موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (124-128)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّه إنَّما جعَلَ تَعظيمَ يومِ السَّبتِ- بالتفَرُّغِ للعبادةِ فيه، وتركِ العملِ- عقوبةً على اليَهودِ حينَ اختَلَفوا في استِحلالِه وتَحريمِه، واعتبارِه أفضَلَ الأيَّامِ، وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَيَحكُمُ بين المُختَلِفينَ يومَ القيامةِ فيما اختَلَفوا فيه، ويُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّه.
 ثمَّ يأمرُ الله نبيَّه بالدعوة إلى دينِه، قائلًا له: ادعُ- يا مُحَمَّدُ- إلى دينِ رَبِّك بالحكمةِ، وبالموعظة الحسنة التي ترَقِّقُ القلوبَ، وتهَذِّبُ النُّفوسَ، وجادِلْهم بأحسَنِ طُرُقِ المُجادَلةِ مِن الرِّفقِ واللِّينِ؛ إنَّ اللهَ أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن سَبيلِه، وهو أعلَمُ بالمُهتَدينَ.
ثمَّ بيَّن تعالى ما ينبغي على المسلمِ أن يفعلَه في حالةِ الاعتداءِ عليه، ومحاربةِ دعوتِه، فقال: وإنْ أردتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- مُعاقَبةَ من اعتَدى عليكم، فلا تَزيدوا عَمَّا فَعَلوه بكم، ولَئِنْ صَبَرتُم لَهو خَيرٌ لكم عند الله، واصبِرْ- يا مُحمَّدُ- على الدَّعوةِ وما يترتَّبُ عليها من أذًى في اللهِ، وما صَبرُك إلَّا باللهِ؛ فهو الذي يُعينُك عليه ويوفِّقُك، ولا تَحزَنْ على مَن كفَرَ ولم يَستَجِبْ لِدَعوتِك، ولا تغتَمَّ مِن تكذيبِهم ومَكْرِهم؛ فإنَّ اللهَ ناصِرُك عليهم، إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى مع الذينَ اتَّقَوه ومع المُحسِنين بِعَونِه وتَوفيقِه ونصرِه وتأييدِه.

تفسير الآيات:

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ مَوقِعَ هذه الآيةِ يُنادي على أنَّها تضَمَّنَت معنًى يَرتَبِطُ بمِلَّةِ إبراهيمَ وبمَجيءِ الإسلامِ على أساسِها؛ فلَمَّا نَفَت الآيةُ قبلَ هذه أن يكونَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مِن المُشرِكينَ؛ ردًّا على مَزاعِمِ العَرَبِ المُشرِكينَ أنَّهم على مِلَّةِ إبراهيمَ؛ انتقَلَ بهذه المُناسَبةِ إلى إبطالِ ما يُشبِهُ تلك المزاعِمَ، وهي مَزاعِمُ اليَهودِ أنَّ مِلَّةَ اليَهوديَّةِ هي مِلَّةُ إبراهيمَ [1451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/321). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ مِلَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وكان الرَّسولُ قد هداه الله إلى يومِ الجُمُعةِ، فدَلَّ ذلك على أنَّه كان في شَرعِ إبراهيمَ، بيَّنَ أنَّ يومَ السَّبتِ لم يكُنْ تَعظيمُه واتِّخاذُه للعبادةِ مِن شَرعِ إبراهيمَ ولا دينِه [1452] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/611). .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أي: إنَّما فُرِضَ تَعظيمُ يومِ السَّبتِ على اليَهودِ، وتَرْكُ العَمَلِ فيه، والتفَرُّغُ للعبادةِ؛ تَغليظًا عليهم، وعُقوبةً لهم حين اختَلَفوا في استِحلالِ يومِ السَّبتِ وتَحريمِه، واعتبارِه أفضَلَ الأيَّامِ، فَضلُّوا عن يومِ الجُمُعةِ، وبَدَّلوا به يومَ السَّبتِ، ولم يكُنْ في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ تَعظيمُ ذلك اليَومِ [1453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/398)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 623)، ((تفسير ابن عطية)) (3/431)، ((تفسير القرطبي)) (10/199)، ((تفسير البيضاوي)) (3/245)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((نحنُ الآخِرونَ السَّابِقونَ يومَ القِيامةِ، بَيْدَ [1454] بَيْدَ: أي: غيرَ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/171). أنَّهم أُوتوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، ثمَّ هذا يَومُهم الذي فُرِضَ عليهم، فاختَلَفوا فيه، فهَدانا اللهُ؛ فالنَّاسُ لنا فيه تَبَعٌ: اليَهودُ غَدًا، والنَّصارى بعدَ غَدٍ )) [1455] رواه البخاري (876) واللفظ له، ومسلم (855). .
وعن أبي هُريرةَ وحُذيفةَ رَضِيَ الله عنهما، قالا: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أضَلَّ اللهُ عن الجُمُعةِ مَن كان قَبْلَنا، فكان لليَهودِ يومُ السَّبتِ، وكان للنَّصارى يومُ الأحَدِ، فجاء اللهُ بنا، فهدانا اللهُ لِيَومِ الجُمُعةِ، فجعَلَ الجُمعةَ والسَّبتَ والأحدَ، وكذلك هم تبَعٌ لنا يومَ القيامةِ، نحنُ الآخِرونَ مِن أهلِ الدُّنيا، والأوَّلونَ يومَ القيامةِ، المَقضيُّ لهم قَبلَ الخلائِقِ )) [1456] رواه مسلم (856). .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَيَحكُمُ يومَ القيامةِ بينَ أولئك المُختَلِفينَ في الدُّنيا في شأنِ استِحلالِ يومِ السَّبتِ أو تَحريمِه، فيُبَيِّنُ لهم المُحِقَّ مِن المُبطِلِ، ويُجازي كلًّا منهم بما يستَحِقُّه مِن ثوابٍ أو عِقابٍ [1457] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/400)، ((تفسير الرازي)) (20/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] .
