موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (12-14)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: فلعلَّك- أيُّها الرَّسولُ- تارِكٌ بعضَ ما يُوحَى إليك ممَّا أنزَلَه اللهُ عليك، وأمَرَك بتبليغِه، وضائِقٌ به صَدرُك؛ خَشيةَ أن يطلُبوا منك بعضَ المَطالبِ على وجهِ التَّعنُّتِ، كأنْ يقولوا: لولا أُنزِلَ عليه مالٌ كثيرٌ، أو جاء معه ملَكٌ يصَدِّقُه في رسالتِه، فبَلِّغْهم ما أوحيتُه إليك؛ فإنَّه ليس عليك إلَّا الإنذارُ بما أُوحيَ إليك، واللهُ على كلِّ شَيءٍ حَفيظٌ، يدَبِّرُ جميعَ شُؤونِ خَلقِه. بل أيقولُ هؤلاء المُشرِكونَ: إنَّ مُحمدًا قد افترى هذا القُرآنَ؟ قلْ لهم: إن كان الأمرُ كما تَزعمونَ، فأْتُوا بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرَياتٍ، وادعُوا من استطعتُم مِن جميعِ خَلقِ الله؛ لِيُساعِدوكم على الإتيانِ بهذه السُّوَر العَشرِ، إنْ كنتُم صادقينَ في دَعواكم. فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه، فأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، وأيقِنوا أنْ لا إلهَ يُعبَدُ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، فهل أنتم- بعد قيامِ هذه الحُجَّةِ عليكم- مُسلِمونَ مُنقادونَ لله ورَسولِه؟ 

تفسير الآيات:

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا تفريعٌ على قَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ إلى قَولِه يَسْتَهْزِئُونَ مِن ذِكرِ تَكذيبِهم وعِنادِهم، ويشيرُ هذا التَّفريعُ إلى أنَّ مَضمونَ الكلامِ المفَرَّعِ عليه سببٌ لِتَوجيهِ هذا التوقُّعِ؛ لأنَّ مِن شأنِ المفَرَّعِ عليه اليأسُ من ارعوائِهم لتكَرُّرِ التَّكذيبِ والاستهزاءِ يأسًا قد يبعَثُ على تَركِ دُعائِهم .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا استثنى اللهُ تعالى مِن الجارينَ مع الطَّبعِ، الطَّائِشينَ في الهَوى، مَن تحلَّى برَزانةِ الصَّبرِ النَّاشئِ عن وَقارِ العِلمِ، المُثمرِ لصالحِ العمَلِ، وكان صلَّى الله عليه وسلم رأسَ الصَّابرينَ، وكان ما مضى مِن أقوالِهم وأفعالِهم ربَّما كان مَظِنَّةً لرَجائِهم تَرْكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ ما يُوحى إليه؛ مِن عَيبِ آلهتِهم، وتضليلِ آبائِهم، وتسفيهِ أحلامِهم، وغيرِ ذلك ممَّا يشُقُّ عليهم؛ طمعًا في إقبالِهم أو خوفًا من إدبارِهم- قال تعالى مسبِّبًا عن ذلك، ناهيًا في صيغةِ الخَبِر :
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ.
أي: فلعلَّك- يا مُحمَّدُ- تاركٌ تبليغَ قَومِك بعضَ ما أوحَى اللهُ إليك مِن القُرآنِ، وضائِقٌ صَدرُك بما أمَرَك اللهُ أن تبَلِّغَهم؛ كراهةَ أن يقولَ المُشرِكونَ: لولا أنزَلَ اللهُ عليه كنزًا، أو جاء معه ملَكٌ؛ لنؤمِنَ بأنَّه رَسولُ الله، فاصبِرْ على تكذيبهِم، واستمِرَّ في دَعوتِهم .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر: 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .
وقال جلَّ جلاله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 73-74] .
وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90-93] .
وقال عزَّ من قائل: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: 7-9] .
وقال سبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] .
إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ.
أي: إنَّما أنت- يا محمَّدُ- نذيرٌ لقَومِك تُنذِرُهم عِقابي، وليس عليك أن تأتيَهم بما يقتَرِحونَه مِن الآياتِ .
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
أي: واللهُ على كُلِّ شَيءٍ قيِّمٌ، بِيَدِه تدبيرُ الأمورِ، وهو حافِظٌ يحفَظُ أعمالَ عبادِه، ويُجازيهم بها .
