موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (26-28)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ

غريب الكلمات:

مَكَّنَّاهُمْ: أي: ثبَّتْناهم، وملَّكْناهم، وأقدَرْناهم على ما يُريدونَ برَفعِ الموانِعِ، والتَّمكينُ مِن الشَّيءِ: إعطاءُ ما يَصِحُّ به الفِعلُ مِن الآلاتِ والعُدَدِ والقُوى، وأصلُه مُشتَقٌّ مِن المكانِ، يقالُ: مَكَّن له في الأرضِ: جَعَل له مكانًا فيها [441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/160)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 414)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (8/19) و(12/157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772)، ((تفسير المنار)) (7/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/137). .
وَأَفْئِدَةً: جمعُ فُؤادٍ وهو: القلبُ؛ سُمِّي بذلك لحرارتِه أو لتَوقُّدِه، وأصلُ (فأد): يدُلُّ على حُمَّى وشدَّةِ حرارةٍ [442] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646)، ((تفسير القرطبي)) (16/208). .
يَجْحَدُونَ: أي: يَكْفرونَ، أو يُنكِرونَ بألسنتِهم وهم مُستيقِنونَ، والجُحودُ: نفْيُ ما في القلبِ إثباتُه، وإثباتُ ما في القلبِ نَفْيُه، وأصلُ (جحد): يدُلُّ على قلَّةِ الخَيرِ [443] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 27، 28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 187)، ((تفسير القرطبي)) (16/208). .
وَحَاقَ: أي: أحاطَ ونَزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزُولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ [444] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93). .
وَصَرَّفْنَا: أي: نَوَّعْنا وبَيَّنَّا، والصَّرفُ: ردُّ الشَّيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، وأصلُه: يدُلُّ على رَجْعِ الشَّيءِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/178)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/342)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482)، ((تفسير القرطبي)) (11/250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288). .
قُرْبَانًا: القُربانُ: اسمٌ لِما يُتقَرَّبُ به إلى اللهِ مِن ذَبحٍ أو غَيرِه، وأصلُه مَصدَرٌ كالرُّجْحانِ والعُدوانِ والكُفرانِ، ثمَّ سُمِّيَ به نَفْسُ المُتقَرَّبِ به، وأصلُ (قرب): يدُلُّ على خِلافِ البُعْدِ [446] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5 /80)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (6/227)، ((المفردات)) للراغب (ص: 664)، ((تفسير القرطبي)) (16/209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .
إِفْكُهُمْ: أي: كَذِبُهم، وقيل: الإفكُ: أشدُّ الكذبِ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه، فالكذبُ: صرفٌ للكلامِ عمَّا يَنبغي أن يكونَ عليه [447] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 30)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/97)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 153، 990). .
يَفْتَرُونَ: أي: يَختَلِقونَ ويَكْذِبونَ، والافتِراءُ: الاختِلاقُ، وهو ما عَظُمَ مِن الكَذبِ، ومنه قيل: افْترَى فُلانٌ على فُلانٍ، إذا قذَفه بما ليسَ فيه، وأصلُ (فري): قَطْعُ الشَّيءِ [448] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 152)، ((تفسير ابن جرير)) (5/296)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/496)، ((المفردات)) للراغب (ص: 635). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً [الأحقاف: 28]
(لولا): حرفُ توبيخٍ وتنديمٍ بمنزلةِ (هلَّا). نَصَرَهُمُ: فعلٌ ماضٍ، و (هم): في محَلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ به مقدَّمٌ. الَّذِينَ: اسمٌ مَوصولٌ في محلِّ رَفعٍ، فاعِلٌ مؤخَّرٌ. اتَّخَذُوا: فعلٌ ماضٍ. والواوُ: ضميرٌ في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ. والمفعولُ الأوَّلُ لـ اتَّخَذُوا محذوفٌ على كُلِّ تَقديرٍ، وهو عائدُ الموصولِ، أي: اتَّخَذوهم.
قُرْبَانًا آَلِهَةً في نَصبِهما عِدَّةُ أوجُهٍ:
أحَدُها: أنَّ آَلِهَةً: هو المفعولُ الثَّاني للفِعلِ (اتَّخَذ). وقُرْبَانًا: حالٌ مِن (آلِهَةً)، فهو نعتٌ مُقدَّمٌ على النَّكرةِ؛ فانتصَبَ حالًا. والتَّقديرُ: فهلَّا نصَرَهم الَّذين اتَّخَذوهم آلهةً مِن دونِ اللهِ حالَ كَونِها مُتقَرَّبًا بها إلى اللهِ عزَّ وجلَّ!