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ بَيَّنَ الشَّيءَ الذي أمَرَه بمُتابَعتِه فيه، فقال تعالى [1458] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/286). :
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
أي: ادعُ- يا محمدُ- جميعَ الناسِ إلى دينِ ربِّك بما أوحاه الله إليك مِن الكتابِ والسنةِ، وانصحْهم بما في وحْي الله إليك مِن العبرِ الجميلةِ، وذكِّرْهم بنعمِ الله تعالى ونقمِه وثوابِه وعقابِه بما يستحسنُه السامعون فترقُّ قلوبُهم، ويلينونَ للحقِّ، فيقبلونَه، ويفعلونَ ما أمَرهم الله به، وينتهونَ عمَّا نهاهم عنه [1459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/400)، ((تفسير البيضاوي)) (3/245)، ((تفسير ابن كثير)) (4/613)، ((تفسير الشوكاني)) (3/242). قال السَّعدي: (أي: ليكُن دعاؤك للخلقِ؛ مُسلمِهم وكافِرِهم، إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ المستقيمِ المشتمِلِ على العلمِ النافعِ والعمَلِ الصالحِ بِالْحِكْمَةِ أي: كلُّ أحدٍ على حسَبِ حالِه وفهمِه، وقولِه وانقيادِه، ومن الحكمةِ الدعوةُ بالعلمِ لا بالجهلِ، والبداءةُ بالأهمِّ فالأهمِّ، وبالأقربِ إلى الأذهانِ والفهمِ، وبما يكون قبولُه أتَمَّ، وبالرِّفقِ واللينِ، فإن انقاد بالحِكمة وإلَّا فينتَقِل معه بالدعوةِ بالموعظةِ الحسنةِ، وهو الأمرُ والنهيُ المقرونُ بالترغيبِ والترهيب؛ إمَّا بما تشتَمِلُ عليه الأوامِرُ من المصالحِ وتَعدادِها، والنَّواهي من المضارِّ وتعدادِها، وإمَّا بذِكرِ إكرامِ من قام بدينِ الله، وإهانةِ مَن لم يقُمْ به، وإمَّا بذكر ما أعدَّ الله للطائعين من الثَّوابِ العاجلِ والآجلِ، وما أعدَّ للعاصين من العقابِ العاجِلِ والآجلِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 452). وقال البيضاوي: (فالأُولَى لدعوةِ خواصِّ الأمةِ الطالبينَ للحقائقِ، والثانيةُ لدعوةِ عوامِّهم. وَجَادِلْهُمْ: وجادِلْ معانديهم). ((تفسير البيضاوي)) (3/245). وقال ابنُ تيميةَ: (النوعُ الأكملُ مِن الناسِ مَن يعرِفُ الحقَّ، ويعملُ به، فيُدْعَوْن بالحكمةِ، والثاني: مَن يعرِفُ الحقَّ، لكن تخالفُه نفسُه، فهذا يُوعَظُ الموعظةَ الحسنةَ، فهاتان هما الطريقانِ: الحكمةُ والموعظةُ، وعامَّةُ الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإنَّ النفسَ لها أهواءٌ تدعوها إلى خلافِ الحَقِّ وإن عرَفَتْه، فالنَّاسُ يحتاجون إلى الموعظةِ الحسنةِ وإلى الحِكمةِ، فلا بدَّ مِن الدَّعوةِ بهذا وهذا). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 468). .
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
أي: وجادِلْ المُعانِدينَ بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ طُرُقِ المُجادَلةِ؛ مِن الرِّفقِ واللِّينِ، وحُسنِ الخِطابِ، والعَفوِ والصَّفحِ، وغيرِ ذلك مِمَّا يكون أدعى للاستجابةِ والقَبولِ [1460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/400)، ((تفسير البيضاوي)) (3/245)، ((تفسير ابن كثير)) (4/613)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). قال السَّعدي: (فإن كان المَدعوُّ يرى أنَّ ما هو عليه حَقٌّ، أو كان داعِيةً إلى الباطِلِ، فيُجادَلُ بالتي هي أحسَنُ، وهي الطُّرُقُ التي تكون أدعى لاستجابتِه عَقلًا ونَقلًا؛ ومن ذلك الاحتجاجُ عليه بالأدِلَّةِ التي كان يعتَقِدُها؛ فإنَّه أقرَبُ إلى حُصولِ المَقصودِ، وألَّا تؤدِّيَ المُجادَلةُ إلى خِصامٍ أو مُشاتَمةٍ تَذهَبُ بمَقصودِها، ولا تَحصُلُ الفائِدةُ منها، بل يكونُ القَصدُ منها هِدايةَ الخَلقِ إلى الحَقِّ، لا المُغالبةَ ونَحوَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
كما قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
أي: إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن زاغَ عن طَريقِ اللهِ، فلم يتَّبِعْ دِينَه، كالذين اختَلَفوا في السَّبتِ، وسيُجازِيه على عَمَلِه [1461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/401)، ((تفسير السمرقندي)) (2/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/465، 466). .