كما قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ القَومَ لَمَّا طَلَبوا من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُعجِزَ؛ قال: مُعجزي هذا القُرآنُ، ولَمَّا حصل المُعجِزُ الواحِدُ، كان طلَبُ الزيادةِ بَغيًا وجهلًا، ثم قرَّرَ كَونَه مُعجِزًا بأنْ تحدَّاهم بالمُعارَضةِ .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
أي: بل أيقولُ المُشرِكونَ: افترى محمَّدٌ القُرآنَ، وليس هو مِن عندِ اللهِ ؟!
قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ.
أي: قل لهم- يا مُحمَّدُ-: فإن كنتُ افتريتُ القُرآنَ كما تَزعُمونَ، فأْتُوا أنتم بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُختَلَقاتٍ مِن عندِ أنفُسِكم .
وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
أي: وادعُوا- أيُّها المُشرِكونَ- مَنْ تستَطيعونَ دَعوتَه، من الإنسِ والجِنِّ، وآلهتِكم المزعومةِ؛ لِيُعينَكم على اختلاقِ عَشرِ سُوَرٍ مِن القُرآنِ، إن كنتُم صادقينَ في أنِّي افتريتُ هذا القُرآنَ .
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان أدنَى دَرَجاتِ الافتراءِ إتيانَ الإنسانِ بكلامِ غَيرِه من غيرِ عِلمِه، وكان عَجزُهم عن المُعارَضةِ دليلًا قاطعًا على أنَّهم لم يَصِلوا إلى شيءٍ مِن كَلامِه تعالى بغيرِ عِلمِه، ولا وجَدوا مُكافِئًا له يأتيهم بمِثلِه- ثبت قطعًا أنَّ هذا القرآنَ غيرُ مُفترًى، فقال تعالى مُخاطبًا للجميعِ إشارةً إلى وضوحِ الأمرِ- لا سيَّما في الافتراءِ عند كلِّ أحدٍ- وأنَّ المُشرِكينَ قد وصَلوا من ذلِّ التَّبكيتِ بالتَّحدِّي مَرَّةً بعد مَرَّة، وزورِهم لأنفُسِهم في ذلك المضمارِ كَرَّةً في إثرِ كَرَّة، إلى حدٍّ مِن العَجزِ لا يَقدِرونَ معه على النُّطقِ في ذلك ببِنتِ شَفةٍ ، قال:
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.
أي: فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه فاعْلَموا وأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، واعلَموا أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ وَحدَه .
كما قال تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] .
فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.
أي: فهل أنتم- أيُّها المُشرِكونَ- مُستَسلِمونَ لله بالتَّوحيدِ، مُنقادونَ له بالطَّاعةِ، بعد ثُبوتِ الحُجَّةِ عليكم بعَجزِكم عن الإتيانِ بمِثلِ هذا القرآنِ، وتحَقُّقِكم أنَّه مِن عندِ الله ؟
كما قال الله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

الفوائد التربوية :

 قال الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ في هذه الآياتِ إرشادٌ إلى أنَّه لا ينبغي للدَّاعي إلى اللهِ أن يَصُدَّه اعتراضُ المُعتَرضينَ، ولا قَدحُ القادحينَ- خصوصًا إذا كان القَدحُ لا مُستنَدَ له، ولا يَقدَحُ فيما دعا إليه- وأنَّه لا يَضيقُ صَدرُه، بل يطمئِنُّ بذلك، ماضيًا على أمرِه، مُقبِلًا على شأنِه، وأنَّه لا يجِبُ إجابةُ اقتراحاتِ المُقتَرحينَ للأدلَّةِ التي يختارونَها؛ بل يكفي إقامةُ الدَّليلِ السَّالمِ عن المُعارِضِ، على جميعِ المَسائلِ والمَطالبِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ لَمَّا كان المُوحَى به قد صار معلومًا لهم- وإن نازعوا فيه- بنى للمَفعولِ قَولَه: يُوحَى إِلَيْكَ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بَنَوه للمَفعولِ؛ لأنَّ المَقصودَ مُطلَقُ حُصولِه .