موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

المعنى الإجماليُّ:

يُخاطِبُ اللهُ تعالَى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائِلًا له: إنَّا فتَحْنا لك -يا محمَّدُ- بصُلحِ الحُدَيِبيَةِ فَتحًا بَيِّنًا ظاهِرًا.
ثمَّ يَذكُرُ سُبحانَه مَظاهرَ فضْلِه على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيقولُ: لنَغفِرَ لك جَميعَ ذُنوبِك، وَلِنُتِمَّ نِعمَتَنا عليك في الدُّنيا والآخِرةِ، ونَهْديَك إلى طَريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، ونَنصُرَك على أعدائِك نَصرًا قَويًّا.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1).
أي: إنَّا فتَحْنا لك -يا محمَّدُ- بصُلحِ الحُدَيِبيَةِ فَتحًا بَيِّنًا ظاهِرًا، وحَكَمْنا وقَضَينا لك به قَضاءً مُحكَمًا عَظيمًا يَحصُلُ بسَبَبِه الخَيرُ الجَزيلُ، ويَظهَرُ به الحَقُّ المُبِينُ .
عن عبْدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، في قِصَّةِ الحُدَيبيَةِ قال: ((... كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا نزَل عليه الوَحيُ اشتَدَّ ذلك عليه، وعرَفْنا ذاك فيه، فتنَحَّى مُنتَبِذًا خَلْفَنا، فجَعَل يُغَطِّي رأسَه بثَوبِه، ويَشتَدُّ ذلك عليه، حتَّى عرَفْنا أنَّه قد أُنزِلَ عليه، فأتانا فأخبَرَنا أنَّه قدْ أُنزِل عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)) .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا نزَلَت: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا إلى قَولِه: فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح: 1- 5] مَرْجِعَه مِنَ الحُدَيِبيَةِ، وهم يُخالِطُهم الحُزنُ والكآبةُ، وقدْ نَحَر الهَدْيَ بالحُدَيبيَةِ، فقال: لقدْ أُنزِلتْ علَيَّ آيةٌ هي أحَبُّ إليَّ مِن الدُّنيا جميعًا!)) .
وعن سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أيُّها النَّاسُ اتَّهِموا أنفُسَكم؛ فإنَّا كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ الحُدَيِبيَةِ، ولو نَرى قِتالًا لقاتَلْنا، فجاء عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فقال: يا رَسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحَقِّ وهمْ على الباطِلِ؟! فقال: بلَى! فقال: أليْس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النَّارِ؟! قال: بلى! قال: فعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا؟! أنَرجِعُ ولَمَّا يَحكُمِ اللهُ بيْنَنا وبيْنَهم؟! فقال: يا ابنَ الخَطَّابِ، إنِّي رَسولُ اللهِ، ولنْ يُضَيِّعَني اللهُ أبدًا! فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بَكرٍ فقال له مِثلَ ما قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: إنَّه رَسولُ اللهِ، ولنْ يُضَيِّعَه اللهُ أبدًا! فنَزَلت سورةُ الفَتحِ، فقَرَأَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على عُمَرَ إلى آخِرِها. فقال عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، أوَفَتحٌ هو؟! قال: نعمْ )) .
وعن أسلَمَ مَولى عُمَرَ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَسيرُ في بَعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَسيرُ معه ليلًا، فسَأله عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عن شَيءٍ فلم يُجِبْه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ سَأله فلم يُجِبْه، ثمَّ سَأله فلم يُجِبْه، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أمُّ عُمَرَ! نزَرْتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ ذلك لا يُجيبُك! قال عُمَرُ: فحَرَّكتُ بَعيري ثمَّ تقَدَّمتُ أمامَ النَّاسِ، وخَشِيتُ أنْ يُنزَلَ فِيَّ قُرآنٌ، فما نَشِبتُ أنْ سَمِعتُ صارِخًا يَصرُخُ بي، فقُلتُ: لقدْ خَشِيتُ أنْ يكونَ نزَلَ فِيَّ قُرآنٌ! فجِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: لقدْ أُنزِلتْ علَيَّ اللَّيلةَ سُورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ مِمَّا طَلَعَت عليه الشَّمسُ، ثمَّ قرَأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)) .
