موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيتان (9-10)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ

غريب الكلمات:

بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ: أي: أوَّلَ رُسُلِ اللهِ، والبِدْعُ مِن كُلِّ شَيءٍ: الأوَّلُ والمُبتَدأُ، والبِدعةُ: ما اختُرِعَ ممَّا لم تَجْرِ به سُنَّةٌ، وأصلُ (بدع): يدُلُّ على ابتداءِ الشَّيءِ، وصُنعِه لا عن مِثالٍ .
نَذِيرٌ: أي: مُنْذِرٌ ومُحذِّرٌ ومُخوِّفٌ، والإنذارُ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تخويفٍ. وقيل: أصلُ الإنذارِ: الإعلامُ؛ يُقالُ: أنذَرْتُه: إذا أعلَمْتَه. وقيل: ولا يكونُ إلَّا معَ الحَذَرِ .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُبيِّنَ لِقَومِه أنَّ ما جاءهم به قد سبَقَتْه به الرُّسُلُ إلى أقوامِهم، وأنَّه وافَقتْ دعوتُه دعوتَهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: ما كُنتُ أوَّلَ رَسُولٍ إلى البَشَرِ؛ فقد أرسَلَ اللهُ مِنْ قَبْلي كثيرًا مِنَ الرُّسُلِ، ولا أعلَمُ ما يَفعَلُه اللهُ بي ولا بكم. ما أتَّبِعُ إلَّا ما يُوحيه اللهُ إلَيَّ، وما أنا إلَّا نَذيرٌ لكم ظاهِرُ النِّذارةِ، وأُظهرُ لكم الإنذارَ مِن عذابِ اللهِ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ للمشركينَ أيضًا: أرأيتُم إن كان هذا القُرآنُ نازِلًا إلَيَّ مِن عندِ اللهِ، وكفَرْتُم به، وقد شَهِد شاهِدٌ مِنْ بني إسرائيلَ على مِثلِ القُرآنِ أنَّه مِن عندِ الله، فآمَنَ به واستَكبرتُم أنتم -أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ به؛ فمَنْ أضَلُّ مِنكم؟! إنَّ اللهَ لا يَهدي القَومَ الظَّالِمينَ!

تفسير الآيتين:

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن أعظَمِ الضَّلالِ أنْ يُنسَبَ الإنسانُ إلى الكَذِبِ مِن غيرِ دَليلٍ في شَيءٍ لم يَبتَدِعْه، بل تقَدَّمَه بمِثْلِه ناسٌ قد ثَبَت صِدْقُهم في مِثلِ ذلك، ومَضَت عليه الأزمانُ، وتقرَّرَ غايةَ التَّقَرُّرِ في القُلوبِ والأذهانِ- قال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن المُشرِكينَ طَعْنَهم في كَونِ القُرآنِ مُعْجِزًا بأنْ قالوا: إنَّه يختَلِقُه مِن عندِ نَفْسِه، ثمَّ يَنسُبُه إلى أنَّه كَلامُ اللهِ على سَبيلِ الفِرْيةِ؛ حكى عنهم نوعًا آخَرَ مِنَ الشُّبُهاتِ، وهو أنَّهم كانوا يَقتَرِحونَ عليه مُعجِزاتٍ عَجيبةً قاهِرةً، ويُطالِبونَه بأنْ يُخبِرَهم عن المُغَيَّباتِ؛ فأجاب اللهُ تعالى عنه بأنْ قال :
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: ما كنتُ أوَّلَ رُسُلِ اللهِ إلى البَشَرِ؛ فقد أرسَلَ اللهُ مِنْ قَبْلي كثيرًا مِنَ الرُّسُلِ إلى أُمَمِهم، وبمِثْلِ ما أرسَلَني به، فلِمَ تَستَنكِرونَ رِسالتي ؟!
قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 163، 164].
وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ.
أي: لَسْتُ إلَّا بشَرًا، وليس بيَدي مِنَ الأمرِ شَيءٌ؛ فلا أعلَمُ ما يَفعَلُه اللهُ بي، ولا ما يَفعَلُه بكم !
كما قال تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] .
