موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيتان (9-10)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ

غريب الكلمات:

بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ: أي: أوَّلَ رُسُلِ اللهِ، والبِدْعُ مِن كُلِّ شَيءٍ: الأوَّلُ والمُبتَدأُ، والبِدعةُ: ما اختُرِعَ ممَّا لم تَجْرِ به سُنَّةٌ، وأصلُ (بدع): يدُلُّ على ابتداءِ الشَّيءِ، وصُنعِه لا عن مِثالٍ [106] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 407)، ((تفسير ابن جرير)) (21/119)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 132)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/209)، ((البسيط)) للواحدي (20/165). .
نَذِيرٌ: أي: مُنْذِرٌ ومُحذِّرٌ ومُخوِّفٌ، والإنذارُ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تخويفٍ. وقيل: أصلُ الإنذارِ: الإعلامُ؛ يُقالُ: أنذَرْتُه: إذا أعلَمْتَه. وقيل: ولا يكونُ إلَّا معَ الحَذَرِ [107] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 797)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/39)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 295)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُبيِّنَ لِقَومِه أنَّ ما جاءهم به قد سبَقَتْه به الرُّسُلُ إلى أقوامِهم، وأنَّه وافَقتْ دعوتُه دعوتَهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: ما كُنتُ أوَّلَ رَسُولٍ إلى البَشَرِ؛ فقد أرسَلَ اللهُ مِنْ قَبْلي كثيرًا مِنَ الرُّسُلِ، ولا أعلَمُ ما يَفعَلُه اللهُ بي ولا بكم. ما أتَّبِعُ إلَّا ما يُوحيه اللهُ إلَيَّ، وما أنا إلَّا نَذيرٌ لكم ظاهِرُ النِّذارةِ، وأُظهرُ لكم الإنذارَ مِن عذابِ اللهِ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ للمشركينَ أيضًا: أرأيتُم إن كان هذا القُرآنُ نازِلًا إلَيَّ مِن عندِ اللهِ، وكفَرْتُم به، وقد شَهِد شاهِدٌ مِنْ بني إسرائيلَ على مِثلِ القُرآنِ أنَّه مِن عندِ الله، فآمَنَ به واستَكبرتُم أنتم -أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ به؛ فمَنْ أضَلُّ مِنكم؟! إنَّ اللهَ لا يَهدي القَومَ الظَّالِمينَ!

تفسير الآيتين:

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن أعظَمِ الضَّلالِ أنْ يُنسَبَ الإنسانُ إلى الكَذِبِ مِن غيرِ دَليلٍ في شَيءٍ لم يَبتَدِعْه، بل تقَدَّمَه بمِثْلِه ناسٌ قد ثَبَت صِدْقُهم في مِثلِ ذلك، ومَضَت عليه الأزمانُ، وتقرَّرَ غايةَ التَّقَرُّرِ في القُلوبِ والأذهانِ- قال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [108] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/133). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن المُشرِكينَ طَعْنَهم في كَونِ القُرآنِ مُعْجِزًا بأنْ قالوا: إنَّه يختَلِقُه مِن عندِ نَفْسِه، ثمَّ يَنسُبُه إلى أنَّه كَلامُ اللهِ على سَبيلِ الفِرْيةِ؛ حكى عنهم نوعًا آخَرَ مِنَ الشُّبُهاتِ، وهو أنَّهم كانوا يَقتَرِحونَ عليه مُعجِزاتٍ عَجيبةً قاهِرةً، ويُطالِبونَه بأنْ يُخبِرَهم عن المُغَيَّباتِ؛ فأجاب اللهُ تعالى عنه بأنْ قال [109] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/9). :
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: ما كنتُ أوَّلَ رُسُلِ اللهِ إلى البَشَرِ؛ فقد أرسَلَ اللهُ مِنْ قَبْلي كثيرًا مِنَ الرُّسُلِ إلى أُمَمِهم، وبمِثْلِ ما أرسَلَني به، فلِمَ تَستَنكِرونَ رِسالتي [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/119)، ((تفسير القرطبي)) (16/185)، ((تفسير ابن كثير)) (7/276)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/216). ؟!
قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 163، 164].
وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ.