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ الله عنهما قال: ((تَعُدُّونَ أنتُم الفَتحَ فَتحَ مَكَّةَ، وقدْ كان فَتحُ مَكَّةَ فَتحًا، ونحْن نَعُدُّ الفَتحَ بَيعةَ الرِّضوانِ يومَ الحُدَيبيَةِ؛ كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أربَعَ عَشْرةَ مِائةً، والحُدَيبيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْناها فلمْ نَترُكْ فيها قَطْرةً! فبلَغَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأتاها فجلَسَ على شَفيرِها ، ثمَّ دعا بإناءٍ مِن ماءٍ فتوَضَّأَ، ثمَّ مَضمَضَ ودَعا، ثمَّ صَبَّه فيها، فتَرَكْناها غيرَ بَعيدٍ، ثمَّ إنَّها أصدَرَتْنا ما شِئْنا نحن ورِكابَنا!)) .
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2).
مُناسبةُ الآيةِ لِما قبلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى رتَّب على هذا الفَتحِ عِدَّةَ أُمورٍ، فقال :
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.
أي: إنَّا فتَحْنا لك -يا مُحمَّدُ- فَتحًا مُبِينًا؛ كي نَغفِرَ لك جَميعَ ذُنوبِك .
كما قال تعالَى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 2، 3].
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا صلَّى قام حتَّى تَفطَّرَ رِجلاه! قالتْ عائِشةُ: يا رَسولَ اللهِ، أتصنَعُ هذا وقدْ غُفِرَ لك ما تقَدَّمَ مِن ذَنبِك وما تأخَّرَ؟! فقال: يا عائِشةُ، أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟!)) .
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ.
أي: وليُكْمِلَ اللهُ سُبحانَه نِعمَتَه عليك -يا محمَّدُ- في الدُّنيا والآخِرةِ .
كما قال تعالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] .
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
أي: ولِيُرشِدَك اللهُ إلى طَريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، بما يَشرَعُ لك مِنَ الإسلامِ المُوصِلِ إلى رِضوانِ اللهِ وجَنَّتِه .
كما قال تعالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161] .
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3).
أي: ولِيَنصُرَك اللهُ على أعدائِك نَصرًا قَويًّا قاهِرًا تامًّا مَنيعًا، بلا ذُلٍّ ولا ضَعفٍ .
كما قال تعالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((نُصِرْتُ بالرُّعبِ على العَدُوِّ)) .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- الإنسانُ خُلِق ظَلومًا جَهولًا، فالأصْلُ فيه عدَمُ العِلمِ ومَيْلُه إلى ما يَهواهُ مِن الشَّرِّ، فيَحتاجُ دائمًا إلى عِلمٍ مُفصَّلٍ يَزولُ به جَهْلُه، وعَدْلٍ في مَحبَّتِه وبُغضِه، ورِضاهُ وغضَبِه، وفِعلِه وتَرْكِه، وإعطائِه ومَنعِه، وكلُّ ما يَقولُه ويَعمَلُه يَحتاجُ فيه إلى عَدْلٍ يُنافي ظُلْمَه، فإنْ لم يَمُنَّ اللهُ عليه بالعِلمِ المفصَّلِ والعدْلِ المفصَّلِ، كان فيه مِن الجهْلِ والظُّلمِ ما يَخرُجُ به عن الصِّراطِ المستقيمِ، وقدْ قال اللهُ تعالَى لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ صُلحِ الحُدَيِبيَةِ وبَيعةِ الرِّضوانِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، فأخبَرَ أنَّه فَعَل هذا؛ لِيَهديَه صِراطًا مُستَقيمًا، فإذا كان هذا حالَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكيْف بحالِ غَيرِه ؟!
