موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيتان (7-8)

ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

افْتَرَاهُ: أي: اختَلَقَه وافتَعَلَه، وجاء به مِن عندِ نَفْسِه. والافتِراءُ: اختِلاقُ الكَذِبِ، وأصلُه: مِنْ فَرْيِ الأديمِ، وهو: قَطْعُه، فقيل للكَذِبِ: افتِراءٌ؛ لأنَّ الكاذِبَ يَقطَعُ به على التَّقديرِ مِن غيرِ تحقيقٍ .
تُفِيضُونَ: أي: تَقولونَ وتَخوضونَ، والإفاضةُ في الحَديثِ: الخَوضُ فيه والإكثارُ منه، وهي منقولةٌ مِن: فاضَ الماءُ: إذا سالَ، ومنه: حديثٌ مُستَفيضٌ: مُشتَهِرٌ شائِعٌ، وأصلُ (فيض): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بسُهولةٍ .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى موقفَ المشركينَ إذا قُرِئ عليهم القرآنُ، فيقولُ: وإذا تُتلَى على أولئك المُشرِكينَ آياتُ القُرآنِ الواضِحاتُ قالوا للحَقِّ حينَ جاءَهم مِن عندِ اللهِ تعالى: هذا القُرآنُ سِحرٌ ظاهِرٌ!
ثمَّ يُخبِرُ الله تعالى عن جانبٍ مِن أباطيلِهم، فيقولُ: أمْ يَقولُ المُشرِكونَ: اختَلَق مُحمَّدٌ القُرآنَ، وقالَه مِن تِلْقاءِ نَفْسِه؟!
ثمَّ يُلقِّنُ الله تعالى نبيَّه الرَّدَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: إنِ اختلَقْتُ هذا القُرآنَ -كما تَزعُمونَ- فلا تَدفَعون عنِّي مِن عذابِ اللهِ شيئًا! هو سُبحانَه أعلَمُ بما تَخوضونَ فيه مِن طَعنٍ أو تَكذيبٍ بالقُرآنِ، كفى به سُبحانَه شَهيدًا بيْني وبيْنَكم، وهو الغَفورُ الرَّحيمُ.

تفسير الآيتين:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا تكَلَّم في تقريرِ التَّوحيدِ ونَفْيِ الأضْدادِ والأندادِ؛ تكَلَّم في النُّبُوَّةِ، وبَيَّنَ أنَّ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم كلَّما عَرَض عليهم نَوعًا مِن أنواعِ المُعجِزاتِ زَعَموا أنَّه سِحرٌ !
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ في غايةِ السَّفَهِ في عبادةِ ما لا دليلَ بوَجهٍ على عبادتِه؛ أتْبَعَه بَيانَ أنَّهم في غايةِ الغَباوةِ بإنكارِ ما لا شَيءَ أبيَنُ منه! فقال عاطِفًا على: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] :
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7).
أي: وإذا تُتلَى على المُشرِكينَ آياتُ القُرآنِ الواضِحاتُ، قال هؤلاء الَّذين كَفَروا بوَحدانيَّةِ الله للحَقِّ حينَ جاءَهم مِن عندِ اللهِ تعالى: هذا القُرآنُ سِحرٌ واضِحٌ !
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يُسَمُّونَ المُعجِزةَ بالسِّحرِ؛ بَيَّنَ أنَّهم متى سَمِعوا القُرآنَ قالوا: إنَّ مُحمَّدًا افتراه واختَلَقَه مِن عندِ نَفْسِه ! فانتَقَلوا مِن قَولِهم: هذا سِحرٌ، إلى هذه المقالةِ الأُخرى .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
أي: أم يَقولُ المُشرِكونَ: اختَلَق مُحمَّدٌ القُرآنَ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه، ونَسَبه إلى اللهِ كَذِبًا ؟!
كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود: 13] .
وقال سُبحانَه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38] .
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إنِ اختلَقْتُ القُرآنَ -كما تَزعُمونَ- فلا تَستطيعونَ أن تَدفَعوا عنِّي شيئًا مِن عذابِ اللهِ إن عاقَبَني؛ جزاءَ كَذِبي عليه !
كما قال تعالى: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود: 35] .
وقال سُبحانَه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 43 - 47] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 21، 22].
هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ.
أي: اللهُ أعلَمُ مِن كُلِّ أحَدٍ سِواه بما تَقولونَه في القُرآنِ؛ مِن طَعنٍ فيه، أو تَكذيبٍ به، أو وَصفِه بما لا يَليقُ .
كما قال تعالى: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61].
كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
أي: كفى باللهِ العالِمِ بحالي وحالِكم شاهِدًا يَحكُمُ بشَهادتِه بيْني وبيْنَكم، ويُجازي كُلًّا بما يَستحِقُّه .
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أي: واللهُ هو الَّذي مِن شأنِه أن يَستُرَ ذُنوبَ عِبادِه، ويَتجاوَزَ عن مُؤاخَذتِهم بها، ويَرحَمَهم .