وعن أمِّ العَلاءِ رضيَ الله عنها، قالت: ((دخَلَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ تُوُفِّيَ عُثمانُ بنُ مَظْعُونٍ، فقُلتُ: رَحمةُ اللهِ عليك أبا السَّائِبِ، فشَهادتي عليك لقد أكرَمَك اللهُ! فقال لي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: وما يُدريكِ أنَّ اللهَ أكرَمَه؟! فقُلتُ: لا أدري، بأبي أنتَ وأمِّي يا رَسولَ اللهِ! فقال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أمَّا عُثمانُ فقد جاءه -واللهِ- اليَقينُ، وإنِّي لأرجو له الخَيرَ، واللهِ ما أدري وأنا رَسولُ اللهِ ما يُفعَلُ به ! قالت: فواللهِ لا أُزكِّي أحدًا بعدَه أبدًا، وأحزَنَني ذلك. قالت: فنِمتُ، فأُريِتُ لِعُثمانَ عَينًا تَجري، فجِئتُ إلى رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأخبَرْتُه، فقال: ذاك عَمَلُه )) .
وفي روايةٍ: ((واللهِ ما أدري -وأنا رَسولُ اللهِ- ما يُفْعَلُ بي ولا بكم)) .
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.
أي: ما أتَّبِعُ إلَّا ما يُنزِلُه اللهُ علَيَّ مِنَ الوَحيِ .
وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: وما أنا لكم إلَّا نَذيرٌ أُبِينُ وأُظهِرُ لكم الإنذارَ مِن عذابِ اللهِ، وأمري بائنٌ ظاهِرٌ لكُلِّ ذي عَقلٍ .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أثبَتَ أنَّه مِن عندِ اللهِ بشَهادةِ اللهِ نَفْسِه بعَجْزِهم عن المُعارَضةِ؛ قبَّحَ عليهم إصرارَهم على التَّكذيبِ، على تقديرِ شَهادةِ أحَدٍ مِمَّن يَثِقونَ بهم، يَسألونَهم عنه مِن أهلِ الكِتابِ .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: أرأيتُم إن كان هذا القُرآنُ نازِلًا إلَيَّ مِن عندِ اللهِ، ومع ذلك كفَرْتُم به، ألَا تَكونونَ بذلك ظالِمينَ وضالِّينَ عن الحَقِّ ؟
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ.
أي: وقد شَهِد مَنْ شَهِدَ مِنْ بني إسرائيلَ على مِثلِ القُرآنِ أنَّه مِن عندِ الله؛ فآمَنَ هو بالقُرآنِ، واستَكبرتُم أنتم -أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ به !
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 196، 197].
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: 17].
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109] .
وقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52 - 54] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ لإصابةِ الحَقِّ القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ باللهِ، والتَّكَبُّرِ عن قَبولِ الحَقِّ مع وُضوحِه .
كما قال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .

الفوائد التربوية:

لَمَّا كان المَقامُ مَقامَ تَخويفٍ وإنذارٍ قال: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ لأنَّه يُخاطِبُ المُكذِّبينَ، وهذا أسلوبٌ مَعروفٌ في عِلمِ البَلاغةِ: أن يَستَعمِلَ الإنسانُ ما يُوافِقُ مُقتَضَى الحالِ، لكِنْ عندَ وَصفِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الوَصفَ المُطلَقَ يقولُ سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ؛ فبَدَأ بالبِشارةِ قبْلَ الإنْذارِ، وهذا مِن حيثُ حالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُطلَقةُ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ هذه الآيةُ صالِحةٌ للرَّدِّ على نصارَى زَمانِنا الَّذين طَعَنوا في نبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمَطاعِنَ لا مَنشأَ لها إلَّا تَضليلٌ وتَمويهٌ على عامَّتِهم؛ لأنَّ الطَّاعِنينَ ليسوا مِن الغباوةِ بالَّذين يخفَى عليهم بُهتانُهم، كقَولِهم: إنَّه تزَوَّج النِّساءَ، أو أنَّه قاتَلَ الَّذين كَفَروا، أو أنَّه أحَبَّ زَينبَ بنتَ جَحشٍ !