2- قال تعالَى: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا جَمَع سُبحانَه لنبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ الهُدَى والنَّصرِ؛ لأنَّ هذينِ الأصلَينِ بهما كَمالُ السَّعادةِ والفَلاحِ؛ فإنَّ الهدَى هو العِلمُ باللهِ تعالَى ودِينِه، والعَمَلُ بمَرضاتِه وطاعتِه، فهو العِلمُ النَّافِعُ والعَمَلُ الصَّالحُ، والنَّصرُ: هو القُدرةُ التَّامَّةُ على تَنفيذِ دِينِه بالحُجَّةِ والبَيانِ، والسَّيفِ والسِّنانِ؛ فهو النَّصرُ بالحُجَّةِ واليَدِ؛ قَهرُ قُلوبِ المخالِفينَ له بالحُجَّةِ، وقَهرُ أبدانِهم باليَدِ، وهو سُبحانَه كثيرًا ما يَجمَعُ بيْنَ هذينِ الأصلَينِ؛ إذْ بهما تَمامُ الدَّعوةِ، وظُهورُ دِينِه على الدِّينِ كُلِّه؛ كقَولِه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ :

1- قال اللهُ تعالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا تأمَّلْ ما جَمَع اللهُ سُبحانَه لِرَسولِه في آيةِ الفَتحِ مِن أنواعِ العَطايا، وذلك خمَسةُ أشياءَ؛ أحَدُها: الفَتحُ المُبِينُ. والثَّاني: مَغفِرةُ ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تأخَّرَ. والثَّالِثُ: هِدايتُه الصِّراطَ المُستقيمَ. والرَّابعُ: إتمامُ نِعمتِه عليه. والخامِسُ: إعطاءُ النَّصرِ العَزيزِ .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لَفظُ الماضي في قَولِه: فَتَحْنَا يَدُلُّ على أنَّ ذلك الفَتحَ قدْ مضَى؛ فدَعْوى أنَّه فَتْحُ مَكَّةَ -ولم يقَعْ إلَّا بعْدَ ذلك بقُربِ سَنَتينِ- خِلافُ الظَّاهِرِ .
3- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ، فيه سُؤالٌ: ما وجْهُ الارتباطِ بيْنَ هذه العِلَّةِ ومَعلولِها؛ لأنَّ فَتْحَ اللهِ لِنَبيِّه لا يَظهَرُ كَوْنُه عِلَّةً لِغُفرانِه له؟
الجوابُ عنه مِن وُجوهٍ؛ منها:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللهَ جعَلَ هذه المَغفِرةَ جَزاءً لنَبيِّه على إتمامِ أعمالِه التي أُرسِلَ لأجْلِها مِنَ التَّبليغِ والجِهادِ، والنَّصَبِ والرَّغبةِ إلى اللهِ، فلمَّا كان الفَتحُ حاصِلًا بسَعْيِه وتَسَبُّبِه بتَيسيرِ اللهِ له ذلك، جَعَل اللهُ جَزاءَه غُفرانَ ذُنوبِه بعِظَمِ أثَرِ ذلك الفَتحِ؛ بإزاحةِ الشِّركِ، وعُلُوِّ كَلِمةِ اللهِ تعالَى، وتَكميلِ النُّفوسِ وتَزكيتِها بالإيمانِ وصالحِ الأعمالِ؛ حتى ينتَشِرَ الخيرُ بانتشارِ الدِّينِ، ويَصيرَ الصَّلاحُ خُلُقًا للنَّاسِ يَقتَدي فيه بَعضُهم ببَعضٍ .
الوجهُ الثَّاني: أنَّ المَعنى: فَتْحُ اللهِ لِنَبيِّه يدُلُّ بدَلالةِ الالتِزامِ على شُكرِ النَّبيِّ لنِعمةِ الفتحِ، فيَغفِرُ اللهُ له ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ بسَببِ شُكرِه بأنواعِ العِبادةِ على تلك النِّعمةِ، فكأنَّ شُكرَ النَّبيِّ لازِمٌ لنِعمةِ الفتحِ، والغُفرانَ مُرَتَّبٌ على ذلك اللَّازِمِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ قَولَه: إِنَّا فَتَحْنَا يُفهَمُ منه بدَلالةِ الالتِزامِ: الجِهادُ في سبيلِ اللهِ؛ لأنَّه السَّببُ الأعظَمُ في الفتحِ، والجِهادُ سَببٌ لِغُفرانِ الذُّنوبِ؛ فيَكونُ المَعنى: لِيَغفِرَ لك اللهُ بسبَبِ جِهادِك المَفهومِ مِن ذِكرِ الفتحِ .
