موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (78-83)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

ذَرَأَكُمْ: أي: أنشَأَكُم، وبثَّكُم، وخلَقَكُم، وأصْلُ (ذرأ): كالشَّيءِ يُبذَرُ ويُزرَعُ [699] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 229)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 122)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 464). .
أَسَاطِيرُ: الأساطيرُ: الأباطيلُ والتُّرَّهاتُ، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ [700] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .

المعنى الإجمالي:

يمتنُّ اللهُ تعالى على عبادِه بأنَّه هو الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ الذي به يسمعونَ، والأبصارَ التي بها يبصرونَ، والقلوبَ التي بها يعقلونَ، لكِنَّهم لا يشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا.
ويخبرُ أيضًا أنَّه هو الَّذي خلَقَهم وبثَّهم في الأرضِ، وإليه وَحْدَه يُجمَعونَ يومَ القيامةِ للحِسابِ، وأنَّه هو وحْدَه الَّذي يُحيي ويُميتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهما يتعاقبانِ بقدرتِه؛ أفليس لهم عقولٌ يُدركونَ بها ذلك؟!
لكِنْ هؤلاء الكفَّارُ لا يعقِلونَ تلك الأدلَّةَ، بل أنكَروا البَعثَ، فقالوا مِثلَ ما قال أسْلافُهم المنكِرونَ له؛ قالوا: إذا مِتْنا وصِرْنا ترابًا وعظامًا في قبورِنا هل نُبعثُ بعد ذلك؟! هذا لا يكونُ أبدًا، لقد وُعِدَ آباؤُنا بمِثْلِ هذا مِن قَبْلُ، كما وُعِدْنا نحنُ به الآنَ، لكن لم نَرَ لهذا الوعدِ حقيقةً، ما هذا البعثُ الذي وُعِدنا به إلَّا أكاذيبُ الأوَّلينَ ورواياتُهم المختلقةُ الَّتي سَطَّروها مِنْ عندِ أنفُسِهم في كتُبِهم!

تفسير الآيات:

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعدَ أنْ ذكَر سبحانَه إعراضَ المشركينَ عن سماعِ الأدلَّةِ، ورؤيةِ العِبَرِ والتأمُّلِ فى الحقائقِ- أردفَ ذلك الامتِنانَ على عبادِه بأنَّه قد أعطاهم الحواسَّ؛ مِن السمعِ والبصرِ وغيرِهما، ووفَّقهم لاستعمالِها، وكان مِن حقِّهم أن يَسْتفيدوا بها؛ لِيَستبينَ لهم الرُّشدُ مِن الغَيِّ، لكنَّها لم تُغْنِ عنهم شيئًا، فكأنَّهم فقَدوها، كما قال: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ [701] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (18/44). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (7/579). [الأحقاف: 26] .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي أوجَدَ لكم [702] قيل: الخطابُ للمُكذِّبينَ بالبعثِ. وممن قال به: ابنُ جرير، ومكِّي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((الهداية)) لمكِّي (7/4992)، ((تفسير القاسمي)) (7/299). وقيل: الخطابُ للمؤمنينَ. وممن قال به: الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/289). وقيلَ: الخطابُ لِعُمومِ العِبادِ. اختاره أبو حيان، وهو ظاهرُ عبارةِ ابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/579)، ((تفسير ابن كثير)) (5/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556). السَّمعَ الَّذي تَسمَعونَ به، والأبصارَ الَّتي تُبصِرونَ بها، والقُلوبَ الَّتي تَعقِلونَ بها، فتَنتَفِعونَ بها في مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم [703] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير ابن كثير)) (5/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/104). قال ابنُ جرير: (يقول تعالى ذِكرُه: واللهُ الذي أحدَث لكم -أيُّها المكذِّبون بالبعثِ بعدَ المماتِ- السمعَ الذي تسمعونَ به، والأبصارَ التي تُبصرونَ بها، والأفئدةَ التي تفقهونَ بها؛ فكيفَ يتعذَّرُ على مَن أنشأَ ذلك ابتِداءً إعادتُه بعدَ عدمِه وفقْدِه، وهو الذي يُوجِدُ ذلك كلَّه إذا شاء، ويُفنيه إذا أراد؟!) ((تفسير ابن جرير)) (17/96). وقال ابنُ كثير: (ذكر تعالى نعمتَه على عبادِه في أن جعَل لهم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ، وهي العقولُ والفهومُ التي يُدركونَ بها الأشياءَ، ويَعتبرونَ بما في الكونِ مِن الآياتِ الدالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وأنَّه الفاعلُ المختارُ لِما يشاءُ). ((تفسير ابن كثير)) (5/487). .