أي: لَسْتُ إلَّا بشَرًا، وليس بيَدي مِنَ الأمرِ شَيءٌ؛ فلا أعلَمُ ما يَفعَلُه اللهُ بي، ولا ما يَفعَلُه بكم [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/123)، ((تفسير الزمخشري)) (4/298)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/159)، ((تفسير ابن كثير)) (7/276، 277)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/17)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/217). قال الرَّسْعَني: (اختَلَفوا هل المرادُ نَفْيُ عِلْمِه بما يُفعَلُ به في الآخِرةِ أم في الدُّنيا؟ على قَولَينِ: أحَدُهما: في الآخِرةِ، قال: ثمَّ نَزَل بَعْدَها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [الفتح: 5] ؛ فأعلَمَه ما يُفعَلُ به وبالمُؤمِنينَ. الثَّاني: في الدُّنيا،... قال الحَسَنُ: ما أدري أُخرَجُ كما أُخْرِجَ الأنبياءُ قَبْلي؟ أو أُقتَلُ كما قُتِلوا؟ وما أدري ما يُفعَلُ بكم: أتُعَذَّبونَ أم تُؤَخَّرونَ؟ أتُصَدِّقون أم تُكَذِّبون؟ وقال عطيَّة: ما أدري هل يَترُكني بمكَّةَ أو يُخرِجُني منها؟ وقيل: المعنى: وما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم فيما يُستَقبَلُ مِنَ الزَّمانِ، ويُقدَّرُ لي ولكم في قَضاياه. وقيل: هو نَفيٌ للدِّرايةِ المُفَصَّلةِ). ((تفسير الرسعني)) (7/206، 207). ممَّن يُروى عنه القَّولُ الأوَّلُ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وأنسٌ، وعِكْرِمةُ، والحسَنُ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/121)، ((تفسير الثعلبي)) (9/7). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: في الدُّنيا: ابنُ جرير، والنَّحَّاسُ، وابنُ الجوزي، والقرطبي، وابن جُزَي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/122)، ((الناسخ والمنسوخ)) للنحاس (ص: 665)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 352)، ((تفسير القرطبي)) (16/187)، ((تفسير ابن جزي)) (2/275)، ((تفسير ابن كثير)) (7/276)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 667)، ((تفسير الشوكاني)) (5/18، 19)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/17). وممَّن قال بمعنى هذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ، وعطيَّةُ العَوْفيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/122)، ((تفسير الثعلبي)) (9/8)، ((تفسير القرطبي)) (16/187)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/435). قال ابن كثير: (وهذا القولُ هو الَّذي عوَّل عليه ابنُ جرير، وأنَّه لا يجوزُ غيرُه، ولا شكَّ أنَّ هذا هو اللَّائقُ به صلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ فإنَّه بالنِّسبةِ إلى الآخرةِ جازِمٌ أنَّه يَصيرُ إلى الجنَّةِ هو ومَنِ اتَّبَعه، وأمَّا في الدُّنيا فلم يَدْرِ ما كان يَؤولُ إليه أمرُه وأمرُ مُشرِكي قُرَيشٍ؛ إلى ماذا: أيُؤْمِنون، أمْ يَكفُرون فيُعَذَّبون...). ((تفسير ابن كثير)) (7/276). وقال الشنقيطي: (التَّحقيقُ إن شاء اللهُ: أنَّ معنى الآيةِ الكريمةِ: ما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم في دارِ الدُّنيا؛ فما أدري أأُخرَجُ مِن مَسقَطِ رأسي، أو أُقتَلُ كما فُعِلَ ببَعضِ الأنبياءِ، وما أدري ما يَنالُني مِن الحوادِثِ والأُمورِ في تحمُّلِ أعباءِ الرِّسالةِ، وما أدري ما يُفعَلُ بكم: أيُخسَفُ بكم، أو تَنزِلُ عليكم حِجارةٌ مِن السَّماءِ، ونحوَ ذلك. وهذا هو اختِيارُ ابنِ جَريرٍ وغيرِ واحِدٍ مِن المحَقِّقينَ، وهذا المعنى في هذه الآيةِ دَلَّت عليه آياتٌ مِن كِتابِ اللهِ؛ كقَولِه تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الآيةَ [الأعراف: 188] ، وقَولِه تعالى آمِرًا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الآيةَ [الأنعام: 50]. وبهذا تَعلَمُ أنَّ ما يُروَى عن ابنِ عبَّاسٍ وأنَسٍ وغَيرِهما مِن أنَّ المرادَ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ أي: في الآخِرةِ- فهو خِلافُ التَّحقيقِ). ((أضواء البيان)) (7/217). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/277). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ: البيضاويُّ، فقال: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ في الدَّارَينِ على التَّفصيلِ؛ إذ لا عِلمَ لي بالغَيبِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/112). ويُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/27). وقال الألوسي: (والَّذي أختاره أنَّ المعنى على نفْيِ الدِّرايةِ مِن غيرِ جهةِ الوحيِ، سواءٌ كانت الدِّرايةُ تَفصيليَّةً أو إجماليَّةً، وسواءٌ كان ذلك في الأمورِ الدُّنيويَّةِ أو الأُخرويَّةِ. وأعتقِدُ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَنتقِلْ مِن الدُّنيا حتَّى أُوتيَ مِن العِلمِ بالله تعالى وصِفاتِه وشُؤونِه، والعِلمِ بأشياءَ يُعَدُّ العِلمُ بها كمالًا- ما لم يُؤْتَهُ أحدٌ غيرُه مِن العالَمينَ، ولا أعتقِدُ فواتَ كمالٍ بعدَمِ العِلمِ بحوادثَ دُنيويَّةٍ جُزئيَّةٍ؛ كعدَمِ العِلمِ بما يَصنَعُ زَيدٌ مثَلًا في بيتِه، وما يَجري عليه في يَومِه أو غَدِه). ((تفسير الألوسي)) (13/168). !
كما قال تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] .
وعن أمِّ العَلاءِ رضيَ الله عنها، قالت: ((دخَلَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ تُوُفِّيَ عُثمانُ بنُ مَظْعُونٍ، فقُلتُ: رَحمةُ اللهِ عليك أبا السَّائِبِ، فشَهادتي عليك لقد أكرَمَك اللهُ! فقال لي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: وما يُدريكِ أنَّ اللهَ أكرَمَه؟! فقُلتُ: لا أدري، بأبي أنتَ وأمِّي يا رَسولَ اللهِ! فقال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أمَّا عُثمانُ فقد جاءه -واللهِ- اليَقينُ، وإنِّي لأرجو له الخَيرَ، واللهِ ما أدري وأنا رَسولُ اللهِ ما يُفعَلُ به [112] قال ابن كثير: (وفي هذا وأمثالِه دَلالةٌ على أنَّه لا يُقْطَعُ لِمُعَيَّنٍ بالجنَّةِ إلَّا الَّذي نصَّ الشَّارِعُ على تَعْيينِهم؛ كالعَشَرةِ، وابنِ سلَامٍ، والغُمَيْصاءِ، وبِلالٍ، وسُراقَةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ حَرامٍ والدِ جابرٍ، والقُرَّاءِ السَّبعينَ الَّذينَ قُتِلوا ببِئْرِ مَعُونةَ، وزَيدِ بنِ حارثةَ، وجَعْفَرٍ، وابنِ رَواحةَ، وما أشْبهَ هؤُلاءِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/277). ! قالت: فواللهِ لا أُزكِّي أحدًا بعدَه أبدًا، وأحزَنَني ذلك. قالت: فنِمتُ، فأُريِتُ لِعُثمانَ عَينًا تَجري، فجِئتُ إلى رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأخبَرْتُه، فقال: ذاك عَمَلُه )) [113] أخرجه البخاري (2687). .
