موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (196-200)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

مَتَاعٌ: مَنفعةٌ، وكلُّ ما حَصَل التمتُّع والانتفاعُ به على وجهٍ ما، والمتاعُ والمتعة: ما يُنتفعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، بل يَنقضي عن قَريبٍ، وأصل (متع): يدلُّ على مَنفعةٍ وامتدادٍ مُدَّةً في خيرٍ .
الْمِهَادُ: الفِراشُ والقرارُ، والمهدُ: ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُ المهاد: المكانُ الممهَّد الموطَّأ .
نُزُلًا: أي: ثوابًا ورزقًا، والنُّزل: ما يُعدُّ للنازلِ من الزَّاد، أو ما يُهيأ للضَّيف .
وَرَابِطُوا: اثبتُوا وداوِموا، وأصلُ المرابطة والرِّباط: ربْطُ كلِّ فريق لخيولهم في الثَّغر، كل يُعِدُّ لصاحبِه؛ فسُمِّي المقامُ بالثغور رباطًا، ومِنه: مُلازمةُ ثَغْرِ العَدُوِّ، كأَنَّهم قدْ رُبِطُوا هناك فثَبَتوا به ولازَمُوه، وربْطُ الفرس: شدُّه بالمكانِ للحِفْظ، ومنه: رِباط الخيل، وسُمِّي المكانُ الذي يُخصُّ بإقامةِ حِفظِه فيه: رباطًا، وأصل الرَّبط: الشدُّ والثبات .

المَعنَى الإجماليُّ:

يَنهى اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَنخدعَ بما يحصُلُ عليه الكفَّارُ من مَتاع الدُّنيا، وتقلُّبهم في البلادِ بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسِب، والغلبةِ في بعضِ الأوقات؛ فإنَّ ذلك مُتعةٌ قليلةٌ، فانيةٌ زائلة، ثم يكونُ مصيرُهم جهنَّمَ، وبئسَ المقرُّ.
أمَّا المتَّقون لربِّهم، فإنَّ لهم جَناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ، هي دارُهم التي يَمكُثون فيها على الدَّوام، أعدَّها اللهُ لهم مَنزلَ ضِيافةٍ، وما عندَ الله تعالى خيرٌ مِن متاعِ الدُّنيا لِمَن أطاع وأَحْسنَ العملَ.
ثم يُخبر تعالى أنَّ مِن أهل الكتاب طائفةً يُؤمنون بالله تعالى، ويُوحِّدونه، ويُؤمنون بما أُنزِلَ على مَحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما أَنزلَ الله إليهم مِن كتُب، خاضِعين لله، لا يُحرِّفون ما في كُتبهم، ولا يَكتمونه، ولا يُبدِّلونه مُقابلَ متاعٍ دُنيويٍّ زائل؛ فهؤلاء لهم عند الله ثوابٌ عظيمٌ، واللهُ سريعُ الحسابِ.
ثم يأمُر الله عِبادَه المؤمنين بالصَّبر، ومغالبةِ أعداءِ الدِّين بالصَّبر، حتى يَنتصروا عليهم، وأنْ يَلزموا الإقامةَ في الأماكنِ التي يُخشَى من وصولِ العدوِّ من خلالِها، وأنْ يَمنعوه من الوصولِ إلى مُبتغاه، وأنْ يتَّقوا اللهَ؛ وذلك مِن أجْل أنْ يفوزوا بمطلوبِهم، ويَنجُوا ممَّا يَرهبونَه.

تفسير الآيات:

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين بالثَّوابِ العظيم، وكانوا في الدُّنيا في نهاية الفقرِ والشِّدَّة، والكفَّارُ كانوا في النِّعم، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما يُسلِّيهم ويُصبِّرُهم على تلك الشِّدَّة ، فقال:
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
أي: لا تَنخدعْ- يا محمَّد- بظاهرِ ما عليه الكفَّارُ من تردُّدٍ على البلاد، وتنقُّلٍ فيها بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسبِ، بِما يجعلُهم في بَحبوحةٍ في العيش، وترَفٍ في الحياةِ، وعِزٍّ وغلبةٍ في بعضِ الأوقات .
قال تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ
أي: إنَّ هذا الذي عليه الكفَّارُ إنما هو لذائذُ فانيةٌ؛ فزمنُها محدودٌ، وتَنتهي بانقضاءِ أعمارِهم، وهي مُتعةٌ قليلةٌ كمًّا وكيفًا .
ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
أي: إنَّهم مُنتقِلون بعدَ مماتِهم وذَهابِ مُتعِهم، إلى الإقامةِ في نارِ جَهنَّم .
قال الله عزَّ وجلَّ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .
وَبِئْسَ الْمِهَادُ
أي: وبئس الفراشُ والمقرُّ هي، أي: جهنَّم .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله سبحانه وتعالى الوعيدَ للذين كَفروا، أتْبعَه بالوعدِ بالنُّزُل للذين آمنوا ، فقال:
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أي: أمَّا الذين امتَثلوا ما أمَر الله تعالى به، واجتَنبوا ما نهى عنه، فإنَّهم يُمتَّعون في الدارِ الآخِرةِ في جَنَّاتٍ تَجري من خلالها أنواعٌ من الأنهار، وهم ماكثونَ في هذا النَّعيمِ على الدَّوام .
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: إنَّ الله تعالى قدْ أعدَّ لهم تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا مِن كرامةِ اللهِ تعالى لهم .
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
أي: إنَّ ما عندَ اللهِ تعالى من النَّعيمِ والكرامةِ خيٌر للطَّائعين- الذين أحْسَنوا العملَ- من متاعِ الدُّنيا القليلِ الزَّائل .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى حالَ المؤمنين- وكان قدْ ذكَر حالَ الكفَّارِ مِن قبلُ بأنَّ مَصيرَهم إلى النَّار- بَيَّن في هذِه الآيةِ أنَّ مَن آمَنَ منهم كان داخلًا في صِفة الذين اتَّقْوا .
وأيضًا لَمَّا حكَى اللهُ تعالى بعضَ مخالفاتِ أهلِ الكتابِ، مِن نبْذِ الميثاق وتَحريفِ الكتابِ وغيرِ ذلك، سِيقتْ هذه الآيةُ؛ لبيانِ أنَّ أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمَن حُكيتْ مخالفاتُهم، بل منهم مَن له مَناقبُ جليلةٌ، مثل: عبد الله بن سَلَام وأصحابه .
سببُ النُّزول:
عن أنسٍ رضِي اللهُ عنه قال: لَمَّا جاء نعْيُ النَّجاشيِّ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((صلُّوا عليه، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، نُصلِّي على عَبدٍ حَبشيٍّ؟ فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ الآية)) .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
أي: إنَّ طائفةً من أهلِ الكتابِ مِن اليهودِ والنَّصارى يُؤمنون باللهِ تعالى حقَّ الإيمان، ويقرُّون بوحدانيَّته .
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
أي: إنَّهم يُؤمنون أيضًا بالقرآن، الذي أُنزل على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
أي: ويُؤمنون أيضًا بالكتُب السابقةِ، التي أَنزلها اللهُ تعالى إليهم كالتَّوراة .
خَاشِعِينَ لِلَّهِ
أي: والحالُ أنَّهم خاضِعون للهِ تعالى، مُستكينين له ومُتذلِّلين .
لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أي: لا يُحرِّفون ما في كُتُبِهم، ولا يُبدِّلونه، ولا يَكتمون ما فيها من العِلم- ومِن ذلك البشارةُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانُ صِفتِه للناس-؛ ليَحْصُلوا في مُقابلِ ذلك على متاعٍ دُنيويٍّ زائل، مِن منصبٍ، أو جاهٍ، أو مالٍ، وغير ذلك .                  
أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
أي: إنَّ لأولئك القومِ المؤمنين ثوابًا عظيمًا عندَ الله سبحانه .
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
أي: إنَّ حسابَ اللهِ عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسُرعةِ انقضاء الدُّنيا، كما أنَّه سبحانه يُحاسبُ الخلائقَ يومَ القيامة على أعمالِهم في مُدَّةٍ وجيزٍة جدًّا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
أي: يا أيُّها المؤمنون، اصبِروا على جميعِ ما أمَرَكم اللهُ تعالى بالصَّبرِ عليه، كالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصَّبرِ عن مَعصيتِه، والصَّبرِ على أقدارِه سبحانه .
وَصَابِرُوا
أي: وغالِبوا بالصبرِ أَعداءَ الدِّين، حتى تَنتصِروا عليهم؛ فلا يكونوا أصْبرَ منكم .
وَرَابِطُوا
أي: والْزَموا الإقامةَ في الثُّغورِ؛ لِمَنْع العدوِّ من الوصولِ إليها، والنفوذِ منها إلى مُبتغاه .
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
أي: استعمِلوا تَقوى اللهِ عزَّ وجلَّ بامتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه، ومِن ذلك: الأوامرُ السَّابقة، مِن الصَّبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ في سبيلِه؛ وذلك مِن أجْل تحقيقِ الفوزِ بالمطلوب، والنَّجاةِ من المرهوبِ في الدُّنيا والآخِرة .

الفوائد التربوية:

1- نَهْي المسلمِ عن الاغترارِ بما أُوتي الكفَّار من النِّعمِ والرَّفاهية؛ لقوله: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ؛ لأنَّ ما يُعطيه اللهُ العبدَ من الرَّخاء وسَعة الرِّزق والانطلاقِ في الأرض، ليس دليلًا على رِضاه عن العبدِ، وإنما المقياسُ لرِضا اللهِ عن العبدِ هو اتِّباعُ العبدِ لشرْعِ اللهِ تعالى .
2- أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد يَستدرجُ المرءَ بإغداقِ النِّعم عليه؛ فِتنةً له، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ؛ ووجه ذلك أنَّ اللهَ مَكَّن هؤلاءِ الكفَّارَ من التقلُّبِ في البلادِ كما يَشاؤون؛ فتنةً لهم؛ ليستمرُّوا على ما هم عليه، فيكونَ ذلك شرًّا لهم- والعياذ بالله- كما قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا فيه: أنَّ الإنسانَ وإنْ تكلَّفَ الصَّبرَ والمصابرةَ، إلَّا أنَّ فيه أخلاقًا ذميمةً تَحمِل على أضدادِها، وهي الشهوةُ والغضبُ والحِرصُ، والإنسانُ ما لم يكُن مُشتغلًا طولَ عُمرِه بمجاهدتِها وقَهرِها، لا يُمكنه الإتيانُ بالصبرِ والمصابرةِ؛ فلهذا قال: وَرَابِطُوا، ولَمَّا كانتْ هذه المجاهدةُ فِعلًا من الأفعال، ولا بدَّ للإنسانِ في كلِّ فِعلٍ يفعله من داعيةٍ وغرَض- وجَب أنْ يكون للإنسانِ في هذه المجاهدةِ غرضٌ وباعثٌ، وذلك هو تقوى اللهِ؛ لنَيل الفلاحِ والنَّجاح؛ فلهذا قال: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
4- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه: أنَّه لا سبيلَ إلى الفلاحِ بدون الصَّبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ؛ فلم يُفلحْ مَن أفلحَ إلَّا بها، ولم يَفُتْ أحدًا الفلاحُ إلَّا بالإخلالِ بها أو ببَعضِها .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، إنْ قيل: كيف جازَ أنْ يَغترَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك حتى يُنهى عنه وعن الاغترارِ به؟ فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ مُقدَّمَ القومِ يُخاطَبُ بشيءٍ، فيقوم خِطابُه مقامَ خِطابهم جميعًا، فكأنَّه قيل: لا يَغُرَّنَّكم. والثاني: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان غيرَ مغرورٍ بحالهم، فأكَّد عليه ما كان وثبَت على الْتزامِه، كقوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشْرِكِينَ [الأنعام: 14] .
2- الإشارةُ إلى أنَّ هذا النَّعيمَ الذي يُدركه الكفَّارُ في الدنيا سوف يُنسى بهذا المأوى السيِّئ؛ فإذا كان المأوى هو النارَ، نسُوا كلَّ شيء؛ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ .
3- قوله تعالى: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه عِظَمُ هذا الجزاءِ والثوابِ الذي يَحصُل لهم؛ لأنَّه نُزلٌ من عند أكرمِ الأَكْرَمِينَ، وهو الله عزَّ وجلَّ .
4- ختَم سبحانه السُّورةَ بهذه الوصيةِ للمؤمنين بقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ; قيل لأنَّها هي التي تَتحقَّق بها استجابةُ ذلك الدُّعاءِ، وإيفاءُ الوعدِ بالنَّصرِ في الدنيا، وحُسنُ الجزاءِ في الآخِرة .

بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ: فيه الخِطابُ للخاصِّ (النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) والمرادُ به العامُّ (أمَّته)، أو تثبيتُه على ما كان عليه كقوله: فَلَا تُطِعِ المكَذِّبِينَ [القلم: 8] ، أو لكلِّ أحدٍ .
2- لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا: إيرادُ التقوى في حيِّز الصِّلة الَّذِينَ؛ للإشعارِ بكونِ الخِصال المذكورةِ من بابِ التقوى .
3- قوله: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ: الجملةُ تذييلٌ لِمَا قَبلَها .
- والتعبيرُ عن المتقين بــ(الأبرار)؛ للإشعارِ بأنَّ الصِّفاتِ المعدودةَ من أعمالِ البِرِّ، كما أنَّها من قَبيلِ التقوى .
4- قوله: أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أُولَئِكَ إشارةٌ إليهم مِن حيثُ اتِّصافُهم بما عُدَّ من صِفاتِهم الحميدةِ، وما فيه من مَعنى البُعد؛ للدَّلالةِ على عُلوِّ رُتبتهم، وبُعدِ مَنزلتِهم في الشَّرفِ والفضيلةِ .
5- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
- قوله: وصَابَرِوا: عبَّر بصِيغة المفاعَلة، مع أنَّ (المصابرة) بابٌ من الصَّبر الذي ذُكرَ قبلَه في قوله: اصْبِرُوا؛ تَخصيصًا لشدَّتِه وصُعوبتِه .
6- وفي الآية من البَلاغة: حُسنُ الختامِ، وحُسنُ البيانِ؛ حيث جاءَ ختامُ سورةِ آل عمران حَسنًا جدًّا، فكما جاءَ خِتامُ سورةُ البقرةِ مُشتملًا على الدُّعاءِ، جاءَ ختامُ سورة آل عمران مشتملًا على عَددٍ من الوصايا النافعةِ، كالدُّعاءِ وطَلبِ التَّقوى التي هي ملاكُ الأمْر وزِمامُه، وهذا هو حُسنُ الختامِ؛ ليَبقَى راسخًا في الأسماعِ، وهذا هو حُسنُ البيان ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر في هذه السُّورةِ أنواعًا كثيرةً مِن عُلوم الأصولِ- فيما يَتعلَّقُ بتقريرِ التوحيدِ والعدلِ والنبوَّة والمعاد- والفروع- فيما يتعلَّقُ بالتكاليفِ والأحكامِ نحوَ الحجِّ والجهادِ وغيرهما- ختَم هذه السُّورةَ بهذه الآيةِ المشتملةِ على جَميعِ الآدابِ؛ وذلك لأنَّ أحوالَ الإنسانِ قِسمان: منها ما يَتعلَّق به وحْدَه، ومنها ما يكونُ مُشتركًا بينَه وبينَ غيرِه، أمَّا القِسمُ الأوَّل فلا بدَّ فيه مِن الصَّبر، وأمَّا القِسم الثاني فلا بدَّ فيه مِن المصابَرة .