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
أي: لا تَشْكُرونَ اللهَ إلَّا شُكرًا قَليلًا على ما أنْعَمَ به عليكم [704] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556). قال ابنُ عاشور: (إنْ كان الخِطابُ للمُشرِكينَ فالشُّكرُ مُرادٌ به التَّوحيدُ، أي: فالشُّكرُ الصَّادِرُ منكم قَليلٌ بالنِّسبةِ إلى تَشريكِكم غيرَه معه في العِبادةِ. وإنْ كان الخِطابُ لجميعِ النَّاسِ فالشُّكرُ عامٌّ في كلِّ شُكرِ نِعْمةٍ، وهو قليلٌ بالنِّسبةِ لقِلَّةِ عَددِ الشَّاكرينَ؛ لأنَّ أكثَرَ النَّاسِ مُشرِكونَ، كما قال تعالى: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17] . وإنْ كان الخِطابُ للمُسلمينَ والمقصودُ التَّعريضُ بالمشركينَ، فالشُّكرُ عامٌّ، وتَقليلُه تَحريضٌ على الاستِزادةِ منه ونبْذِ الشِّركِ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/104). ممن اختار أن المراد أنهم يشكرون شكرًا قليلًا: ابنُ جرير، والرسعني، والقرطبي، وابن جزي، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/601)، ((تفسير الرسعني)) (5/148)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((تفسير ابن جزي)) (2/55)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير الشوكاني)) (3/585)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/100). قال الشِّنقيطي: (قَولُه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ نَعتٌ لمَصدَرٍ، أي: تَشكُرونَ شُكرًا قليلًا. و «ما» تأكيدٌ للقِلَّةِ، ولفظةُ «ما» تأتي لتأكيدِ النَّكِرةِ في قِلَّتِها وحقارتِها. قال بعضُ العُلَماءِ: لا يخلو أحدٌ مِنْ شُكْرٍ في الجُملةِ إلَّا أنَّه شُكرٌ قَليلٌ، والشُّكرُ القَليلُ لا يفيدُ؛ لأنَّ مَن عَمِلَ ببَعضِ الكِتابِ وتَرَك أكثَرَه كمَن لم يعمَلْ به، كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] ، وبَعضُ عُلَماءِ التَّفسيرِ يقولون: إنَّ القرآنَ تُطلَقُ فيه القِلَّةُ ويُرادُ العَدَمُ، والمرادُ: لا تَشكُرونَ النِّعمةَ أصلًا؛ لأنَّ المفرِّطَ المُستَعمِلَ أغلَبَ نِعَمِ اللهِ فيما يُسخِطُ اللهَ لا يُعَدُّ مِن الشَّاكِرينَ. وهذا التَّفسيرُ مُخالِفٌ لظاهِرِ القُرآنِ؛ لأنَّ القُرآنَ دَلَّ على أنَّ هناك شُكرًا قليلًا، ولا تجوزُ مُخالفةُ ظاهِرِ القُرآنِ إلَّا لدَليلٍ يجِبُ الرُّجوعُ إليه مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ، أمَّا استِعمالُ القِلَّةِ في العَدَمِ فهو استِعمالٌ صَحيحٌ في لُغةِ العَرَبِ مَعروفٌ لا شَكَّ فيه بينَ العُلَماءِ.... ولكِنَّ هذا الإطلاقَ وإن كان صَحيحًا في لُغةِ العَرَبِ فظاهِرُ القُرآنِ يُخالِفُه ويدُلُّ على أنَّه لا يخلو إنسانٌ مِن شُكرٍ في الجُملةِ، إلَّا أنَّ الشُّكرَ القَليلَ مع الكُفرِ الكثيرِ لا يَنفَعُ). ((العذب النمير)) (3/100) بتصرُّفٍ يسيرٍ. وقال ابنُ الجوزي: (قال المفسِّرونَ: يريدُ أنَّهم لا يشكرونَ أصلًا). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/269). وممَّن اختار هذا القولَ: السمعانيُّ، والبغوي، والخازن، والعليمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/486)، ((تفسير البغوي)) (3/372)، ((تفسير الخازن)) (3/275)، ((تفسير العليمي)) (4/485)، ((تفسير القاسمي)) (7/299). .