 الثاني: أنَّ آَلِهَةً مَفعولٌ به ثانٍ. وقُرْبَانًا: مَفعولٌ مِن أجْلِه.
 الثَّالِثُ: قيل: إنَّ قُرْبَانًا: مَفعولٌ به ثانٍ. و آَلِهَةً: بَدَلٌ منه منصوبٌ مِثلُه. وأفسَده الزَّمخشريُّ مِن جِهةِ المعنى [449] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/114)، ((تفسير الزمخشري)) (4/310)، ((تفسير أبي حيان)) (8/66)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/677)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 695)، ((تفسير الشوكاني)) (5/29)، ((تفسير الألوسي)) (13/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). .

المعنى الإجمالي :

يُذكِّرُ اللهُ تعالى كُفَّارَ قُرَيشٍ بما يحمِلُهم على العِظَةِ والعِبرةِ، محذِّرًا لهم، فيقولُ: ولقد مكَّنَّا عادًا قومَ هُودٍ فيما لم نُمكِّنْ لكم فيه؛ مِن كَثرةِ الأموالِ، وقوَّةِ الأبدانِ، وغيرِ ذلك، وأعطَيْناهم مِن فَضْلِنا أسماعًا وأبصارًا وأفئِدةً، ولكِنَّهم لَمَّا لم يَشكُرونا على نِعَمِنا، ولم يَستَعمِلوها في طاعتِنا؛ أخَذْناهم أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ دونَ أن تنفَعَهم أسماعُهم ولا أبصارُهم ولا أفئِدتُهم شيئًا حينَ نزَل بهم عذابُنا؛ لأنَّهم كانوا يُكذِّبونَ بآياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على وَحدانيَّتِه، وكَمالِ قُدرتِه، ونَزَل وأحاطَ بهم عذابُ اللهِ، الَّذي كانوا يَسخَرونَ منه، ويُكذِّبونَ بوُقوعِه؛ فاحذَروا -أيُّها المُشرِكونَ- أن يُصيبَكم مِثلُ ما أصابَهم!
ثمَّ يُضيفُ سبحانَه إلى التَّذكيرِ السَّابقِ تذكيرًا آخَرَ، فيقولُ: ولقد أهلَكْنا ما حوْلَكم -يا أهلَ مكَّةَ- مِن القُرى الظَّالِمةِ، كبلادِ عادٍ، وسَبَأٍ، وثَمودَ، ومَدْيَنَ، وغَيرِها، وكرَّرْنا الآياتِ ونوَّعْناها بأساليبَ مُختَلِفةٍ؛ لِيَرجِعوا عن كُفرِهم باللهِ، وتَكذيبِهم بالحَقِّ، فلم يَفعَلوا؛ فأهلَكْناهم!
فهَلَّا نصَرَهم ومنَعَهم مِن عذابِ اللهِ هؤلاء الآلهةُ الَّذين اتَّخَذوهم مِن دونِ اللهِ قُربانًا يَتقَرَّبونَ بهم إليه سُبحانَه! بل غابوا عنهم وتَرَكوهم وَحْدَهم، ولم يَحضُروا إليهم أو يَنصُروهم، واتِّخاذُهم الآلهةَ مِن دونِ اللهِ هو كَذِبُهم وافتِراؤُهم حينَ ادَّعَوا أنَّها آلِهةٌ تَنصُرُهم وتَنفَعُهم، فخذَلَتْهم ولم يَنتَفِعوا بها!

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى بهَلاكِ قَومِ عادٍ؛ خاطَبَ قُرَيشًا على سَبيلِ المَوعِظةِ [450] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/447). ، وخَوَّفهم؛ فذَكَر فَضْلَ عادٍ بالقُوَّةِ والجِسمِ عليهم، فقال [451] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/26). :
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ.