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
أي: وربُّك أعلَمُ بالمُهتَدينَ لِدِينِه، الذينَ اتَّبَعوا الحَقَّ، وسيُجازيهم على أعمالِهم [1462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/401)، ((تفسير السمرقندي)) (2/297)، ((تفسير الشوكاني)) (3/242). قال البيضاوي: (أي: إنَّما عليك البلاغُ والدَّعوةُ، وأمَّا حُصولُ الهدايةِ والضَّلالِ، والمُجازاةُ عليهما، فلا إليك، بل اللهُ أعلَمُ بالضَّالِّينَ والمُهتَدينَ، وهو المُجازي لهم). ((تفسير البيضاوي)) (3/245). وقال ابن كثير: (قولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: قد عَلِمَ الشَّقيَّ منهم والسعيدَ، وكتب ذلك عنده وفَرَغ منه؛ فادعُهم إلى الله، ولا تذهَبْ نفسُك على من ضَلَّ منهم حسراتٍ؛ فإنَّه ليس عليك هداهم، إنَّما أنت نذيرٌ عليك البلاغُ، وعلينا الحِسابُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/613). وقال السعدي: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عَلِمَ أنَّهم يَصلُحونَ للهدايةِ فهداهم، ثمَّ مَنَّ عليهم فاجتباهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم: 30] .
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أمَرَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يدعُوَ الخَلْقَ إلى الدِّينِ الحَقِّ بأحَدِ الطُّرُقِ الثَّلاثةِ، وهي: الحِكمةُ، والمَوعِظةُ الحَسَنةُ، والجِدالُ بالطَّريقِ الأحسَنِ، ثمَّ إنَّ تلك الدَّعوةَ تتضَمَّنُ أمْرَهم بالرُّجوعِ عن دينِ آبائِهم وأسلافِهم، وبالإعراضِ عنه، والحُكمَ عليه بالكُفرِ والضَّلالةِ، وذلك مِمَّا يُشَوِّشُ القُلوبَ، ويُوحِشُ الصُّدورَ، ويَحمِلُ أكثَرَ المُستَمِعينَ على قَصدِ ذلك الدَّاعي بالقَتلِ تارةً، وبالضَّربِ ثانيًا، وبالشَّتمِ ثالثًا، ثمَّ إنَّ ذلك المُحِقَّ إذا شاهَدَ تلك السَّفاهاتِ، وسَمِعَ تلك المُشاغَباتِ، لا بُدَّ أن يَحمِلَه طَبعُه على تأديبِ أولئك السُّفَهاءِ؛ تارةً بالقَتلِ، وتارةً بالضَّربِ، فعند هذا أمَرَ المُحِقِّينَ في هذا المقامِ برِعايةِ العَدلِ والإنصافِ وتَركِ الزِّيادةِ [1463] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/288). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا كانَ يومُ أحُدٍ، أُصيبَ منَ الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّونَ رجُلًا، ومنَ المُهاجرينَ ستَّةٌ فيهم حَمزةُ، فمَثَّلوا بِهم، فقالتِ الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منْهم يومًا مثلَ هذا لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قالَ: فلمَّا كانَ يومُ فتحِ مَكَّةَ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقالَ رجلٌ: لا قُرَيشَ بعدَ اليومِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم: كُفُّوا عنِ القَومِ إلَّا أربَعةً)) [1464] أخرجه الترمذي (3129)، وأحمد (21267). قال الترمذي: (حسنٌ غريبٌ مِن حديث أُبَيٍّ)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3129): (حسنٌ صحيحُ الإسنادِ)، وحسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((مسند أحمد)) (5/135). قال ابنُ عطية: (أطبق أهلُ التَّفسيرِ أنَّ هذه الآيةَ مَدَنيَّةٌ نزَلَت في شأنِ التَّمثيلِ بحَمزةَ في يومِ أحُدٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/432). .
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.
أي: وإنْ عاقَبْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- مَن اعتَدى عليكم بقَولٍ أو بفِعلٍ؛ فعاقِبوه بمِثلِ ما ظلَمَكم به، مِن غَيرِ زِيادةٍ [1465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/401)، ((تفسير ابن كثير)) (4/613)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
كما قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
وقال سُبحانَه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أباح لهم دَرَجةَ العَدل؛ رقَّاهم إلى رُتبةِ الإحسانِ، بقَولِه تعالى [1466] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/282). :
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
أي: ولَئِنْ صَبَرْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- عن عُقوبةِ مَن اعتدى عليكم، فعَفَوتُم عنهم؛ فذلك الصَّبرُ خَيرٌ عندَ اللهِ للصَّابِرينَ مِن الانتِقامِ والانتِصارِ [1467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/401، 402)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/282)، ((تفسير الشوكاني)) (3/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). .
كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40-43] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وما زاد اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا ) ) [1468] رواه مسلم (2588). .
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما خُيِّر المخاطبون في المعاقبةِ والصبرِ عنها؛ عزَم على الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الذي هو خيرٌ، وهو الصبرُ [1469] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/614). .
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.
أي: واصبِرْ- يا مُحَمَّدُ- على دَعوةِ قَومِك إلى اللهِ، وتحَمَّلْ ما يُصيبُك مِن أذاهم، وما يَحصُلُ صَبْرُك إلَّا بإعانةِ اللهِ وتَوفيقِه لك إلى ذلك [1470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/407)، ((تفسير ابن كثير)) (4/615)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/337)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/468). .
كما قال تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس: 109] .
وقال سُبحانَه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] .
