موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (21-25)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غريب الكلمات:

بِالْأَحْقَافِ: الأحقافُ: جَمعُ حِقْفٍ، وهو ما استطالَ وانحنَى مِنَ الرَّملِ كهَيئةِ الجَبَلِ، ولم يَبلُغْ أن يكونَ جَبَلًا، وأصلُ (حقف): يدُلُّ على مَيلِ الشَّيءِ وعِوَجِه [371] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 407)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/90)، ((المفردات)) للراغب (ص: 248)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 353)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 379). .
خَلَتِ النُّذُرُ: أي مضَتِ الرُّسُلُ، يُقالُ: خلا الزَّمانُ، أي: مضى وذهَبَ، والنُّذُرُ جمْعُ نذيرٍ، بمعنى مُنذِرٍ، أي: محَذِّرٍ، والإنذارُ: الإبلاغُ؛ ولا يكادُ يكونُ إلَّا في التَّخويفِ، وأصلُ (نذر): تخويفٌ [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 277)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 111، 232). .
لِتَأْفِكَنَا: أي: لِتَصرِفَنا، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ وصَرفِه عن جِهتِه [373] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 407)، ((تفسير ابن جرير)) (21/155)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 353)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 379). .
عَارِضٌ: أي: سَحابًا يَعرِضُ -أي: يبدو- في ناحيةٍ مِن السَّماءِ؛ سُمِّي بذلك لأنَّه يبدو في عَرضِ السَّماءِ، وأصلُ (عرض): يدُلُّ على خِلافِ الطُّولِ [374] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 407)، ((تفسير ابن جرير)) (21/156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/269)، ((تفسير البغوي)) (7/263)، ((تفسير ابن عطية)) (5/102)، ((تفسير القرطبي)) (16/205). .
الْمُجْرِمِينَ: الجُرمُ بالضَّمِّ: لا يُطلَقُ إِلَّا على الذَّنْبِ الغليظِ، وأصلُه مِن الجَرْمِ وهو القطْعُ، وسُمِّي الذَّنْبُ بالجُرْمِ والجريمةِ؛ لأنَّه كسبٌ، والكسبُ اقْتِطاعٌ [375] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/445)، ((المفردات)) للراغب (ص: 192)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/262)، ((تفسير القرطبي)) (16/208)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 41). .

المعنى الإجمالي:

يُسلِّي الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم في تكذيبِ مَن كذَّبه مِن قَومِه، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- هُودًا أخا عادٍ في النَّسَبِ حينَ خوَّف قَومَه -الَّذين كانت مَنازِلُهم في مَنطِقةِ الأحقافِ- عذابَ اللهِ على كُفْرِهم، وقد مَضَت الرُّسُلُ مِن قَبلِ هُودٍ ومِن بَعدِه بإنذارِ قَومِهم عذابَ اللهِ إنْ عَبَدوا غيرَه، فأنذَرَهم قائلًا لهم: إنِّي أُحَذِّرُكم عِبادةَ أحَدٍ سِوى اللهِ؛ لأنِّي أخافُ عليكم عذابَ يومٍ هائِلٍ عَظيمٍ.
قال قومُ هودٍ له مُستَنكِرينَ: أجِئْتَنا لِتَصرِفَنا وتَصُدَّنا عن عبادةِ آلهتِنا؟! فإنْ كان الأمرُ كما تقولُ فأْتِنا بما تَعِدُنا به مِن العَذابِ العَظيمِ إنْ كُنتَ مِن الصَّادقينَ فيما أخبَرْتَنا به!
قال هودٌ لِقَومِه: إنَّما عِلمُ وَقتِ نُزولِ العَذابِ بكم عندَ اللهِ لا عِندي، وإنَّما أنا رَسولٌ مِنَ اللهِ إليكم، أُبَلِّغُكم ما أُرسِلْتُ به إليكم، فرِسالتي محصورةٌ في التَّبليغِ والإنذارِ، ولكِنِّي أراكم قَومًا تَجهَلونَ الحَقَّ، وتُصِرُّونَ على الباطِلِ.
فأتَى العذابُ الَّذي استعجَلَه قَومُ هودٍ إليهم، فلمَّا رأَوْه بأعيُنِهم مُتمَثِّلًا في سَحابٍ يَظهَرُ في أفُقِ السَّماءِ مُتَّجِهًا نحوَ أوديَتِهم ومَساكِنِهم، ظَنُّوه مَطَرًا سيَنزِلُ عليهم، ففَرِحوا به، وقالوا: هذا سَحابٌ سيُمطِرُنا! قيلَ لهم: ما رأيتُموه ليس سَحابًا مُمطِرًا كما ظنَنْتُم، وإنَّما هو العذابُ الَّذي استَعجَلْتُم نُزولَه! هو رِيحٌ فيها عَذابٌ مُوجِعٌ، تُهلِكُ كُلَّ شَيءٍ لَدَى قَومِ هودٍ بإذنِ اللهِ، فأصبحَ قَومُ هُودٍ هالكِينَ كُلُّهم؛ فلا يُرى مِن بلادِهم شَيءٌ إلَّا مَنازِلُهم الَّتي كانوا يَسكُنونَها؛ عِبرةً لِغَيرِهم، مِثلَ هذا الجزاءِ الَّذي جازَيْنا به عادًا قَومَ هودٍ نَجزي القَومَ الَّذين مِن دَأْبِهم الإجرامُ والطُّغيانُ!

تفسير الآيات:

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أهلُ مكَّةَ مُستغرِقينَ في لَذَّاتِ الدُّنيا، مُعرِضينَ عن الإيمانِ وما جاء به الرَّسولُ؛ ذكَّرَهم بما جرَى لِلعرَبِ الأُولى، وهم قَومُ عادٍ، وكانوا أكثَرَ أموالًا، وأشَدَّ قُوَّةً، وأعظَمَ جاهًا فيهم، فسُلِّطَ عليهم العَذابُ بسَببِ كُفْرِهم [376] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/444). .
