موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (51-56)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ: أي: أنزَلْنا القرآنَ يَتْبَعُ بعضُه بعضًا، فاتَّصَل عندَهم، وأصلُ (وصل): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ حتَّى يَتعلَّقَ به [666] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/307)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 333)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 484)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/115)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 283). .
وَيَدْرَءُونَ: أي: يَدفَعونَ، وأصلُ (درء): يدُلُّ على دَفعِ الشَّيءِ [667] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 227)، ((تفسير ابن جرير)) (13/510)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 511)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 313). .
اللَّغْوَ: أي: الباطِلَ مِنَ الكَلامِ، وأصلُ (لغو): يدُلُّ على الشَّيءِ لا يُعتَدُّ به [668] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 85)، ((تفسير ابن جرير)) (18/280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 401)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/255)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 305). .

المَعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مؤكِّدًا على قطعِ أعذارِ المشركينَ وحُجَجِهم: ولقد أنزَلْنا القُرآنَ يَتبَعُ بَعضُه بعضًا، وبيَّنَّا فيه الوَعدَ والوَعيدَ؛ ليتَّعِظَ كُفَّارُ العَرَبِ وأهلُ الكتابِ ويَعتَبِروا.
ثمَّ يمدحُ الله تعالى طائفةً مِن أهلِ الكتابِ آمنَتْ، فيقولُ: الَّذين آتَيْناهم التَّوراةَ والإنجيلَ مِن قَبلِ القُرآنِ يُؤمِنونَ بالقُرآنِ، وإذا سَمِعوه يُتلى عليهم قالوا: آمَنَّا به؛ لأنَّه حَقٌّ مِن عندِ رَبِّنا، إنَّا كُنَّا مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ على محمَّدٍ موحِّدينَ لله.
ثمَّ يُبيِّنُ ما أعدَّه لهم، فيقولُ: أولئك يُؤتيهم اللهُ ثوابَهم مُضاعَفًا، ومِن صفاتِهم أنَّهم يَدفَعونَ السَّيِّئةَ بالحسَنةِ، ويُنفِقونَ ممَّا رزَقَهم الله، وإذا سَمِعوا الكلامَ الباطِلَ أعرَضوا عن الاستِماعِ له، وقالوا: لنا دينُنا، ولكم دينُكم، لن نُؤذيَكم بقَولٍ أو فِعلٍ؛ فلا نُريدُ مُجادَلةَ السُّفَهاءِ!
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا أنَّ الهِدايةَ منه وحْدَه: إنَّك -يا محمَّدُ- لا تَهدي مَن أحبَبْتَ لاتِّباعِ الحَقِّ، ولكِنَّ الله وحْدَه يَهدي مَن يشاءُ أنْ يَهديَه، وهو أعلَمُ بمَن سبَقَ في عِلمِه أنَّه يَستحِقُّ الهدايةَ ويَقبَلُها، فيُوَفِّقُه لها.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) .
أي: ولقد أتبَعْنا القُرآنَ بَعضَه بَعضًا وشَيئًا فشَيئًا لكُفَّارِ العَربِ وأهلِ الكِتابِ، وبَيَّنَّا فيه الوَعدَ والوَعيدَ، والتَّرغيبَ والتَّرهيبَ، والمواعِظَ، وأخبارَ الماضينَ؛ لِيَعتبِروا ويتَّعِظوا [669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/273)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 821)، ((تفسير القرطبي)) (13/295، 296)، ((تفسير ابن كثير)) (6/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 618)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/255)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 242). .
عن رِفاعةَ القُرَظيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (نَزَلت هذه الآيةُ في عَشَرةِ رَهْطٍ أنا أحَدُهم: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [670] أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (5/53) (4563)، وأبو نُعَيم في ((معرفة الصحابة)) (2732) واللَّفظُ لهما، وابن مَنْدَه في ((معرفة الصحابة)) (ص: 632) باختلاف يسير. وثَّق رجالَه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (7/91)، وصَحَّح إسنادَه ابنُ العراقي في ((طرح التثريب)) (7/94)، وجوَّد إسنادَه السيوطي في ((الدر المنثور)) (6/422)، والشوكانيُّ في ((تفسيره)) (4/252). .
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52).