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79).
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
أي: واللهُ هو الَّذي خلَقَكم وبثَّكُم -أيُّها النَّاسُ- بالتَّناسُلِ في سائِرِ جِهاتِ الأرضِ، على اخْتِلافِ أجناسِكم وصِفاتِكم ولُغاتِكم [705] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/346). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه تُجمَعونَ يومَ القِيامةِ، فيُحْييكم بَعْدَ مَوتِكم لِيُحاسِبَكم ويُجازِيَكم بما عَمِلتُم مِن خَيرٍ وشَرٍّ [706] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/346). .
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80).
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: واللهُ وَحْدَه الَّذي يُحْيي خَلْقَه بنَفخِ الرُّوحِ فيهم، وهو يُمِيتُهم بَعدَ أنْ أحْياهم [707] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((البسيط)) للواحدي (16/43)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/346). .
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن الإحياءِ خَلقُ الإيقاظِ، ومِن الإماتةِ خَلقُ النَّومِ،كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] الآيةَ؛ عَطَف على ذلك أنَّ بقُدرتِه اختِلافَ اللَّيلِ والنَّهارِ؛ لتِلك المُناسَبةِ [708] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/105). .
وأيضًا لَمَّا كانت حَقيقةُ البَعثِ إيجادَ الشَّيءِ كما هو بَعْدَ إعْدامِه؛ ذَكَّرَهم بأمْرٍ طالَمَا لابَسوهُ وعالَجوهُ ومارسوهُ، فقال [709] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/174). :
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: وللهِ وَحْدَه اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، فهو الذي جعَلَهما يَتناوبانِ ويتعاقبان بقُدرتِه سُبحانَه، فيَذهبُ باللَّيلِ، ويأْتي بالنَّهارِ، ثُمَّ يَذهبُ بالنَّهارِ، ويَأْتي باللَّيلِ [710] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/106)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/347). ممَّن اختار أنَّ الاختلافَ هنا بمعنَى التَّعاقبِ: ابنُ عطية، وأبو حيان، وابنُ كثير، والعُليمي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/153)، ((تفسير أبي حيان)) (7/580)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير العليمي)) (4/485)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/347). وممَّن اختار أنَّ الاختِلافَ هنا في الزِّيادةِ والنُّقصانِ: السمعانيُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/486)، ((تفسير البغوي)) (3/372)، ((تفسير الخازن)) (3/275). قال الماوَرْديُّ: (قَولُه: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فيه قولانِ: أحَدُهما: بالزِّيادةِ والنُّقصانِ. الثاني: تكَرُّرُهما يومًا بعدَ ليلةٍ، وليلةً بعدَ يَومٍ. ويحتَمِلُ ثالثًا: اختِلافُ ما مضى فيهما مِن سَعادةٍ وشَقاءٍ، وضَلالٍ وهُدًى). ((تفسير الماوردي)) (4/64). وذكر الواحدي أنَّ قَولَه: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار فُسِّرَ بتَفسيرينِ يَرجِعانِ إلى أصلٍ واحِدٍ: الأوَّلُ: هو تَعاقُبُهما في الذَّهابِ والمجيءِ. والثَّاني: اختِلافُهما في الطُّولِ والقِصَرِ، والنُّورِ والظُّلمةِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (3/453). وقال ابن الجوزي: (قَولُه تعالى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: هو الذي جعَلَهما مُختَلفَينِ، يتَعاقَبانِ، ويختَلِفانِ في السَّوادِ والبَياضِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/269). وقال النَّسَفي: (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أى: مَجئُ أحَدِهما عَقِيبَ الآخَرِ، واختِلافُهما في الظُّلمةِ والنُّورِ، أو في الزِّيادةِ والنُّقصانِ). ((تفسير النسفي)) (2/477). قال القرطبي: (... وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أي: جعْلُهما مُخْتلفينِ، كقولك: لك الأجرُ والصِّلةُ، أي: إنَّك تُؤجَرُ وتُوصَلُ، قاله الفرَّاء. وقيلَ: اختلافُهما: نُقْصانُ أحدِهما وزيادةُ الآخَرِ. وقِيلَ: اختلافُهما في النُّورِ والظُّلمةِ. وقِيلَ: تكرُّرُهما يومًا بَعدَ ليلةٍ، وليلةً بَعدَ يومٍ. ويَحتمِلُ خامسًا: اختلافُ ما مَضى فيهما مِن سَعادةٍ وشَقاءٍ، وضلالٍ وهُدًى). ((تفسير القرطبي)) (12/144). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/240). وقال البقاعي: (وَلَهُ أي: وَحْدَه لا لِغَيرِه اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: التصَرُّفُ فيهما على هذا الوَجهِ، يُوجِدُ كلًّا منهما بعدَ أن أعدَمَه، كما كانا سواءً؛ فدلَّ تعاقبُهما على تغَيُّرِهما، وتغيُّرُهما بذلك وبالزِّيادةِ والنَّقصِ على أنَّ لهما مُغَيِّرًا لا يتغَيَّرُ، وأنَّه لا فِعلَ لهما، وإنَّما الفِعلُ له وَحْدَه، وأنَّه قادِرٌ على إعادةِ المعدومِ كما قَدَر على ابتدائِه بما دلَّ على قُدرتِه، وبهذا الدَّليلِ الشُّهوديِّ للحامِدينَ؛ ولذلك ختَمَه بقولِه مُنكِرًا تَسبيبَ ذلك لعَدَمِ عَقلِهم: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أي: يكونُ لكم عُقولٌ؛ لتَعرِفوا ذلك فتَعمَلوا بما تَقتَضيه مِن اعتقادِ البَعثِ الذي يُوجِبُ سُلوكَ الصِّراطِ). ((نظم الدرر)) (13/174). .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6] .
وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أفليسَتْ لكم عُقولٌ تُدرِكونَ بها أنَّ الَّذي خلَقَ لكم السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ، وذرَأَكم في الأرضِ، ويُحْيي ويُمِيتُ، وله اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ -هو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَرِيكَ له، وأنَّه القادِرُ على بَعْثِكم بَعدَ مَوتِكم [711] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/96)، ((تفسير القرطبي)) (12/144)، ((تفسير ابن كثير)) (5/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/347). ؟!
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أوضَحَ اللهُ سُبحانَه القولَ في دَلائلِ التَّوحيدِ؛ عقَّبَه بذِكْرِ المَعادِ، فقال: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ في إنْكارِ البَعثِ مع وُضوحِ الدَّلائلِ [712] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/289). .
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81).
أي: هم لا يَعقِلونَ تلك الأدِلَّةَ والحُجَجَ، ولا يَعتَبِرونَ بها، ولكنَّهم يقولونَ بإنكارِ البَعثِ بَعدَ الموتِ، كما قال أسلافُهم المُكذِّبون به [713] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/97)، ((تفسير ابن جزي)) (2/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/106)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/347). !
قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82).
أي: قالوا: أإذا مِتْنا وصِرْنا تُرابًا وعِظامًا في قُبورِنا، أإنَّا لَمُعادونَ بَعدَ ذلك أحياءً؟! ذلك أمْرٌ لا يُعقَلُ، ولا يكونُ أبدًا [714] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/97)، ((تفسير ابن عطية)) (4/153)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557). !
كما قال تعالى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 47-48] .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)  .
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ.
