًا بالقَلبِ، واعترافًا باللِّسانِ، وعَمَلًا بالأركانِ، فيَعتَرِفُ بقَلبِه أنَّها مِن اللهِ، كذلك أيضًا يتحَدَّثُ بها بلِسانِه اعترافًا لا افتِخارًا، وكذلك أيضًا يقومُ بطاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بجَوارِحِه؛ وبهذه الأركانِ الثَّلاثةِ يكونُ الشُّكرُ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فيه تَنبيهٌ على أنَّ مَن لم يُعمِلْ هذه الأعضاءَ فيما خلَقَهُ اللهُ تعالى، وتدبَّرَ ما أودعَه فيها مِن الدَّلائلِ على وَحدانيَّتِه وباهِرِ قُدرتِه: فهو كعادِمِ هذه الأعضاءِ .
2- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ هذه الأعضاءُ الثَّلاثةُ هي أمَّهاتُ ما يُنالُ به العِلمُ ويُدرَكُ، أعني العِلمَ الذي يمتازُ به البَشَرُ عن سائِرِ الحيواناتِ دونَ ما يُشارِكُها فيه مِنَ الشَّمِّ والذَّوقِ واللَّمسِ، وهنا يُدرِكُ به ما يُحِبُّ ويَكرَهُ، وما يمَيِّزُ به بينَ مَن يُحسِنُ إليه ومَن يُسيءُ إليه، إلى غيرِ ذلك؛ قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، وقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ، وقال: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف: 26] ، وقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ، وقال فيما لكُلِّ عُضوٍ مِن هذه الأعضاءِ مِن العَمَلِ والقُوَّةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
- هذا رُجوعٌ إلى غرَضِ الاستدلالِ على انفِرادِ اللهِ تَعالى بصِفاتِ الإلهيَّةِ، والامتنانِ بما منَحَ النَّاسَ مِن نِعمةٍ؛ لعلَّهم يَشكُرون بتَخصيصِه بالعِبادةِ، وذلك قدِ انتقَلَ عنه مِن قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فانتقَلَ إلى الاعتبارِ بآيةِ فُلكِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، فأتْبَعَ بالاعتبارِ بقَصصِ أقوامِ الرُّسلِ عقِبَ قولِه تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فالجُملةُ إمَّا مَعطوفةٌ على جُملةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [المؤمنون: 21] ، والغرَضُ واحدٌ، وما بيْنَهما انتقالاتٌ، وإمَّا مُستأْنَفةٌ؛ رُجوعًا إلى غرَضِ الاستدلالِ والامتِنانِ. وفي هذا الانتِقالِ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ، ثمَّ الرُّجوعِ إلى الغرَضِ: تَجديدٌ لِنَشاطِ الذِّهنِ، وتَحريكٌ للإصغاءِ إلى الكلامِ .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ خَصَّ السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه يَتعلَّقُ بها مِن المنافِعِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ ما لا يَتعلَّقُ بغَيرِها؛ مِن إعمالِ السَّمعِ والبصَرِ في آياتِ اللهِ، والاستِدلالِ بفِكْرِ القَلْبِ على وَحدانيَّةِ اللهِ وصِفاتِه .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ ... لَمَّا عَبَدوا غيرَه نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن جَهِلَ أنَّه الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ، فأتَى لهم بكَلامٍ مُفيدٍ لقَصرِ القَلبِ أو الإفرادِ، أي: اللهُ الَّذي أنشَأَ ذلك دونَ أصنامِكم. والخِطابُ للمُشرِكين على طَريقةِ الالْتِفاتِ، أو لجَميعِ النَّاسِ، أو للمُسلِمينَ، والمقصودُ منه التَّعريضُ بالمُشرِكين .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ جمَعَ الأبصارَ والأفئدةَ باعتبارِ تَعدُّدِ أصحابِها. وأمَّا إفرادُ السَّمعِ: فجَرَى على الأصْلِ في إفرادِ المصدرِ؛ لأنَّ أصلَ السَّمعِ أنَّه مَصدرٌ. وقيل: الجَمعُ باعتبارِ المُتعلِّقاتِ؛ فلمَّا كان البصرُ يَتعلَّقُ بأنواعٍ كثيرةٍ مِن المَوجوداتِ، وكانت العُقولُ تُدرِكُ أجناسًا وأنواعًا؛ جُمِعَا بهذا الاعتبارِ، وأُفْرِدَ السَّمعُ؛ لأنَّه لا يَتعلَّقُ إلَّا بنَوعٍ واحدٍ، وهو الأصواتُ . وقيل: لعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ فيها أكثَرُ مِنَ التَّفاوُتِ في السَّمعِ، وجمَعَ (فُؤاد) -وهو القَلْبُ-؛ لِتَوقُّدِه وتَحرُّقِه، مِنَ (التَّفؤُّدِ) وهو التَّحرُّقُ، ولعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ كذلك؛ لاحتِمالِها للبصيرةِ .