الوجهُ الرَّابعُ: ليْس الفتحُ كان لِيَغفِرَ له، بل لِيَنصُرَه نَصرًا عزيزًا، ولكنَّه لَمَّا عَدَّ عليه هذه النِّعمةَ، وصَلَه بما هو أعظَمُ النِّعَمِ .
الوجهُ الخامسُ: أنَّ المُرادَ منه التَّعريفُ، تقديرُه: إنَّا فَتَحْنا لك؛ لِيُعرَفَ أنَّك مَغفورٌ لك، مَعصومٌ؛ فإنَّ النَّاسَ كانوا عَلِموا بعْدَ عامِ الفيلِ أنَّ مكَّةَ لا يأخُذُها عدُوُّ اللهِ المَسخوطُ عليه، وإنَّما يَدخُلُها ويَأخُذُها حَبيبُ اللهِ المغفورُ له .
الوجهُ السَّادسُ: أنَّ المُرادَ هنا: أنَّ اللهَ فتَحَ لك؛ لِكَيْ يَجعَلَ ذلك أمَارةً وعلامةً لِغُفرانِه لك، فكأنَّها لامُ صَيرورةٍ .
الوجهُ السَّابعُ: جُعِلَتْ مَغفرةُ اللهِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِلَّةً للفتحِ؛ لأنَّها مِن جُملةِ ما أراد اللهُ حُصولَه بسَببِ الفتحِ، وليْستْ لامُ التَّعليلِ مُقتَضيةً حَصْرَ الغرَضِ مِنَ الفِعلِ المُعَلَّلِ في تلك العِلَّةِ؛ فإنَّ كثيرًا مِنَ الأشياءِ تَكونُ لها أسبابٌ كثيرةٌ، فيُذْكَرُ بعضُها ممَّا يَقتَضيهِ المَقامُ، وإذْ قدْ كان الفتحُ لكَرامةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ربِّه تعالَى، كان مِن عِلَّتِه أنْ يَغفِرَ اللهُ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَغفِرةً عامَّةً؛ إتمامًا للكرامةِ، فهذه مَغفِرةٌ خاصَّةٌ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هي غيرُ المغفرةِ الحاصِلةِ للمُجاهِدينَ بسَببِ الجهادِ والفتحِ . وقيل غيرُ ذلك .
4- قولُه تعالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ هذا مِن خَصائصِه صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه التي لا يُشارِكُه فيها غيْرُه. وليْس في حَديثٍ صَحيحٍ في ثَوابِ الأعمالِ لغَيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذنْبِه وما تأخَّرَ). وهذا فيه تَشريفٌ عَظيمٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه في جَميعِ أُمورِه على الطَّاعةِ والبِرِّ والاستقامةِ التي لم يَنَلْها بشَرٌ سِواه؛ لا مِن الأوَّلينَ ولا مِن الآخِرين، وهو أكمَلُ البشَرِ على الإطلاقِ، وسيِّدُهم في الدُّنيا والآخِرةِ .
5- في قَولِه تعالَى: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أنَّ هِدايةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ النُّبوَّةِ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ: لا يكونُ إلَّا زِيادةً في إيمانِه، وهو ردٌّ على المُرجِئةِ المُنكِرينَ زِيادةَ الإيمانِ ونُقصانَه .
6- القَولُ بأنَّ الأنبياءَ لا ذُنوبَ لهم مُطلقًا هو قَولٌ يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ؛ فإنَّ اللهَ تعالَى قال في كتابِه لأشرَفِ الرُّسُلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وقال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
- افتِتاحُ الكلامِ بحرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) ناشئٌ على ما أحلَّ بالمُسلِمينَ مِن الكآبةِ على أنْ أُجِيبَ المُشرِكون إلى سُؤالِهم الهُدْنةَ؛ فالتَّأكيدُ مَصْروفٌ للسَّامعينَ على طَريقةِ التَّعريضِ، وأمَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقدْ كان واثقًا بذلك .