أي: قال اللهُ لكُفَّارِ قُرَيشٍ: ولقد مكَّنَّا عادًا في الَّذي لم نُمكِّنْ لكم فيه؛ مِن كَثرةِ الأموالِ، وقوَّةِ الأبدانِ، وغيرِ ذلك، فأهلَكْناهم بسَبَبِ كُفرِهم، معَ أنَّهم أعظَمُ منكم تمكينًا؛ فلا تَظنُّوا أنَّ ما مُكِّنتُم فيه سيَدفَعُ عنكم شيئًا مِن عذابِ اللهِ إن استَمرَرتُم على كُفرِكم وتَكذيبِكم [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/160)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير ابن عطية)) (5/103)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/102)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/171، 172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/234). !
كما قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] .
وقال سُبحانَه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .
وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً.
أي: وجعَلْنا لكُفَّارِ عادٍ سَمعًا لِيَسمَعوا به الحَقَّ، وأبصارًا لِيُبصِروه بها، وقُلوبًا لِيَعقِلوه بها، فلم يَنقُصْهم شَيءٌ مِن شأنِه أن يُخِلَّ بإدراكِهم للحَقِّ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/160)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير القرطبي)) (16/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/53). .
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ.
أي: فما نفَعَهم ما أُوتُوه مِنَ السَّمعِ والأبصارِ والعُقولِ شَيئًا؛ إذْ لم يَستَعمِلوها في مَعرِفةِ الصَّوابِ، ولم يُعمِلوها لِدَفعِ العذابِ [454] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/26)، ((تفسير ابن جرير)) (21/160)، ((تفسير السمعاني)) (5/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/173)، ((تفسير الشوكاني)) (5/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783). .
إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ.
أي: لم يَنتَفِعْ كُفَّارُ عادٍ بسَمعِهم وأبصارِهم وقُلوبِهم؛ لأنَّهم كانوا يُكذِّبونَ بآياتِ اللهِ الدَّالَّةِ لهم على الحَقِّ [455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/160)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/20)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
أي: ونَزَل وأحاطَ بهم عذابُ اللهِ، الَّذي كانوا يَسخَرونَ منه، ويُكذِّبونَ بوُقوعِه؛ فاحذَروا -أيُّها المُشرِكونَ- أن يُصيبَكم مِثلُ ما أصابَهم [456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/160، 161)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا تَمَّ المرادُ مِن الإخبارِ بهَلاكِ عادٍ على ما لهم مِنَ المَكِنَةِ العَظيمةِ؛ لِيَتَّعِظَ بهم مَن سَمِعَ أمْرَهم- أتْبَعَهم مَن كان مُشارِكًا لهم في التَّكذيبِ، فشارَكَهم في الهَلاكِ؛ كأهلِ الحِجْرِ (ثمودَ) وسَبأٍ، ومَدْيَنَ والأَيْكةِ، وقَومِ لُوطٍ وفِرَعونَ، وأصحابِ الرَّسِّ، وغَيرِهم ممَّن فيهم مُعتَبَرٌ [457] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/174). .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى.
أي: ولقد أهلَكْنا ما حوْلَكم -يا أهلَ مكَّةَ- مِن القُرى؛ كبلادِ عادٍ، وسَبَأٍ، وثمودَ، ومَدْيَنَ، وغَيرِها [458] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/161)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير ابن عطية)) (5/103)، ((تفسير القرطبي)) (16/209)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783). .
وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: ونوَّعْنا أصنافَ الآياتِ وبَيَّنَّاها؛ لِيَرجِعوا عن كُفرِهم باللهِ، وتَكذيبِهم بالحَقِّ، فلم يَفعَلوا؛ فأهلَكْناهم [459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/161)، ((تفسير ابن عطية)) (5/103)، ((تفسير القرطبي)) (16/209)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783). قال القرطبي: (وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ يعني: الحُجَجَ والدَّلالاتِ، وأنواعَ البَيِّناتِ والعِظاتِ، أي: بَيَّنَّاها لأهلِ تلك القُرى... وقيل: أي: صَرَّفْنا آياتِ القُرآنِ في الوَعدِ والوعيدِ، والقَصَصِ والإعجازِ؛ لعَلَّ هؤلاء المُشرِكينَ يَرجِعونَ). ((تفسير القرطبي)) (16/209). وقال الرازي: (وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ: بَيَّنَّاها لهم لَعَلَّهُمْ أي: لعلَّ أهلَ القرَى يَرْجِعُونَ، فالمرادُ بالتَّصريفِ الأحوالُ الهائِلةُ الَّتي وُجِدَتْ قبْلَ الإهلاكِ). ((تفسير الرازي)) (28/26). .