وأيضًا لَمَّا هَدَّد اللهُ سُبحانَه المُشرِكينَ بالأُمورِ الأُخرويَّةِ، وختَمَ بالعَذابِ على الاستِكبارِ المذمومِ والفِسقِ؛ عَطَف عليه تَهديدَهم بالأُمورِ المحسوسةِ [377] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/161). .
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- هُودًا أخا عادٍ في النَّسَبِ حينَ خوَّف وحذَّرَ قَومَه عذابَ اللهِ على كُفْرِهم بمَنطِقةِ الأحقافِ الَّتي كانت فيها مَنازِلُهم [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/150، 153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). قال ابنُ جُزَي: (واختُلِفَ أينَ كانت [أي: الأحقافُ]؟ فقيل: بالشَّامِ. وقيل: بيْنَ عُمَانَ ومَهَرةَ. وقيل: بيْنَ عُمَان وحَضْرَمَوْتَ. والصَّحيحُ أنَّ بلادَ عادٍ كانت باليَمَنِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/277). وقال الشنقيطي: (الأحقافُ جمعُ الحِقْفِ، والحِقْفُ: هو الجَبَلُ الممتدُّ العالي مِن الرَّملِ، فهم في رمالٍ هناك، كانت مَنازِلُهم في رمالٍ تتخلَّلُها أوديةٌ في نواحِي اليمنِ أو حَضْرَمَوْتَ). ((العذب النمير)) (3/476). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/282). .
كما قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65].
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
أي: وقد مَضَت الرُّسُلُ بإنذارِ قَومِهم عذابَ اللهِ إنْ عَبَدوا غيرَه، مِن قَبْلِ هُودٍ ومِن بَعدِه [379] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/23)، ((تفسير ابن جرير)) (21/153)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/445)، ((الوسيط)) للواحدي (4/113)، ((تفسير القرطبي)) (16/204). قال الزَّجَّاج: (أي: قد أُنذِروا بالعذابِ إن عَبدوا غيرَ اللهِ فيما تقَدَّم قبْلَ إنذارِ هودٍ، وعلى لسانِ هودٍ عليه السَّلامُ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/445). ويُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 997). وقال الزمخشري: (المعنى: أنَّ هُودًا عليه السَّلامُ قد أنذَرَهم، فقال لهم: لا تَعبُدوا إلَّا اللهَ إنِّي أخافُ عليكم العذابَ، وأعلَمَهم أنَّ الرُّسُلَ الَّذين بُعِثوا قَبْلَه والَّذين سيُبعَثون بعدَه كُلُّهم مُنذِرونَ نحوَ إنذارِه... ولك أن تجعَلَ قَولَه تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعتِراضًا بيْنَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ وبيْنَ أَلَّا تَعْبُدُوا، ويكونَ المعنى: واذكُرْ إنذارَ هُودٍ قَومَه عاقِبةَ الشِّركِ والعذابَ العَظيمَ، وقد أنذَرَ مَن تَقدَّمَه مِنَ الرُّسُلِ ومَن تأخَّرَ عنه مِثلَ ذلك؛ فاذْكُرْهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/306). وممَّن قال بأنَّ المراد بقَولِه تعالى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: مِن قَبْلِ هودٍ، وَمِنْ خَلْفِهِ: مِن بَعدِ هُودٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحدي، والقرطبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/23)، ((تفسير ابن جرير)) (21/153)، ((الوسيط)) للواحدي (4/113)، ((تفسير القرطبي)) (16/204)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/164). وقال ابنُ كثير: (قوله: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: وقد أرسلَ اللهُ إلى مَن حوْلَ بلادِهم مِن القُرى مُرسَلينَ وُمنذِرينَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/285). وقال ابن عاشور (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بمعنى: قريبًا مِن زمانِه، وبعيدًا عنه، فـ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه القُربُ، كما في قَولِه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] ، أي: قبْلَ العذابِ قَريبًا منه... وأمَّا الَّذي مِن خَلْفِه فنوحٌ؛ فقد قال هودٌ لِقَومِه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] ، وهذا مُراعاةٌ للحالةِ المقصودِ تَمثيلُها، فهو ناظِرٌ إلى قَولِه تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] ، أي: قد خَلَت مِن قَبلِه رُسُلٌ مِثلَ ما خَلَت بتلك). ((تفسير ابن عاشور)) (26/46). .
كما قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت: 13، 14].
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أي: قال هودٌ لِقَومِه: إنِّي أخافُ أن يُصيبَكم عذابُ يومٍ هائلٍ [380] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/291)، ((تفسير البيضاوي)) (5/115)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/164)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). قال ابن عاشور: (وعذابُ اليومِ العظيمِ يحتمِلُ الوعيدَ بعذابِ يومِ القيامةِ، وبعذابِ يومِ الاستِئْصالِ في الدُّنيا، وهو الَّذي عُجِّل لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 46). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: وُقوعُ هذا العذابِ في الدُّنيا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/23). وممَّن اختار أنَّ المرادَ به: عذابُ يومِ القيامةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/154)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/ 6855)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 232). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (26/46). قال البِقاعي: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لا يَدَعُ جِهةً إلَّا ملأها عذابُه إنْ أصرَرْتُم على ما أنتم فيه مِنَ الشِّركِ). ((نظم الدرر)) (18/164). .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22).
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا.
أي: قال كُفَّارُ عادٍ لِنَبيِّهم هودٍ: أجِئْتَنا لِتَصرِفَنا وتَصُدَّنا عن عبادةِ آلهتِنا، فنَترُكَها إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/154)، ((تفسير ابن كثير)) (7/285)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/232). ؟!
