موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (120-123)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

أُمَّةً: أي: إمامَ هُدًى، مُعَلِّمًا للخَيرِ، يُقتَدَى به، وأصلُ (أمم): يدُلُّ على الأصلِ والمَرجِعِ .
قَانِتًا: أي: مُطيعًا خاضِعًا، وأصلُ (قنت): يدُلُّ على الطَّاعةِ .
حَنِيفًا: أي: مقبلًا على اللهِ، معرضًا عما سِواه، أو: مائلًا عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، أو: مسلمًا مستقيمًا، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالَى أنَّ إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- كان جامِعًا لخِصالِ الخَيرِ، إمامًا يُقتَدى به، وكان مُقبِلًا على اللهِ، مُستَقيمًا على الإسلامِ غيرَ مائلٍ عنه، ولم يكُنْ مِن المُشرِكين، وكان شاكِرًا لنِعَمِ اللهِ عليه، اختاره اللهُ لرِسالتِه وخُلَّتِه، وأرشَدَه ووَفَّقَه إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ- وهو الإسلامُ- وآتاه الله في الدُّنيا حَسَنةً، كإعطائِه الذريَّةَ الصَّالحةَ، والسِّيرةَ الحَسَنةَ؛ وإنَّه عند اللهِ في الآخرةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ. ثمَّ أوحَينا إليك- يا مُحمَّدُ- أن اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ، وما كان إبراهيمُ مِن المُشرِكينَ باللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا زَيَّفَ في هذه السُّورةِ مَذاهِبَ المُشرِكينَ في أشياءَ؛ منها قَولُهم بإثباتِ الشُّرَكاءِ والأندادِ لله تعالى، ومنها طَعنُهم في نبُوَّةِ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ إلى غيرِ ذلك، فلمَّا بالغَ في إبطالِ مذاهِبِهم في هذه الأقوالِ، وكان إبراهيمُ عليه السَّلامُ هو الذي دعا النَّاسَ إلى التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ، وإلى الشَّرائِعِ، فهو إمامُ الموحِّدينَ، والمُشرِكونَ كانوا مُفتَخِرينَ به مُعتَرفينَ بحُسنِ طَريقتِه مُقِرِّينَ بوُجوبِ الاقتداءِ به؛ لا جرَمَ ذَكَرَه اللهُ تعالى في آخِرِ هذه السُّورةِ، وحكى عنه طريقَتَه في التَّوحيدِ؛ ليَصيرَ ذلك حامِلًا لهؤلاءِ المُشرِكينَ على الإقرارِ بالتَّوحيدِ، والرُّجوعِ عن الشِّركِ .
وأيضًا فإن هذا انتقالٌ إلى غرضِ التنويهِ بدينِ الإسلامِ بمناسبةِ قولِه: ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا المقصودُ به أنَّهم كانوا في الجاهِليَّةِ ثمَّ اتَّبَعوا الإسلامَ، فبَعدَ أنْ بَشَّرهم بأنَّه غفَر لهم ما عَمِلوه مِن قبلُ، زادَهم فضلًا ببَيانِ فضلِ الدِّينِ الَّذي اتَّبَعوه، وجعَل الثَّناءَ على إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- مُقدِّمةً لذلك؛ لبيانِ أنَّ فضلَ الإسلامِ فضلٌ زائدٌ على جميعِ الأديانِ بأنَّ مبدَأَه برسولٍ ومُنتَهاه برسولٍ. وهذا فضلٌ لم يَحْظَ به دينٌ آخَرُ .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً.
أي: إنَّ إبراهيمَ كان مُعَلِّمًا جامِعًا لخِصالِ الخَيرِ، يُقتدَى به .
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124] .
قَانِتًا لِلَّهِ.
أي: مُطيعًا لله، مُلازِمًا لعِبادتِه بإخلاصٍ وخُشوعٍ .
حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: مُقبِلًا على اللهِ، مُعْرِضًا عمَّا سواه، مُستَقيمًا على الإسلامِ، مائلًا عن الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، ولم يكُنْ مِمَّن يُشرِكونَ باللهِ شيئًا .
كما قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 78- 79] .
وقال سُبحانَه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48] .
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121).
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ.
أي: قائِمًا بشُكرِ اللهِ وَحدَه على ما أنعَمَ عليه مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ .
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: اختارَ اللهُ إبراهيمَ لخُلَّتِه، وجَعَلَه مِن صَفوةِ خَلْقِه، وأرْشَدَه ووَفَّقَه إلى طريقِ الحَقِّ المُستَقيمِ، وهو دينُ الإسلامِ، وعِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء: 51] .
وقال سُبحانَه: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .
وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 84-88] .
وعن جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((إنِّي أبرَأُ إلى اللهِ أن يكونَ لي منكم خَليلٌ؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخَذني خليلًا كما اتَّخذَ إبراهيمَ خَليلًا )) .
وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122).
وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.
أي: وآتَينا إبراهيمَ في الدُّنيا كُلَّ ما فيه راحةُ العَيشِ، فجَمَعْنا له خيرَ الدُّنيا مِن جَميعِ ما يَحتاجُ إليه المُؤمِنُ في إكمالِ حياتِه الطَّيِّبةِ .
كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 49-50] .
وقال سُبحانَه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [العنكبوت: 27] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 108- 109] .
  وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كانت عظَمةُ الدُّنيا لا تُعتبَرُ إلَّا مَقرونةً بنِعمةِ الآخرةِ، قال تعالى :
  وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: وإنَّ إبراهيمَ في الدَّارِ الآخرةِ يومَ القيامةِ لَمِنَ الصَّالحينَ الذين أنعَمَ اللهُ عليهم، فصَلَحَت أمورُهم وأحوالُهم عند اللهِ، وعَلَت مَراتِبُهم، وحَسُنَت مَنزِلتُهم لديه سبحانَه .
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وَصَفَ الله تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ بتلك الأوصافِ الشَّريفةِ، وقرَّر مِن عظمتِه في الدُّنيا والآخرةِ ما هو داعٍ إلى اتِّباعِه؛ صرَّح بالأمرِ به، فأمَرَ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتَّبِعَ مِلَّتَه، وهذا الأمرُ مِن جُملةِ الحَسَنةِ التي آتاها اللهُ إبراهيمَ في الدُّنيا .
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).
أي: ثمَّ أوحَيْنا إليك- يا مُحمَّدُ- وقُلْنا لك: اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ مُسْتقيمًا على التَّوحيدِ، وما كان إبراهيمُ على دِينِ المُشرِكينَ باللهِ عزَّ وجَلَّ .
كما قال تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135] .
وقال سُبحانَه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 67- 68] .
وقال عزَّ وجَلَّ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 161 - 163] .
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبْزَى رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((أصبَحْنا على فِطرةِ الإسلامِ، وعلى كَلِمةِ الإخلاصِ، وعلى دينِ نَبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى مِلَّةِ أبينا إبراهيمَ حَنيفًا مُسلِمًا، وما كان مِنَ المُشرِكينَ) ) .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قيل لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأديانِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ)) .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قد عُلِمَ مِن هذا أنَّ دِينَ الإسلامِ مُنَزَّهٌ عن أن تتعَلَّقَ به شَوائِبُ الإشراكِ؛ لأنَّه جاء كما جاء إبراهيمُ عليه السَّلامُ مُعلِنًا توحيدًا لله بالإلهيَّةِ، ومُجْتثًّا لوَشيجِ الشِّركِ .
2- قال اللهُ تعالى: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ولَمَّا كان السِّياقُ لإثباتِ الكَمالِ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وكانت الأوصافُ الثُّبوتيَّةُ قَريبةَ المأخَذِ، سَريعةَ الوُصولِ إلى الفَهمِ، وأتَى بعدَها وَصفٌ سلبيٌّ بجُملةٍ؛ حُذِفَ نُونُ (يَكُن) منها إيجازًا، وتَقريبًا للفَهمِ، تخفيفًا عليه، وحِفظًا له مِن أن يذهَبَ قبلَ تمامِها إلى غيرِ المُرادِ، وإعلامًا بأنَّ الفِعلَ مَنفيٌّ عنه عليه السَّلامُ على أبلَغِ وُجوهِ النَّفيِ، لا يُنسَبُ إليه شَيءٌ منه ولو قلَّ، فقيل: وَلَمْ يَكُ .
3- الحَنَفُ: هو مَيلٌ عن الضَّلالِ إلى الاستِقامةِ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا، والجَنَفُ: مَيلٌ عن الاستِقامةِ إلى الضَّلالِ، كقَولِه تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [البقرة: 182] .