أي: الَّذين آتَيْناهم التَّوراةَ والإنجيلَ مِن قبْلِ القُرآنِ يُؤمِنونَ بالقُرآنِ [671] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/276)، ((تفسير القرطبي)) (13/296، 297)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/143)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 245-249). قال الشنقيطي: (... قد كان في اليهودِ قَومٌ هم على دِينِ موسى حتَّى ماتوا على ذلك، وقَومٌ كانوا على دين موسى وآمَنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وهؤلاء الَّذين كانوا على دينِ موسى وأدرَكوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فآمَنوا به هم الَّذين ذكَر الله في سورةِ «القصص» أنَّ لهم أجْرَهم مرَّتَينِ: أجْرَ إيمانِهم الأوَّلِ، وأجرَ إيمانِهم الثَّاني). ((العذب النمير)) (4/294). قال ابن الجوزي: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وفيهم ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أنَّهم مؤمنو أهلِ الكتابِ، رواه العوفيُّ عن ابنِ عباسٍ، وبه قال مجاهدٌ. والثاني: مسلمو أهلِ الإنجيلِ... والثالث: مسلمو اليهودِ، كعبدِ الله بنِ سلامٍ، وغيرِه، قاله السُّديُّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/387). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] .
وقال سُبحانَه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 199] .
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53).
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا.
أي: وإذا سَمِعوا القُرآنَ يُتلَى عليهم قالوا: آمَنَّا بالقُرآنِ؛ لأنَّه حَقٌّ نزَل مِن عندِ رَبِّنا بالخَبرِ الصَّادِقِ، والحُكْمِ العادِلِ [672] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/278)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 821)، ((تفسير القرطبي)) (13/297)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 251، 252). .
كما قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 83، 84].
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ.
أي: إنَّا كنَّا مِن قبْلِ نُزولِ القُرآنِ على محمَّدٍ مُوحِّدينَ للهِ، مُنقادينَ لطاعتِه، مُؤمِنينَ بنُبوَّةِ محمَّدٍ؛ فلهذا بادَرْنا إلى الإذعانِ للحَقِّ، وآمَنَّا بهذا القُرآنِ [673] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/402)، ((تفسير القرطبي)) (13/297)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620). .
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54).
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا.
أي: أولئك الَّذين تقدَّمَت صِفتُهم -الَّذين يُؤمِنونَ بكِتابِهم وبالقُرآنِ-، يؤتيهم اللهُ ثوابَهم مُضاعَفًا؛ بسبَبِ صَبرِهم على العَمَلِ بهما، وعلى ما يَلْقَونَه مِنَ الأذَى [674] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/279)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير القرطبي)) (13/298)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/144)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 257، 258). .
عن أبي موسى الأَشْعَريِّ رضيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ثَلاثةٌ يُؤْتَونَ أجْرَهم مرَّتَينِ: رجُلٌ مِن أهلِ الكِتابِ آمَنَ بنَبيِّه، وأدرَك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فآمَنَ به، واتَّبَعَه وصَدَّقَه؛ فله أجْرانِ، وعبدٌ مَمْلوكٌ أدَّى حَقَّ اللهِ تعالى وحَقَّ سَيِّدِه، فله أجْرانِ، ورجُلٌ كانت له أَمَةٌ فغَذَّاها فأحسَنَ غِذاءَها، ثمَّ أدَّبَها فأحسَنَ أدَبَها، ثمَّ أعتَقَها وتزَوَّجَها؛ فله أجْرانِ )) [675] رواه البخاري (97)، ومسلم (154) واللفظ له. .
وعن أبي سُفَيانَ رضيَ الله عنه: أنَّه جاء في الكتابِ الَّذي بعَثَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى هِرَقْلَ: ((بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مِن محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورَسولِه إلى هِرَقْلَ عَظيمِ الرُّومِ: سلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهدَى، أمَّا بعْدُ، فإنِّي أدعوك بدِعايةِ الإسلامِ؛ أسلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أجرَك مرَّتينِ ...)) الحديثَ [676] رواه البخاري (7) واللفظ له، ومسلم (1773). .