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَعلَمُ مَصيرَ أمْرِه -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وقد جاءت آيةٌ أخرى تدُلُّ على أنَّه عالِمٌ بأنَّ مَصيرَه إلى الخَيرِ، وهي قَولُه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وَمَا تَأَخَّرَ تَنصيصٌ على حُسنِ العاقِبةِ والخاتِمةِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى علَّمَه ذلك بعدَ أن كان لا يَعلَمُه، ويُستأنَسُ له بقَولِه تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الآيةَ [النساء: 113] ، وقَولِه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا الآيةَ [الشورى: 52] ، وقَولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ، وقَولِه: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الآيةَ [القصص: 86] ، وهذا الجوابُ هو معنى قَولِ ابنِ عبَّاسٍ، وهو مرادُ عِكْرِمةَ والحَسَنِ وقَتادةَ بأنَّها مَنسوخةٌ (أي: مُبَيَّنةٌ) بقَولِه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ الآيةَ [الفتح: 2] . ويدُلُّ له أنَّ سورةَ (الأحقافِ) مَكِّيَّةٌ، وسورةَ (الفَتحِ) نزلَتْ عامَ سِتَّةٍ في رُجوعِه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الحُدَيبيَةِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ: ما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم في الدُّنيا مِنَ الحوادِثِ والوقائِعِ؛ وعليه فلا إشكالَ .
3- قَولُه تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فيه كمالُ عُبوديَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للهِ عزَّ وجلَّ .
4- في قَولِه تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أنَّ الشَّرائعَ توقيفيَّةٌ؛ فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَبتدِعَ منها شَيئًا؛ ولهذا قَرَّرَ أهلُ العلمِ أنَّ الأصلَ في العباداتِ المنعُ والحَظرُ، وأنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يَتعبَّدَ للهِ تعالى بشَيءٍ إلَّا ما أَذِنَ اللهُ فيه شَرعًا، وهذا حَقٌّ مُستنِدٌ إلى آياتٍ مُتعَدِّدةٍ، وإلى قَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) .
5- ما كان مِن العِلمِ المَوروثِ عن نَبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فلَنا أنْ نَستَشهِدَ عليه بما عندَ أهلِ الكتابِ، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، وقال تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد 43]، وقال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [يونس 94، 95].
6- قَولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فيه ردٌّ على مَن قال: لا يَنبغي للشَّاهِدِ أن يقولَ: أشهَدُ على إقرارِ زَيدٍ، بل يقولُ: أشهَدُ به، فالصَّوابُ قَبولُ الشَّهادةِ بهذه الصِّيغةِ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
- في قولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ أُعِيدَ الأمْرُ بأنْ يَقولَ ما هو حُجَّةٌ عليهم، وهذا جَوابٌ عمَّا تَضمَّنَه قَولُهم: افْتَرَاهُ [الأحقاف: 8] ؛ مِن إحالَتِهم صِدْقَه فيما جاء به مِن الرِّسالةِ عن اللهِ إحالةً دَعَتْهم إلى نِسبةِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الافتراءِ على اللهِ. وإنَّما لم يُعطَفْ على جُملةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الأحقاف: 8] ؛ لأنَّ المَقصودَ الارتِقاءُ في الرَّدِّ عليهم مِن رَدٍّ إلى أقْوى منه؛ فكان هذا كالتَّعدُّدِ والتَّكريرِ .
- ودلَّ قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] بالإدماجِ وإشارةِ النَّصِّ على أنَّه تعالَى ضَمَّن فيه ما به أعْرَضوا عن التَّوحيدِ والبَعثِ، والطَّعنَ في الرَّسولِ المُنذِرِ، فقِيل: قُلْ لهم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الآيةَ؛ فدلَّ على أنَّ ذلك الطَّعنَ هو أنَّهم اقْتَرَحُوا عليه الآياتِ، وكانوا يَسْأَلونَه عمَّا لم يُوحَ إليه مِن الغُيوبِ، ويُؤيِّدُ هذا أنْ فُصِلَتْ الآيةُ بقَولِه: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ لأنَّه مُطابِقٌ لِقَولِه: عَمَّا أُنْذِرُوا .