وفي روايةٍ: ((واللهِ ما أدري -وأنا رَسولُ اللهِ- ما يُفْعَلُ بي ولا بكم)) [114] أخرجه البخاري (7018). قال ابن حجر: (إنَّما قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ ذلك موافَقةً لِقَولِه تعالى في سورةِ الأحقافِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، وكان ذلك قبْلَ نُزولِ قَولِه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ؛ لأنَّ الأحقافَ مكِّيَّةٌ، وسورةَ الفتحِ مدنيَّةٌ بلا خِلافٍ فيهما، وقد ثبت أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: «أنا أوَّلُ مَن يَدخُلُ الجنَّةَ»، وغير ذلك مِن الأخبارِ الصَّريحةِ في معناه، فيحتملُ أن يُحمَلَ الإثباتُ في ذلك على العِلمِ المُجمَلِ، والنَّفيُ على الإحاطةِ مِن حيثُ التَّفصيلُ). ((فتح الباري)) (3/115). .
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.
أي: ما أتَّبِعُ إلَّا ما يُنزِلُه اللهُ علَيَّ مِنَ الوَحيِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/124)، ((الوسيط)) للواحدي (4/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/277). قال البِقاعي: (لا يطَّلِعُ عليه حقَّ اطِّلاعِه غيري، ومنه ما أُخبِرُ فيه عن المُغَيَّباتِ فيَكونُ كما قُلتُ، فلا يُرتابُ في أنِّي لا أقدِرُ على ذلك بنفْسي؛ فعُلِمَ أنَّه مِن اللهِ). ((نظم الدرر)) (18/136). .
وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: وما أنا لكم إلَّا نَذيرٌ أُبِينُ وأُظهِرُ لكم الإنذارَ مِن عذابِ اللهِ، وأمري بائنٌ ظاهِرٌ لكُلِّ ذي عَقلٍ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/124)، ((الوسيط)) للواحدي (4/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/277)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/136، 137). قال ابنُ جرير: (مُبِينٌ: يقولُ: قد أبان لكم إنذارَه، وأظهَرَ لكم دُعاءَه إلى ما فيه نَصيحتُكم). ((تفسير ابن جرير)) (21/124). وقال ابنُ كثير: (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: بَيِّنُ النِّذارةِ، وأمري ظاهِرٌ لكُلِّ ذي لُبٍّ وعَقلٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/277). وقد جمَع البِقاعي بيْنَ مَعنَيَيْ مُبِينٌ، فقال: (نَذِيرٌ أي: لكم ولكُلِّ مَن بَلَغه القُرآنُ مُبِينٌ أي: ظاهِرٌ أنِّي كذلك في نَفْسِه، مُظهِرٌ له -أي: كَوني نذيرًا- ولجَميعِ الجُزئيَّاتِ الَّتي أنذَرَ منها بالأدِلَّةِ القَطعيَّةِ). ((نظم الدرر)) (18/137). .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أثبَتَ أنَّه مِن عندِ اللهِ بشَهادةِ اللهِ نَفْسِه بعَجْزِهم عن المُعارَضةِ؛ قبَّحَ عليهم إصرارَهم على التَّكذيبِ، على تقديرِ شَهادةِ أحَدٍ مِمَّن يَثِقونَ بهم، يَسألونَهم عنه مِن أهلِ الكِتابِ [117] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/137). .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: أرأيتُم إن كان هذا القُرآنُ نازِلًا إلَيَّ مِن عندِ اللهِ، ومع ذلك كفَرْتُم به، ألَا تَكونونَ بذلك ظالِمينَ وضالِّينَ عن الحَقِّ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/124)، ((تفسير ابن جزي)) (2/275)، ((تفسير ابن كثير)) (7/277، 278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/19)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/218). قال الواحدي: (جوابُ قوله: إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ محذوفٌ على تقديرِ: أليس قد ظلَمْتُم؟ ويدُلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10] ، وقال الحسَنُ [أي: البصريُّ]: جوابُه: فمَنْ أضَلُّ منكم؟ كما قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] . وقال أبو عليٍّ الفارِسيُّ: تقديرُه: أتأمَنون عُقوبةَ اللهِ؟). ((الوسيط)) (4/104، 105). وقال ابن كثير: (أي: ما ظنُّكم أنَّ اللهَ صانعٌ بكم إن كان هذا الكِتابُ الَّذي جِئتُكم به قد أنزله علَيَّ لِأُبَلِّغَكموه، وقد كفرتُم به وكذَّبْتُموه؟!). ((تفسير ابن كثير)) (7/277، 278). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/440)، ((تفسير الثعلبي)) (9/10)، ((تفسير الماوردي)) (5/274)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/105)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/664)، ((تفسير الشوكاني)) (5/20). ؟
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ.
