الموسوعة الحديثية


-  لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ مِن صِفِّينَ أتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ، فَقَالَ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ؛ فَلقَدْ رَأَيْتُنِي يَومَ أبِي جَنْدَلٍ ولو أسْتَطِيعُ أنْ أرُدَّ علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْرَهُ، لَرَدَدْتُ، واللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، وما وضَعْنَا أسْيَافَنَا علَى عَوَاتِقِنَا لأمْرٍ يُفْظِعُنَا، إلَّا أسْهَلْنَ بنَا إلى أمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هذا الأمْرِ، ما نَسُدُّ منها خُصْمًا إلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا خُصْمٌ، ما نَدْرِي كيفَ نَأْتي له.
الراوي : سهل بن حنيف | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 4189 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
وقعَتِ الفِتْنةُ الكُبْرى بيْن المُسلِمينَ بعْدَ مَقتَلِ الخَليفةِ الرَّاشِدِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه، واختَلَفَ المُسلِمونَ طلَبِ القِصاصِ مِن قَتَلةِ عُثمانَ، ودخَلَ أهلُ الفِتَنِ وأشْعَلوا الشَّرَرَ بيْنَ النَّاسِ، وانتَهَتِ الفِتْنةُ بالتَّصالُحِ بيْن المُسلِمينَ، ولكنْ بعْدَ أنْ خسِرَ المُسلِمونَ دِماءً كَثيرةً لخيارِ أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي التَّابِعيُّ أبو وائِلٍ شَقيقُ بنُ سَلَمةَ أنَّه لَمَّا جاء سَهلُ بنُ حُنَيفٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن وَقْعةِ صِفِّينَ -الَّتي كانت بيْنَ عَلِيٍّ ومُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنهما سَنةَ ستٍّ وثَلاثينَ منَ الهِجْرةِ- جاؤُوه يَسْأَلونه عن خبَرِ النَّاسِ، وقد كان يُتَّهَمُ بالتَّقْصيرِ في القِتالِ يومَ صِفِّينَ، فقال لهم سُهَيلٌ: «اتَّهِموا الرَّأيَ»، أيِ: اتَّهِموا رَأيَكم في هذا القِتالِ، ولا تَأخُذوا به؛ بل عُدُّوه خَطأً في مُقابِلِ دِينِكم؛ فالدِّينُ يَأمُرُ بالصُّلحِ والإصْلاحِ بيْنَ المُسلِمينَ، وأنتمْ تَكرَهونَ هذا الصُّلحَ، وترَوْنَ أنَّ المَصلَحةَ في القِتالِ، فاعْلَموا أنَّ رَأْيَكم هذا خَطأٌ، والصَّوابَ هو ما أمَرَ به اللهُ ورَسولُه؛ فإنِّي لا أُقصِّرُ في الجِهادِ، وما كنتُ مُقصِّرًا وقْتَ الحاجةِ، وإنَّما تُقاتِلونَ اليومَ إخْوانَكم في الإسْلامِ باجْتِهادٍ اجتَهَدْتُموه، وكان خِطابُه هذا لمَن لم يَرضَ مِن أصْحابِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه بقَبولِ عَليٍّ التَّحْكيمَ، ثمَّ اسْتَشهَدَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ رَضيَ اللهُ عنه بما وقَعَ لهم يومَ أَبي جَندَلٍ، ويَقصِدُ به يومَ صُلحِ الحُدَيْبيَةِ في العامِ السَّادِسِ منَ الهِجْرةِ، وأبو جَندَلٍ هو العَاصِي بنُ سُهَيلٍ رَضيَ اللهُ عنهما، ونسَبَ سَهلٌ رَضيَ اللهُ عنه يومَ الحُدَيْبيَةِ إلى أبي جَندَلٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ الحُدَيْبيَةِ مِن مكَّةَ مُسلِمًا، وهو يَجُرُّ قُيودَه، وكان قدْ عُذِّبَ في اللهِ، فقال أبُوه سُهَيلٌ -وذلك قبْلَ أنْ يُسلِمَ: يا مُحمَّدُ، أوَّلُ ما أُقاضِيكَ عليه، فرَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليه أبا جَندَلٍ، وكان ردُّه أشَقَّ على المُسلِمينَ مِن سائرِ ما جَرى عليهم، ويَذكُرُ سَهلٌ أنَّه في هذا اليومِ رَأى في نفْسِه مِن الحَميَّةِ للحقِّ، والرَّغْبةِ في القِتالِ في سَبيلِ اللهِ، بحيث لو قدَرَ على مُخالَفةِ حُكمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقاتَلَ قِتالًا لا مَزيدَ عليه، ولكنَّ اللهَ ورَسولَه أعلَمُ بما فيه المَصلَحةُ، فترَكَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القِتالَ إبْقاءً على المُسلِمينَ، وصَوْنًا للدِّماءِ، واليومَ أتوَقَّفُ عنه أيضًا لمَصلَحةِ المُسلِمينَ.
ثمَّ قال: «وما وَضَعْنا أسْيافَنا على عَواتِقِنا» في اللهِ «لأمْرٍ يُفظِعُنا» أي: يشُقُّ علينا «إلَّا أسْهَلْنَ بِنا»، أي: إلَّا أوْصَلْنَنا إلى حلٍّ نَرْضاه، ونَرْتاحُ إليه، «قبْلَ هذا الأمْرِ»، يَعني أمرَ الفِتْنةِ الواقِعةِ بيْنَ المُسلِمينَ باخْتِلافِ عَليٍّ ومُعاويةَ؛ فإنَّ السَّيفَ لم يَأْتِ لهذا الاخْتِلافِ؛ فإنَّها مُشكِلةٌ لِمَا فيها مِن قَتلِ المُسلِمينَ، «ما نسُدُّ منها» أي: منَ الفِتْنةِ «خُصْمًا إلَّا انفَجَرَ علينا خُصْمٌ»، أي: ناحِيةٌ وطَرَفٌ، «ما نَدْري كيف نَأْتي له!»؛ أي: كيف نسُدُّه، يُريدُ أنَّهم أرادوا سدَّ جانبِ الاخْتِلافِ بيْن عَليٍّ ومُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنهما بالتَّحْكيمِ، فانفَجَرَ الاخْتِلافُ في أعْوانِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه نفْسِه، حيث خرَجَ عليه الخَوارِجُ.
وفي الحَديثِ: السُّؤالُ عمَّا أشْكَلَ على الإنسانِ.
وفيه: إجابةُ السَّائلِ بأكثَرَ مِمَّا سَألَ عندَ الحاجةِ.
وفيه: الحَضُّ على الأخْذِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، واتِّهامُ الرَّأيِ.
وفيه: الانْقيادُ والتَّسْليمُ لأمْرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الحَذَرُ منَ الوُقوعِ في الفِتَنِ.