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم يَدفَعونَ السَّيِّئةَ بالحَسَنةِ [677] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/298)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620). قيل: المعنى: يَدفَعونَ بما يَعملون مِن الحَسَناتِ ما سبَق أنْ عَمِلوه مِنَ السَّيِّئاتِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/280)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ؛ فقال: يَدفعونَ بشَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ الشِّركَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/539). وقيل: المعنى: أنَّهم لا يُقابِلونَ المُسيءَ إليهم بإساءةٍ، ولكِنْ يُقابِلونَه بالإحسانِ إليه بالقَولِ الحميدِ، والفِعلِ الجميلِ. كما قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35]. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سعيدُ بنُ جُبَير، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/2991). وممَّن ذهب إلى الجَمعِ بيْنَ كِلا المعنَيَينِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 263). وقال ابنُ عجيبة: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يَدفَعونَ الخَصلةَ القَبيحةَ بالخَصلةِ الحَسَنةِ؛ يَدفَعونَ الأذى بالسِّلمِ، والمعصيةَ بالطَّاعةِ). ((البحر المديد)) (4/261). قال ابن عثيمين: (والحَسَنةُ الَّتي تَدرَأُ السَّيِّئةَ تنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: قِسمٌ يُزيلُ السَّيِّئةَ مِن بابِ المُقابَلةِ، وقِسمٌ آخَرُ يُزيلُ السَّيِّئةَ مِن بابِ المحوِ والإزالةِ؛ فإن كانت الحسنةُ المَدْروءُ بها السَّيِّئةُ مِن بابِ التَّوبةِ، فهو مِن بابِ المحوِ والإزالةِ، وإن كانت حسنةً أخرى، كما لو دفَعَ السَّيِّئاتِ بالصَّلاةِ، كما في قولِه تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]؛ فهذا الدَّرءُ مِن بابِ المُقابَلةِ، أي: إنَّ ثَوابَ الحَسَنةِ يُقابَلُ بعقوبةِ السَّيِّئةِ مِن بابِ الموازَنةِ؛ فإذا رجَحَ ثَوابُ الحسنةِ انمَحَت السَّيِّئةُ، وإلَّا فلا. والأوَّلُ أكمَلُ؛ لأنَّه إذا حصَل صارت الحَسَنةُ الثَّانيةُ زيادةَ رِفعةٍ في الدَّرَجاتِ، وليست بمقابَلةٍ بالسَّيِّئةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 262). .
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .
أي: وممَّا رَزَقْناهم مِنَ الأموالِ يُنفِقونَ في أوجُهِ البِرِّ والخَيرِ [678] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/280)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير ابن كثير)) (6/244). .
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه كيفيَّةَ اشتِغالِهم بالطَّاعاتِ والأفعالِ الحَسَنةِ؛ بَيَّنَ كيفيَّةَ إعراضِهم عن الجُهَّالِ، فقال [679] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/608). :
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
أي: وإذا سَمِعوا الكَلامَ الباطِلَ [680] قال ابن عطية: (اللَّغوُ سَقَطُ القولِ، والقولُ يَسقُطُ لِوُجوهٍ يَعِزُّ حصْرُها؛ فالفُحشُ لَغْوٌ، والسَّبُّ لغوٌ، واليمينُ لغوٌ -حسَبَ الخِلافِ فيها-، وكلامُ مُستمِعِ الخُطبةِ لغوٌ. والمرادُ مِن هذا في هذه الآيةِ ما كان سبًّا وأذًى، فأدَبُ أهلِ الإسلامِ الإعراضُ عنه). ((تفسير ابن عطية)) (4/292). وقال ابن عثيمين: (الأصحُّ أنَّه يَشملُ كلَّ كلامٍ لا خيرَ فيه، سواءٌ كان فيه أذًى وشرٌّ، أم لم يكُنْ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 270). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/316). أعرَضوا عن الاستِماعِ والإصغاءِ له، ولم يَلتَفِتوا إليه، ولم يَرُدُّوا على مَن آذاهم بالكَلامِ القَبيحِ [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/280، 282)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير ابن عطية)) (4/292)، ((تفسير النسفي)) (2/649)، ((تفسير ابن كثير)) (6/245). .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] .
وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.
أي: وقالوا: لنا دِينُنا الَّذي رَضِينا به لأنفُسِنا، ولكم دِينُكمُ الَّذي رَضيتُم به لأنفُسِكم، وسيُجازي اللهُ كُلًّا مِنَّا على عَمَلِه ثَوابًا أو عِقابًا، لا على عَمَلِ غَيرِه [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/282)، ((البسيط)) للواحدي (17/419)، ((تفسير الشوكاني)) (4/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620). .
كما قال تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة: 139] .
وقال سُبحانَه: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] .
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.
أي: أنتم سالِمونَ مِن أن نُؤذِيَكم بقَولٍ أو فِعلٍ، لا نُريدُ مُجادَلةَ السُّفَهاءِ المُخالِفينَ للحَقِّ، والمُعتَدِينَ على الخَلقِ؛ ولا نُصاحِبُهم، ولا نُحِبُّ طَريقَتَهم [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/282)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير القرطبي)) (13/299)، ((تفسير البيضاوي)) (4/181)، ((تفسير ابن كثير)) (6/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/146)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 270-272). قال العُلَيمي: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ سلامُ توديعٍ ومُتارَكةٍ، وليس هو سلامَ التَّحيَّةِ). ((تفسير العليمي)) (5/206). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (5/551). .
كما قال تعالى في صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56).