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان- بعدَ تَوطينِ النَّفسِ على الصَّبرِ، وتَفريغِ القَلبِ مِن الإحْنةِ [1471] الإحنَةُ: الحقدُ والغضبُ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (34/158). - يَرجِعُ إلى الأسفِ على إهلاكِهم أنفُسَهم بتَماديهم على العُتُوِّ على اللهِ تعالى، قال سُبحانَه [1472] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/284). :
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
أي: ولا تَحزَنْ على قَومِك إذا لم يُؤمِنوا بما جِئتَهم به، وأعْرَضوا عن دَعْوتِك [1473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/407)، ((تفسير ابن كثير)) (4/615)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/337). .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .
وقال سُبحانَه: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] .
وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.
أي: ولا يَضِقْ صَدْرُك فتَغْتَمَّ بسَبَبِ مَكرِ قَومِك بك، وتَكذيبِهم وعَداوتِهم لك، واحْتيالِهم بالخُدَعِ للصَّدِّ عما جِئْتَهم به من الحَقِّ؛ فإنَّ اللهَ ناصِرُك عليهم، ومُظهِرٌ دِينَه [1474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/407)، ((تفسير الخازن)) (3/108)، ((تفسير ابن كثير)) (4/615). .
كما قال تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل: 70] .
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ الله تعالى بالاقتصارِ على قَدرِ الجُرمِ في العُقوبةِ، ورَغَّبَ في الصَّبرِ على الأذى، والعَفوِ عن المُعتَدينَ، وخَصَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ، والاستعانةِ على تحصيلِه بمَعونةِ اللهِ تعالى، وصَرْف الكَدَرِ عن نفسِه مِن جَرَّاءِ أعمالِ الذين لم يُؤمِنوا به؛ عَلَّلَ ذلك كُلَّه بأنَّ اللهَ مع الذينَ يتَّقونَه فيَقِفونَ عند ما حَدَّ لهم، ومع المحسِنينَ [1475] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/338). .
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.
أي: إنَّ اللهَ بنَصْرِه وتأييدِه ومَعونَتِه مع الذين اتَّقَوه، فاجتَنَبوا نواهِيَه [1476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/409)، ((تفسير القرطبي)) (10/203)، ((تفسير ابن كثير)) (4/615)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/468). .
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
أي: ومع المُحسِنينَ في عبادةِ اللهِ، المُحسِنينَ إلى عِبادِ اللهِ، يُعينُهم ويُؤَيِّدُهم ويَنصُرُهم [1477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/409)، ((تفسير ابن عطية)) (3/433)، ((تفسير ابن كثير)) (4/615)، ((تفسير السعدي)) (ص: 452). قال الماوَرديُّ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ: اتَّقَوْا يعني: فيما حَرَّمَ الله عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فيما فرَضَه اللهُ تعالى، فجَمَعَ في هذه الآيةِ اجتِنابَ المعاصي، وفِعلَ الطَّاعاتِ). ((تفسير الماوردي)) (3/222). .
كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .
وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه في حديثِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، قال: ((فأخبِرْني عن الإحسانِ، قال: أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه، فإنَّه يراك) ) [1478] رواه مسلم (8). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُرْبةً مِن كُرَبِ الدُّنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً مِن كُرَبِ يومِ القِيامةِ، ومَن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخرةِ، ومَن ستَرَ مُسلِمًا ستَرَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيه )) [1479] رواه مسلم (2699). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ حُجَّةٌ في تَركِ الغِلظةِ والخُرقِ [1480] الخُرقُ: الحُمْقُ وسُوءُ التصَرُّفِ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (25/228). عند الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، واستِعمالِ اللِّينِ واللُّطفِ فيهما؛ لأنَّه أجدَرُ أن يَلينَ له قَلبُ المأمورِ، وأحرى أن تَصِلَ المَوعِظةُ إليه [1481] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/105). .
2- في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ذكَرَ سُبحانَه مَراتِبَ الدَّعوةِ وجعَلَها ثلاثةَ أقسامٍ؛ فإنه: إمَّا أن يكونَ طالبًا للحَقِّ راغبًا فيه، مُحِبًّا له، مُؤثِرًا له على غَيرِه إذا عَرَفَه؛ فهذا يُدعى بالحِكمةِ ولا يَحتاجُ إلى مَوعِظةٍ ولا جِدالٍ، وإمَّا أن يكونَ مُعرِضًا مُشتغِلًا بضدِّ الحَقِّ؛ ولكنْ لو عَرَفه آثَرَه واتَّبَعه؛ فهذا يحتاجُ مع الحِكمةِ إلى المَوعِظةِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وإمَّا أن يكونَ مُعانِدًا مُعارِضًا؛ فهذا يُجادَلُ بالتي هي أحسنُ [1482] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1276)، ويُنظر أيضًا: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 468).
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فيه الحثُّ على الإنصافِ في المُناظَرةِ، واتِّباعِ الحَقِّ [1485] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 165). .
4- قال الله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ أنَّ مَن لا يَستَطيعُ المُجادَلةَ بالتي هي أحسَنُ؛ فلا يُجادِلْ [1486] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/77). !
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، هذا تَصريحٌ بأنَّ الأَولَى تَرْكُ ذلك الانتقامِ [1487] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/289). ، فقد أباح لهم سُبحانَه وتعالى إذا عاقَبوا الظَّالِمَ أن يُعاقِبوه بمِثْلِ ما عاقَبَ به، ثمَّ قال سُبحانَه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، فعُلِمَ أنَّ الصَّبرَ عن عُقوبتِه بالمِثلِ خَيرٌ مِن عُقوبتِه [1488] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/362). .
6- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ لَمَّا كان الصَّبرُ في هذا المقامِ شاقًّا شديدًا؛ ذكَرَ بَعدَه ما يُفيدُ سُهولتَه، فقال: وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، أي: بتَوفيقِه ومَعونتِه، وهذا هو السَّبَبُ الكُلِّيُّ الأصليُّ المُفيدُ في حُصولِ الصَّبرِ، وفي حُصولِ جميعِ أنواعِ الطَّاعاتِ [1489] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/289). .
7- الدَّاعيةُ إلى اللهِ لا يَضُرُّه ألَّا يَقبَلَ النَّاسُ منه؛ لأنَّه أدَّى الواجِبَ، وينبغي أن يُفَرِّحَ نفسَه بأنَّه أدَّى الواجِبَ، وألَّا يَحزَنَ بعَدَمِ قَبولِهم دعوتَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [1491] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/361). .
8- الحزنُ لم يأمُرِ الله به ولا رسولُه، بل قد نهَى عنه في مواضعَ، وإنْ تعلَّقَ أمرُ الدِّينِ به، كقولِه تعالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وقولِه: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران : 139] ، وقولِه: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] ، وأمثالُ ذلك كثيرةٌ، وذلك أنَّه لا يجلبُ منفعةً، ولا يدفعُ مضرَّةً، ولا فائدةَ فيه، وما لا فائدةَ فيه لا يأمرُ الله به. نَعمْ لا يأثمُ صَاحبُه إذا لم يقترِنْ بحزنِه محرَّمٌ، كما يحزنُ على المصائبِ، وقد يقترنُ بالحزنِ ما يُثابُ صاحبُه عليه، ويُحمدُ عليه، ويكونُ محمودًا مِن تلك الجهةِ لا مِن جهةِ الحزنِ، كالحزينِ على مُصيبةٍ في دينِه، وعلى مصائبِ المسلمينَ عُمُومًا، فهذا يُثابُ على ما في قلبِه مِن حبِّ الخيرِ، وبُغضِ الشَّرِّ، وتوابعِ ذلك [1492] يُنظر: ((التحفة العراقية)) لابن تيمية (ص: 42). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا إشارةٌ إلى التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ تعالى، وقَولُه: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إشارةٌ إلى الشَّفَقةِ على خَلقِ اللهِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ كَمالَ السَّعادةِ للإنسانِ في هَذينِ الأمرينِ: التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ تعالى، والشَّفَقةِ على خَلقِ اللهِ [1493] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/290). .
10- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فيه أنَّه ينبغي الحِرصُ على الإحسانِ والتَّقوى؛ فإنَّ كلَّ إنسانٍ يُحِبُّ أن يكونَ اللهُ معه [1494] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/415). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ شَدَّدَ عليهم في أمْرِه؛ انتقامًا منهم بما تُفهِمُه التَّعديَةُ بـ (على)، فكان ذلك وَبالًا عليهم، وفي ذلك تذكيرٌ بنِعمةِ التَّيسيرِ علينا [1495] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/276). .
2- في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ أضاف سُبحانَه السَّبيلَ إلى نفْسِه؛ لسَبَبينِ:
السَّببُ الأولُ: أنَّه هو الذي وَضَعَها للعِبَادِ؛ ودَلَّهم عليها.
السَّببُ الثاني: أنَّها مُوصِلةٌ إليه، فلا شيءَ يُوصِلُ إلى اللهِ إلَّا سَبيلُ اللهِ التي شَرَعَها لعبادِه على ألسِنةِ رُسُلِه صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهم [1496] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/350). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قُيِّدت الموعِظةُ بالحَسَنةِ ولم تُقيَّدِ الحِكمةُ بمِثلِ ذلك؛ لأنَّ الموعظةَ لَمَّا كان المقصودُ منها- غالبًا- ردعَ نَفسِ الموعوظِ عن أعمالِه السيِّئةِ، أو عن توقُّعِ ذلك منه؛ كانت مَظِنَّةً لصدور غِلظةٍ مِن الواعِظِ ولحصولِ انكسارٍ في نفسِ الموعوظ- أرشد اللهُ رسولَه أن يتوخَّى في الموعظةِ أن تكونَ حَسنةً، أي: بإلانةِ القولِ، وترغيبِ الموعوظِ في الخيرِ؛ قال تعالى خطابًا لِموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44] . وأمَّا الحِكمةُ فهي تعليمٌ لِمُتطلِّبي الكمالِ مِن معلِّمٍ يهتَمُّ بتعليمِ طُلَّابه، فلا تكونُ إلَّا في حالةٍ حَسَنةٍ، فلا حاجةَ إلى التنبيهِ على أن تكونَ حَسَنةً [1497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/329). ، فوَصفُ الحُسنِ لها ذاتيٌّ، وأمَّا المَوعِظةُ فقَيَّدَها بوَصفِ الإحسانِ؛ إذ ليس كُلُّ مَوعِظةٍ حَسَنةً، وكذلك الجدَلُ قد يكونُ بالتي هي أحسَنُ، وقد يكونُ بغيرِ ذلك، وهذا يحتَمِلُ أن يَرجِعَ إلى حالِ المُجادِلِ وغِلظَتِه، ولِينِه وحِدَّتِه ورِفقِه، فيكونُ مأمورًا بمُجادلتِهم بالحالِ التي هي أحسَنُ، ويحتَمِل أن يكونَ صِفةً لِما يُجادِلُ به مِن الحُجَجِ والبراهينِ، والكَلِماتِ التي هي أحسَنُ شَيءٍ وأبيَنُه، وأدَلُّه على المقصودِ، وأوصَلُه إلى المطلوبِ، والتَّحقيقُ: أنَّ الآيةَ تتناوَلُ النَّوعَينِ [1498] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/444). .
4- قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، المُجادَلةُ لَمَّا كانت مُحاجَّةً في فِعلٍ أو رأيٍ لِقَصدِ الإقناعِ بوَجهِ الحَقِّ فيه، فهي لا تعدو أن تكونَ مِن الحِكمةِ أو مِنَ المَوعِظةِ، ولكِنَّها جُعِلَت قَسيمًا لهما هنا بالنَّظَرِ إلى الغَرَضِ الدَّاعي إليها [1499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/329). .
5- قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، الجدَلُ لا يُدْعَى به، بل هو من بابِ دفعِ الصائِلِ، فإذا عارض الحقَّ معُارِضٌ جودِلَ بالتي هي أحسَنُ، ولهذا قال: وَجَادِلْهُمْ فجعَله فعلًا مأمورًا به، مع قولِه: ادْعُهم؛ فأمَره بالدعوةِ بالحكمةِ، والموعظةِ الحسنةِ، وأمَره أن يجادلَ بالتي هي أحسنُ، وقال في الجدالِ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ولم يقُلْ: بالحسنةِ، كما قال في الموعظةِ؛ لأنَّ الجدالَ فيه مدافعةٌ ومغاضبةٌ، فيحتاجُ أنْ يكونَ بالتي هي أحسنُ حتى يُصْلِحَ ما فيه مِن الممانعةِ والمدافعةِ، والموعظةُ لا تُدافَعُ كما يُدافَعُ المُجادِلُ! فما دام الرجلُ قابلًا للحكمةِ أو الموعظةِ الحسنة أو لهما جميعًا لم يُحْتَجْ إلى مجادلةٍ، فإذا مانَعَ فإنَّه يُجادَلُ بالتي هي أحسنُ [1500] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 468). .
6- قال الله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ليس مِن الأحسنِ أن ندفَعَ الباطِلَ بالباطِلِ، أو أن نَرُدَّ ما عَلِمْناه بالفِطرةِ والضَّرورةِ لِظَنِّنا أنَّ المُبطِلَ يَدفَعُ به الحَقَّ [1501] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/395). .
7- الجِدالُ قد يكونُ واجِبًا أو مُستحَبًّا، كما قال تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،  وقد يكونُ الجِدالُ مُحَرَّمًا في الحجِّ وغيرِه، كالجِدالِ بغيرِ عِلمٍ، وكالجِدالِ في الحقِّ بعدَ ما تبيَّنَ [1502] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (26/107)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/156). ، وقد دلَّت الآيةُ على أنَّ المناظرةَ والمجادلةَ في العلمِ جائزةٌ، إذا قُصِد بها إظهارُ الحقِّ [1503] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/297). .
8- قال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ هذه الآيةُ الكريمةُ لها أمثالٌ في القُرآنِ؛ فإنَّها مشتملةٌ على مشروعيَّةِ العدلِ، والنَّدبِ إلى الفضلِ، كما في قولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ثمَّ قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وقال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ثمَّ قال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] ، وقال في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ثمَّ قال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [1504] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/615). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ في هذه الآيةِ دَليلٌ على جَوازِ التَّماثُلِ في القِصاصِ؛ فمَن قَتَلَ بحَديدةٍ قُتِلَ بمِثْلِها، ومَن قَتَل بحَجَرٍ قُتِلَ بمِثْلِه، ولا يتعَدَّى قَدرَ الواجِبِ، وذلك خِلافًا لِمَن قال: لا قَوَدَ إلَّا بالسَّيفِ [1505] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (12/189)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص:165). ، فالآيةُ تدلُّ على مُراعاةِ المُماثَلةِ في القِصاصِ، وعلى وُجوبِ المِثْلِ في المِثْليَّاتِ [1506] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:165). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، يُستَدَلُّ به لمسألةِ الظَّفَرِ [1507] مسألةُ الظفرِ: هو أن يكونَ الرجلُ له حقٌّ عندَ غيرِه، ويستطيعَ أخذَه، فيأخُذه ويظفَر به. يُنظر في تفصيلِ المسألةِ: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/156) . ، وقد سُئِلَ النَّخعيُّ عن الرَّجُلِ يخونُ الرَّجُلَ ثمَّ يقَعُ له في يَدِه الدَّراهِمُ، قال: إن شاء أخذَ مِن دراهِمِه بمِثلِ ما خانه، ثمَّ قرأ هذه الآيةَ [1508] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:165). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ أنَّه إذا ردَّ الإنسانُ على مَن ظَلَمه بمثلِ مظلِمتِه؛ فإنَّه لا يكونُ آثِمًا، بل هو عادِلٌ [1509] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/445). .
12- قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ... هذه الآيةُ مُتَّصِلةٌ بما قَبلَها أتَمَّ اتِّصالٍ، وحَسبُك وجودُ العاطِفِ فيها. وهذا تدَرُّجٌ في رُتَبِ المُعاملةِ مِن مُعاملةِ الذين يُدعونَ ويُوعَظونَ إلى مُعاملةِ الذين يُجادَلونَ، ثمَّ إلى مُعاملةِ الذين يُجازَونَ على أفعالِهم، وبذلك حصَلَ حُسنُ التَّرتيبِ في أُسلوبِ الكَلامِ [1510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/335). .
13- في قَولِه تعالى: وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ دليلٌ على أنَّ الاستطاعةَ، وإنْ كانت مَنسوبةً إلى العَبدِ، فالمَعونةُ عليها مِن عندِ اللهِ سُبحانَه [1511] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصَّاب (2/106). .
14- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ هذه مَعيَّةٌ خاصَّةٌ تختَصُّ بالرُّسُلِ وأتباعِهم، وهي تقتضي مع الإحاطةِ النصرَ والتَّأييدَ [1512] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/282). .
15- قَرْنُ قَولِه تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ بقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وإخبارُهم بأنَّ اللهَ معهم؛ يُوجِبُ زوالَ الضِّيقِ مِن مَكرِ عَدُوِّهم [1513] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/464). .
16- سورةُ (النَّحل): افتُتِحَت بالنَّهيِ عن الاستِعجالِ، فقال اللهُ تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وخُتِمَت بالأمرِ بالصَّبرِ، فقال سُبحانه وتعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [1514] يُنظر: ((مراصد المطالع)) للسيوطي (ص: 53). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- قولُه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا، نشَأ عن قولِه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا؛ إذْ يُثيرُ سُؤالًا مِن المخالِفينَ: كيف يكونُ الإسلامُ مِن مِلَّةِ إبراهيمَ؟ ولعَلَّ اليهودَ شغَّبوا على المسلِمين بِجَعْلِ يومِ الجُمعةِ اليومَ المقدَّسَ عِندَهم؛ فكان قولُه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيانًا لِجَوابِ هذا السُّؤالِ. وقد وقَعَتْ هذه الجملةُ مُعترِضةً بينَ جُملةِ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وجملةِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...؛ ولذلك افتُتِحَت الجملةُ بأداةِ الحَصرِ إِنَّمَا؛ إشعارًا بأنَّها لِقَلْبِ ما ظَنَّه السَّائِلون المشغِّبون [1515] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/322). .
- وفي قولِه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ إيرادُ الفِعلِ جُعِلَ مبنيًّا للمفعولِ؛ جَريًا على سَنَنِ الكِبْرياءِ، وإيذانًا بعدَمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بالفاعلِ؛ لاستحالةِ الإسنادِ إلى الغيرِ، وإنَّما عبَّر عن ذلك بالجَعْلِ مَوصولًا بكلمةِ عَلَى، وعنهم بالاسْمِ الموصولِ باختلافِهم: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ للإيذانِ بتَضمُّنِه للتَّشديدِ والابتلاءِ المؤدِّي إلى العذابِ [1516] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/150). .
2- قَولُه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
- قولُه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ: في مُخاطَبةِ اللهِ رَسولَه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بهذا الأمرِ في حينِ أنَّه داعٍ إلى الإسلامِ، ومُوافِقٌ لأصولِ مِلَّةِ إبراهيمَ: دليلٌ على أنَّ صيغةَ الأمرِ مُستعمَلةٌ في طلَبِ الدَّوامِ على الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، معَ ما انْضَمَّ إلى ذلك مِن الهدايةِ إلى طَرائقِ الدَّعوةِ إلى الدِّينِ؛ فتضَمَّنَت هذه الآيةُ تَثبيتَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على الدَّعوةِ، وألَّا يُؤيِسَه قولُ المُشرِكينَ له: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] ، وقولُهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [1517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/325). [النحل: 103] .
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تعليلٌ للأمرِ بالاستمرارِ على الدَّعوةِ، بعدَ الإعلامِ بأنَّ الَّذين لا يُؤمِنون بآياتِ اللهِ لا يَهْديهِم اللهُ، وبعدَ وصْفِ أحوالِ تَكذيبِهم وعِنادِهم، ثمَّ أتبَعَ ذلك بالعِلمِ بالمهتَدِينَ على وجهِ التَّكميلِ، وفيه: إيماءٌ إلى أنَّه لا يَدْري أن يَكونَ بعضُ مَن أيِسَ مِن إيمانِه قد شرَح اللهُ صدْرَه للإسلامِ بعدَ اليأسِ مِنه [1518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/332- 333). .
- وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فيه تأكيدُ الخبَرِ بضميرِ الفَصلِ هُوَ؛ للاهتِمامِ به، وأمَّا إِنَّ فهي في مَقامِ التَّعليلِ ليسَت إلَّا لِمُجرَّدِ الاهتمامِ، وهي قائمةٌ مَقامَ فاءِ التَّفريعِ؛ فإنَّ إفادتَها التَّأكيدَ هنا مُستَغنًى عنها بوُجودِ ضَميرِ الفصلِ في الجملةِ المفيدةِ لقَصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ؛ فإنَّ القصرَ تأكيدٌ على تأكيدٍ [1519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/333). .
- وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فيه تقديمُ مَن ضلَّ على المهتَدينَ؛ لأنَّ مَساقَ الكلامِ لهم، وإيرادُ الضَّلالِ بصيغةِ الفِعلِ ضَلَّ الدَّالِّ على الحدوثِ؛ لأنَّه تغييرٌ لفطرةِ اللهِ الَّتي فطَر النَّاسَ عليها وإعراضٌ عن الدَّعوةِ، وذلك أمرٌ عارِضٌ، بخلافِ الاهْتِداءِ الَّذي هو عبارةٌ عن الثَّباتِ على الفِطْرةِ، والجرَيانِ على مُوجِبِ الدَّعوةِ؛ ولذلك جِيءَ به على صيغةِ الاسْمِ الْمُهْتَدِينَ المنبِئِ عن الثَّباتِ [1520] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/151). . وقيل: قدَّمَ ذِكرَ عِلمِه بمَن ضَلَّ عن سَبيلِه على ذِكرِ عِلمِه بالمُهتَدينَ؛ لأنَّ المَقامَ تَعريضٌ بالوَعيدِ للضَّالِّينَ، ولأنَّ التَّخْليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحْليةِ، فالوعيدُ مُقَدَّمٌ على الوَعدِ [1521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/334). .