كما قال تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 70].
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
أي: فعَجِّلْ لنا -يا هودُ- هذا العذابَ الَّذي تَعِدُنا به إنْ كُنتَ مِن الصَّادقينَ فيما تدَّعِيه [382] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/155)، ((تفسير الخازن)) (4/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/47). !
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23).
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قال هودٌ لِقَومِه: إنَّما العِلمُ بوَقتِ مَجيءِ العذابِ عندَ اللهِ لا عندي؛ فهو مَنْ يُنزِلُ عليكم عذابَه متى شاء [383] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/23)، ((تفسير ابن جرير)) (21/155)، ((تفسير القرطبي)) (16/205)، ((تفسير البيضاوي)) (5/115). .
وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ.
أي: وإنَّما أنا رَسولٌ مِنَ اللهِ إليكم، وما عَلَيَّ إلَّا أن أُبَلِّغَكم عن رَبِّكم ما أمَرَني بدَعوتِكم إليه مِنَ التَّوحيدِ وغَيرِه [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/155)، ((تفسير السمرقندي)) (3/291)، ((تفسير القرطبي)) (16/205)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/166، 167). .
كما قال الله تبارك وتعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 61، 62].
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ.
أي: ولكِنِّي أراكم قَومًا تَجهَلونَ الحَقَّ؛ فصَدَر منكم ما صَدَر مِن جُرأةٍ على الكُفرِ والتَّكذيبِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/155)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/445)، ((تفسير السمرقندي)) (3/291)، ((تفسير القرطبي)) (16/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286). .
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24).
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا.
أي: فلمَّا جاء كُفَّارَ عادٍ عَذابُ اللهِ، فرأوه سَحابًا أسْوَدَ مُعتَرِضًا في الأُفُقِ يَسيرُ نحوَ أودِيَتِهم؛ ظَنُّوه مَطَرًا سيَنزِلُ عليهم، ففَرِحوا به، وقالوا: هذا سَحابٌ سيُمطِرُنا [386] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/156)، ((تفسير القرطبي)) (16/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/167، 168)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/49، 50). قال ابنُ الجوزي: (قال المفَسِّرون: كان المَطَرُ قد حُبِسَ عن عادٍ، فساقَ اللهُ إليهم سَحابةً سوداءَ، فلمَّا رأَوها فَرِحوا وقالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/110). وقال ابنُ جرير: (العربُ تُسَمِّي السَّحابَ الَّذي يُرى في بَعضِ أقطارِ السَّماءِ عَشِيًّا ثمَّ يُصبِحُ مِن الغَدِ قد استوى وحَبَا بَعضُه إلى بَعضٍ: عارِضًا؛ وذلك لِعَرضِه في بعضِ أرجاءِ السَّماءِ حينَ نشَأَ). ((تفسير ابن جرير)) (21/156). وقال الماوردي: (وفي تسميتِه عارِضًا ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: لأنَّه أخَذَ في عَرضِ السَّماءِ. قاله ابنُ عيسى. الثَّاني: لأنَّه يملأُ آفاقَ السَّماءِ. قاله النَّقَّاشُ. الثَّالِثُ: لأنَّه مارٌّ مِن السَّماءِ، والعارِضُ هو المارُّ الَّذي لا يَلبَثُ. وهذا أشبَهُ). ((تفسير الماوردي)) (5/283). وقال ابنُ عاشور: (ويُطلَقُ الوادي على مَحلَّةِ القَومِ ونُزُلِهم إطلاقًا أغلبيًّا؛ لأنَّ غالِبَ مَنازِلِهم في السُّهولِ ومَقارِّ المياهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/49). !
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا عصَفَت الرِّيحُ قال: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك خَيْرَها وخيرَ ما فيها، وخيرَ ما أُرسِلَتْ به، وأعوذُ بك مِن شَرِّها وشَرِّ ما فيها، وشَرِّ ما أُرسِلَت به. قالت: وإذا تخَيَّلَت [387] تخَيَّلَتْ: أي: تغَيَّمَت وظَهَر فيها أثَرُ المَطَرِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1115). السَّماءُ تغَيَّرَ لَونُه، وخرَجَ ودخَلَ، وأقبَلَ وأدبَرَ، فإذا مَطَرَت سُرِّيَ [388] سُرِّيَ عنه: أي: كُشِفَ الخَوفُ، وأُزيلَ عنه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1115). عنه، فعَرَفْتُ ذلك في وَجهِه، قالت عائِشةُ: فسألْتُه، فقال: لَعَلَّه يا عائِشةُ كما قال قَومُ عادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) [389] رواه البخاريُّ (4829)، ومسلمٌ (899) واللَّفظُ له. .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبا [390] الصَّبَا: رِيحٌ شَرقيَّةٌ تهُبُّ مِن مَطلَعِ الشَّمسِ، وهي حارَّةٌ يابِسةٌ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1114). ، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ [391] الدَّبُورُ: رِيحٌ غَربيَّةٌ بارِدةٌ رَطْبةٌ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1114). ) [392] رواه البخاري (1035)، ومسلم (900). .
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ.