- قولُه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ تَتْميمٌ لقَولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وهو بمَنزِلةِ الاعْتِراضِ؛ فإنَّ المُشرِكين كانوا يَسْألونَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن مُغيَّباتٍ؛ اسْتِهزاءً؛ فأمَرَ اللهُ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُعلِمَهم بأنَّه لا يَدْري ما يُفعَلُ به ولا بهم، أي: في الدُّنيا -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ ولذلك كان قولُه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ اسْتِئنافًا بَيانيًّا، وإتْمامًا لِمَا في قَولِه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ؛ بأنَّ قُصارَى ما يَدْرِيه هو اتِّباعُ ما يُعلِمُه اللهُ به؛ فهو تَخصيصٌ لِعُمومِه، ومِثلُ عِلْمِه بأنَّه رَسولٌ مِن اللهِ، وأنَّ المُشرِكين في النَّارِ، وأنَّ وَراءَ الموتِ بَعْثًا .
- ووَجْهُ عَطْفِ وَلَا بِكُمْ على بِي بإقحامِ (لا) النَّافيةِ، معَ أنَّهما مُتعلِّقانِ بفِعلِ صِلةِ (ما) المَوصولةِ، وليس في الصِّلةِ نَفْيٌ، فلماذا لمْ يُقَلْ: ما يُفعَلُ بي وبِكُم؛ لأنَّ المَوصولَ وصِلَتَه لَمَّا وقَعَا مَفعولًا لِلْمنفيِّ في قَولِه: وَمَا أَدْرِي، تَناوَلَ النَّفيُ ما هو في حَيِّزِ ذلك الفِعلِ المَنْفيِّ، فصار النَّفيُ شاملًا لِلْجميعِ؛ فحسُنَ إدْخالُ حَرْفِ النَّفيِ على المَعطوفِ، كما حسُنَ دُخولُ الباءِ الَّتي شأْنُها أنْ تُزادَ فيُجَرَّ بها الاسمُ المَنْفيُّ المعطوفُ على اسمِ (إنَّ)، وهو مُثبَتٌ في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف: 33] ؛ لِوُقوعِ (أنَّ) العامِلةِ فيه في خَبرِ النَّفيِ، وهو أَوَلَمْ يَرَوْا . وقيل: لأنَّ التَّقديرَ: ما أدري ما يُفعَلُ بي، وما أدري ما يُفعَلُ بكم .
- قولُه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أيْ: ما أفْعَلُ إلَّا اتِّباعَ ما يُوحَى إلَيَّ، على مَعْنى قَصْرِ أفْعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتِّباعِ الوَحْيِ، لا قَصْرِ اتِّباعِه على الوحْيِ، كما هو المُتسارِعُ إلى الأفْهامِ .
- وعُطِفَ قولُه: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ على جُملةِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ؛ لأنَّه الغرَضُ المَسوقُ له الكلامُ، بخِلافِ قَولِه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، والمعنى: وما أنا إلَّا نِذيرٌ مُبِينٌ لا مُفتَرٍ؛ فالقصْرُ قَصرٌ إضافيٌّ، وهو قصْرُ قَلْبٍ ؛ لِرَدِّ قَولِهم: افْتَرَاهُ .
2- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ... أُعِيدَ الأمْرُ بأنْ يَقولَ لهم حُجَّةً أُخرى؛ لعلَّها تَرُدُّهم إلى الحقِّ بعْدَ ما تَقدَّمَ مِن قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 4] الآيةَ، وقولِه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الأحقاف: 8] وقولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] الآيةَ. وهذا اسْتِدراجٌ لهم لِلْوصولِ إلى الحقِّ في دَرَجاتِ النَّظرِ؛ فقدْ بادَأَهُم بأنَّ ما أحالُوه مِن أنْ يكونَ رَسولًا مِن عِندِ اللهِ ليس بمُحالٍ؛ إذ لمْ يكُنْ أوَّلَ النَّاسِ جاء برِسالةٍ مِن اللهِ، ثمَّ أعْقَبَه بأنَّ القُرآنَ إذا فَرَضْنا أنَّه مِن عِندِ اللهِ، وقدْ كَفَرْتُم بذلك؛ كيف يكونُ حالُكم عِندَ اللهِ تعالَى؟ وأُقحِمَ في هذا أنَّه لو شَهِدَ شاهدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ بوُقوعِ الرِّسالاتِ، ونُزولِ الكُتبِ على الرُّسلِ، وآمَنَ برِسالتي -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-؛ كيف يكونُ انْحِطاطُكم عن دَرَجتِه وقدْ جاءَكم كِتابٌ فأعرَضْتُم عنه؟ فهذا كقولِه: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 157] ، وهذا تَحْريكٌ لِلهِمَمِ .