- و(ما) في قولِه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ صِلةٌ؛ للتَّأكيدِ .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيه مِن مُحسِّناتِ البَلاغةِ: الطِّباقُ؛ حيثُ قُوبِلَ الذَّرْءُ بضِدِّهِ، وهو الحَشرُ والجَمعُ؛ فإنَّ الحشرَ يَجمَعُ كلَّ مَن كان على الأرضِ مِن البشَرِ، والمقصودُ مِن هذه المُقابَلةِ الرَّدُّ على مُنكِري البَعثِ؛ فتَقديمُ المجرورِ في (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تَعريضٌ بالتَّهديدِ بأنَّهم مَحشورونَ إلى اللهِ، فهو يُجازِيهم .
- وتقديمُ المعمولِ في وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للاهتِمامِ، والرِّعايةِ على الفاصلةِ .
3- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أعقَبَ ذِكْرَ الحَشرِ بذِكْرِ الإحياءِ؛ لأنَّ البعثَ إحياءٌ؛ إدْماجًا للاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ في الاستِدلالِ على عُمومِ التَّصرُّفِ في العالَمِ. وأمَّا ذِكْرُ الإماتةِ فلِمُناسَبةِ التَّضادِّ، ولأنَّ فيها دَلالةً على عَظيمِ القُدرةِ والقَهرِ .
- قولُه: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فيه تَقديمُ المجرورِ؛ للقَصرِ، أي: له اختلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ لا لغَيرِه، أي: فغَيرُه لا تَحِقُّ له الإلهيَّةُ .
- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استِفهامٌ إنكاريٌّ، وهذا تَذييلٌ راجِعٌ إلى قولِه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وما بَعْدَه .
4- قوله تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ هذا إدْماجٌ لذِكْرِ أصْلٍ آخَرَ مِن أُصولِ الشِّركِ، وهو إحالةُ البَعثِ بَعدَ الموتِ .
- قولُه: بَلْ قَالُوا عَطْفٌ على مُضْمَرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: فلَمْ يَعقِلُوا، بلْ قالُوا؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ . وقيل: بَلْ للإضرابِ الإبطاليِّ؛ إبطالًا لكونِهم يَعقلونَ، وإثباتًا لإنكارِهم البَعْثَ مع بَيانِ ما بَعثَهم على إنكارِه، وهو تقليدُ الآباءِ .
- وفي قولِه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ الْتِفاتٌ من الخِطابِ في أَفَلَا تَعْقِلُونَ إلى الغَيبةِ بَلْ قَالُوا؛ لأنَّ الكلامَ انتقَلَ مِن التَّقريعِ والتَّهديدِ إلى حِكايةِ ضَلالِهم؛ فناسَبَ هذا الانتقالَ مَقامُ الغَيبةِ؛ لِمَا في الغَيبةِ مِن الإبعادِ ؛ وللإيذانِ بالغضَبِ .
5- قولُه تعالى: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تَفسيرٌ لِمَا قَبلَه مِن المُبْهَمِ، وتَفصيلٌ لِمَا فيه مِن الإجمالِ . وفيه الجَمعُ بيْن ذِكْرِ الموتِ والكونِ تُرابًا وعِظامًا؛ لقَصدِ تَقْويةِ الإنكارِ بتَفظيعِ إخبارِ القُرآنِ بوُقوعِ البَعثِ .
- وجُملةُ: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا إلخ، بدَلٌ مُطابِقٌ مِن جُملةِ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ؛ تَفصيلٌ لإجمالِ المُماثَلةِ. ويجوزُ جَعْلُ قَالُوا الثَّاني استِئنافًا بَيانيًّا لِبَيانِ ما قال الأوَّلونَ، والمعنى واحدٌ على التَّقديرينِ. وعلى كِلَا الوَجْهينِ: فإعادةُ فِعْلِ (قالوا) مِن قَبِيلِ إعادةِ الَّذي عَمِلَ في المُبدَلِ منه. ونُكْتَتُه هنا: التَّعجُّبُ مِن هذا القولِ .