أي: قيلَ لهم: ما رأيْتُموه ليس سَحابًا مُمطِرًا في الواقِعِ كما ظنَنْتُم، وإنَّما هو العذابُ الَّذي استَعجَلْتُموه [393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/157)، ((تفسير القرطبي)) (16/206)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286). قيل: قائِلُ هذا هو هودٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، قاله لِقَومِه حينَ جاءهم العذابُ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والواحديُّ، والزمخشري، وابن عطية، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/157)، ((الوسيط)) للواحدي (4/113)، ((تفسير الزمخشري)) (4/307)، ((تفسير ابن عطية)) (5/102)، ((تفسير الألوسي)) (13/183). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، وعَمرُو بنُ مَيمونٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/156). وظاهِرُ كلامِ ابنِ كثيرٍ والسَّعديِّ أنَّه مِن قَولِ الله لهم. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عَمرُو بنُ مَيمونٍ في روايةٍ عنه، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير سفيان الثوري)) (ص: 277)، ((تفسير ابن جرير)) (21/156). وقال القرطبي: (أي: قال اللهُ: قُلْ: بل هو ما استعجَلْتُم به). ((تفسير القرطبي)) (16/206). وقال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يكونَ مِن قَولِ هودٍ إن كان هودٌ بيْنَ ظَهرانَيْهم... أو هو مِن قَولِ بَعضِ رِجالِهم رأى مخائِلَ الشَّرِّ في ذلك السَّحابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). .
رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: هو رِيحٌ فيها عَذابٌ مُوجِعٌ شَديدُ الإيلامِ [394] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/32)، ((تفسير ابن جرير)) (21/157)، ((البسيط)) للواحدي (20/194)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/169). !
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 16].
وقال سُبحانَه: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 6 - 8] .
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25).
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا.
أي: تُهلِكُ الرِّيحُ كُلَّ شَيءٍ مَرَّت به مِمَّا أُرْسِلَتْ بهلاكِه بإذْنِ اللهِ لها في ذلك [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/158)، ((تفسير القرطبي)) (16/206)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). قال ابن جُزَي: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا عُمومٌ يُرادُ به الخُصوصُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/278). قال ابنُ القَيِّم: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا أي: كُلَّ شَيءٍ يَقبَلُ التَّدميرَ، ومِن شَأنِ الرِّيحِ أن تُدَمِّرَه). ((زاد المعاد)) (4/14). .
كما قال تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42].
فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ.
أي: فأصبحَ قَومُ هُودٍ هالِكِينَ كُلُّهم؛ فلا يُرَى مِن بلادِهم شَيءٌ إلَّا مَنازِلُهم الَّتي كانوا يَسكُنونَها [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/158)، ((تفسير الخازن)) (4/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((تفسير الجاوي)) (2/411)، ((تفسير القاسمي)) (8/449)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51). قال الماتُريدي: (وقَولُه عَزَّ وجَلَّ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ الآيةَ، يحتمِلُ: لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ وَجهَينِ: أحَدُهما: أي: لم تَترُكِ الرِّيحُ مِن عادٍ ومِمَّا لهم إلَّا مساكِنَهم الَّتي ذَكَرَ. والثَّاني: لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ إلَّا آثارُ مَساكِنِهم. فعلى أحَدِ التَّأويلَينِ تَرَكت لهم المساكِنَ لم تُهلِكْها، وعلى التَّأويلِ الآخَرِ: تَرَكت آثارَ مَساكِنِهم، فأمَّا نَفْسُ مَساكِنِهم فقد أهلَكَتْها... لكِنْ سَمَّاها مساكِنَ باسْمِ ما قد كان، وأنَّه أمرٌ مُستَعمَلٌ في عُرفِ لِسانِ اللُّغةِ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير الماتريدي)) (9/253). القَولُ الأوَّلُ: أنَّ اللهَ أبقَى مساكِنَ عادٍ على حالِها، ولم تُدَمِّرْها الرِّيحُ: هو اختيارُ ابنِ جرير، والواحدي، والبغوي، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/158)، ((الوسيط)) للواحدي (4/114)، ((تفسير البغوي)) (4/201)، ((تفسير العليمي)) (6/299)، ((تفسير الشوكاني)) (5/28)، ((تفسير القاسمي)) (8/449)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 126). وممَّن ذهب إلى القولِ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالآيةِ: بقاءُ آثارِ مَساكِنِهم وأنقاضِها: الخازنُ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51). .
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
أي: مِثلَ هذا الجزاءِ الَّذي جازَيْنا به عادًا قَومَ هودٍ في الدُّنيا نَجزي القَومَ الكافِرينَ الَّذين طَغَوا وعَتَوا؛ فلْيَحذَرِ المُشرِكونَ المُخالِفونَ أمرَ اللهِ أن نُهلِكَهم كما أهلَكْنا مَن قَبْلَهم [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/159)، ((تفسير القرطبي)) (16/208)، ((تفسير ابن كثير)) (7/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14].

الفوائد التربوية:

قَولُه تعالى حكايةً عن هودٍ عليه السَّلامُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فيه بَيانُ أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ أن يَقرِنَ الدَّعوةَ بالتَّخويفِ، وأن يكونَ غيرَ مُصَرِّحٍ بذلك؛ لِقَولِه: إِنِّي أَخَافُ، ولم يقُلْ: إنَّكم ستُصابونَ بيَومٍ عَظيمٍ؛ لأنَّ المقامَ يَقتَضي ذلك، ولكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 234). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عبَّرَ بالأُخُوَّةِ؛ تَسليةً لنَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ قَطيعةَ القَومِ لِمَن هو منهم، ويَعلَمونَ مَناقِبَه ومَفاخِرَه: أوجَعُ [399] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/162). .
2- قال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أرسلَ اللهُ إليهم أخاهم في النَّسَبِ هُودًا؛ لِيتَمَكَّنوا مِن الأخذِ عنه [400] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 383). ؛ لأنَّهم عنه أفهَمُ، وبحالِه في الثِّقةِ والأمانةِ أعرَفُ [401] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/433). .