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان المُشرِكونَ قد جَعَلوا مَحَطَّ حالِهم في الشُّرَكاءِ أنَّهم سَبَبُ التَّواصُلِ بيْنَهم والتَّفاوُتِ، وادَّعَوا أنَّهم يَشفَعونَ فيهم، فيُقَرِّبونَهم إلى اللهِ زُلْفى، ويَمنَعونَهم مِنَ العذابِ في الآخِرةِ، وكان أدنى الأُمورِ التَّسويةَ بيْنَه وبيْنَ عذابِ الدُّنيا- سَبَّب عن إخبارِه عن إهلاكِ الأُمَمِ الماضيةِ قَولَه [460] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/175، 176). :
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً.
أي: فهَلَّا نصَرَهم مِن عذابِ اللهِ مَنِ اتَّخَذوهم آلهةً مِن دونِ اللهِ يتقَرَّبونَ بعبادتِهم إلى اللهِ؛ لِيَشفَعوا لهم عِندَه [461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/161، 162)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير ابن عطية)) (5/103)، ((تفسير القرطبي)) (16/209)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/175، 176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783). قال ابن جرير: (وهذا احتِجاجٌ مِنَ اللهِ لِنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم على مُشرِكي قَومِه، يقولُ لهم: لو كانت آلهتُكم الَّتي تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ تُغْني عنكم شيئًا، أو تَنفَعُكم عندَ الله كما تَزعُمونَ أنَّكم إنَّما تَعبُدونَها لِتُقرِّبَكم إلى اللهِ زُلْفى؛ لَأغْنَتْ عمَّن كان قَبْلَكم مِن الأُمَمِ الَّتي أهلَكْتُها بعبادتِهم إيَّاها، فدَفَعَتْ عنها العذابَ إذا نزَل، أو لَشَفَعَت لهم عندَ ربِّهم؛ فقد كانوا مِن عبادتِها على مِثلِ الَّذي عليه أنتم، ولكِنَّها ضَرَّتْهم ولم تَنفَعْهم!). ((تفسير ابن جرير)) (21/162). وقال السعدي: (أي: يَتقَرَّبونَ إليهم ويتألَّهونَهم؛ لِرَجاءِ نَفعِهم!). ((تفسير السعدي)) (ص: 783). !
كما قال تعالى: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الجاثية: 10] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] .
وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] .
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ.
أي: ليس الأمرُ كما ظنَّ المُشرِكونَ، فلمْ تَنصُرْهم مَعبوداتُهم مِن دونِ اللهِ، وغابَتْ عنهم عندَ نُزولِ العذابِ بهم، فلم تَنفَعْهم [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/162)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). !
وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.
أي: اتِّخاذُهم الآلهةَ مِن دونِ اللهِ هو كَذِبُهم وافتِراؤُهم حينَ ادَّعَوا أنَّها آلِهةٌ تَنصُرُهم وتَنفَعُهم، فخذَلَتْهم ولم ينتَفِعوا بها [463] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/162)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير القرطبي)) (16/209، 210)، ((تفسير ابن كثير)) (7/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/56، 57). قال البقاعي: (وَذَلِكَ أي: الضَّلالُ البعيدُ مِن السَّدادِ الَّذي تَحصَّلَ مِن هذه القِصَّةِ مِن إخلافِ ما كانوا يقولونَ: إنَّ أوثانَهم آلِهةٌ، وإنَّها تَضُرُّ وتَنفَعُ وتُقَرِّبُهم إلى اللهِ وتَشفَعُ لهم عندَه إِفْكُهُمْ أي: صَرْفُهم الأمورَ عن وَجهِها إلى أقفائِها، ويجوزُ أن تكونَ الإشارةُ إلى العذابِ، أي: وهذا العذابُ جزاؤُهم في مُقابَلةِ إفْكِهم). ((نظم الدرر)) (18/176، 177). وقال الرَّسْعَني: (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ أي: وذلك الاتِّخاذُ إفْكُهم؛ كَذِبُهم وافتِراؤُهم. وقيل: الإشارةُ بقَولِه: وَذَلِكَ إلى امتِناعِ نُصرةِ آلهتِهم لهم، وضَلالِهم عنهم، أي: وذلك أثَرُ إفْكِهم وافتِرائِهم الكَذِبَ على اللهِ). ((تفسير الرسعني)) (7/233). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ، أي: لا قُصورَ في أسماعِهم ولا أبصارِهم ولا أذهانِهم حتَّى يُقالَ إنَّهم تَرَكوا الحَقَّ جَهلًا منهم، وعدَمَ تَمكُّنٍ مِن العِلمِ به، ولا خَلَلَ في عُقولِهم، ولكِنَّ التَّوفيقَ بيَدِ اللهِ [464] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 782). .