4- أثنى اللهُ سُبحانَه على إبراهيمَ خَليلِه بقَولِه تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ فهذه أربعةُ أنواعٍ مِنَ الثَّناءِ:
الأول: أنَّه افتتَحَها بأنَّه أُمَّةٌ، والأُمَّةُ: هو القُدوةُ الذي يُؤتَمُّ به.
الثاني: قَولُه: قَانِتًا لِلَّهِ والقُنوتُ يُفَسَّرُ بأشياءَ كُلُّها تَرجِعُ إلى دَوامِ الطَّاعةِ.
الثالث: قَولُه: حَنِيفًا والحَنيفُ: المُقبِلُ على اللهِ، ويلزَمُ هذا المعنى مَيْله عمَّا سِواه.
الرابع: قَولُه: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ والشُّكرُ للنِّعَمِ مَبنيٌّ على ثلاثةِ أركان: الإقرارُ بالنِّعمةِ، وإضافتُها إلى المُنعِم بها، وصَرفُها في مَرضاتِه، والعَمَلُ فيها بما يَجِبُ، فلا يكونُ العَبدُ شاكِرًا إلَّا بهذه الأشياءِ الثَّلاثةِ، والمقصودُ أنَّه مَدَحَ خَليلَه بأربَعِ صِفاتٍ كُلُّها ترجِعُ إلى العِلمِ والعَمَلِ بمُوجِبِه، وتعليمِه ونَشْرِه، فعاد الكَمالُ كُلُّه إلى العِلمِ والعَمَلِ بمُوجِبِه، ودَعوةِ الخَلقِ إليه .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيه سُؤالٌ: لمَ قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ولم يَقُلْ: (وإنَّه في الآخرة في أعلى مقاماتِ الصَّالحينَ)؟
والجوابُ: لأنَّه تعالى حكى عنه أنَّه قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ، فقال هاهنا: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ؛ تنبيهًا على أنَّه تعالى أجاب دُعاءَه، ثمَّ إنَّ كَونَه مِن الصَّالِحينَ لا ينفي أن يكونَ في أعلَى مَقاماتِ الصَّالحينَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ ذلك في آيةٍ أخرى، وهي قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام: 83] .
ووجهٌ آخَرُ: أنَّه إنَّما قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ولم يَقُل: في أعلى منازِلِ الصَّالحينَ، بحَسَبِ ما تقتَضيه حالُه من الفَضلِ؛ لِمَدحِ مَن هو منهم، والتَّرغيبِ في الصَّلاحِ؛ لِيَكونَ صاحِبُه في جنْبِه إبراهيم، وناهيك بهذا التَّرغيبِ في الصَّلاحِ، وبهذا المَدحِ لإبراهيمَ أن يُشَرِّفَ جُملةً هو فيها، حتى يَصيرَ الاستدعاءُ إليه بأنَّه فيها .
6- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فيه دَليلٌ على جَوازِ اتِّباعِ الأفضَلِ للمَفضولِ لمَّا تقَدَّمَ إلى الصَّوابِ والعَمَلِ به، ولا دَرَكَ على الفاضِلِ في ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وقد أُمِرَ بالاقتداءِ بهم، فقال تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . وقال هنا: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل: 123] .
7- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا استُدلَّ بهذه الآيةِ على وُجوبِ الخِتانِ، وما كان مِن شَرْعِه، ولم يَرِدْ به ناسِخٌ .
8- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفَى عنه الشِّركَ؛ لِقَصدِ الرَّدِّ على المُشرِكينَ مِن العَرَبِ الذين كانوا يَنتَمونَ إليه .
9- حصَلَ مِن قَولِه تعالى السَّابِقِ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] ومِن قَولِه هنا: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثلاثُ فوائِدَ: نفيُ الإشراكِ عن إبراهيمَ في جميعِ أزمِنةِ الماضي، وتجَدُّدُ نَفيِ الإشراكِ تجَدُّدًا مُستَمِرًّا، وبراءتُه مِن الإشراكِ بَراءةً تامَّةً .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قيل: هو اعتِراضٌ لإبطالِ مَزاعِمِ المشرِكينَ أنَّ ما هم عليه هو دينُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهو كالتَّأكيدِ لِوَصفِ الحَنيفِ بنَفْيِ ضدِّه، مِثلُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه: 79] . وفيه إعلامٌ مِن الله تعالى أهلَ الشركِ به مِن قريشٍ أنَّ إبراهيمَ منهم بريءٌ، وأنَّهم منه براءٌ .