3- قولُ الله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ فيه سُؤالٌ: وصَفَ تعالى هُودًا بأنَّه أخوهم، ومعلومٌ أنَّ تلك الأخوَّةَ ما كانت في الدِّينِ، وإنَّما كانت في النَّسَبِ، وقد قال تعالى في ابنِ نوحٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] ، فبَيَّن أنَّ قَرابةَ النَّسَبِ لا تُفيدُ إذا لم تحصُلْ قَرابةُ الدِّينِ، وهاهنا أثبتَ هذه الأخُوَّةَ مع الاختلافِ في الدِّينِ، فما الفرقُ بيْنَهما؟
 الجوابُ: أنَّ المرادَ مِن هذا الكلامِ استِمالةُ قَومِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ قَومَه كانوا يَستبعِدونَ في محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم -مع أنَّه واحِدٌ مِن قَبيلتِهم- أن يكونَ رَسولًا إليهم مِن عندِ الله، فذكرَ الله تعالى أنَّ هودًا عليه السَّلامُ كان واحِدًا مِن عادٍ؛ لإزالةِ هذا الاستِبعادِ [402] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/362)، ((تفسير الشربيني)) (2/63). .
4- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ في الآيةِ دَليلٌ على جوازِ تَسميةِ القَريبِ الكافِرِ أخًا [403] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/441). .
5- قال الله تعالى: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ هذا يدُلُّ على أنَّ الوَعدَ قد يُوضَعُ مَوضِعَ الوَعيدِ [404] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/205). . وقيل: سَمَّوا الوعيدَ وَعدًا؛ استِهزاءً به [405] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/165). .
6- قَولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إنَّما صَلَح هذا الكَلامُ جَوابًا لِقَولِهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا؛ لأنَّ قَولَهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا استِعجالٌ منهم لذلك العَذابِ، فقال لهم هودٌ عليه السَّلامُ: لا عِلمَ عندي بالوَقتِ الَّذي يَحصُلُ فيه ذلك العَذابُ، إنَّما عِلمُ ذلك عندَ اللهِ تعالى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ هو التَّحذيرُ عن العذابِ، وأمَّا العِلمُ بوَقتِه فما أوحاه اللهُ إلَيَّ [406] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/24). .
7- في قَولِه تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا التَّخصيصُ بالحِسِّ؛ فإنَّ الحِسَّ دَلَّ على أنَّها لم تُدَمِّرِ السَّماءَ والأرضَ، ومِنَ العُلَماءِ مَن يرى أنَّ ما خُصَّ بالحِسِّ والعَقلِ ليس مِنَ العامِّ المخصوصِ، وإنَّما هو مِنَ العامِّ الَّذي أُريدَ به الخُصوصُ؛ إذ المَخصوصُ لم يكُنْ مُرادًا عندَ المتكَلِّمِ ولا المُخاطَبِ مِن أوَّلِ الأمرِ، وهذه حقيقةُ العامِّ الَّذي أُريدَ به الخُصوصُ [407] يُنظر: ((الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 41). وقد قرَّر الشَّاطبيُّ أنَّ لِلعُمومِ صِيَغًا وضعيَّةً، ثمَّ ذكَر أنَّ للعُمومِ الَّذي تدُلُّ عليه الصِّيَغُ بحسَبِ الوضعِ نظَرَينِ؛ أحدُهما: باعتِبارِ ما تدُلُّ عليه الصِّيغةُ في أصلِ وضْعِها على الإطلاقِ. والثَّاني: بحسَبِ المقاصِدِ الاستِعماليَّةِ الَّتي تَقضي العوائدُ بالقصدِ إليها، وإن كان أصلُ الوضعِ على خِلافِ ذلك، إلى أن قال: (فالحاصلُ أنَّ العُمومَ إنَّما يُعتبَرُ بالاستِعمالِ، ووُجوهُ الاستِعمالِ كثيرةٌ، ولكنَّ ضابِطَها مُقتَضَياتُ الأحوالِ الَّتي هي مِلاكُ البيانِ؛ فإنَّ قولَه: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا لم يُقصَدْ به أنَّها تُدمِّرُ السَّمواتِ والأرضَ والجبالَ، ولا المياهَ ولا غيرَها ممَّا هو في معناها، وإنَّما المقصودُ: تُدمِّرُ كلَّ شَيءٍ مرَّتْ عليه ممَّا شأنُها أن تؤثِّرَ فيه على الجُملةِ؛ ولذلك قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. وقال في الآيةِ الأخرى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 42]). ((الموافقات)) للشاطبي (4/18-20). .
8- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ فيه سُؤالٌ: لَمَّا قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] ، فكيفَ يَبقَى التَّخويفُ حاصِلًا؟
الجوابُ: قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إنَّما أُنزِلَ في آخِرِ الأمرِ؛ فكان التَّخويفُ حاصِلًا قبْلَ نُزولِه [408] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/25). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- سِيقَت قِصَّةُ هُودٍ وقَومِه مَساقَ المَوعظةِ لِلمُشرِكينَ الَّذين كذَّبوا بالقُرآنِ، كما أخبَرَ اللهُ عنهم مِن أوَّلِ هذه السُّورةِ في قَولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] ، مع ما أُعقِبَت به مِن الحُجَجِ المُتقدِّمةِ مِن قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 4] ، الَّذي يُقابِلُه قَولُ هُودٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، ثمَّ قَولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] ، الَّذي يُقابِلُه قَولُه: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ؛ ذلك كُلُّه بالمَوعظةِ بحالِ هُودٍ عليه السَّلامُ معَ قَومِه. وسِيقَتْ أيضًا مَساقَ الحُجَّةِ على رِسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى عِنادِ قَومِه، بذِكرِ مِثالٍ لِحالِهم مع رَسولِهم بحالِ عادٍ معَ رَسولِهم. ولها أيضًا مَوقِعُ التَّسليةِ لِلرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم على ما تَلقَّاهُ به قَومُه مِن العِنادِ والبُهتانِ؛ لِتَكونَ مَوعِظةً وتَسليةً معًا، يأْخُذُ كلٌّ منها ما يَلِيقُ به. ولا تَجِدُ كَلِمةً أجمَعَ لِلْمعنيَينِ مِن كَلمةِ (اذْكُرْ)؛ لأنَّها تَصلُحُ لِمَعنى الذِّكرِ اللِّسانيِّ؛ بأنْ يُرادَ أنْ يَذكُرَ ذلك لِقَومِه، ولمعنَى الذُّكْرِ بالضَّمِّ؛ بأنْ يَتذكَّرَ تلك الحالةَ في نفْسِه، وإنْ كانت تَقدَّمَت له وأمْثالُها؛ لأنَّ في التَّذكُّرِ مَسلاةً وأُسوةً، كقَولِه تعالَى: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] . وكِلَا المَعنيَينِ ناظِرٌ إلى قَولِه آنِفًا: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] ؛ فإنَّه إذا قال لهمْ ذلك، تَذكَّروا ما يَعرِفون مِن قَصَصِ الرُّسلِ ممَّا قصَّه عليهم القُرآنُ مِن قبْلُ، وتَذكَّرَ هو -لا مَحالةَ- أحْوالَ رُسلٍ كَثيرينَ، ثمَّ جاءتْ قِصَّةُ هُودٍ مِثالًا لذلك. ومُشرِكو مكَّةَ إذا تَذكَّروا في حالِهم وحالِ عادٍ، وَجَدوا الحالَينِ مُتماثِلَينِ؛ فيَجدُرُ بهم أنْ يَخافوا مِن أنْ يُصِيبَهم مِثلُ ما أصابَهَم [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/44). .
- قولُه: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ ... فيه الاقتِصارُ على ذِكرِ عادٍ؛ لأنَّهم أوَّلُ الأُمَمِ العربيَّةِ الَّذين جاءَهُم رَسولٌ بعْدَ رِسالةِ نُوحٍ العامَّةِ، وقد كانتْ رِسالةُ هُودٍ ورِسالةُ صالِحٍ قبْلَ رِسالةِ إبراهيمَ عليهم السَّلامُ، وتأْتي بعْدَ ذِكرِ قصَّتِهم إشارةٌ إجماليَّةٌ إلى أُمَمٍ أُخْرى مِن العرَبِ كذَّبوا الرُّسلَ، في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [الأحقاف: 27] الآيةَ [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/44، 45). .
- وأخو عادٍ هو هُودٌ، وعُبِّرَ عنْه هنا بوَصْفِه دُونَ اسْمِه العَلَمِ؛ لأنَّ المُرادَ بالذِّكْرِ هنا ذِكرُ التَّمثيلِ والمَوعظةِ لِقُريشٍ بأنَّهم أمثالُ عادٍ في الإعراضِ عن دَعوةِ رَسولٍ مِن أُمَّتِهم [411] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/45). .
- وذُكِرَ الإنذارُ هنا دُونَ الدَّعوةِ أو الإرسالِ؛ لِمُناسَبةِ تَمْثيلِ حالِ قَومِ هُودٍ بحالِ قَومِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو ناظِرٌ إلى قَولِه تعالى في أوَّلَ السُّورةِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [412] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/45). [الأحقاف: 3] .
- وجُملةُ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعْتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، مُؤكِّدٌ لِوُجوبِ العَملِ بمُوجبِ الإنْذارِ، وُسِّط بيْنَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ وبيْنَ قَولِه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ؛ مُسارَعةً إلى ما ذُكِرَ مِن التَّقريرِ والتَّأْكيدِ، وإيذانًا باشْتِراكِهم في العِبارةِ المَحكيَّةِ [413] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/45). ، على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وأيضًا قولُه: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي: مِن بَعْدِه، وجاء لَفْظُ خَلَتِ بالماضي -والمُرادُ: الَّذين سيُبْعَثون- على سَنَنِ الإخبارِ عن المُستقبَلِ بالماضي؛ تَحْقيقًا له [414] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/299). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وجُملةُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعليلٌ لِلنَّهيِ في قَولِه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أي: إنِّي أخافُ عليكم عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ بسَببِ شِرْكِكم، ووُصِفَ اليومُ بالعِظَمِ باعْتِبارِ ما يَحدُثُ فيه مِن الأحداثِ العَظيمةِ [415] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/299)، ((تفسير أبي السعود)) (8/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/46). .
2- قولُه تعالَى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- قولُه: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا جَوابٌ عن قَولِه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الأحقاف: 21] ؛ ولذلك جاء فِعلُ قَالُوا مَفْصولًا على طَريقِ المُحاوَرةِ [416] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/46). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا استِفهامُ تَقريرٍ، وتَوبيخٍ، وإنكارٍ، وتَعجيزٍ لِنَبيِّهم فيما أنْذَرَه إيَّاهم مِن العَذابِ العظيمِ على تَرْكِ إفرادِ اللهِ بالعِبادةِ [417] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/46). .
- وهذا الإنكارُ تَعريضٌ بالتَّكذيبِ؛ فلذلك فُرِّعَ عليه فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فصَرَّحوا بتَكذيبِه بطَريقِ المَفهومِ، والمعنى: ائْتِنا بالعَذابِ الَّذي تَعِدُنا به، أي: عَذابِ اليومِ العَظيمِ، وإنَّما صَرَفوا مُرادَ هُودٍ بالعَذابِ إلى خُصوصِ عَذابِ الدُّنيا؛ لأنَّهم لا يُؤمِنون بالبَعثِ، وبهذا يُؤذِنُ قَولُه بعْدَه: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا [الأحقاف: 24] ، وقولُه: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/46، 47). [الأحقاف: 24] .
- وقولُهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ اسْتِعجالٌ منهم بحُلولِ ما وَعَدَهم به مِن العذابِ؛ ألَا تَرى إلى قَولِه: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الأحقاف: 24] ؟ وطلَبُ الاستِعجالِ لِيَدلَّ على صِدْقِه؛ إذ الشَّأنُ ألَّا يَتأخَّرَ عن إظْهارِ صِدْقِه لهم [419] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/445). .
- وجَعَلوا العَذابَ في مُكْنَتِه يأْتي به متى أرادَ؛ تَهكُّمًا به، إذ قال لهم: إنَّه مُرسَلٌ مِن اللهِ، فجَعَلوا ذلك مُقْتضيًا أنَّ بيْنَه وبيْنَ اللهِ تَعاوُنًا وتَطاوُعًا، أي: فلا تَتأخَّرْ عن الإتيانِ به، وقدْ دلَّ على هذا الاقْتِضاءِ قَولُه لهم حِينَ نُزولِ العَذابِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الأحقاف: 24] ؛ فلذلك كان جَوابُه أنْ قال: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحقاف: 23] ، أي: عِلْمُ وَقتِ إتيانِ العَذابِ مَحْفوظٌ عِندَ اللهِ، لا يطَّلِعُ عليه أحدٌ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/47). .
وقيل: أسنَدوا الفِعلَ إلى ضَميرِه؛ تَعريضًا بأنَّ ما تَوَعَّدَهم به هو شَيءٌ مِن مُختَلَقاتِه، وليس مِن قِبَلِ اللهِ تعالى [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/209). !
- وقولُهم: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أبلَغُ في الوصْفِ بالصِّدْقِ مِن أنْ يُقالَ: (إنْ كُنتَ صادِقًا)، أي: إنْ كُنتَ في قَولِك هذا مِن الَّذين صَدَقوا، أي: فإنْ لم تأْتِ به فما أنْتَ بصادِقٍ فيه [422] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/47). .
- وعَقَّبوا كلامَهم بالشَّرطِ فقالوا: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ استِقصاءً لِمَقدِرتِه؛ قَصدًا منهم لإظهارِ عَجزِه عن الإتيانِ بالعَذابِ، وجوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دَلَّ عليه ما قَبْلَه، تقديرُه: أتَيْتَ به وإلَّا فلَسْتَ بصادقٍ [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/209). .
3- قولُه تعالَى: قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ لَمَّا جَعَلوا قَولَهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف: 22] فَصْلًا بيْنَهم وبيْنَه فيما أنْذَرَهم، مِن كَونِ عِبادةِ غَيرِ اللهِ تُوجِبُ عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ؛ كان الأمْرُ في قَولِهم: فَأْتِنَا مُقتضِيًا الفَورَ -أي: طلَبَ تَعجيلِه-؛ لِيَدُلَّ على صِدْقِه؛ إذ الشَّأنُ ألَّا يَتأخَّرَ عن إظْهارِ صِدْقِه؛ فجاء قولُه: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ جَوابًا لِقَولِهم [424] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/306)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 522)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/47). .
- قولُه: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ التَّعريفُ في الْعِلْمُ لِلاستِغراقِ العُرْفيِّ، أي: عِلْمُ المُغيَّباتِ، أو التَّعريفُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: وَقتُ العذابِ. وهذا الجَوابُ يَجْري على جَميعِ الاحْتِمالاتِ في مَعنى قَولِهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا؛ لأنَّ جَميعَها يَقْتضي أنَّه عالِمٌ بوَقْتِه [425] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/47). .
- والحصْرُ هنا في قولِه: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ حَقيقيٌّ، والمَقصودُ مِن هذا الحصْرِ شُمولُه نَفْيَ العِلمِ بوَقتِ العذابِ عن المُتكلِّمِ؛ ردًّا على قَولِهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [426] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/47، 48). .
- ومَوقِعُ الاسْتِدراكِ بقَولِه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ أنَّه عن قَولِه: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، أي: ولكنَّكم تَجهَلون صِفاتِ الله، وحِكمةَ إرْسالِه الرُّسلَ، فتَحسَبونَ أنَّ الرُّسلَ وَسائطُ لإنْهاءِ اقْتِراحِ الخلْقِ على اللهِ أنْ يُرِيَهم العَجائبَ، ويُساجِلَهم في الرَّغائبِ؛ فمَناطُ الاسْتِدراكِ هو مَعمولُ خَبَرِ (لكنَّ)، وهو قَوْمًا تَجْهَلُونَ، والتَّقديرُ: ولكنَّكم قَومٌ تَجهَلون؛ فإدْخالُ حَرْفِ الاسْتِدراكِ على ضَميرِ المُتكلِّمِ عُدولٌ عن الظَّاهِرِ؛ لِئلَّا يُبادِرَهم بالتَّجهيلِ؛ اسْتِنزالًا لِطائِرِهم، فجعَلَ جَهْلَهم مَظنونًا له؛ لِيَنظُروا في صِحَّةِ ما ظَنَّه مِن عَدَمِها [427] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/48). .
- وإنَّما زِيدَ قَوْمًا ولم يُقتصَرْ على تَجْهَلُونَ؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ الجَهالةِ منهم، حتَّى صارَتْ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، وللدَّلالةِ على أنَّها عَمَّت جَميعَ القَبيلةِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/48). .
4- قولُه تعالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
- الفاءُ في قولِه: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا لِتَفْريعِ بَقيَّةِ القِصَّةِ على ما ذُكِرَ منها، أي: فلمَّا أرادَ اللهُ إصابَتَهم بالعَذابِ، ورَأَوه عارِضًا قَالُوا هَذَا عَارِضٌ إلى آخِرِه؛ ففي الكلامِ تَقْديرٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، ويُسمَّى التَّفريعُ فيه فَصيحةً، وقدْ طُوِيَ ذِكْرُ ما حَدَثَ بيْنَ تَكْذيبِهم هُودًا وبيْنَ نُزولِ العَذابِ بهم [429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/49). .