أي: لقد سبَقَ أنْ وُعِدَ آباؤُنا [715] قال ابن عطية: (وقولهم وَآَبَاؤُنَا إن حكَى المقالةَ عن العربِ فمرادُهم مَن سلَف مِن العالمِ، جعلوهم آباءً مِن حيثُ النوعُ واحدٌ، وإن حكَى ذلك عن الأوَّلينَ فالأمرُ مستقيمٌ فيهم). ((تفسير ابن عطية)) (4/153). وقال الشنقيطي: (والظَّاهرُ أنَّهم يَعْنُونَ أجدادَهم، الَّذينَ جاءَتهم الرُّسلُ، وأخْبَرتْهم بأنَّهم يُبْعَثونَ بعدَ الموتِ للحسابِ والجزاءِ). ((أضواء البيان)) (5/348). مِن قَبْلِنا بالبَعثِ، كما وُعِدْنا نحنُ به، ولم نَرَ له حَقيقةً [716] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/97)، ((تفسير القرطبي)) (12/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/348). .
إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أي: ما هذا البَعثُ الَّذي وُعِدْنا به إلَّا أخبارٌ باطِلةٌ، وقَصَصٌ وأحاديثُ خُرافيَّةٌ، ورِواياتٌ مُخْتَلَقةٌ لا صِحَّةَ لها، سطَّرَها الأوَّلونَ في كُتُبِهم؛ بقَصدِ المُسامَرةِ والتَّلهِّي بها [717] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/97)، ((تفسير القرطبي)) (12/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 557)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/108). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فذَكَر أنَّه قد جعَلَ لهم ما يُدرِكونَ به المسموعاتِ والمُبصَراتِ والمعقولاتِ؛ إيضاحًا للحُجَّةِ، وقَطعًا للمَعذِرةِ، وذمًّا لهم على عدَمِ شُكرِ نِعَمِ اللهِ؛ ولهذا قال: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [718] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/315). .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فيه ثلاثةُ مَعانٍ: أحدُها: إظهارُ النِّعمةِ. وثانيها: مُطالَبةُ العبادِ بالشُّكرِ عليها. وثالِثُها:الإخبار أنَّ الشَّاكِرَ قَليلٌ [719] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (5/130). ، والشُّكرُ هو القيامُ بطاعةِ المُنعِمِ إقرارًا بالقَلبِ، واعترافًا باللِّسانِ، وعَمَلًا بالأركانِ، فيَعتَرِفُ بقَلبِه أنَّها مِن اللهِ، كذلك أيضًا يتحَدَّثُ بها بلِسانِه اعترافًا لا افتِخارًا، وكذلك أيضًا يقومُ بطاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بجَوارِحِه؛ وبهذه الأركانِ الثَّلاثةِ يكونُ الشُّكرُ [720] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/194). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فيه تَنبيهٌ على أنَّ مَن لم يُعمِلْ هذه الأعضاءَ فيما خلَقَهُ اللهُ تعالى، وتدبَّرَ ما أودعَه فيها مِن الدَّلائلِ على وَحدانيَّتِه وباهِرِ قُدرتِه: فهو كعادِمِ هذه الأعضاءِ [721] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/579). .
2- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ هذه الأعضاءُ الثَّلاثةُ هي أمَّهاتُ ما يُنالُ به العِلمُ ويُدرَكُ، أعني العِلمَ الذي يمتازُ به البَشَرُ عن سائِرِ الحيواناتِ دونَ ما يُشارِكُها فيه مِنَ الشَّمِّ والذَّوقِ واللَّمسِ، وهنا يُدرِكُ به ما يُحِبُّ ويَكرَهُ، وما يمَيِّزُ به بينَ مَن يُحسِنُ إليه ومَن يُسيءُ إليه، إلى غيرِ ذلك؛ قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، وقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ، وقال: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف: 26] ، وقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ، وقال فيما لكُلِّ عُضوٍ مِن هذه الأعضاءِ مِن العَمَلِ والقُوَّةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [722] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/309). [الأعراف: 179] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
- هذا رُجوعٌ إلى غرَضِ الاستدلالِ على انفِرادِ اللهِ تَعالى بصِفاتِ الإلهيَّةِ، والامتنانِ بما منَحَ النَّاسَ مِن نِعمةٍ؛ لعلَّهم يَشكُرون بتَخصيصِه بالعِبادةِ، وذلك قدِ انتقَلَ عنه مِن قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فانتقَلَ إلى الاعتبارِ بآيةِ فُلكِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، فأتْبَعَ بالاعتبارِ بقَصصِ أقوامِ الرُّسلِ عقِبَ قولِه تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فالجُملةُ إمَّا مَعطوفةٌ على جُملةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [المؤمنون: 21] ، والغرَضُ واحدٌ، وما بيْنَهما انتقالاتٌ، وإمَّا مُستأْنَفةٌ؛ رُجوعًا إلى غرَضِ الاستدلالِ والامتِنانِ. وفي هذا الانتِقالِ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ، ثمَّ الرُّجوعِ إلى الغرَضِ: تَجديدٌ لِنَشاطِ الذِّهنِ، وتَحريكٌ للإصغاءِ إلى الكلامِ [723] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/103). .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ خَصَّ السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه يَتعلَّقُ بها مِن المنافِعِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ ما لا يَتعلَّقُ بغَيرِها؛ مِن إعمالِ السَّمعِ والبصَرِ في آياتِ اللهِ، والاستِدلالِ بفِكْرِ القَلْبِ على وَحدانيَّةِ اللهِ وصِفاتِه [724] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/198)، ((تفسير أبي حيان)) (7/580). .