- ونَفيُ كونِه مِن المشرِكينَ بحَرفِ (لَم)؛ لأنَّ (لم) تَقلِبُ زمَنَ الفعلِ المضارِعِ إلى الماضي؛ فتُفيدُ انتِفاءَ مادَّةِ الفِعلِ في الزَّمنِ الماضي، وتُفيدُ تَجدُّدَ ذلك المنفيِّ الَّذي هو مِن خَصائصِ الفِعلِ المضارِعِ، فيَحصُلُ معنَيانِ: انْتِفاءُ مَدْلولِ الفِعلِ بمادَّتِه، وتَجدُّدُ الانتفاءِ بصيغتِه، فيُفيدُ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لم يتَلبَّسْ بالإشراكِ قَطُّ؛ فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لم يُشرِكْ باللهِ منذُ صار مميِّزًا، وأنَّه لا يتَلبَّسُ بالإشراكِ أبدًا .
2- قَولُه تعالى: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- قولُه: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ فيه إيثارُ صيغةِ جَمعِ القِلَّةِ (أَنعُمٍ)؛ للإيذانِ بأنَّه عليه السَّلامُ كان لا يُخِلُّ بشُكرِ النِّعمةِ القليلةِ؛ فكَيف بالكثيرةِ؟! وللتَّصريحِ بكَونِه عليه السَّلامُ على خِلافِ ما هم عليه مِن الكُفْرانِ بأنعُمِ اللهِ تعالى حسَبَما بيَّن ذلك بضَربِ المثَلِ .
- وجملةُ اجْتَبَاهُ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا؟ لأنَّ الثَّناءَ المتقدِّمَ يُثيرُ سؤالَ سائلٍ عن سبَبِ فَوزِ إبراهيمَ بهذه المَحامِدِ، فيُجابُ بأنَّ اللهَ اجْتَباه .
3- قَولُه تعالى: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
- قولُه: وَآتَيْنَاهُ فيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعْتِناءِ بشَأنِه، وتَفْخيمِ مَكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وللتَّفنُّنِ في الأسلوبِ؛ لِتَوالي ثلاثةِ ضمائرِ غَيبةٍ .
4- قَولُه تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... في ثُمَّ هذه مِن التَّراخي في الرُّتْبةِ ما فيها مِن تعظيمِ مَنزِلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وإجلالِ محَلِّه، والإيذانِ بأنَّ أشرَفَ ما أوتي خليلُ اللهِ إبراهيمُ مِن الكَرامةِ، وأجَلَّ ما أُولِيَ مِن النِّعمةِ: اتِّباعُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِلَّتَه؛ لأنَّ (ثُمَّ) دلَّت على تَباعُدِ هذا النَّعتِ في المرتَبةِ مِن بينِ سائرِ النُّعوتِ الَّتي أثنَى اللهُ عليه بها؛ ففيها الإيذانُ بأنَّ هذه النِّعمةَ مِن أجَلِّ النِّعَمِ الفائضةِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؛ فـ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ المشيرِ إلى أنَّ مَضمونَ الجملةِ المعطوفةِ مُتباعِدٌ في رُتبةِ الرِّفْعةِ على مَضمونِ ما قبْلَها؛ تَنويهًا جَليلًا بشأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وبشريعةِ الإسلامِ، وزيادةً في التَّنويهِ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، أي: جعَلْناك مُتَّبِعًا ملَّةَ إبراهيمَ، وذلك أجَلُّ ما أَوْليْناكُما مِن الكرامةِ، وهذه الجملةُ هي المقصودُ، وجملةُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... تمهيدٌ لها .
- وزِيدَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ اتِّباعَ محمَّدٍ مِلَّةَ إبراهيمَ كان بِوَحيٍ مِن اللهِ، وإرشادٍ صادقٍ، تعريضًا بأنَّ الَّذين زعَموا اتِّباعَهم مِلَّةَ إبراهيمَ مِن العرَبِ مِن قبلُ قد أخطَؤُوها بشُبهةٍ أو بغيرِ شُبهةٍ .
- قولُه: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَكريرٌ لِما سبَق؛ لزيادةِ تأكيدٍ، وتقريرٌ لِنَزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا هم عليه مِن عَقدٍ وعمَلٍ .