- والاسْتِفهامُ في أَرَأَيْتُمْ تَقريريٌّ للتَّوبيخِ، ومَفعولَا أَرَأَيْتُمْ مَحذوفانِ، والتَّقديرُ: أرأَيْتُم أنفُسَكم ظالِمينَ .
- وجِيءَ في الشَّرطِ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ بحَرْفِ (إنْ) الَّذي شأْنُه أنْ يكونَ في الشَّرطِ غَيرِ المَجزومِ بوُقوعِه؛ مُجاراةً لِحالِ المُخاطَبينَ؛ اسْتِنزالًا لِطائرِ جِماحِهم؛ لِيَنزِلوا لِلتَّأمُّلِ والمُحاوَرةِ . وفيه مَعنى الاسْتِدراجِ والكلامِ المُنصِفِ؛ لأنَّ كَونَ القُرآنِ مِن عِندِ اللهِ مُتيقَّنٌ مُحقَّقٌ .
- وأيضًا جَوابُ هذا الشَّرْطِ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ مَحذوفٌ؛ دلَّ عليه سِياقُ الجَدَلِ، تَقديرُه: أفتَرَونَ أنفُسَكم في ضَلالٍ؟ أو مَنْ أضَلُّ منكم؟ أو ألَسْتُم ظالِمينَ؟ ويدُلُّ على هذا المَحذوفِ قَولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] ، وقَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فإنَّ عَدَمَ الهِدايةِ ممَّا يُنبِئُ عن الضَّلالِ قَطْعًا .
- وقولُه: وَكَفَرْتُمْ بِهِ حالٌ بإضْمارِ (قَدْ) مِن الضَّميرِ في الخبرِ، وُسِّطتْ بيْنَ أجْزاءِ الشَّرْطِ؛ مُسارَعةً إلى التَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ. أو عطْفٌ على (كانَ)، كما في قولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: 52] ، لكنْ لا على أنَّ نَظْمَه في سلْكِ الشَّرْطِ المُتردِّدِ بيْنَ الوُقوعِ وعَدَمِه عِندَهُم باعْتِبارِ حالِه في نفْسِه، بلْ باعتِبارِ حالِ المَعطوفِ عليه عندَهم؛ فإنَّ كُفْرَهم به أمْرٌ مُحقَّقٌ عِندَهم أيضًا، وإنَّما تَردُّدُهم في أنَّ ذلكَ كُفْرٌ بَما مِن عِندِ اللهِ تعالى أمْ لا، وكذا الحالُ في قولِه تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وما بعدَه مِن الفِعْلَينِ؛ فإنَّ الكُلَّ أُمورٌ مُحقَّقةٌ عندَهُم، وإنَّما تَردُّدُهم في أنَّها شَهادةٌ وإيمانٌ بما مِن عِندِ اللهِ تعالى واسْتِكبارٌ عنه أوْ لا، والمعنى: أخْبِروني إنْ كان ذلك في الحقيقةِ مِن عِندِ اللهِ وكَفَرْتُم به، وشَهِدَ شاهِدٌ عَظيمُ الشَّأنِ مِنْ بني إسْرائيلَ الواقِفينَ على شُؤونِ اللهِ تعالى، وأسْرارِ الوحْيِ بما أُوتُوا مِن التَّوراةِ .
- قولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ يَجوزُ أنْ يُحمَلَ المِثلُ على أنَّه كِنايةٌ عمَّا أُضِيفَ إليه لَفظُ (مِثل)؛ فيَكونَ لَفظُ (مِثْل) بمَنزِلةِ المُقحَمِ على طَريقةِ قَولِ العرَبِ: (مِثلُك لا يَبخَلُ)؛ فالمعنَى: وشَهِدَ شاهدٌ على صِدْقِ القُرآنِ فيما حواهُ .