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ ... لَمَّا عَبَدوا غيرَه نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن جَهِلَ أنَّه الَّذي أنشَأَ لهم السَّمعَ، فأتَى لهم بكَلامٍ مُفيدٍ لقَصرِ القَلبِ أو الإفرادِ، أي: اللهُ الَّذي أنشَأَ ذلك دونَ أصنامِكم. والخِطابُ للمُشرِكين على طَريقةِ الالْتِفاتِ، أو لجَميعِ النَّاسِ، أو للمُسلِمينَ، والمقصودُ منه التَّعريضُ بالمُشرِكين [725] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/104). .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ جمَعَ الأبصارَ والأفئدةَ باعتبارِ تَعدُّدِ أصحابِها. وأمَّا إفرادُ السَّمعِ: فجَرَى على الأصْلِ في إفرادِ المصدرِ؛ لأنَّ أصلَ السَّمعِ أنَّه مَصدرٌ. وقيل: الجَمعُ باعتبارِ المُتعلِّقاتِ؛ فلمَّا كان البصرُ يَتعلَّقُ بأنواعٍ كثيرةٍ مِن المَوجوداتِ، وكانت العُقولُ تُدرِكُ أجناسًا وأنواعًا؛ جُمِعَا بهذا الاعتبارِ، وأُفْرِدَ السَّمعُ؛ لأنَّه لا يَتعلَّقُ إلَّا بنَوعٍ واحدٍ، وهو الأصواتُ [726] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/104)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/536، 537). . وقيل: لعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ فيها أكثَرُ مِنَ التَّفاوُتِ في السَّمعِ، وجمَعَ (فُؤاد) -وهو القَلْبُ-؛ لِتَوقُّدِه وتَحرُّقِه، مِنَ (التَّفؤُّدِ) وهو التَّحرُّقُ، ولعلَّهَ جمَعَ الأبصارَ كذلك؛ لاحتِمالِها للبصيرةِ [727] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/172، 173). .
- و(ما) في قولِه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ صِلةٌ؛ للتَّأكيدِ [728] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/199)، ((تفسير البيضاوي)) (4/93)، ((تفسير أبي حيان)) (7/580). .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيه مِن مُحسِّناتِ البَلاغةِ: الطِّباقُ؛ حيثُ قُوبِلَ الذَّرْءُ بضِدِّهِ، وهو الحَشرُ والجَمعُ؛ فإنَّ الحشرَ يَجمَعُ كلَّ مَن كان على الأرضِ مِن البشَرِ، والمقصودُ مِن هذه المُقابَلةِ الرَّدُّ على مُنكِري البَعثِ؛ فتَقديمُ المجرورِ في (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تَعريضٌ بالتَّهديدِ بأنَّهم مَحشورونَ إلى اللهِ، فهو يُجازِيهم [729] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/105). .
- وتقديمُ المعمولِ في وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للاهتِمامِ، والرِّعايةِ على الفاصلةِ [730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/48). .
3- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أعقَبَ ذِكْرَ الحَشرِ بذِكْرِ الإحياءِ؛ لأنَّ البعثَ إحياءٌ؛ إدْماجًا للاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ في الاستِدلالِ على عُمومِ التَّصرُّفِ في العالَمِ. وأمَّا ذِكْرُ الإماتةِ فلِمُناسَبةِ التَّضادِّ، ولأنَّ فيها دَلالةً على عَظيمِ القُدرةِ والقَهرِ [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/105). .
- قولُه: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فيه تَقديمُ المجرورِ؛ للقَصرِ، أي: له اختلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ لا لغَيرِه، أي: فغَيرُه لا تَحِقُّ له الإلهيَّةُ [732] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/106). .
- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استِفهامٌ إنكاريٌّ، وهذا تَذييلٌ راجِعٌ إلى قولِه: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وما بَعْدَه [733] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/106). .
4- قوله تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ هذا إدْماجٌ لذِكْرِ أصْلٍ آخَرَ مِن أُصولِ الشِّركِ، وهو إحالةُ البَعثِ بَعدَ الموتِ [734] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/106). .
- قولُه: بَلْ قَالُوا عَطْفٌ على مُضْمَرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: فلَمْ يَعقِلُوا، بلْ قالُوا؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ [735] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/147). . وقيل: بَلْ للإضرابِ الإبطاليِّ؛ إبطالًا لكونِهم يَعقلونَ، وإثباتًا لإنكارِهم البَعْثَ مع بَيانِ ما بَعثَهم على إنكارِه، وهو تقليدُ الآباءِ [736] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/106). .
- وفي قولِه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ الْتِفاتٌ من الخِطابِ في أَفَلَا تَعْقِلُونَ إلى الغَيبةِ بَلْ قَالُوا؛ لأنَّ الكلامَ انتقَلَ مِن التَّقريعِ والتَّهديدِ إلى حِكايةِ ضَلالِهم؛ فناسَبَ هذا الانتقالَ مَقامُ الغَيبةِ؛ لِمَا في الغَيبةِ مِن الإبعادِ [737] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/106). ؛ وللإيذانِ بالغضَبِ [738] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/174). .
5- قولُه تعالى: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تَفسيرٌ لِمَا قَبلَه مِن المُبْهَمِ، وتَفصيلٌ لِمَا فيه مِن الإجمالِ [739] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/147). . وفيه الجَمعُ بيْن ذِكْرِ الموتِ والكونِ تُرابًا وعِظامًا؛ لقَصدِ تَقْويةِ الإنكارِ بتَفظيعِ إخبارِ القُرآنِ بوُقوعِ البَعثِ [740] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/107). .
- وجُملةُ: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا إلخ، بدَلٌ مُطابِقٌ مِن جُملةِ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ؛ تَفصيلٌ لإجمالِ المُماثَلةِ. ويجوزُ جَعْلُ قَالُوا الثَّاني استِئنافًا بَيانيًّا لِبَيانِ ما قال الأوَّلونَ، والمعنى واحدٌ على التَّقديرينِ. وعلى كِلَا الوَجْهينِ: فإعادةُ فِعْلِ (قالوا) مِن قَبِيلِ إعادةِ الَّذي عَمِلَ في المُبدَلِ منه. ونُكْتَتُه هنا: التَّعجُّبُ مِن هذا القولِ [741] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/107)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/537). .
- قولُه: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ الاستِفهامُ إنكاريٌّ، مفيدٌ لكمالِ الاستِبعادِ والاستِنكارِ للبعثِ بعدَ ما آل الحالُ إلى هذا المآلِ [742] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/177)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/107). .
- وذِكْرُ حَرفِ (إنَّ) في قولِهم: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ المقصودُ منه: حِكايةُ دَعوى البَعثِ بأنَّ الرَّسولَ الَّذي يَدَّعيها بتَحقيقٍ وتَوكيدٍ مع كَونِها شَديدةَ الاستِحالةِ؛ ففي حِكايةِ تَوكيدِ مُدَّعِيها زِيادةٌ في تَفظيعِ الدَّعوى في وَهْمِهم [743] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/107). .