2- يُعَدِّدُ اللهُ سُبحانَه على عِبادِه مِن نِعَمِه عليهم أنْ أعطاهم آلاتِ العِلمِ، فيَذكُرُ الفُؤادَ والسَّمعَ والأبصارَ؛ فهي أشرَفُ الأعضاءِ ومُلوكُها، والمُتصَرِّفةُ فيها، والحاكِمةُ عليها، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، وقال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فسَعادةُ الإنسانِ بصِحَّةِ هذه الأعضاءِ الثَّلاثةِ، وشَقاوتُه بفَسادِها [465] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/107). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ الحُجَجَ السَّمعيَّةَ مُطابِقةٌ للمَعقولِ، والسَّمعَ الصَّحيحَ لا يَنفَكُّ عن العَقلِ الصَّريحِ، بل هما أخَوانِ نَصيرانِ وصَلَ اللهُ بيْنَهما، وقَرَنَ أحدَهما بصاحِبِه، فقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فذكَرَ ما يُنالُ به العُلومُ، وهي السَّمعُ والبَصَرُ، والفُؤادُ الَّذي هو مَحَلُّ العَقلِ [466] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/457). .
2- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ دَلالةٌ على أنَّ السَّمعَ والأبصارَ والأفئِدةَ لا تَنفَعُ صاحِبَها مع جَحْدِه بآياتِ اللهِ؛ فتَبيَّنَ أنَّ العَقلَ الَّذي هو مَناطُ التَّكليفِ لا يَحصُلُ بمُجَرَّدِه الإيمانُ النَّافعُ، والمَعرِفةُ المُنْجِيةُ مِن عذابِ اللهِ، وهذا العَقلُ شَرطٌ في العِلمِ والتَّكليفِ، لا مُوجِبٌ له [467] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/19). .
3- أنَّ الشَّيءَ قد يَنتَفي لِنَفيِ ثَمرتِه والمرادِ منه؛ ولهذا نفَى سُبحانَه عن الكُفَّارِ الأسماعَ والأبصارَ والعُقولَ لَمَّا لم يَنتَفِعوا بها؛ قال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [468] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/101). [الأعراف: 179] .
4- في قَولِه تعالى: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أنَّ الاستِهزاءَ باللهِ تعالى وآياتِه سَبَبٌ للعَذابِ [469] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 347). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هذا اسْتِخلاصٌ لِمَوعظةِ المُشرِكينَ بمِثلِ عادٍ؛ لِيَعْلَموا أنَّ الَّذي قدَرَ على إهْلاكِ عادٍ قادرٌ على إهْلاكِ مَن همْ دُونَهم في القُوَّةِ والعَدَدِ، ولِيَعْلَموا أنَّ القَومَ كانوا مِثْلَهم مُسْتجمِعينَ قُوى العقْلِ والحِسِّ، وأنَّهم أهْمَلوا الانتفاعَ بقُواهُم، فجَحَدوا بآياتِ اللهِ، واسْتَهزؤوا بها وبوَعيدِه، فحاقَ بهمْ ما كانوا يَسْتَهزِئون به، وقُريشٌ يَعلَمونَ أنَّ حالَهم مِثلُ الحالِ المَحْكيَّةِ عن أولئكَ، فلْيَتهيَّؤوا لِمَا سيَحُلُّ بهم. ولإفادةِ هذا الاستخلاصِ غُيِّرَ أُسلوبُ الكَلامِ إلى خِطابِ المُشرِكين مِن أهْلِ مكَّةَ؛ فالجُملةُ في مَوضِعِ الحالِ مِن واوِ الجَماعةِ في قَالُوا أَجِئْتَنَا [الأحقاف: 22] ، والخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن عَدَمِ انْتِفاعِهم بمَواهِبِ عُقولِهم [470] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/309)، ((تفسير أبي حيان)) (9/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51، 52). .
- قولُه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ فيه تأْكيدُ هذا الخبَرِ بلامِ القَسَمِ -مع أنَّ مُفادَه لا شكَّ فيه-، وهو مَصروفٌ إلى المُبالَغةِ في التَّعجيبِ [471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/52). .