- والفتحُ: إزالةُ غلْقِ البابِ أو الخِزانةِ، ويُطلَقُ على النَّصرِ، وعلى دُخولِ الغازي بِلادَ عَدُوِّه؛ لأنَّ أرضَ كلِّ قومٍ وبِلادَهم مَوانعُ عنها؛ فاقتحامُ الغازي إيَّاها بعْدَ الحربِ يُشبِهُ إزالةَ الغَلقِ عن البَيتِ أو الخِزانةِ؛ ولذلك كثُرَ إطلاقُ الفتْحِ على النَّصرِ المقترِنِ بدُخولِ أرضِ المغلوبِ أو بَلدِه، ولم يُطلَقْ على انتصارٍ كانتْ نِهايتُه غَنيمةً وأسْرًا دونَ اقتحامِ أرضٍ؛ فيُقال: فتْحُ خَيْبرَ، وفتْحُ مَكَّةَ، ولا يُقالُ: فتْحُ بدْرٍ، وفتْحُ أُحُدٍ. ولمُراعاةِ هذا المعنى قال جمْعٌ مِن المُفسِّرين: المُرادُ بالفتْحِ هنا فتْحُ مكَّةَ؛ وإنَّ مَحْمَلَه على الوَعدِ بالفتْحِ، والمعنى: سَنفتَحُ، وإنَّما جِيءَ في الأخبارِ بلَفظِ الماضي؛ لِتَحقُّقِه وتَيقُّنِه، شُبِّهَ الزَّمنُ المُستقبَلُ بالزَّمنِ الماضي، فاسْتُعمِلَت له الصِّيغةُ المَوضوعةُ لِلمُضِيِّ. أو يُقالُ: استُعمِلَ فَتَحْنَا بمَعنى: قدَّرنا لك الفتْحَ، ويكونُ هذا الاستِعمالُ مِن مُصطَلحاتِ القُرآنِ؛ لأنَّه كَلامُ مَن له التَّصرُّفُ في الأشياءِ، لا يَحجُزُه عن التَّصرُّفِ فيها مانعٌ، وقدْ جَرَى على عادةِ إخبارِ اللهِ تعالَى؛ لأنَّه لا خِلافَ في إخبارِه، وذلك أيضًا كِنايةٌ عن عُلوِّ شَأْنِ المُخبِرِ جلَّ جَلالُه وعزَّ سُلطانُه. أو المُرادُ صُلْحُ الحُديبيةِ، وإطلاقُ اسمِ الفَتحِ عليه باعتِبارِ أنَّه آلَ إلى فتْحِ خَيبرَ وفتْحِ مكَّةَ، أو كان سَببًا فيهما؛ وعلى هذا فإطلاقُ مادَّةِ الفتْحِ على سَبَبِه ومآلِه لا في صُورةِ الفِعلِ، أي: التَّعبيرُ عن المُستقبَلِ بلَفظِ الماضي؛ لأنَّه بهذا الاعتبارِ قدْ وقَعَ فيما مَضَى؛ فيكونُ اسمُ الفتْحِ استُعمِلَ استِعمالَ المُشترَكِ في مَعنيَيْه، وصِيغةُ الماضي استُعْمِلَت في مَعنيَيْها؛ فَيَظهَرُ وَجْهُ الإعجازِ في إيثارِ هذا التَّركيبِ .
- وأضافَ عزَّ وجلَّ الفتْحَ إلى نفْسِه؛ إشعارًا بأنَّه مِن عِندِ اللهِ، لا بكَثرةِ عَدَدٍ ولا عُدَدٍ، وأكَّدَه بالمصْدرِ، ووصْفُه بأنَّه مُبينٌ مُظهِرٌ لِما تَضمَّنَه مِن النَّصرِ والتَّأييدِ .
- وحُذِف مَفعولُ فَتَحْنَا؛ للقَصْدِ إلى نفْسِ الفِعلِ، والإيذانِ بأنَّ مَناطَ التَّبشيرِ نفْسُ الفتْحِ الصَّادرِ عنه سُبحانَه، لا خُصوصيَّةُ المَفتوحِ؛ فالمقصودُ الإعلامُ بجِنسِ الفتحِ لا بالمفتوحِ الخاصِّ .
- وتَقديمُ المَجرورِ لَكَ قبْلَ المَفعولِ المُطلَقِ فَتْحًا مُبِينًا -خلافًا لِلأصلِ في تَرتيبِ مُتعلَّقاتِ الفِعلِ-؛ لِقَصدِ الاهتِمامِ والاعتِناءِ بهذه العِلَّةِ .
2- قَولُه تعالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا
- قولُه: ؤ بَدلُ اشتِمالٍ مِن ضَميرِ لَكَ [الفتح: 1] ، والتَّقديرُ: إنَّا فتَحْنا فتْحًا مُبينًا لِأجْلِك؛ لِغُفرانِ اللهِ لك، وإتمامِ نِعمتِه عليك، وهِدايتِك صِراطًا مُستقيمًا، ونصْرِك نصْرًا عزيزًا .
- والالْتِفاتُ إلى اسمِ الذاتِ (الله) المُستتبِعِ لِجَميعِ الصِّفاتِ في قَولِه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ؛ لِلْإشعارِ بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا انتظَمَ في سِلْكِ الغايةِ مِن أفعالِه تعالَى، صادِرٌ عنه تعالَى مِن حَيثيةٍ غَيرِ حَيثيةِ الآخَرِ، مُترتِّبةٍ على صِفةٍ مِن صِفاتِه تعالَى . وإنَّما أُسنِدَ فِعلُ لِيَغْفِرَ إلى اسمِ الجَلالةِ العَلَمِ، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُسنَدَ إلى الضَّميرِ المُستتِرِ؛ قَصْدًا للتَّنويهِ بهذه المَغفرةِ؛ لأنَّ الاسمَ الظاهرَ أنفَذُ في السَّمعِ، وأجلَبُ للتَّنبيهِ؛ وذلك للاهتِمامِ بالمُسنَدِ وبمُتعلَّقِه؛ لأنَّ هذا الخبَرَ أُنُفٌ لم يكُنْ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِلْمٌ به؛ ولذلك لم يَبرُزِ الفاعلُ في وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ؛ لأنَّ إنعامَ اللهِ عليه مَعلومٌ، وهِدايتَه مَعلومةٌ، وإنَّما أُخبِرَ بازْديادِهما .
- وتَنوينُ صِرَاطًا لِلتَّعظيمِ .
- وانتَصَبَ صِرَاطًا على أنَّه مَفعولٌ ثانٍ لـ (يَهْدي) بتَضمينِ معنى الإعطاءِ، أو بنَزْعِ الخافِضِ .
- وإنَّما أُظهِرَ اسمُ الجَلالةِ في قَولِه: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ ولم يُكتَفَ بالضَّميرِ؛ اهتمامًا بهذا النَّصرِ، وتَشريعًا له بإسنادِه إلى الاسمِ الظَّاهرِ؛ لِصَراحةِ الظَّاهرِ، والصَّراحةُ أدْعى إلى السَّمعِ، والكلامُ مع الإظهارِ أعلَقُ بالذِّهنِ . وقيل: أُعِيدَ لَفظُ (الله) في وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ لَمَّا بعُدَ عمَّا عُطِفَ عليه؛ إذ في الجُملتَينِ قبْلَه ضَميرٌ يَعودُ على اللهِ، ولِيَكونَ المَبدَأُ مُسنَدًا إلى الاسمِ الظاهرِ والمُنْتهى كذلك. ولَمَّا كان الغُفرانُ، وإتمامُ النِّعمةِ، والهِدايةُ، والنَّصرُ؛ يَشترِكُ في إطلاقِها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وغيرُه بقَولِه تعالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وقَولِه: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 172] ، وكان الفتْحُ لم يَبْقَ لِأحدٍ إلَّا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -أسنَدَه تَعالى إلى نُونِ العَظَمةِ؛ تَفخيمًا لِشأْنِه، وأُسنِدَ تلك الأشياءُ الأربعةُ إلى الاسمِ الظَّاهرِ، واشتَرَكَت الخُمسةُ -الفتْحُ، والغُفرانُ، وإتمامُ النِّعمةِ، والهِدايةُ، والنَّصرُ- في الخِطابِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تأْنيسًا له وتَعظيمًا لشأْنِه، ولم يأْتِ بالاسمِ الظَّاهرِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ في الإقبالِ على المُخاطَبِ ما لا يكونُ في الاسمِ الظاهرِ .
- قَولُه: نَصْرًا عَزِيزًا، أي: نصْرًا فيه عِزٌّ ومَنَعةٌ، أو قَويًّا مَنيعًا، على وَصْفِ المَصدرِ بوَصْفِ صاحبِه للمُبالَغةِ، أو عَزيزًا صاحبُه .