أي: وقد شَهِد مَنْ شَهِدَ مِنْ بني إسرائيلَ على مِثلِ القُرآنِ أنَّه مِن عندِ الله؛ فآمَنَ هو بالقُرآنِ، واستَكبرتُم أنتم -أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ به [119] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (8/361، 362)، ((تفسير ابن كثير)) (7/278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/137، 138)، ((تفسير الشوكاني)) (5/20)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780). قال ابنُ جُزَي: (هذه الجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُملةِ الَّتي قبْلَها، فالمعنى: أرأيتُم إنِ اجتمَعَ كَونُ القُرآنِ مِن عندِ الله، مع شَهادةِ شاهِدٍ مِن بني إسرائيلَ على مِثلِه، ثمَّ آمَنَ به هذا الشَّاهِدُ وكَفرتُم أنتم، ألَسْتُم أضَلَّ النَّاسِ وأظلَمَ النَّاسِ؟!). ((تفسير ابن جزي)) (2/275). اختَلف المفسرونَ في المرادِ بقولِه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على أقوالٍ؛ منها: أنَّ المرادَ بالشَّاهدِ عبدُ الله بنُ سلَامٍ، ونسَبه ابنُ جريرٍ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ، ونسَبه الرَّسْعَنيُّ إلى عامَّتِهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/131، 132)، ((تفسير الرسعني)) (7/208). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، والحسَنُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/195)، ((تفسير ابن جرير)) (21/126)، ((تفسير الماوردي)) (5/273). قال ابنُ جرير بعدَ أنْ ذكَر أنَّ الأخبارَ قد ورَدت عن جماعةٍ مِن الصحابةِ بأنَّ ذلك عُني به عبدُ الله ابنُ سلامٍ، قال: (وهم كانوا أعلمَ بمعاني القرآنِ، والسببِ الذي فيه نزَل). ((تفسير ابن جرير)) (21/131). وقال ابن جُزَي: (قيل على هذا: إنَّ الآيةَ مدنيَّةٌ؛ لأنَّه إنَّما أسلَمَ بالمدينةِ. وقيل: إنَّها مكِّيَّةٌ، وأخبَر بشَهادتِه قبْلَ وُقوعِها، ثمَّ وقَعَتْ على حسَبِ ما أخبَر). ((تفسير ابن جزي)) (2/275). ويُنظر ((تفسير ابن عطية)) (5/94)، ((تفسير الشوكاني)) (5/20)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/219). وقال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن تكونَ الآيةُ نزلتْ بالمدينةِ، وأُمِرَ بوَضعِها في سورةِ «الأحقافِ»، وعلى هذا يكونُ الخِطابُ لأهلِ الكِتابِ بالمدينةِ وما حَوْلَها. وعندي أنَّه يجوزُ أن يكونَ هذا إخبارًا مِن الله لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما سيَقَعُ مِن إيمانِ عبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ، فيَكونُ هو المرادَ بـ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وإن كانت الآيةُ مَكِّيَّةً). ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/130). وقال ابن حجر: (ولا مانعَ أن تكونَ جميعُها مكِّيَّةً، وتقَعَ الإشارةُ فيها إلى ما سيَقَعُ بعدَ الهِجرةِ مِن شَهادةِ عبدِ الله بنِ سَلَامٍ). ((فتح الباري)) (7/130). وقيل: المرادُ به: موسَى بنُ عِمْرانَ عليه السَّلامُ. وممَّن اختاره: مكِّي، وذكَر ابنُ جريرٍ أنَّه أشبهُ بظاهرِ التَّنزيلِ، ونسَبه ابنُ عطيَّةَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/131)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6819)، ((تفسير ابن عطية)) (5/94). وممَّن قال به مِن السَّلفِ: الشَّعبيُّ، ومسروقٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/125)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/105). وقيل: ليس المقصودُ شاهِدًا واحِدًا بعَينِه، ولكِنَّ المقصودَ جِنسُ الشَّاهِدِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الرَّازيُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/11)، ((النبوات)) لابن تيمية (1/177، 178)، ((تفسير ابن كثير)) (7/278). قال ابنُ كثير: (هذا الشَّاهِدُ: اسمُ جِنسٍ يَعُمُّ عبدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ وغَيرَه؛ فإنَّ هذه الآيةَ مَكِّيَّةٌ نزلت قبْلَ إسلامِ عبدِ الله بنِ سَلامٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/278). وقال ابن تيميَّة: (وقَولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ ليس المقصودُ شاهِدًا واحِدًا مُعَيَّنًا، بل ولا يَحتَمِلُ كَونُه واحِدًا. وقَولُ من قال: [إنَّه] عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ- ليس بشَيءٍ؛ فإنَّ هذه نزَلَت بمكَّةَ قبْلَ أن يُعرَفَ ابنُ سَلامٍ، ولكِنَّ المقصودَ جِنسُ الشَّاهِدِ، كما تقولُ: قام الدَّليلُ. وهو الشَّاهِدُ الَّذي يجِبُ تَصديقُه؛ سواءٌ كان واحِدًا قد يَقتَرِنُ بخَبَرِه ما يدُلُّ على صِدقِه، أو كان عَدَدًا يَحصُلُ بخَبَرِهم العِلمُ [بما] تقولُ؛ فإنَّ خَبَرَك بهذا صادِقٌ). ((النبوات)) (1/177). وقيل: إنَّ قولَه مِثْلِهِ صِلةٌ، وإنَّ المرادَ بقولِه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أي: عليه، والمعنى: على أنَّه مِن عندِ اللهِ. وممَّن اختاره: أبو عليٍّ الجُرْجانيُّ -كما في ((البسيط))  للواحدي (20/169)- والواحدي، والبغوي، والشنقيطي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/104)، ((تفسير البغوي)) (4/193)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/219). قال الشنقيطي: (التَّحقيقُ -إن شاء اللهُ- أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ جاريةٌ على أُسلوبٍ عَربيٍّ معروفٍ، وهو إطلاقُ المِثْلِ على الذَّاتِ نَفْسِها، كقَولِهم: مِثلُك لا يَفعَلُ هذا، يَعْنُونَ: لا يَنبغي لك أنت أن تفعَلَه. وعلى هذا فالمعنى: وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بني إسرائيلَ على أنَّ هذا القرآنَ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ حَقًّا مِن عندِ اللهِ، لا أنَّه شَهِدَ على شَيءٍ آخَرَ مُماثِلٍ له؛ ولذا قال تعالى: فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). ((أضواء البيان)) (7/219). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: عَلَى مِثْلِهِ أي: مِثلِ القرآنِ: ابنُ أبي زَمَنين، وابنُ تيميَّة، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/223)، ((النبوات)) لابن تيمية (1/177)، ((تفسير ابن جزي)) (2/275)، ((تفسير العليمي)) (6/284)، ((تفسير الشوكاني)) (5/20). قال الشوكاني: (عَلَى مِثْلِهِ أي: القُرآنِ، مِن المعاني الموجودةِ في التَّوراةِ المُطابِقةِ له؛ مِن إثباتِ التَّوحيدِ والبَعثِ والنُّشورِ، وغَيرِ ذلك، وهذه المِثْليَّةُ هي باعتِبارِ تَطابُقِ المعاني، وإن اختَلَفَت الألفاظُ). ((تفسير الشوكاني)) (5/20). وقال ابن تيميَّة: (قال: عَلَى مِثْلِهِ وأراد شَهادةَ أهلِ الكِتابِ على مِثْلِ القُرآنِ، وهو شَهادتُهم بما تواتَرَ عنهم مِن أنَّ الرُّسُلَ كانوا رِجالًا، وأنَّهم دَعَوا إلى التَّوحيدِ، وأخبَروا بالمَعادِ). ((بيان تلبيس الجهمية)) (8/361). وقال أيضًا: (إنَّ الشَّاهِدَ مِن بني إسرائيلَ على مِثْلِ القُرآنِ، وهو أنَّ اللهَ بَعَث بَشَرًا، وأنزل عليه كِتابًا أمَرَ فيه بعبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، ونهى فيه عن عِبادةِ ما سِواه، وأخبَرَ فيه أنَّه خَلَق هذا العالَمَ وَحْدَه، وأمثالُ ذلك). ((النبوات)) (1/177). وقيل: شَهادَتُه أنَّ محمَّدًا مكتوبٌ في التَّوراةِ أنَّه نَبيٌّ، تَجِدُه اليهودُ مكتوبًا عندَهم في التَّوراةِ، كما هو مكتوبٌ في القرآنِ أنَّه نَبيٌّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/131، 132). وقيل: المرادُ: على مِثلِ شَهادةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/440). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/12). !
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 196، 197].
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: 17].
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109] .
وقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52 - 54] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ لإصابةِ الحَقِّ القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ باللهِ، والتَّكَبُّرِ عن قَبولِ الحَقِّ مع وُضوحِه [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/132)، ((الوسيط)) للواحدي (4/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780). قال ابنُ عاشور: (جملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ للكلامِ المحذوفِ الدَّالِّ عليه ما قَبْلَه، أي: ضلَلْتُم ضلالًا لا يُرجَى له زَوالٌ؛ لأنَّكم ظالِمونَ، واللهُ لا يَهدي القومَ الظَّالِمينَ. وهذا تسجيلٌ عليهم بظُلمِهم أنفُسَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/138). .
كما قال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .

الفوائد التربوية:

لَمَّا كان المَقامُ مَقامَ تَخويفٍ وإنذارٍ قال: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ لأنَّه يُخاطِبُ المُكذِّبينَ، وهذا أسلوبٌ مَعروفٌ في عِلمِ البَلاغةِ: أن يَستَعمِلَ الإنسانُ ما يُوافِقُ مُقتَضَى الحالِ، لكِنْ عندَ وَصفِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الوَصفَ المُطلَقَ يقولُ سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ؛ فبَدَأ بالبِشارةِ قبْلَ الإنْذارِ، وهذا مِن حيثُ حالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُطلَقةُ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 284). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ هذه الآيةُ صالِحةٌ للرَّدِّ على نصارَى زَمانِنا الَّذين طَعَنوا في نبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمَطاعِنَ لا مَنشأَ لها إلَّا تَضليلٌ وتَمويهٌ على عامَّتِهم؛ لأنَّ الطَّاعِنينَ ليسوا مِن الغباوةِ بالَّذين يخفَى عليهم بُهتانُهم، كقَولِهم: إنَّه تزَوَّج النِّساءَ، أو أنَّه قاتَلَ الَّذين كَفَروا، أو أنَّه أحَبَّ زَينبَ بنتَ جَحشٍ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/17). !
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَعلَمُ مَصيرَ أمْرِه -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وقد جاءت آيةٌ أخرى تدُلُّ على أنَّه عالِمٌ بأنَّ مَصيرَه إلى الخَيرِ، وهي قَولُه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وَمَا تَأَخَّرَ تَنصيصٌ على حُسنِ العاقِبةِ والخاتِمةِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى علَّمَه ذلك بعدَ أن كان لا يَعلَمُه، ويُستأنَسُ له بقَولِه تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الآيةَ [النساء: 113] ، وقَولِه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا الآيةَ [الشورى: 52] ، وقَولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ، وقَولِه: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الآيةَ [القصص: 86] ، وهذا الجوابُ هو معنى قَولِ ابنِ عبَّاسٍ، وهو مرادُ عِكْرِمةَ والحَسَنِ وقَتادةَ بأنَّها مَنسوخةٌ (أي: مُبَيَّنةٌ) بقَولِه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ الآيةَ [الفتح: 2] . ويدُلُّ له أنَّ سورةَ (الأحقافِ) مَكِّيَّةٌ، وسورةَ (الفَتحِ) نزلَتْ عامَ سِتَّةٍ في رُجوعِه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الحُدَيبيَةِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ: ما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم في الدُّنيا مِنَ الحوادِثِ والوقائِعِ؛ وعليه فلا إشكالَ [123] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 210). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/9). .