- ومِن بَديعِ النَّظْمِ أنْ جاءَ النَّفْيُ هنا في قولِه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ بحَرْفِ (إنْ) النَّافيةِ، مع أنَّ النَّفيَ بها أقلُّ اسْتِعمالًا مِن النَّفيِ بـ (ما) النَّافيةِ؛ قَصْدًا هنا لِدَفْعِ الكراهةِ مِن تَوالي مِثْلينِ في النُّطقِ؛ وهُما (ما) الموصولةُ، و(ما) النَّافيةُ، وإنْ كان مَعْناهُما مُختِلفًا [472] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/308)، ((تفسير البيضاوي)) (5/116)، ((تفسير أبي حيان)) (9/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/52). .
- وفائدةُ قَولِه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً أنَّهم لم يَنْقُصْهم شَيءٌ مِن شأْنِه أنْ يُخِلَّ بإدْراكِهم الحقَّ لَولا العِنادُ، وهذا تَعْريضٌ بمُشْركي قُريشٍ، أي: أنَّكم حَرَمْتُم أنفُسَكم الانتفاعَ بسَمْعِكم وأبْصارِكم وعُقولِكم كما حُرِمُوه، والحالةُ مُتَّحِدةٌ، والسَّببُ مُتَّحِدٌ، فيُوشِكُ أنْ يكونَ الجَزاءُ كذلك [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/53). .
- والسَّمْعُ مَصدرٌ دالٌّ على الجِنسِ؛ فكان في قُوَّةِ الجمْعِ، ولا حاجةَ إلى جمْعِه. والأبصارُ جمْعُ بَصَرٍ، وهو في اللُّغةِ العَينُ، وقيل: يُطلَقُ البصرُ على حاسَّةِ الإبصارِ؛ ولذلك جُمِعَ. ولعلَّ إفرادَ السَّمْعِ وجمْعَ الأبصارِ جَرَى على ما يَقْتضيهِ تَمامُ الفَصاحةِ مِن خِفَّةِ أحَدِ اللَّفظينِ مُفْردًا والآخَرِ مَجْموعًا عِندَ اقْتِرانِهما؛ فإنَّ في انتِظامِ الحُروفِ والحَرَكاتِ والسَّكناتِ في تَنقُّلِ اللِّسانِ سِرًّا عَجيبًا مِن فَصاحةِ كَلامِ القُرآنِ المُعبَّرِ عنها بالنَّظْمِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/234) و (26/53). .
- وبدأ بالسَّمعِ؛ لأنَّ المقامَ للإنذارِ المُنبِّهِ بحاسَّةِ السَّمعِ على ما في الآياتِ المَرئيَّاتِ مِن المواعِظِ، فهو أنفَعُ؛ لأنَّه أوضَحُ. وخَتَم بالأفئِدةِ؛ لأنَّها الغايةُ الَّتي ليس بعدَ الإدراكِ بها مُنتهًى، ولا وراءَها مَرمًى [475] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/172، 173). .
- و(مِن) في قَولِه: مِنْ شَيْءٍ؛ لِلتَّنصيصِ على انْتِفاءِ الجِنسِ؛ فلذلك يكونُ شَيْءٍ المَجرورُ بـ (مِن) الزَّائدةِ نائبًا عن المَفعولِ المُطلَقِ؛ لأنَّ المُرادَ: بشَيءٍ مِن الإغناءِ، وحَقُّ (شَيءٍ) النَّصبُ، وإنَّما جُرَّ بدُخولِ حَرْفِ الجرِّ الزَّائدِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/53). .
- قولُه: إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ (إذ) ظَرْفٌ، أي: مُدَّةَ جُحودِهم، وهو مُستعمَلٌ في التَّعليلِ؛ لاستِواءِ مُؤدَّى الظَّرْفِ ومُؤدَّى التَّعليلِ؛ لأنَّه لَمَّا جُعِلَ الشَّيءُ مِن الإغناءِ مُعلَّقًا نَفْيُه بزَمانِ جَحْدِهم بآياتِ اللهِ -كما يُسْتفادُ مِن إضافةِ (إذ) إلى الجُملةِ بعْدَها- عُلِمَ أنَّ لِذلك الزَّمانِ تأْثيرًا في نفْيِ الإغناءِ [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، أي: أحاطَ بهمُ العذابُ، وعُدِلَ عن اسْمِه الصَّريحِ (العذاب) إلى المَوصولِ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ؛ للتَّنبيهِ على ضَلالِهم، وسُوءِ نَظَرِهم [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
2- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لخِطابِ أهْلِ مكَّةَ على جِهَةِ التَّمثيلِ [479] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/190). .