6- قولُه تعالى: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقويةٌ له [744] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/107). . ووَجْهُ ذِكْرِ الآباءِ: دَفْعُ ما عسَى أنْ يَقولَ لهم قائلٌ: إنَّكم تُبْعَثون قبْلَ أنْ تَصِيروا تُرابًا وعِظامًا، فأعَدُّوا الجوابَ بأنَّ الوعْدَ بالبَعثِ لم يكُنْ مُقتصِرًا عليهم، فيَقَعوا في شَكٍّ باحتِمالِ وُقوعِه بهم بَعدَ مَوتِهم وقبْلَ فَناءِ أجسامِهم، بلْ ذلك وَعدٌ قَديمٌ وُعِدَ به آباؤُهم الأوَّلونَ، وقد مضَتْ أزمانٌ، وشُوهِدَتْ رُفاتُهم في أجْداثِهم، وما بُعِثَ أحدٌ منهم [745] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/108). .
- وجُملةُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِن القولِ الأوَّلِ، مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لجوابِ سُؤالٍ يُثيرُه قولُهم: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ؛ وهو أنْ يقولَ سائلٌ: فكيفَ تمالَأَ على هذه الدَّعوى العدَدُ مِن الدُّعاةِ في عُصورٍ مُختلفةٍ مع تَحقُّقِهم عدَمَ وُقوعِه؟ فيُجيبون بأنَّ هذا الشَّيءَ تَلقَّفوهُ عن بَعضِ الأوَّلينَ، فتَناقَلُوه [746] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/108). .
- والقَصرُ في قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَصرٌ إضافيٌّ [747] القصرُ الإضافي: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، لا يَعْدو كَونَه مِن الأساطيرِ إلى كَونِه واقعًا كما زعَمَ المُدَّعون [748] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/108). .
- وفي قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عُدولٌ عن الإضمارِ إلى اسمِ الإشارةِ، حيثُ لم يقُلْ: (إنَّه)؛ لقَصدِ زِيادةِ تَمييزِه؛ تَشهيرًا بخَطَئِه في زَعْمِهم [749] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/108). .
- وفي الآياتِ الثَّلاثةِ السَّابقةِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقال في سُورةِ (النَّملِ): وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النمل: 67- 68] ؛ فهنا في سُورةِ (المُؤمِنون) قُدِّمَ تَوكيدُ المُضْمَرِ المرفوعِ بـ نَحْنُ وأُخِّرَ المفعولُ، وهو هَذَا، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ (النَّملِ)؛ لأنَّه لمَّا كان مَحَطُّ العِنايةِ في هذه السُّورةِ الخلْقَ والإيجادَ والتَّهديدَ لأهْلِ العِنادِ، حكى عنهم أنَّهم قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا مُقدِّمًا قولَهم: نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا على قولِهم: هَذَا، أي: البعثَ مِن قَبْلُ، بخِلافِ (النَّملِ): فإنَّ محَطَّ العِنايةِ فيها الإيمانُ بالآخرةِ؛ فلذلك قُدِّمَ قولُه: هَذَا، والمُرادُ وَعْدُ آبائِهم على ألْسِنَةِ مَن أتاهُم مِن الرُّسلِ، غيرَ أنَّ الإخبارَ بشُمولِه جَعَلَه وعْدًا للكلِّ على حَدٍّ سَواءٍ [750] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/175). .
وقيل: لَمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (المُؤمِنون) قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 68] ، فتقدَّمَ التَّعريفُ في هذه الآيةِ أنَّ آباءَهم قد جاءتهم الرُّسلُ، وأُنْذِروا كما أُنْذِرَ هؤلاء؛ لهذا قالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83] ، ولمَّا لم يَتقدَّمْ في آيةِ (النَّملِ) ذِكْرُ إنذارِ آبائِهم، كان أهمُّ شَيءٍ ذِكْرَ الموعودِ به الَّذي هو (هذا)، فقالوا: لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا [751] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/369، 370). [النمل: 68] . وقيل غيرُ ذلك [752] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 943، 945)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 184، 185)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروابادي (1/332)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 391، 392). .