الفوائد التربوية:

قال الله عزَّ وجلَّ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَولُه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَرجيةٌ واستِدعاءٌ إلى التَّوبةِ؛ لأنَّه في خلالِ تهديدِه إيَّاهم باللهِ تعالى جاءت هاتان الصِّفتانِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أنَّ ما جاء به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الآياتِ هو مِن أفصَحِ الكلامِ وأبلَغِه وأبْيَنِه؛ فهُم لم يَصِفوه بالسِّحرِ إلَّا لأنَّه يأخُذُ بالقُلوبِ، ويَجُرُّ النَّاسَ إليه جَرًّا، كما قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ مِن البيانِ لَسِحْرًا )) .
2- قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ إنَّما جَعَلوه بزَعْمِهم سِحرًا؛ مِن حَيثُ كان عِندَهم يُفَرِّقُ بيْنَ المرءِ ووَلَدِه وزَوجِه، فجَعَلوه لذلك كالسِّحرِ، ولم يَنظُروا إلى الفَرقِ في أنَّ المُفارِقَ بالقُرآنِ يُفارِقُ عن بَصيرةٍ في الدِّينِ، والمفارِقَ بالسِّحرِ يُفارِقُ عن خَلَلٍ في ذِهْنِه .
3- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ قولُه عزَّ وجلَّ: لَمَّا جَاءَهُمْ فيه تنبيهٌ على أنَّهم لم يَتأمَّلوا ما يُتْلى عليهم، بل بادَروا أوَّلَ سَماعِه إلى نِسبتِه إلى السِّحرِ؛ عِنادًا وظُلمًا .
4- قال تعالى: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَجْهُ المُلازَمةِ بيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِه أنَّ اللهَ لا يُقِرُّ أحَدًا على أنْ يُبلِّغَ إلى النَّاسِ شيئًا عن اللهِ لم يَأْمُرْه بتَبْليغِه، وقد دلَّ القُرآنُ على هذا في قولِه تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] . ولعلَّ حِكمةَ ذلك: أنَّ التَّقوُّلَ على اللهِ يُفْضِي إلى فَسادٍ عَظيمٍ يَختَلُّ به نِظامُ الخلْقِ، واللهُ يَغارُ على مَخلوقاتِه، وليس ذلك كغَيرِه مِن المَعاصي الَّتي تَجْلِبُها المَظالِمُ والعبَثُ في الأرضِ؛ لأنَّ ذلك إقدامٌ على ما هو مَعلومُ الفَسادِ لا يَخْفى على النَّاسِ؛ فهمْ يَدْفَعونه بما يَسْتطيعونَ مِن حَولٍ وقُوَّةٍ، أو حِيلةٍ ومُصانَعةٍ. وأمَّا التَّقوُّلُ على اللهِ فيُوقِعُ النَّاسَ في حَيرةٍ: بماذا يَتلقَّوْنَه؟ فلذلك لا يُقِرُّه اللهُ ويُزِيلُه .
5- في قَولِه تعالى: كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ذَكَر سُبحانَه أنَّه شَهيدٌ بيْنَه وبيْنَهم، ولم يَقُلْ: «شاهدٌ علينا»، ولا «شاهدٌ لي»؛ لأنَّه ضَمَّنَ الشَّهادةَ الحُكْمَ، فهو شَهيدٌ يَحكُمُ بشَهادتِه بيني وبيْنَكم، والحُكمُ قَدْرٌ زائِدٌ على مُجرَّدِ الشَّهادةِ؛ فإنَّ الشَّاهِدَ قد يؤدِّي الشَّهادةَ، وأمَّا الحاكِمُ فإنَّه يَحكُمُ بالحَقِّ للمُحِقِّ على المُبطِلِ، ويأخُذُ حَقَّه منه، ويُعامِلُ المُحِقَّ بما يَستحِقُّه، والمُبطِلَ بما يَستحِقُّه .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ مَسوقٌ مَساقَ العَدِّ لِوُجوهِ فَرْطِ ضَلالِهم؛ فإنَّ آياتِ القُرآنِ تُتْلَى عليهم صَباحَ مَساءَ، تُبيِّنُ لهم دَلائلَ خُلوِّ الأصنامِ عن مُقوِّماتِ الإلهيَّةِ، فلا يَتدبَّرونَها، وتَحْدُو بهمْ إلى الحقِّ، فيُغالِطون أنفُسَهم؛ بأنَّ ما فَهِموه منها تأثُّرٌ سِحْريٌّ، وأنَّها سِحرٌ، ولم يَكْتَفُوا بذلك، بلْ زادُوا بُهتانًا فزَعَموا أنَّه مُبِينٌ، أي: واضِحٌ كَونُه سِحْرًا. وهذا انتِقالٌ إلى إبْطالِ ضَلالٍ آخَرَ مِن ضَلالِهم، وهو ضَلالُ التَّكذيبِ بالقُرآنِ؛ فهو مَرتبِطٌ بقولِه: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف: 1، 2].