- وتَكْريرُ هُوَ أَعْلَمُ؛ للتَّأكيدِ، والإشعارِ بتَبايُنِ حالِ المعلومِينَ ومآلِهِما مِن العقابِ والثَّوابِ [1522] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/151). .
3- قَولُه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
- قولُه: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، أي: بمِثْلِ ما فُعِل بكم، وقد عبَّر عنه بالعقابِ على طريقةِ إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السَّببِ، أو على نَهْجِ المشاكَلةِ [1523] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/152). ؛ فيكونُ قولُه: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ مُشاكَلة لـ عَاقَبْتُمْ؛ استَعمَل عُوقِبتُم في مَعْنى عُومِلْتُم به؛ لِوُقوعِه بعدَ فِعلِ عاقَبْتم [1524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/335). .
- قولُه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فيه تأكيدُ كَونِ الصَّبرِ خيرًا بلامِ القسَمِ؛ زيادةً في الحثِّ عليه [1525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/336). .
- وقولُه: لِلصَّابِرينَ يجوزُ أن يَكونَ عامًّا، أي: الصَّبرُ خيرٌ لجِنْسِ الصَّابِرين، وأن يَكونَ مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم، وعبَّر عنهم بـ (الصَّابِرين)؛ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّنْويهِ بصفةِ الصَّابِرين [1526] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/613)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/303)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/336). .
4- قَولُه تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
- قولُه: وَاصْبِرْ خَصَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَقامَه أعْلَى، فهو بالْتِزامِ الصَّبرِ أوْلى [1527] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/336). .
- وجملةُ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ معترِضةٌ بينَ المتعاطِفاتِ، أي: وما يَحصُلُ صَبرُك إلَّا بتوفيقِ اللهِ إيَّاك، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ صبرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عظيمٌ لَقِي مِن أذَى المشرِكينَ أشَدَّ ممَّا لَقِيَه عمومُ المسلِمين؛ فصَبرُه ليس كالمعتادِ؛ لذلك كان حُصولُه بإعانةٍ مِن اللهِ [1528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/337). .
- قولُه: وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَلَا تَكُ بحذفِ النُّونِ، وفي سورةِ (النَّملِ) قال: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل: 70] بإثباتِها؛ فورَد ما في النَّحلِ بحَذفِ النُّونِ؛ تَشبيهًا لها بحُروفِ العِلَّةِ، وخصَّ بحَذفِها مُوافَقةً لقولِه قَبلُ: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] وإثباتُها في النَّملِ جاء على القِياسِ [1529] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 317). .
- قولُه: وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يجوزُ أن يُرادَ أنَّ في الكلامِ تَشبيهًا؛ فقد شَبَّه الضَّيْقَ بالشَّيءِ الَّذي يُحيطُ بالإنسانِ، وهو مِن رَوائعِ التَّعبيرِ، وجَوامِعِ الكَلِمِ. وقيل غير ذلك [1530] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/386). .
5- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ تعليلٌ لِمَا سبَق مِن الأمرِ والنَّهيِ [1531] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/153). ؛ فهو تعليلٌ للأمرِ بالاقتصارِ على قَدْرِ الجُرْمِ في العُقوبةِ، وللتَّرغيبِ في الصَّبرِ على الأذَى، والعَفْوِ عن المعتَدينَ، ولِتَخصيصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ، والاستعانةِ على تَحصيلِه بمَعونةِ اللهِ تعالى، ولِصَرفِ الكدَرِ عن نفسِه مِن جَرَّاءِ أعمالِ الَّذينَ لم يُؤمِنوا به [1532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/337). .
- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ تكريرُ الموصولِ (الَّذِينَ- وَالَّذِينَ)؛ للإيذانِ بكِفايةِ كلٍّ مِن الصِّلَتَينِ في وَلايتِه سُبحانَه مِن غيرِ أن تَكونَ إحداهما تَتِمَّةً للأُخرى [1533] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/153). .
- وفيه إيرادُ الأُولى اتَّقَوْا فِعليَّةً؛ للدَّلالةِ على الحُدوثِ، كما أنَّ إيرادَ الثَّانيةِ هُمْ مُحْسِنُونَ اسميَّةً؛ لإفادةِ كَونِ مَضمونِها شِيمةً راسِخةً لهم [1534] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/153). ؛ فأتى في جانبِ التَّقْوى بصِلَةٍ فعليَّةٍ ماضيةٍ؛ للإشارةِ إلى لُزومِ حُصولِها، وتَقرُّرِها مِن قَبلُ؛ لأنَّها مِن لَوازِمِ الإيمانِ؛ لأنَّ التَّقوى آيلةٌ إلى أداءِ الواجبِ، وهو حقٌّ على المكلَّفِ؛ ولذلك أمَر فيها بالاقتصارِ على قَدْرِ الذَّنبِ، وأتى في جانبِ الإحسانِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ للإشارةِ إلى كَونِ الإحسانِ ثابتًا لهم دائمًا معَهم؛ لأنَّ الإحسانَ فَضيلةٌ، فبِصاحبِه حاجةٌ إلى رُسوخِه مِن نفسِه، وتَمكُّنِه [1535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/338). .
- وقولُه: الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فيه تقديمُ التَّقْوى على الإحسانِ؛ لأنَّ التَّخْليَةَ متقدِّمةٌ على التَّحْليةِ [1536] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/153). .