3- قَولُه تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فيه كمالُ عُبوديَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للهِ عزَّ وجلَّ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 252). .
4- في قَولِه تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أنَّ الشَّرائعَ توقيفيَّةٌ؛ فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَبتدِعَ منها شَيئًا؛ ولهذا قَرَّرَ أهلُ العلمِ أنَّ الأصلَ في العباداتِ المنعُ والحَظرُ، وأنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يَتعبَّدَ للهِ تعالى بشَيءٍ إلَّا ما أَذِنَ اللهُ فيه شَرعًا، وهذا حَقٌّ مُستنِدٌ إلى آياتٍ مُتعَدِّدةٍ، وإلى قَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) [125] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 253). والحديث أخرجه البخاريُّ (2697)، ومسلمٌ (1718) واللَّفظُ له مِن حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها. .
5- ما كان مِن العِلمِ المَوروثِ عن نَبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فلَنا أنْ نَستَشهِدَ عليه بما عندَ أهلِ الكتابِ، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، وقال تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد 43]، وقال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [126] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (6/422). [يونس 94، 95].
6- قَولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فيه ردٌّ على مَن قال: لا يَنبغي للشَّاهِدِ أن يقولَ: أشهَدُ على إقرارِ زَيدٍ، بل يقولُ: أشهَدُ به، فالصَّوابُ قَبولُ الشَّهادةِ بهذه الصِّيغةِ [127] ردَّ بهذه الآيةِ تقيُّ الدِّينِ السُّبْكيُّ على ابنِ أبي الدَّم. يُنظر: ((قضاء الأرب في أسئلة حلب)) للسبكي (ص: 479)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 236). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
- في قولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ أُعِيدَ الأمْرُ بأنْ يَقولَ ما هو حُجَّةٌ عليهم، وهذا جَوابٌ عمَّا تَضمَّنَه قَولُهم: افْتَرَاهُ [الأحقاف: 8] ؛ مِن إحالَتِهم صِدْقَه فيما جاء به مِن الرِّسالةِ عن اللهِ إحالةً دَعَتْهم إلى نِسبةِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الافتراءِ على اللهِ. وإنَّما لم يُعطَفْ على جُملةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الأحقاف: 8] ؛ لأنَّ المَقصودَ الارتِقاءُ في الرَّدِّ عليهم مِن رَدٍّ إلى أقْوى منه؛ فكان هذا كالتَّعدُّدِ والتَّكريرِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/16). .
- ودلَّ قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] بالإدماجِ [129]  الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). وإشارةِ النَّصِّ على أنَّه تعالَى ضَمَّن فيه ما به أعْرَضوا عن التَّوحيدِ والبَعثِ، والطَّعنَ في الرَّسولِ المُنذِرِ، فقِيل: قُلْ لهم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الآيةَ؛ فدلَّ على أنَّ ذلك الطَّعنَ هو أنَّهم اقْتَرَحُوا عليه الآياتِ، وكانوا يَسْأَلونَه عمَّا لم يُوحَ إليه مِن الغُيوبِ، ويُؤيِّدُ هذا أنْ فُصِلَتْ الآيةُ بقَولِه: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ لأنَّه مُطابِقٌ لِقَولِه: عَمَّا أُنْذِرُوا [130] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/275). .
- قولُه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ تَتْميمٌ لقَولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وهو بمَنزِلةِ الاعْتِراضِ؛ فإنَّ المُشرِكين كانوا يَسْألونَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن مُغيَّباتٍ؛ اسْتِهزاءً؛ فأمَرَ اللهُ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُعلِمَهم بأنَّه لا يَدْري ما يُفعَلُ به ولا بهم، أي: في الدُّنيا -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ ولذلك كان قولُه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ اسْتِئنافًا بَيانيًّا، وإتْمامًا لِمَا في قَولِه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ؛ بأنَّ قُصارَى ما يَدْرِيه هو اتِّباعُ ما يُعلِمُه اللهُ به؛ فهو تَخصيصٌ لِعُمومِه، ومِثلُ عِلْمِه بأنَّه رَسولٌ مِن اللهِ، وأنَّ المُشرِكين في النَّارِ، وأنَّ وَراءَ الموتِ بَعْثًا [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/17). .
- ووَجْهُ عَطْفِ وَلَا بِكُمْ على بِي بإقحامِ (لا) النَّافيةِ، معَ أنَّهما مُتعلِّقانِ بفِعلِ صِلةِ (ما) المَوصولةِ، وليس في الصِّلةِ نَفْيٌ، فلماذا لمْ يُقَلْ: ما يُفعَلُ بي وبِكُم؛ لأنَّ المَوصولَ وصِلَتَه لَمَّا وقَعَا مَفعولًا لِلْمنفيِّ في قَولِه: وَمَا أَدْرِي، تَناوَلَ النَّفيُ ما هو في حَيِّزِ ذلك الفِعلِ المَنْفيِّ، فصار النَّفيُ شاملًا لِلْجميعِ؛ فحسُنَ إدْخالُ حَرْفِ النَّفيِ على المَعطوفِ، كما حسُنَ دُخولُ الباءِ الَّتي شأْنُها أنْ تُزادَ فيُجَرَّ بها الاسمُ المَنْفيُّ المعطوفُ على اسمِ (إنَّ)، وهو مُثبَتٌ في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف: 33] ؛ لِوُقوعِ (أنَّ) العامِلةِ فيه في خَبرِ النَّفيِ، وهو أَوَلَمْ يَرَوْا [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/17، 18). . وقيل: لأنَّ التَّقديرَ: ما أدري ما يُفعَلُ بي، وما أدري ما يُفعَلُ بكم [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/10). .