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ الَّذِينَ كَفَرُوا إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للتَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ، وبأنَّه سَببُ قَولِهم ذلك. و(الحقُّ) هنا: هو الآياتُ؛ فعُدِلَ عن ضَميرِ الآياتِ إلى إظْهارِ لَفظِ (الحقِّ)؛ لِلتَّنبيهِ على أنَّها حقٌّ، ووُجوبِ الإيمانِ بها، وأنَّ رَمْيَها بالسِّحرِ بُهتانٌ عَظيمٌ .
2- قولُه تعالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ إضْرابُ انتِقالٍ إلى نَوعٍ آخَرَ مِن ضَلالِ أقْوالِهم، وسُلِكَ في الانتِقالِ مَسلَكُ الإضرابِ دُونَ أنْ يكونَ بالعطْفِ بالواوِ؛ لأنَّ الإضرابَ يُفِيدُ أنَّ الغرَضَ الَّذي سيُنتقَلُ إليه له مَزيدُ اتِّصالٍ بما قبْلَه، وأنَّ المَعنى: دَعْ قَولَهم: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف: 7]، واسْتَمِعْ لِمَا هو أعجَبُ؛ وهو قَولُهم: افْتَرَاهُ، أي: افْتَرى نِسبتَه إلى اللهِ، ولم يُرِدْ به السِّحرَ .
- وما في (أمْ) مِن الهمزةِ لِلْإنكارِ التَّوبيخيِّ المُتضمِّنِ لِلتَّعجُّبِ، أي: بلْ أيَقُولونَ: افْتَرى القُرآنَ؟! والنَّفيُ الَّذي يَقْتضيهِ الاستِفهامُ الإنْكاريُّ يَتسلَّطُ على سَببِ الإنكارِ، أي: كَونِ القُرآنِ مُفْترًى، وليس مُتسلِّطًا على نِسبةِ القولِ إليهم؛ لأنَّه صادِرٌ منهم، وإنَّما المَنْفيُّ الافتِراءُ المَزْعومُ .
- قولُه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بجَوابِ مَقالَتِهم بما يَقلَعُها مِن جِذْرِها؛ فكان قَولُه تعالى: قُلْ جُملةً جاريةً مَجْرى جَوابِ المُقاوَلةِ؛ لِوُقوعِها في مُقابَلةِ حِكايةِ قَولِهم .
- وجُعِلَ الافتراءُ مَفْروضًا بحَرْفِ (إنْ) الَّذي شأْنُه أنْ يكونَ شَرْطُه نادِرَ الوُقوعِ؛ إشارةً إلى أنَّه مَفروضٌ في مَقامٍ مُشتمِلٍ على دَلائلَ تَقلَعُ الشَّرْطَ مِن أصْلِه .
- وإسنادُ تَمْلِكُونَ إليهم تَنبيهٌ بالشَّيءِ على مُقابِلِه بالمفهومِ، أي: إنْ كُنتُ مُفترِيًا وأنتم المُحِقُّونَ فالعُقوبةُ واقعةٌ لا بُدَّ منها، ولا تَقدِرون على دَفْعِها عنِّي، وإنْ كُنتُ مُحِقًّا وأنتم المُفتَرونَ فالعُقوبةُ تَقَعُ بكم، ولا أقْدِرُ على دَفْعِها عنكم .
- وجُملةُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا؛ لأنَّ جُملةَ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي تَشتمِلُ على معنَى: أنَّ اللهَ لا يَرضَى أنْ يَفترِيَ عليه أحدٌ، وذلك يَقْتضي أنَّه أعلَمُ منهم بحالِ مَن يُخبِرُ عن اللهِ بأنَّه أرسَلَه وما يُبلِّغُه عن اللهِ، وذلك هو ما يَخوضونَ فيه؛ مِن الطَّعْنِ، والقَدْحِ، والوصْفِ بالسِّحرِ، أو بالافتراءِ، أو بالجُنونِ .
- وجُملةُ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ؛ لأنَّ الإخبارَ بكَونِه أعلَمَ منهم بكُنْهِ ما يُفيضون فيه يَشتمِلُ على مَعنى تَفويضِ الحُكْمِ بيْنَه وبيْنَهم إلى اللهِ تعالى. وهذا تَهديدٌ لهم وتَحذيرٌ مِن الخَوضِ الباطلِ ووَعيدٌ .
- وإجْراءُ وَصْفَيِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عليه تعالَى اقْتَضاهُ ما تَضمَّنَه قَولُه: كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِن التَّهديدِ والوعيدِ، وهو تَعريضٌ بطَلَبِ الإقلاعِ عمَّا همْ فيه مِن الخَوضِ بالباطِلِ، ومَوعِدةٌ بالغُفْرانِ والرَّحمةِ إنْ رَجَعوا عن الكُفْرِ وتابوا وآمَنوا، وإشعارٌ بحِلْمِ اللهِ عنهم مع عِظَمِ ما ارْتَكَبوا .