- وأُتبِعَ ضَرْبُ المَثَلِ بحالِ عادٍ مع رَسولِهم بأنَّ ذلك المَثَلَ ليس وَحيدًا في بابِه؛ فقدْ أهْلَكَ اللهُ أقوامًا آخَرينَ مِن مُجاورِيهم، تُماثِلُ أحْوالُهم أحْوالَ المُشرِكينَ، وذكَّرَهم بأنَّ قُراهُم قَريبةٌ منْهم يَعرِفُها مَن يَعْرِفونَها، ويسْمَعُ عنها الَّذين لمْ يَرَوها، والجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ... [الأحقاف: 21] إلخ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى كُنِّيَ عن إهلاكِ الأقوامِ بإهلاكِ قُراهم؛ مُبالَغةً في اسْتِئصالِهم؛ لأنَّه إذا أُهلِكَت القَريةُ لمْ يَبْقَ أحدٌ مِن أهْلِها [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/54). .
- قولُه: وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ تَصريفُ الآياتِ: تَنويعُها باعتِبارِ ما تدُلُّ عليه مِن الغرَضِ المَقصودِ منها، وهو الإقلاعُ عن الشِّرْكِ وتَكذيبِ الرُّسلِ، وأصْلُ مَعنى التَّصريفِ: التَّغييرُ والتَّبديلُ؛ لأنَّه مُشتَقٌّ مِن الصَّرْفِ، وهو الإبعادُ. وكُنِّيَ به هنا عن التَّبْيينِ والتَّوضيحِ؛ لأنَّ تَعدُّدَ أنواعِ الأدِلَّةِ يَزيدُ المَقصودَ وُضوحًا [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/54، 55). .
- وجُملةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مُستأنَفةٌ لِإنشاءِ التَّرجِّي، ومَوقِعُها مَوقِعُ المَفعولِ لأجْلِه، أي: رَجاءَ رُجوعِهم [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/55). .
- قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تَعريضٌ بمُشْركي أهْلِ مكَّةَ؛ فهمْ سَواءٌ في تَكوينِ ضُروبِ تَصْريفِ الآياتِ زِيادةً على ما صُرِّفَ لهمْ مِن آياتِ إعْجازِ القُرآنِ [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/55). .
3- قولُه تعالَى: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
- قولُه: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً تَفْريعٌ على ما تَقدَّمَ مِن المَوعظةِ بعَذابِ عادٍ المُفصَّلِ، وبعَذابِ أهْلِ القُرى المُجمَلِ؛ فُرِّعَ عليه تَوبيخٌ مُوجَّهٌ إلى آلِهتِهم؛ إذ قَعَدوا عن نَصْرِهم وتَخليصِهم مِنْ قُدْرةِ اللهِ عليهم، والمَقصودُ تَوجيهُ التَّوبيخِ إلى الأُمَمِ المُهلَكةِ على طَريقةِ تَوجيهِ النَّهيِ ونَحْوِه لِغَيرِ المَنْهيِّ؛ لِيَجتَنِبَ المَنْهيُّ أسبابَ المَنْهيِّ عنه، كَقولِهم: لا أعْرِفَنَّك تَفعَلُ كذا، ولا أَرَينَّك هنا [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/55). .
- والمَقصودُ بهذا التَّوبيخِ تَخطئةُ الأُمَمِ الَّذين اتَّخَذوا الأصنامَ للنَّصْرِ والدَّفْعِ، وذلك مُستعمَلٌ تَعريضًا بالسَّامِعينَ المُماثِلينَ لهم في عِبادةِ آلِهةٍ مِن دُونِ اللهِ؛ استِتْمامًا للمَوعظةِ والتَّوبيخِ بطَريقِ التَّنظيرِ وقِياسِ التَّمثيلِ [486] قياس التَّمثيلِ: هو: حمْلُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتراكِهما في عِلَّة الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المشتركَ الكُلِّيَّ، أو: إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما، مِثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ هو القياسُ الأصوليُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/ 120)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/ 291، 292). ؛ ولذلك عُقِّبَ بقولِه: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ؛ لأنَّ التَّوبيخَ آلَ إلى مَعنى نَفْيِ النَّصرِ [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/55). .