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن المُسَيِّبِ بنِ حَزْنٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أبا طالبٍ لَمَّا حَضَرتْه الوفاةُ دخَل عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندَه أبو جَهلٍ، فقال: أيْ عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ كَلِمةً أُحاجُّ لك بها عندَ اللهِ، فقال أبو جَهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، تَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟! فلَمْ يَزالَا يُكَلِّمانِه حتَّى قال آخِرَ شَيءٍ كلَّمَهم به: على مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَأَسْتَغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنه، فنزلَتْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] ، ونزلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)) [684] رواه البخاري (3884) واللفظ له، ومسلم (24). .
وعن أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعَمِّه عندَ الموتِ: ((قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، أَشهَدْ لك بها يَومَ القيامةِ، فأبَى، فأنزَل اللهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآيةَ)) [685] رواه مسلم (25). .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ.
أي: إنَّك -يا مُحمَّدُ- لا تُوفِّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ مَن أحبَبْتَه [686] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/282)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير البيضاوي)) (4/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 278، 279). قال الزجاج: (أجمَع المفَسِّرون أنَّها نزلَتْ في أبي طالبٍ، وجائزٌ أن يكونَ ابتداءُ نُزولِها في أبي طالبٍ، وهي عامَّةٌ؛ لأنَّه لا يَهدي إلَّا اللهُ، ولا يُرشِدُ ولا يوفِّقُ إلَّا هو، وكذلك هو يُضِلُّ مَن يشاءُ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/149). وقال ابنُ حجرٍ: (لم تختلِفِ النقلةُ في أنَّها نزَلت في أبي طالبٍ، واختلَفوا في المرادِ بمتعلقِ أَحْبَبْتَ؛ فقيل: المرادُ: أحببْتَ هِدايتَه، وقيل: أحببْتَه هو لقرابتِه منك). ((فتح الباري)) (8/506). .
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
أي: ولكِنَّ اللهَ وحْدَه هو مَن يُوَفِّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ مَن يَشاءُ أن يَهدِيَه [687] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/282)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 822)، ((تفسير البيضاوي)) (4/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620). .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل: 37] .
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
أي: واللهُ أعلَمُ بمَن سبَقَ في عِلمِه أنَّه يَستَحِقُّ الهِدايةَ ويَقبَلُها؛ فيُوَفِّقُه لاتِّباعِ الحَقِّ [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/282، 286)، ((تفسير ابن كثير)) (6/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 620)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 281). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- جوازُ ثناءِ المرءِ على نَفْسِه بالصِّفاتِ المحمودةِ؛ لِقَولِه: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، وهذا أمرٌ واقعٌ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن الصَّحابةِ، ومِن أهلِ العلمِ؛ قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أنا النَّبِيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبدِ المطَّلِب )) [689] أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. ، فيجوزُ للإنسانِ أنْ يُثنيَ علي نَفْسِه بصِفاتِ الحَمدِ، ولكن ذلك مشروطٌ بشَرطينِ:
الشَّرطُ الأولُ: ألَّا يُريدَ بذلك الافتِخارَ على غيرِه، ووجهُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه إذا قَصَد بذلك الافتخارَ والعُلُوَّ على النَّاسِ، فهذا قَصدٌ مُحَرَّمٌ؛ ولهذا قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخرَ )) [690] أخرجه الترمذي (3148) مطوَّلًا واللَّفظُ له، وابن ماجه (4308)، وأحمد (10987) من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3148)، وصحَّحه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((مسند أحمد)) (10987). .
الشَّرطُ الثَّاني: أنْ يكونَ في ذلك مَصلَحةٌ؛ لأنَّه إذا لم تكُنْ فيه مَصلَحةٌ كان لَغوًا مِن القَولِ [691] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 254). .
2- في قَولِه تعالى: بِمَا صَبَرُوا فضيلةُ الصَّبرِ، طالما أنَّ الصبرَ سببٌ للأجرِ؛ فلا شكَّ أنَّه صفةٌ حميدةٌ وفاضلةٌ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 266). .
3- في قَولِه تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أنَّه ينبغي مُقابَلةُ المُسيءِ بالإحسانِ، فالحَسَناتُ يُذْهِبنَ السَّيِّئاتِ؛ فالآيةُ عامَّةٌ لِدَرْئِهم سَيِّئاتِهم بحَسَناتِهم، ودَرئِهم سيِّئاتِ غَيرِهم بالإحسانِ إليهم، لكنَّ دَرْءَ سيِّئاتِ الآخَرين بالإحسانِ إليهم ثَقيلٌ على المرءِ جدًّا؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [693] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 266). [فصلت: 35] .