- قولُه: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ الاستِفهامُ إنكاريٌّ، مفيدٌ لكمالِ الاستِبعادِ والاستِنكارِ للبعثِ بعدَ ما آل الحالُ إلى هذا المآلِ .
- وذِكْرُ حَرفِ (إنَّ) في قولِهم: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ المقصودُ منه: حِكايةُ دَعوى البَعثِ بأنَّ الرَّسولَ الَّذي يَدَّعيها بتَحقيقٍ وتَوكيدٍ مع كَونِها شَديدةَ الاستِحالةِ؛ ففي حِكايةِ تَوكيدِ مُدَّعِيها زِيادةٌ في تَفظيعِ الدَّعوى في وَهْمِهم .
6- قولُه تعالى: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقويةٌ له . ووَجْهُ ذِكْرِ الآباءِ: دَفْعُ ما عسَى أنْ يَقولَ لهم قائلٌ: إنَّكم تُبْعَثون قبْلَ أنْ تَصِيروا تُرابًا وعِظامًا، فأعَدُّوا الجوابَ بأنَّ الوعْدَ بالبَعثِ لم يكُنْ مُقتصِرًا عليهم، فيَقَعوا في شَكٍّ باحتِمالِ وُقوعِه بهم بَعدَ مَوتِهم وقبْلَ فَناءِ أجسامِهم، بلْ ذلك وَعدٌ قَديمٌ وُعِدَ به آباؤُهم الأوَّلونَ، وقد مضَتْ أزمانٌ، وشُوهِدَتْ رُفاتُهم في أجْداثِهم، وما بُعِثَ أحدٌ منهم .
- وجُملةُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِن القولِ الأوَّلِ، مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لجوابِ سُؤالٍ يُثيرُه قولُهم: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ؛ وهو أنْ يقولَ سائلٌ: فكيفَ تمالَأَ على هذه الدَّعوى العدَدُ مِن الدُّعاةِ في عُصورٍ مُختلفةٍ مع تَحقُّقِهم عدَمَ وُقوعِه؟ فيُجيبون بأنَّ هذا الشَّيءَ تَلقَّفوهُ عن بَعضِ الأوَّلينَ، فتَناقَلُوه .
- والقَصرُ في قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَصرٌ إضافيٌّ ، لا يَعْدو كَونَه مِن الأساطيرِ إلى كَونِه واقعًا كما زعَمَ المُدَّعون .
- وفي قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عُدولٌ عن الإضمارِ إلى اسمِ الإشارةِ، حيثُ لم يقُلْ: (إنَّه)؛ لقَصدِ زِيادةِ تَمييزِه؛ تَشهيرًا بخَطَئِه في زَعْمِهم .
- وفي الآياتِ الثَّلاثةِ السَّابقةِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقال في سُورةِ (النَّملِ): وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النمل: 67- 68] ؛ فهنا في سُورةِ (المُؤمِنون) قُدِّمَ تَوكيدُ المُضْمَرِ المرفوعِ بـ نَحْنُ وأُخِّرَ المفعولُ، وهو هَذَا، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ (النَّملِ)؛ لأنَّه لمَّا كان مَحَطُّ العِنايةِ في هذه السُّورةِ الخلْقَ والإيجادَ والتَّهديدَ لأهْلِ العِنادِ، حكى عنهم أنَّهم قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا مُقدِّمًا قولَهم: نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا على قولِهم: هَذَا، أي: البعثَ مِن قَبْلُ، بخِلافِ (النَّملِ): فإنَّ محَطَّ العِنايةِ فيها الإيمانُ بالآخرةِ؛ فلذلك قُدِّمَ قولُه: هَذَا، والمُرادُ وَعْدُ آبائِهم على ألْسِنَةِ مَن أتاهُم مِن الرُّسلِ، غيرَ أنَّ الإخبارَ بشُمولِه جَعَلَه وعْدًا للكلِّ على حَدٍّ سَواءٍ .
وقيل: لَمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (المُؤمِنون) قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 68] ، فتقدَّمَ التَّعريفُ في هذه الآيةِ أنَّ آباءَهم قد جاءتهم الرُّسلُ، وأُنْذِروا كما أُنْذِرَ هؤلاء؛ لهذا قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83] ، ولمَّا لم يَتقدَّمْ في آيةِ (النَّملِ) ذِكْرُ إنذارِ آبائِهم، كان أهمُّ شَيءٍ ذِكْرَ الموعودِ به الَّذي هو (هذا)، فقالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا [النمل: 68] . وقيل غيرُ ذلك .