- وحَرْفُ (لَولا) إذا دخَلَ على جُملةٍ فِعليَّةٍ كما هنا في قولِه: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً، كان أصْلُه الدَّلالةَ على التَّحضيضِ، أي: تَحضيضِ فاعِلِ الفِعلِ الَّذي بعْدَ (لولا) على تَحصيلِ ذلك الفِعلِ، فإذا كان الفاعلُ غَيرَ المُخاطَبِ بالكلامِ، كانتْ (لَولا) دالَّةً على التَّوبيخِ ونَحْوِه؛ إذ لا طائلَ في تَحضيضِ المُخاطَبِ على فِعلِ غَيرِه [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/55، 56). ويُنظر الكلام عن (لولا) في: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/ 458)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/ 199-200، 249-250). .
- والإتيانُ بالمَوصولِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن التَّنبيهِ على الخَطأِ والغَلَطِ في عِبادتِهم الأصنامَ، فلمْ تُغْنِ عنهم شَيئًا. وعُومِلَت الأصْنامُ مُعامَلةَ العُقلاءِ بإطْلاقِ جَمْعِ العُقلاءِ الَّذِينَ عليهم؛ جَرْيًا على الغالِبِ في اسْتِعمالِ العرَبِ [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). .
- وقولُه: قُرْبَانًا مصدرٌ بوزنِ (غُفران)، منصوبٌ على المفعولِ لأجْلِه؛ حِكايةً لِزَعْمِهم المَعروفِ المَحْكيِّ في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وهذا المَصدرُ مُعترِضٌ بيْنَ اتَّخَذُوا ومَفعولِه، و(مِن دُونِ اللهِ) يتعلَّقُ بـ اتَّخَذُوا، و(دون) بمعنَى المُباعَدةِ، أي: مُتجاوِزينَ اللهَ في اتِّخاذِ الأصنامِ آلِهةً، وهو حِكايةٌ لحالِهم؛ لِزِيادةِ تَشْويهِها وتَشنيعِها [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). . وفيه تَهكُّمٌ بهم [491] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/87). .
- قولُه: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ (بلْ) بمعنى (لكن) إضْرابًا واسْتِدراكًا بعْدَ التَّوبيخِ؛ لأنَّه في معنَى النَّفيِ، أي: ما نَصَرَهم الَّذين اتَّخَذوهم آلِهةً ولا قَرَّبُوهم إلى اللهِ لِيُدفَعَ عنهم العذابُ، بلْ ضَلُّوا عنهم، أي: بلْ غابُوا عنهم وَقتَ حُلولِ العذابِ بهم [492] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). ؛ فـ (بل) حَرْفُ إضرابٍ وعطْفٍ؛ للانتقالِ عن نَفْيِ النُّصرةِ لِمَا هو أخصُّ منه؛ إذ نَفْيُها يَصدُقُ بحُضورِها عِندَهم بدُونِ النُّصرةِ، فأفاد بالإضرابِ أنَّهم لم يَحضُروا بالكُلِّيَّةِ، فضْلًا عن أنْ يَنْصُرُوهم [493] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/191). .
- وقولُه: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَذْلَكةٌ [494] الفَذْلَكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلَكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحولقة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذا وكذا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِجُملةِ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ... إلخ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/56). .
- والافتِراءُ: نَوعٌ مِن الكذِبِ، وهو ابْتِكارُ الأخبارِ الكاذبةِ، ويُرادِفُ الاختِلاقَ؛ فعَطْفُ (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) على إِفْكُهُمْ عطْفُ الأخصِّ على الأعمِّ؛ فإنَّ زَعْمَهم الأصنامَ شُرَكاءَ للهِ كَذِبٌ مَرْويٌّ مِن قبْلُ؛ فهو إفْكٌ، وأمَّا زَعْمُهم أنَّها تُقرِّبُهم إلى اللهِ فذلك افْتِراءٌ اخْتَرَعوهُ [496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/56، 57). .
- وقولُه: كَانُوا؛ للدَّلالةِ على أنَّ افْتِراءَهم راسخٌ فيهم [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/57). .
- ومَجِيءُ يَفْتَرُونَ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ افْتِراءَهم مُتكرِّرٌ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/57). .