- قولُه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أيْ: ما أفْعَلُ إلَّا اتِّباعَ ما يُوحَى إلَيَّ، على مَعْنى قَصْرِ أفْعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتِّباعِ الوَحْيِ، لا قَصْرِ اتِّباعِه على الوحْيِ، كما هو المُتسارِعُ إلى الأفْهامِ [134] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/80). .
- وعُطِفَ قولُه: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ على جُملةِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ؛ لأنَّه الغرَضُ المَسوقُ له الكلامُ، بخِلافِ قَولِه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، والمعنى: وما أنا إلَّا نِذيرٌ مُبِينٌ لا مُفتَرٍ؛ فالقصْرُ قَصرٌ إضافيٌّ، وهو قصْرُ قَلْبٍ [135] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لِرَدِّ قَولِهم: افْتَرَاهُ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/18). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ... أُعِيدَ الأمْرُ بأنْ يَقولَ لهم حُجَّةً أُخرى؛ لعلَّها تَرُدُّهم إلى الحقِّ بعْدَ ما تَقدَّمَ مِن قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 4] الآيةَ، وقولِه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الأحقاف: 8] وقولِه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] الآيةَ. وهذا اسْتِدراجٌ لهم لِلْوصولِ إلى الحقِّ في دَرَجاتِ النَّظرِ؛ فقدْ بادَأَهُم بأنَّ ما أحالُوه مِن أنْ يكونَ رَسولًا مِن عِندِ اللهِ ليس بمُحالٍ؛ إذ لمْ يكُنْ أوَّلَ النَّاسِ جاء برِسالةٍ مِن اللهِ، ثمَّ أعْقَبَه بأنَّ القُرآنَ إذا فَرَضْنا أنَّه مِن عِندِ اللهِ، وقدْ كَفَرْتُم بذلك؛ كيف يكونُ حالُكم عِندَ اللهِ تعالَى؟ وأُقحِمَ في هذا أنَّه لو شَهِدَ شاهدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ بوُقوعِ الرِّسالاتِ، ونُزولِ الكُتبِ على الرُّسلِ، وآمَنَ برِسالتي -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-؛ كيف يكونُ انْحِطاطُكم عن دَرَجتِه وقدْ جاءَكم كِتابٌ فأعرَضْتُم عنه؟ فهذا كقولِه: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 157] ، وهذا تَحْريكٌ لِلهِمَمِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/18، 19). .
- والاسْتِفهامُ في أَرَأَيْتُمْ تَقريريٌّ للتَّوبيخِ، ومَفعولَا أَرَأَيْتُمْ مَحذوفانِ، والتَّقديرُ: أرأَيْتُم أنفُسَكم ظالِمينَ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/19). .
- وجِيءَ في الشَّرطِ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ بحَرْفِ (إنْ) الَّذي شأْنُه أنْ يكونَ في الشَّرطِ غَيرِ المَجزومِ بوُقوعِه؛ مُجاراةً لِحالِ المُخاطَبينَ؛ اسْتِنزالًا لِطائرِ جِماحِهم؛ لِيَنزِلوا لِلتَّأمُّلِ والمُحاوَرةِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). . وفيه مَعنى الاسْتِدراجِ والكلامِ المُنصِفِ؛ لأنَّ كَونَ القُرآنِ مِن عِندِ اللهِ مُتيقَّنٌ مُحقَّقٌ [140] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/273). .
- وأيضًا جَوابُ هذا الشَّرْطِ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ مَحذوفٌ؛ دلَّ عليه سِياقُ الجَدَلِ، تَقديرُه: أفتَرَونَ أنفُسَكم في ضَلالٍ؟ أو مَنْ أضَلُّ منكم؟ أو ألَسْتُم ظالِمينَ؟ ويدُلُّ على هذا المَحذوفِ قَولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] ، وقَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فإنَّ عَدَمَ الهِدايةِ ممَّا يُنبِئُ عن الضَّلالِ قَطْعًا [141] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/299)، ((تفسير البيضاوي)) (5/112)، ((تفسير أبي السعود)) (8/81)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/19). .
- وقولُه: وَكَفَرْتُمْ بِهِ حالٌ بإضْمارِ (قَدْ) مِن الضَّميرِ في الخبرِ، وُسِّطتْ بيْنَ أجْزاءِ الشَّرْطِ؛ مُسارَعةً إلى التَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ. أو عطْفٌ على (كانَ)، كما في قولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: 52] ، لكنْ لا على أنَّ نَظْمَه في سلْكِ الشَّرْطِ المُتردِّدِ بيْنَ الوُقوعِ وعَدَمِه عِندَهُم باعْتِبارِ حالِه في نفْسِه، بلْ باعتِبارِ حالِ المَعطوفِ عليه عندَهم؛ فإنَّ كُفْرَهم به أمْرٌ مُحقَّقٌ عِندَهم أيضًا، وإنَّما تَردُّدُهم في أنَّ ذلكَ كُفْرٌ بَما مِن عِندِ اللهِ تعالى أمْ لا، وكذا الحالُ في قولِه تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وما بعدَه مِن الفِعْلَينِ؛ فإنَّ الكُلَّ أُمورٌ مُحقَّقةٌ عندَهُم، وإنَّما تَردُّدُهم في أنَّها شَهادةٌ وإيمانٌ بما مِن عِندِ اللهِ تعالى واسْتِكبارٌ عنه أوْ لا، والمعنى: أخْبِروني إنْ كان ذلك في الحقيقةِ مِن عِندِ اللهِ وكَفَرْتُم به، وشَهِدَ شاهِدٌ عَظيمُ الشَّأنِ مِنْ بني إسْرائيلَ الواقِفينَ على شُؤونِ اللهِ تعالى، وأسْرارِ الوحْيِ بما أُوتُوا مِن التَّوراةِ [142] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/300)، ((تفسير أبي السعود)) (8/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/19). .
- قولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ يَجوزُ أنْ يُحمَلَ المِثلُ على أنَّه كِنايةٌ عمَّا أُضِيفَ إليه لَفظُ (مِثل)؛ فيَكونَ لَفظُ (مِثْل) بمَنزِلةِ المُقحَمِ على طَريقةِ قَولِ العرَبِ: (مِثلُك لا يَبخَلُ)؛ فالمعنَى: وشَهِدَ شاهدٌ على صِدْقِ القُرآنِ فيما حواهُ [143] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/20). .
- والفاءُ في قَولِه: فَآَمَنَ؛ للدَّلالةِ على أنَّه سارَعَ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ لَمَّا عَلِمَ أنَّه مِن جِنْسِ الوحْيِ النَّاطقِ بالحقِّ [144] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/80). .
- وجُعِل الإيمانُ في قَولِه: فَآَمَنَ مُسبَّبًا عن الشَّهادةِ على مِثْلِه؛ لأنَّه لَمَّا عَلِمَ أنَّ مِثلَه أُنزِلَ على مُوسَى صَلواتُ اللهِ عليه، وأنَّه مِن جِنسِ الوحْيِ، وليس مِن كَلامِ البشَرِ، وأنصَفَ مِن نفْسِه، فشَهِدَ عليه واعْترَفَ؛ كان الإيمانُ نتيجةَ ذلك [145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/300). .
- وقد حَسُنَ عطْفُ قَولِه: وَاسْتَكْبَرْتُمْ على (آمَنَ)، وتَرْتيبُهما بالفاءِ معًا على المَذكورِ؛ لِيَكونَ إيمانُه واسْتِكبارُهم صادِرَينِ عن أمْرٍ واحدٍ؛ وهو عِرْفانُهم أنَّ القُرآنَ حقٌّ وصِدْقٌ وصَوابٌ، وأنَّه مُعجِزةٌ مِن اللهِ، وأنَّ عبْدَ اللهِ بنَ سلَامٍ أنصَفَ فآمَنَ -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وأنَّ المُشرِكين عانَدوا فكَفَروا [146] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/278). .
- والآيةُ مِن الاحتِباكِ [147] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذَكَر الإيمانَ أوَّلًا؛ دَليلًا على ضِدِّه ثانيًا، والاستِكبارَ والظُّلْمَ وعَدَمَ الهِدايةِ ثانيًا؛ دَليلًا على أضْدادِها أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذَكَرَ سَبَبَيِ السَّعادةِ؛ تَرغيبًا وتَرهيبًا [148] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/139). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْييلٌ لِجُملةِ جَوابِ الشَّرْطِ المُقدَّرةِ، وهي تَعليلٌ أيضًا، والمعنى: أتظُنُّونَ إنْ تَبيَّنَ أنَّ القُرآنَ وَحْيٌ مِن اللهِ، وقد كَفَرْتُم بذلك، فشَهِدَ شاهِدٌ على حقِّيَّةِ ذلك؛ تُوقِنوا أنَّ اللهَ لم يَهْدِكم؛ لأنَّكم ظالِمون، وإنَّ اللهَ لا يَهْدي الظَّالِمينَ [149] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/19). .
- وقدْ وقَعَ قَولُه: الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ في مَحَزِّه -أي: مَوضِعِه المُناسِبِ-؛ لأنَّه مِن وضْعِ العامِّ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ لِلإيذانِ بأنَّهم وَضَعوا الاسْتِكبارَ مَوضِعَ الإذعانِ للحقِّ بعْدَ وُضوحِ البيِّناتِ [150] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/112)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/278)، ((تفسير أبي السعود)) (8/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). .
- وفي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ... مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ (فُصِّلت): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فُصِّلت: 52]؛ فزادَ هنا فيها قَولَه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانتْ لهم مُخالَطةٌ مع بَعضِ اليَهودِ في مكَّةَ، ولهمْ صِلةٌ بكَثيرٍ منهم في التِّجارةِ بالمدينةِ وخَيبَرَ، فلمَّا ظَهَرتْ دَعوةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يَسْألون مَن لَقُوه مِن اليهودِ عن أمْرِ الأدْيانِ والرُّسلِ، فكان اليهودُ لا مَحالةَ يُخبِرون المُشرِكين ببَعضِ الأخبارِ عن رِسالةِ مُوسى وكِتابِه، وكيف أظْهَرَه اللهُ على فِرعونَ؛ فاليَهودُ وإنْ كانوا لا يُقِرُّون برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهمْ يَتحدَّثون عن رِسالةِ مُوسى عليه السَّلامُ بما هو مُماثِلٌ لِحالِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع قَومِه، وفيه ما يَكْفي لِدَفْعِ إنْكارِهم رِسالتَه [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/19). .