4- مِن أسبابِ دَفعِ شرِّ الحاسدِ عن المحسودِ -وهو مِن أصعبِ الأسبابِ على النفسِ وأشقِّها عليها، ولا يُوفَّقُ له إلَّا مَن عظُم حظُّه مِن الله- إطفاءُ نارِ الحاسدِ والباغي والمؤذي بالإحسانِ إليه، فكلَّما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازددْتَ إليه إحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً. وما أظنُّك تصدِّقُ بأنَّ هذا يكونُ، فضلًا عن أنْ تتعاطاه، فاسمَعِ الآنَ قولَه عزَّ وجلَّ: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وقولَه: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [694] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/243).   [فصلت: 34- 36]
5- قولُه تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فيه فضيلةُ الإنفاقِ مِن رزقِ اللهِ [695] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 267). .
6- في قولِه تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أنَّه ينبغي الإعراضُ عن اللَّغوِ، وهو الكَلامُ الذي لا فائِدةَ فيه، ولا خيرَ منه، والفِعلُ يُقاسُ عليه؛ فلا ينبغي للإنسانِ أن يُمضيَ وَقتَه في أفعالٍ لا خيرَ فيها [696] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 273). ، فقد أثنى الله سبحانه على مَن أعرَضَ عن اللَّغوِ إذا سمِعه،  وهذه الآيةُ معناها عامٌّ مُتناوِلٌ لِكُلِّ مَن سمِع لَغْوًا فأعرَضَ عنه، وقال بلسانِه أو بقلبِه لأصحابِه: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [697] يُنظر: ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/242). .
7- في قَولِه تعالى: لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ أنَّه لا ينبغي للعاقلِ طَلَبُ السُّفَهاءِ، فَضلًا عن الجُلوسِ معهم؛ لأنَّ طَلَبَهم في الحقيقةِ يؤدِّي إلى الجُلوسِ معهم، والجلوسُ مع الجاهِلينَ إثمٌ، كما قال اللهُ تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] ؛ فلا ينبغي للإنسانِ أنْ يَتطلَّبَ أهلَ السَّفَهِ ويجلِسَ إليهم، أو على الأقلِّ يأنَس بما يفعَلونَ؛ فإنَّ هذا مِن الصِّفاتِ الَّتي ليس عليها أهلُ الخَيرِ والإيمانِ [698] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 274). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أنَّ الحِكمةَ مِنَ الوَحيِ: التَّذكُّرُ والاتِّعاظُ [699] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 244). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إثباتُ العِلَّةِ في أحكامِ اللهِ الكَونيَّةِ والشَّرعيَّةِ، وأنَّه لا يَفعلُ شيئًا ولا يُشَرِّعُه إلَّا لحِكمةٍ، وقد خالَف في ذلك الأشاعرةُ، والجَهْميَّةُ هم الأصلُ، قالوا: أفعالُ الله لا تُعلَّلُ، وأحكامُه لا تُعلَّلُ [700] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 244). ، و(لعلَّ) في كلامِ الله سُبحانَه وتعالى للتَّعليلِ مُجَرَّدةٌ عن معنى التَّرجِّي؛ فإنَّها إنَّما يُقارِنُها معنى التَّرجِّي إذا كانت مِنَ المخلوقِ، وأمَّا في حقِّ مَن لا يَصِحُّ عليه التَّرجِّي فهي للتَّعليلِ المَحْضِ [701] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 196). .
3- إنَّ الله تعالى حيثُ قال: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ لم يكونوا إلَّا مَمْدوحينَ مُؤمنين، وإذا أراد ذمَّهم والإخبارَ عنهم بالعنادِ وإيثارِ الضَّلالِ أتَى بلفظِ: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مبنيًّا للمفعولِ، فالأولُ كقولِه تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ... الآيات. وكقولِه تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] ، فهذا في سياقِ مدحِهم والاستشهادِ بهم، ليس في سياقِ ذمِّهم والإخبارِ بعنادِهم وجحودِهم.
وأمَّا الثاني فكقولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 144، 145]؛ فهذا شهادتُه سبحانَه للذين أوتوا الكتابَ، والأولُ شهادتُه للذين آتاهم الكتابَ بأنَّهم مؤمنونَ. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [النساء: 47]، وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران: 20] ، وهذا خطابٌ لمَن لم يُسلِمْ منهم، وإلا فلم يُؤمَرْ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ هذا لمَن أسلمَ منهم، وصدَّق به.
ولهذا لا يذكُرُ سبحانَه الذين أُوتوا نصيبًا مِن الكتابِ إلَّا بالذمِّ أيضًا، كقولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النساء: 44] ، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الآية [النساء: 51] ، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [702] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/102). [آل عمران: 23] .
4- في قَولِه تعالى: بِهِ يُؤْمِنُونَ سؤالٌ: أنَّ التقديمَ يُفيدُ الاختِصاصَ، وهنا لا يتأتَّى ذلك؛ لأنَّهم لو خَصُّوا إيمانَهم بهذا الكتابِ فقط لَزِمَ كُفْرُهم بما عَداه، وهو عكسُ المرادِ! وقد أبدَى أهلُ البيانِ هذا في قولِه: آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك: 29] ، فقالوا: لو قُدِّمَ «به» لأوهَمَ الاختِصاصَ بالإيمانِ باللهِ وحْدَه دونَ ملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخَرِ، وهذا بعَيْنِه جارٍ هنا!
والجوابُ: أنَّ الإيمانَ بغيرِه معلومٌ؛ فانصَبَّ الغرضُ إلى الإيمانِ بهذا [703] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/685). .
5- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ إثباتُ عدْلِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ حيثُ لم يُضَيِّعْ أجرَهم الأوَّلَ بالأجرِ الثَّاني؛ ولا الأجرَ الثَّانيَ بالأجرِ الأوَّلِ [704] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 265). .
6- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أنَّ الثَّوابَ على قَدْرِ العملِ؛ قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]، فهؤلاء كان ثوابُهم مرَّتَينِ؛ لأنَّهم عَمِلوا مرَّتَينِ [705] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 265). .
7- في قَولِه تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [706] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 266). .
8- في قَولِه تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أنَّ المُنفِقَ لم يُنْفِقْ ممَّا صَنَعَه أو اكتسبَه بنَفْسِه، ولكنْ يُنفِقُ مِن رزقِ اللهِ، فاللهُ هو الَّذي رَزَقَك، وهو الَّذي أَمَرَك، فأنت في الحقيقةِ خادمٌ، عبدٌ متصرِّفٌ حسَبَ أمرِ سيِّدِك، قال لك: اكتسِبْ؛ فاكتسَبْتَ، قال لك: أنفِقْ؛ فأنفَقْتَ [707] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 267). .
9- قَولُهم: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ هذا مِن أحسَنِ ما يُجابُ به السُّفَهاءُ، وهو أقرَبُ لإصلاحِهم، وأسلَمُ مِن تَزايُدِ سَفَهِهم [708] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/145). .
10- أنَّ الإنسانَ إذا جَدَّ واجتهَدَ في دعوةِ النَّاسِ إلى الهُدى فلمْ يَهتَدوا؛ فإنَّ عليه أنْ يَتلوَ هذه الآيةَ، وهي: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وإلَّا فكثيرٌ مِنَ النَّاسِ الآنَ عندَهم أقارِبُ -إمَّا معهم في البُيوتِ، أو خارجَ البُيوتِ- يَدْعونهم إلى الهدَى فلا يَهْتَدونَ! فنقولُ: الحمدُ لله أنْ بَيَّنَ سُبحانَه وتعالى أنَّ هذا الأمرَ ليس إلينا، إنَّما هو إليه سُبحانَه، وإنِ اهتَدَوا فلَهُم ولنا ثَوابُ دَلالتِهم، وإنْ لم يَهتَدُوا فلَنا ثَوابُ الدَّلالةِ والدَّعوةِ، وعليهم وِزْرُ الغَيِّ [709] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 282). .
11- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ إشكالٌ مِن جِهةِ أنَّ ظاهِرَه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أبا طالبٍ.
وجوابُ ذلك:
إمَّا أن يُقالَ: إنَّه على تقديرِ أنَّ المفعولَ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ «مَن أحببتَ هِدايتَه»، لا مَن أحبَبْتَه هو.
أو يُقالَ: إنَّه أحَبَّ عمَّه مَحَبَّةً طبيعيَّةً كمَحبَّةِ الابنِ أباه ولو كان كافِرًا.
أو يُقالَ: إنَّ ذلك قبْلَ النَّهيِ عن محبَّةِ المُشرِكينَ. والأوَّلُ أقرَبُ، أي: مَن أحبَبْتَ هدايتَه لا عَيْنَه، وهذا عامٌّ لأبي طالبٍ وغيرِه [710] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/349). .
12- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ خانِقةٌ لهم مِن جِهَتينِ:
إحداهما: نِسبةُ الهِدايةِ إليه جَلَّ وتعالى جُملةً، كما هو في سائرِ القُرآنِ.