- والفاءُ في قَولِه: فَآَمَنَ؛ للدَّلالةِ على أنَّه سارَعَ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ لَمَّا عَلِمَ أنَّه مِن جِنْسِ الوحْيِ النَّاطقِ بالحقِّ .
- وجُعِل الإيمانُ في قَولِه: فَآَمَنَ مُسبَّبًا عن الشَّهادةِ على مِثْلِه؛ لأنَّه لَمَّا عَلِمَ أنَّ مِثلَه أُنزِلَ على مُوسَى صَلواتُ اللهِ عليه، وأنَّه مِن جِنسِ الوحْيِ، وليس مِن كَلامِ البشَرِ، وأنصَفَ مِن نفْسِه، فشَهِدَ عليه واعْترَفَ؛ كان الإيمانُ نتيجةَ ذلك .
- وقد حَسُنَ عطْفُ قَولِه: وَاسْتَكْبَرْتُمْ على (آمَنَ)، وتَرْتيبُهما بالفاءِ معًا على المَذكورِ؛ لِيَكونَ إيمانُه واسْتِكبارُهم صادِرَينِ عن أمْرٍ واحدٍ؛ وهو عِرْفانُهم أنَّ القُرآنَ حقٌّ وصِدْقٌ وصَوابٌ، وأنَّه مُعجِزةٌ مِن اللهِ، وأنَّ عبْدَ اللهِ بنَ سلَامٍ أنصَفَ فآمَنَ -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وأنَّ المُشرِكين عانَدوا فكَفَروا .
- والآيةُ مِن الاحتِباكِ : ذَكَر الإيمانَ أوَّلًا؛ دَليلًا على ضِدِّه ثانيًا، والاستِكبارَ والظُّلْمَ وعَدَمَ الهِدايةِ ثانيًا؛ دَليلًا على أضْدادِها أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذَكَرَ سَبَبَيِ السَّعادةِ؛ تَرغيبًا وتَرهيبًا .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْييلٌ لِجُملةِ جَوابِ الشَّرْطِ المُقدَّرةِ، وهي تَعليلٌ أيضًا، والمعنى: أتظُنُّونَ إنْ تَبيَّنَ أنَّ القُرآنَ وَحْيٌ مِن اللهِ، وقد كَفَرْتُم بذلك، فشَهِدَ شاهِدٌ على حقِّيَّةِ ذلك؛ تُوقِنوا أنَّ اللهَ لم يَهْدِكم؛ لأنَّكم ظالِمون، وإنَّ اللهَ لا يَهْدي الظَّالِمينَ .
- وقدْ وقَعَ قَولُه: الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ في مَحَزِّه -أي: مَوضِعِه المُناسِبِ-؛ لأنَّه مِن وضْعِ العامِّ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ لِلإيذانِ بأنَّهم وَضَعوا الاسْتِكبارَ مَوضِعَ الإذعانِ للحقِّ بعْدَ وُضوحِ البيِّناتِ .
- وفي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ... مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ (فُصِّلت): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فُصِّلت: 52]؛ فزادَ هنا فيها قَولَه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانتْ لهم مُخالَطةٌ مع بَعضِ اليَهودِ في مكَّةَ، ولهمْ صِلةٌ بكَثيرٍ منهم في التِّجارةِ بالمدينةِ وخَيبَرَ، فلمَّا ظَهَرتْ دَعوةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يَسْألون مَن لَقُوه مِن اليهودِ عن أمْرِ الأدْيانِ والرُّسلِ، فكان اليهودُ لا مَحالةَ يُخبِرون المُشرِكين ببَعضِ الأخبارِ عن رِسالةِ مُوسى وكِتابِه، وكيف أظْهَرَه اللهُ على فِرعونَ؛ فاليَهودُ وإنْ كانوا لا يُقِرُّون برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهمْ يَتحدَّثون عن رِسالةِ مُوسى عليه السَّلامُ بما هو مُماثِلٌ لِحالِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع قَومِه، وفيه ما يَكْفي لِدَفْعِ إنْكارِهم رِسالتَه .