- وضَميرُ رَأَوْهُ عائدٌ إلى (مَا تَعِدُنَا) [الأحقاف: 22] ، وهو العَذابُ. وأُطلِقَ على المَرْئيِّ ضَميرُ العَذابِ؛ لأنَّ المَرْئيَّ سَببُ العذابِ، وهو ما حَمَلَتْه الرِّيحُ [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/49). .
- قولُه: أَوْدِيَتِهِمْ جَمَع الأوديةَ؛ باعتِبارِ كَثرةِ مَنازِلِهم وانتِشارِها [431] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/49). .
- وقولُه: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مَقولٌ لِقَولٍ مَحذوفٍ، يَجوزُ أنْ يكونَ مِن قَولِ هُودٍ -إنْ كان هُودٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهم، ولم يكُنْ خرَجَ قبْلَ ذلك-، أو هو مِن قَولِ بَعضِ رِجالِهم رَأى مَخائلَ الشَّرِّ في ذلك السَّحابِ، وإنَّما حُذِفَ فِعلُ القولِ؛ لِتَمثيلِ قائلِ القولِ كالحاضِرِ وقْتَ نُزولِ هذه الآيةِ، وقد سَمِعَ كَلامَهم، وعَلِمَ غُرورَهم، فنطَقَ بهذا الكلامِ تَرْويعًا لهم، وهذا مِن اسْتِحضارِ الحالةِ العَجيبةِ [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). .
- وفي قولِه: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ جُعِلَ العَذابُ مَظْروفًا في الرِّيحِ مُبالَغةً في التَّسبُّبِ؛ لأنَّ الظَّرفيَّةَ أشدُّ مُلابَسةً بيْنَ الظَّرْفِ والمَظروفِ مِن مُلابَسةِ السَّببِ والمُسبَّبِ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). .
5- قولُه تعالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
- كُلَّ شَيْءٍ مُستعمَلٌ في كَثرةِ الأشياءِ، والمعنَى: تُدمِّرُ ما مِن شأْنِه أنْ تُدمِّرَه الرِّيحُ مِن الإنسانِ والحَيوانِ والدِّيارِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). .
- وفي إضافةِ الرَّبِّ إلى الرِّيحِ في قَولِه: بِأَمْرِ رَبِّهَا دَلالةٌ على عِظَمِ شأْنِها، وأنَّها مِن جُنودِ اللهِ، وممَّا يَسْتقيمُ أنْ يُنسَبَ إلى الرَّبِّ سُبحانه وتَعالَى، ثمَّ دلَّ ذلك على عَظَمةِ بارِئِها، وأنَّ مِثلَ هذا الشَّيءِ العَظيمِ مَمْلوكٌ له، مُنْقادٌ لِتَصرُّفِه، ثمَّ أكَّدَ هذا المعنَى باقْتِرانِ الأمْرِ معه؛ تَتْميمًا لِتَعظيمِ مَن أُضِيفَ إليها؛ لأنَّ المُرادَ بالأمْرِ واحدُ الأوامِرِ التَّكوينيَّةِ [435] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/308)، ((تفسير البيضاوي)) (5/115)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/304)، ((تفسير أبي حيان)) (9/446)، ((تفسير أبي السعود)) (8/86). .
- وأيضًا قولُه: بِأَمْرِ رَبِّهَا حالٌ مِن ضَميرِ تُدَمِّرُ، وفائدةُ هذه الحالِ تَقريبُ كَيفيَّةِ تَدْميرِها كلَّ شَيءٍ، أي: تَدْميرًا عَجيبًا بسَببِ أمْرِ ربِّها، أي: تَسخيرِه الأشياءَ لها؛ فالباءُ للسَّببيَّةِ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/50). .
- والتَّعقيبُ بالفاءِ في قولِه: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ إشارةٌ إلى سُرْعةِ اسْتِئصالِهم، وحُصولِ دَمارِهم مِن غَيرِ رَيبٍ [437] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/301). .
- وعلَى قِراءةِ لَا يُرَى بتاءٍ مَفتوحةٍ لِلْخِطابِ [438] قال ابن الجزري: (قَرَأ يعقوبُ وحمزةُ وعاصِمٌ وَخَلَفٌ، يُرَى بياءٍ مضمومةٍ على الغيبِ مَسَاكِنُهُمْ بالرَّفعِ، وقرَأ الباقونَ بالتَّاءِ وفتحِها على الخطابِ، وَنَصْبِ مَسَاكِنَهُمْ). ((النشر في القراءات العشر)) (2/373). ، والخِطابُ فيه لِمَن تَتأتَّى منه الرُّؤيةُ حِينَئذٍ؛ فيكونُ إتْمامًا لاستِحضارِ حالةِ دَمارِهم العَجيبةِ، حتَّى كأنَّ الآيةَ نازِلةٌ في وَقتِ حُدوثِ هذه الحادثةِ، وتَنْبيهًا على أنَّ حالَهُم بحيثُ لو حَضَرَ كلُّ أحدٍ بِلادَهم لا يَرَى فيها إلَّا مَساكنَهم [439] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/301)، ((تفسير أبي حيان)) (9/447)، ((تفسير أبي السعود)) (8/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51). .
- وقولُه: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: مِثلَ ذلكَ الجزاءِ الفظيعِ نَجْزي القومَ المُجرمينَ، وهو تَهديدٌ لِمُشْرِكي قُرَيشٍ، وإنْذارٌ لهم، وتَوطئةٌ لِقَولِه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [440] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/51). [الأحقاف: 26] .