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إلى قَولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دلالةٌ على ثبوتِ الرِّسالةِ والقُرآنِ والتَّوحيدِ، ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا تحدَّاهم سُبحانه بالإتيانِ بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرياتٍ- هم وجميعَ مَن يستطيعونَ مِن دونِه- فكان في مضمونِ تحدِّيه أنَّ هذا لا يقْدِرُ أحدٌ على الإتيان بمِثلِه مِن دونِ اللهِ، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وحينئذٍ فَعُلِمَ أنَّ ذلك مِن خصائصِ مَن أَرسلَه اللهُ، وما كان مختصًّا بنوعٍ فهو دليلٌ عليه؛ فإنَّه مُستلزِمٌ له، وكلُّ مَلزومٍ دليلٌ على لازِمِه- كآياتِ الأنبياء كلِّها؛ فإنَّها مختصَّةٌ بجِنسِهم- وهذا القرآنُ مختصُّ بجِنسِهم، ومِن بينِ الجنسِ خاتَمُهم ،لا يمكِنُ أن يأتيَ به غيرُه، وكان ذلك برهانًا بَيِّنًا على أنَّ اللهَ أنزله؛ وأنَّه نَزلَ بعِلمِ الله، فهو الذي أخبرَ بخبَرِه، وأمرَ بما أمرَ به، كما قال سُبحانه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وثبوتُ الرسالةِ ملزومٌ لثبوتِ التَّوحيدِ؛ وأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، مِن جهة أنَّ الرسولَ أخبرَ بذلك، ومِن جهةِ أنَّه لا يقدِرُ أحدٌ على الإتيانِ بهذا القرآنِ إلَّا اللهُ، فإنَّ مِن العِلمِ ما لا يعلَمُه إلَّا اللهُ .
4- في قَولِه تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ لم يُكَلِّفْهم نَفْسَ الإحداثِ، بل طالَبَهم بالإتيانِ بمِثلِه، إمَّا إحداثًا، وإمَّا تبليغًا عن اللهِ أو عن مخلوقٍ. والإتيانُ بالشَّيءِ: جَلبُه، سواءٌ كان بالاسترفادِ مِن الغَيرِ أم بالاختراعِ مِن الجالبِ، وهذا توسِعةٌ عليهم في التَّحدِّي؛ ليُظْهِرَ عجزَهم مِن جميعِ الجِهاتِ .
5- قَولُ الله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وَصفٌ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ونكتةُ ذِكرِ هذا الوَصفِ: التَّذكيرُ بأنَّهم أنكَروا أن يكونَ مِن عندِ اللهِ، فلمَّا عمَّم لهم في الاستعانةِ بمَن استطاعوا، أكَّدَ أنَّهم دونَ اللهِ تعالى، فإن عَجَزوا عن الإتيانِ بعَشرِ سُورٍ مِثلهِ- مع تمكُّنِهم من الاستعانةِ بكُلِّ مَن عدا اللهَ- تبيَّن أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ الله تعالى .
6- قول الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيه أنَّ هذا القُرآنَ مُعجِزٌ بنَفسِه، لا يَقدِرُ أحدٌ مِن البَشَرِ أن يأتيَ بمِثلِه، ولا بعَشرِ سُوَرٍ مِن مِثلِه، بل ولا بسُورةٍ مِن مِثلِه؛ لأنَّ الأعداءَ البُلَغاءَ الفُصَحاءَ تحدَّاهم اللهُ بذلك، فلم يُعارِضوه؛ لعِلمِهم أنَّهم لا قُدرةَ فيهم على ذلك .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، التَّوقُّعُ المستَفادُ مِن (لعلَّ) مُستعمَلٌ في تحذيرِ مَن شأنُه التَّبليغُ، وعلى القول بتَقديرِ استِفْهامٍ حُذِفَت أداتُه، والتَّقديرُ: ألَعلَّك تارِكٌ؟! فيكونُ الاستفهامُ مُستعمَلًا في النَّفْيِ للتَّحذيرِ .
- قولُه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... فيه اختيارُ التَّعبيرِ بـ ضَائِقٌ بدلَ (ضيِّقٌ)؛ لِمُوافَقةِ قولِه قبلَه: تَارِكٌ، ولِيَدُلَّ على أنَّه ضِيقٌ عارِضٌ لا ثابتٌ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كان أوْسَعَ النَّاسِ صدرًا، ونظيرُه قولُ القائِلِ: زيدٌ سائدٌ وجائدٌ، يُريدُ به أنَّه حَدَثَ فيه السِّيادةُ والجودُ، فإنْ أُرِيدَ وصْفُه بثُبوتِهما، قيل: زيدٌ سيِّدٌ وجَوَادٌ .
- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ في موقِعِ العِلَّةِ للتَّحذيرِ مِن ترْكِه بعْضَ ما يُوحى إليه، وضِيقِ صَدْرِه مِن مَقالَتِهم؛ فكأنَّه قيل: لا تَترُكْ إبلاغَهم بعْضَ ما يُوحَى إليك، ولا يَضِقْ صدْرُك مِن مَقالِهم؛ لأنَّك نذيرٌ، لا وكيلٌ على تَحصيلِ إيمانِهم؛ حتَّى يتَرتَّبَ على يَأسِك مِن إيمانِهم ترْكُ دعوتِهم .
- والقَصْرُ فيه بـ إِنَّمَا قصرٌ إضافيٌّ؛ أي: أنتَ نذيرٌ، لا موكَّلٌ بإيقاعِ الإيمانِ في قُلوبِهم؛ إِذْ ليس ذلك إليكَ بل هو للَّه .
- واقتصَرَ على النِّذارةِ؛ لأنَّ المقامَ يقتضيها؛ من أجلِ أنَّهم أهلٌ لها .
- وجملةُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ تذييلٌ لقولِه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وهي مَعطوفةٌ على جملةِ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ؛ لِما اقتَضاه القَصرُ مِن إبطالِ أن يَكونَ وَكيلًا على إلجائِهم للإيمانِ، ومِمَّا شَمِلَه عُمومُ كُلِّ شَيْءٍ أنَّ اللهَ وكيلٌ على قلوبِ المكذِّبين، وهم المقصودُ، وإنَّما جاء الكلامُ بصِيغةِ العُمومِ؛ لِيَكونَ تَذييلًا، وإتيانًا للغرَضِ بما هو كالدَّليلِ .
- ولَمَّا كان السِّياقُ لإحاطتِه سُبحانه، قدَّمَ قولَه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .
2- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الاستفهامُ إنكاريٌّ  للتَّوبيخِ والإنكارِ والتَّعجُّبِ، والتَّقديرُ: بل أيَقولون: افتَراه؟! والإضرابُ بقولِه: أَمْ إضرابٌ انتِقاليٌّ في قُوَّةِ الاستئنافِ الابتدائيِّ، فلِلجُملَةِ حُكمُ الاستئنافِ، والمناسَبةُ ظاهرةٌ؛ لأنَّ الكلامَ في إبطالِ مَزاعِمِ المشرِكين- فإنَّهم قالوا: هذا كلامٌ مُفتَرًى- وقَرْعِهم بالحُجَّةِ .
- قولُه: بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، مِثْلِه أي: أمثالِه، وعُبِّر بالمُفردِ إمَّا باعتبارِ مُماثَلةِ كلِّ واحدٍ منها، أو لأنَّ المطابقةَ ليسَت بشَرطٍ حتَّى يُوصَف المثنَّى بالمفرَدِ، كما في قولِه تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا، أو للإيماءِ إلى أنَّ وجهَ الشَّبَهِ ومَدارَ المماثلةِ في الجميعِ شيءٌ واحدٌ؛ هو البلاغةُ المؤدِّيةُ إلى مَرتَبةِ الإعجازِ، فكأنَّ الجميعَ واحدٌ .
- وقولُه: مُفْتَرَيَاتٍ صِفةٌ أُخرَى لـ سُوَرٍ، وأُخِّرَت عن وصْفِها بالمماثَلةِ لِما يُوحَى؛ لأنَّ المماثلةَ هي الصِّفةُ المقصودةُ بالتَّكليفِ؛ إذْ بها يَظهَرُ عجزُهم وقُعودُهم عن المعارَضةِ، وأمَّا وصفُ الافتراءِ فلا يتَعلَّقُ به غرَضٌ يَدورُ عليه شيءٌ في مَقامِ التَّحدِّي، وإنَّما ذُكِر على نَهْجِ المُساهَلةِ، وإرخاءِ العِنانِ، ولأنَّه لو عُكِس التَّرتيبُ لرُبَّما تُوُهِّم أنَّ المرادَ هو المماثلةُ في الافتراءِ .