والأخرى: أنَّ قولَهم في تأويلِ الهِدايةِ: إنَّها البيانُ لا الاضْطِرارُ إليها- خطأٌ لا مَحالةَ؛ بدَلالةِ هذه الآيةِ مِن حيثُ لا يُنكِرونَ، لو أنصَفوا واستَبْصَروا؛ فإنَّا لا نَشُكُّ -ولا هُم- أنَّ اللهَ جلَّ جَلالُه قد بَيَّنَ لكُلِّ مَن خاطَبَه بالإيمانِ طَريقَ الهِدايةِ، ورَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد بَيَّنَها لكُلِّ مَن أُرسِلَ إليه، وأحَبَّها له، وأنَّه لم يَحرِصْ على إيمانِ عمِّه إلَّا وقد بَيَّنَ له طَريقَ الهِدايةِ مرَّةً بعْدَ أخرى؛ فهل تَكونُ الهِدايةُ الَّتي لم يَقْدِرْ عليها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِعَمِّه إلَّا هدايةَ الاضْطِرارِ والإجبارِ، لا هِدايةَ البيانِ الَّتي قد كان فَرَغ منها، وأدَّى أمْرَ اللهِ إلى أهلِه فيها [711] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/571). ؟
13- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مع قَولِه سُبحانَه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] إيهامُ تَعارُضٍ.
وجوابُه: أنَّه لا تَناقُضَ في الآيتَينِ؛ إذ المُرادُ بالهِدايةِ التي نفاها الله عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الآيةِ الأُولى هِدايةُ التَّوفيقِ، وهي الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداءِ، فلا يتخلَّفُ عنها، وهذه لا يقدِرُ عليها ولا يَملِكُها إلَّا اللهُ وحْدَه، والمرادُ بالهدايةِ المثبتَةِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الآيةِ الثَّانيةِ هِدايةُ الدَّلالةِ والبيانِ والإرشادِ، وهذه تكونُ مِنَ الله تعالى ومِن غيرِه، فتَكونُ مِنَ الرُّسلِ ووَرَثَتِهم مِنَ العلماءِ الرَّبَّانيِّينَ [712] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/171)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/37)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/154)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/187). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اللَّامُ و(قَدْ) كِلاهُما للتَّأكيدِ ردًّا عليهم؛ إذ جَهِلُوا حِكمةَ تَنْجيمِ نُزولِ القُرآنِ، وذُكِرَتْ لَهُمْ حِكمةُ تَنْجيمِه هنا بما يَرْجِعُ إلى فائدتِهم بقولِه: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وذُكِرَ في سورةِ (الفُرقانِ) حِكمةٌ أُخرى راجِعةٌ إلى فائدةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] ، وفُهِمَ مِن ذلك أنَّهم لم يَتَذَكَّروا [713] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/142). .
- و(وَصَّلَ) قيل: إنَّه مُضمَّنٌ معنى «بَيَّنَ»؛ ففيه أنَّ الوَحيَ مُشتمِلٌ على غايةِ البَيانِ [714] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 244). .
2- قولُه تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ.
- قولُه: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ لَمَّا أفْهَمَ قولُه: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 51] أنَّهم لم يَفْعَلُوا، ولم يَكونُوا عندَ رَجاءِ الرَّاجي؛ عَقَّبَ ذلك بهذه الجُملةِ المُستأْنَفةِ استِئْنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّها جوابٌ لسؤالِ مَنْ يَسألُ: هلْ تَذَكَّرَ غيرُهم بالقرآنِ، أو استَوى النَّاسُ في عدَمِ التَّذكُّرِ به؟
فأُجيبَ: بأنَّ الَّذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِ نُزولِ القرآنِ يُؤمِنونَ به إيمانًا ثابتًا [715] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/143). .
- قولُه: هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فيه تَقديمُ المُسنَدِ إليه: هُمْ، على الخبَرِ الفِعليِّ: يُؤْمِنُونَ؛ لِتَقَوِّي الخَبرِ، وأيضًا ضَميرُ الفَصْلِ هُمْ مُفيدٌ للقَصْرِ الإضافيِّ، أيْ: هُمْ يُوقِنونَ، بخِلافِ هؤلاءِ الَّذينَ وصَّلْنا لهمُ القَولَ. ومَجيءُ المُسنَدِ: يُؤْمِنُونَ مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ إيمانِهم وتجدُّدِه [716] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/143، 144). .
3- قولُه تعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ فيه حِكايةُ إيمانِهم بالمُضُيِّ في قولِه: آَمَنَّا بِهِ، مع أنَّهم يَقولونَ ذلكَ عند أوَّلِ سَماعِهم القرآنَ؛ لأنَّ المُضِيَّ مُستعمَلٌ في إنشاءِ الإيمانِ مِثلَ استِعمالِه في صِيَغِ العُقودِ، أو للإشارةِ إلى أنَّهم آمَنوا به مِن قبْلِ نُزولِه، أيْ: آمَنُوا بأنَّه سيَجيءُ رسولٌ بكتابٍ مُصَدِّقٍ لِمَا بيْنَ يدَيْه؛ يعني: إيمانًا إجْماليًّا يَعقُبُه إيمانٌ تفصيليٌّ عندَ سَماعِ آياتِه [717] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/144). .
- قولُه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا استِئْنافٌ لِبَيانِ ما أوْجَب إيمانَهم به، وقولُه: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ استِئنافٌ آخَرُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إيمانَهم به ليس ممَّا أَحْدَثوه حينَئذٍ، وإنَّما هو أمرٌ تقادَمَ عَهْدُه لَمَّا رأَوْا ذِكْرَه في الكُتبِ المُتقَدِّمةِ، وكَوْنَهم على دِينِ الإسلامِ قبْلَ نُزولِ القرآنِ [718] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/421)، ((تفسير البيضاوي)) (4/181)، ((تفسير أبي حيان)) (8/314)، ((تفسير أبي السعود)) (7/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/144). .
4- قولُه تعالى: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
- قولُه: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ التَّعبيرُ عنهم باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ هنا؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِياءُ بما سيُذْكَرُ بعدَ اسمِ الإشارةِ؛ مِن أجْلِ الأوصافِ الَّتي ذُكِرَتْ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [719] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/144). ، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للدَّلالةِ على عُلُوِّ رُتْبتِهم، وبُعْدِ مَنزلَتِهم في الشَّرَفِ والفضيلةِ [720] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/136). .
- قولُه: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أيْ: يُؤْتَونَ أجْرَيْنِ على إيمانِهم، أيْ: يُضاعَفُ لهمُ الثَّوابُ لأجْلِ أنَّهم آمَنوا بكِتابِهم مِن قَبْلُ، ثمَّ آمَنوا بالقُرآنِ؛ فعَبَّرَ عن مُضاعَفةِ الأجرِ ضِعْفَيْنِ بالمرَّتَينِ؛ تَشبيهًا للمُضاعَفةِ بتَكريرِ الإيتاءِ، وإنَّما هو إيتاءٌ واحدٌ. وفائدةُ هذا إظهارُ العِنايةِ حتَّى كأنَّ المُثيبَ يُعطي، ثمَّ يُكرِّرُ عَطاءَه [721] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/144، 145). .
5- قولُه تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.
- قولُه: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أيْ: أعمالُنا مُستَحَقَّةٌ لنا، وهو كِنايةٌ عن مُلازَمَتِهم إيَّاها، وقولُهم: وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ تَتْميمٌ [722] التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/49 - 51، 240، 241). ، على حدِّ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [723] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/146). [الكافرون: 6] .
- وقد أَنطَقَهُمُ اللهُ بحكمةٍ جَعَلَها مُستأْهِلةً لأنْ تُنظَمَ في سِلْكِ الإعجازِ، فأَلْهَمهم تلك الكَلِماتِ، ثمَّ شَرَّفَها بأنْ حِيكَتْ في نَسْجِ القرآنِ، ولعلَّ القرآنَ غيَّرَ مَقالَتَهم بالتَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ لِتَكونَ مُشتمِلةً على الخُصوصيَّةِ المُناسِبةِ للإعجازِ؛ لأنَّ تأخيرَ الكلامِ الَّذي فيه المُتارَكةُ إلى آخِرِ الخِطَابِ أَوْلَى؛ لِيَكونَ فيه بَراعةُ المَقْطَعِ [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/146). .
- قولُه: لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ تَعليلٌ للمُتارَكةِ، أيْ: لِأَنَّا لا نُحِبُّ مُخالَطةَ أهلِ الجَهالةِ باللهِ وبدِينِ الحقِّ، وأهْلِ خُلُقِ الجهلِ الَّذي هو ضِدُّ الحِلْمِ؛ فاستُعمِلَ الجهلُ في مَعنَيَيْهِ المُشتَرَكِ فيهما [725] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/146). .
6- قولُه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
- جملةُ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ استِئْنافٌ ابتِدائيٌّ، وافتِتاحُها بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ) اهتِمامٌ باستِدْعاءِ إقبالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على عِلْمِ ما تضَمَّنَتْه، وهو كِنايةٌ عن الأمرِ بالتَّفويضِ في ذلك إلى اللهِ تعالى [726] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/147). .
- قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مَفعولُ فِعْلِ المَشيئةِ مَحْذوفٌ؛ لِدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، أي: مَن يَشاءُ اهتِداءَه [727] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/148). .