- وجوابُ الشَّرطِ في قولِه: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المذكورِ عليه، وهو قولُه: فَأْتوا بعَشْرِ سُوَرٍ، ووجهُ الملازَمةِ بينَ الشَّرطِ وجَزائِه أنَّه إذا كان الافتراءُ يأتي بهذا القرآنِ؛ فما لكم لا تَفتَرون أنتم مِثلَه، فتَنهَضَ حُجَّتُكم ؟!
3- قولُه تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 
- قولُه: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تفريعٌ على وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، والاستجابةُ: الإجابةُ، والسِّينُ والتَّاءُ فيه للتَّأكيدِ .
- قولُه: لَكُمْ فَاعْلَمُوا فيه جمعُ الخطابِ بعدَ إفرادِه في قولِه: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ؛ إشارةً إلى أنَّ مَعْناه: فإنْ لَم يَستَجيبوا لك وللمُؤمِنين؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والمؤمنين كانوا يَتَحَدَّوْنهم ، أو لأنَّهم أتباعٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأمْرِ بالتَّحدِّي، وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ حقَّهم أنْ لا يَنفَكُّوا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُناصِبوا معه لِمُعارَضةِ المعارِضينَ كما كان يَفعَلونه في الجِهادِ، وإرشادٌ إلى أنَّ ذلك ممَّا يُفيدُ الرُّسوخَ في الإيمانِ، والطُّمأنينةَ في الإيقانِ، ولذلك رُتِّب عليه قولُه عزَّ وجلَّ: فَاعْلَمُوا... .
- وعلى القول بأنَّ المعنى: فإن لم تستَجِبْ لكم آلهتُكم، وسائرُ مَنْ إليهم تَجْأَرون في مُهِمَّاتِكم ومُلِمَّاتِكم إلى المعاوَنةِ والمظاهَرَةِ؛ فاعلَموا أنَّ ذلك خارِجٌ عن دائرةِ قُدْرةِ البشَرِ، وأنَّه مُنزَّلٌ مِن خالِقِ القُوى والقُدَرِ؛ فيكونُ إيرادُ كَلِمةِ الشَّكِّ حينَئذٍ مع الجزْمِ بعدَمِ الاستجابةِ من جِهَةِ آلهتِكم تَهكُّمًا بهم، وتَسجيلًا عليهم بكمالِ سَخافةِ العقلِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا بحَذفِ النُّونِ والجَمعِ، وأمَّا في سورةِ القَصصِ فقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص: 50] على الواحِدِ؛ ووجهُ جمعِ الخِطابِ هاهنا وتوحيدِه في القصَصِ: أنَّ ما في هذه السُّورةِ خِطابٌ للرَّسولِ وللمؤمنِينَ، ويجوز أنْ يكون الجمعُ لتَعظيمِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: لأنَّه خِطابٌ للكفَّارِ، والفعلَ يَعودُ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ- على أحد أوجه التفسير- وأمَّا ما في القَصصِ فهو خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والفِعلُ للكفَّارِ .
- والفاءُ في فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للتَّفْريعِ على فَاعْلَمُوا، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في الحثِّ على الفعلِ وعدَمِ تأخيرِه، والمعنى: فهل تُسْلِمون بعدَ تَحقُّقِكم أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ اللهِ ؟ وقيل: قَولُ الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: أسلِموا، وفي مثلِ هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ؛ لِما فيه مِن معنى الطَّلَبِ، والتنبيهِ على قيامِ المُوجِبِ، وزوالِ العُذرِ .
- وجِيءَ بالجملةِ الاسميَّةِ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الدَّالةِ على دَوامِ الفعلِ وثَباتِه؛ لِتَأكيدِ الطَّلَبِ لهذا الوصفِ؛ فإنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أدَلُّ على حُصولِ المطلوبِ وثُبوتِه، وهو أدَلُّ على طلَبِه، ولَم يَقُلْ: (فهَل تُسلِمون)؛ لأنَّ حالةَ عدَمِ الاستجابةِ تُكسِبُ اليقينَ بصِحَّةِ الإسلامِ، فتَقْتَضي تَمكُّنَه مِن النُّفوسِ، وذلك التَّمكُّنُ تَدُلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ .