موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (64- 68)

ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريبُ الكَلِماتِ:

سَوَاءٍ: أي: عدْل، ونَصَفة، وسواءُ كلِّ شيءٍ: وَسَطُه، وأصله: الاستقامةٍ والاعتدال .
حَنِيفًا: أي: مُستقيمًا، أو مائلًا إلى الدِّين المُستقيم، والحَنَفُ: مَيلٌ عن الضَّلال إلى الاستقامة، وأصْله: ميلٌ في إبهامَي القَدمين، كلُّ واحدةٍ على صاحبتِها، والأحنف: مَن في رِجْلِه مَيلٌ؛ قيل: سُمِّي بذلك على التَّفاؤل .
مُشكِلُ الإعرابِ:
قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤلاءِ حَاجَجْتُمْ...:
هَا: للتَّنبيهِ، وقيل: هي بَدلٌ من همزةِ الاستفهام. وأَنْتُمْ: في محلِّ رفْع مبتدأ. وهَؤلاءِ: في محلِّ رفْع خبَر، وعلى هذا فجملةُ حَاجَجْتُمْ في محلِّ نصْب حال بتقديرِ (قد)، والعاملُ في الحالِ اسمُ الإِشارةِ؛ لِمَا فيه مِن معنى الفِعْل، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها. وقيل: إنَّ هَؤُلاءِ خبرٌ لكِن على تقديرِ حذْفٍ مضاف، تقديرُه: ها أنتم مِثلُ هؤلاءِ، وجملة حَاجَجْتُمْ في محلِّ نصْب حال أيضًا، لكن العامِل في الحالِ معنى التشبيه، ويلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين؛ لأنَّ المرادَ بهم أسلافُهم على هذا، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ. وقيل: إنَّ جملة حَاجَجْتُمْ مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها، أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنَّكم جادلتم فيما لكم به عِلم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟! وقيل: هَؤُلاءِ في محلِّ نصْبٍ على الاختصاصِ بتقديرِ أعْني أو أخصُّ ، وقيل: إنَّه منادَى حُذِف منه حرْف النِّداء، والتقديرُ: يا هؤلاءِ ، وخبَرُ أَنْتُمْ حينئذٍ جملةُ حَاجَجْتُمْ. وقيل غيرُ ذلك في توجيهِ هذه الآية الكريمة .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يدعوَ أهلَ الكتابِ إلى كَلمةِ عدل، يستوي فيها الجميعُ، ويَجتمعون عليها، وهي كلمةُ التَّوحيد، وإفرادِ الله بالعبوديَّة، وعدمِ الإشراكِ معه غيرَه، وعدمِ اتِّخاذ أربابٍ يُعبَدون من دون الله، أو يُطاعون في تحليل ما حرَّم اللهُ، أو تحريم ما أحلَّ اللهُ؛ فإنْ أعرضوا فأَشْهِدوهم- أيُّها المؤمنون- أنَّكم مُسلِمون، مستمرُّون على هذا الدَّين الَّذي شرَعه الله وارتضاه لكم.
ثمَّ يُوجِّه اللهُ خِطابَه لأهل الكتاب من اليهود والنَّصارى، حيث يقول لهم: يا أهلَ الكتاب، من اليهود والنَّصارى، لِمَ تُخاصِمون في إبراهيم عليه السَّلام، ويدَّعي كلُّ فريق منكم أنَّه كان يَدينُ بدِينه، وفي حقيقةِ الأمْر أنَّ التَّوراة والإنجيل ما أُنزلت إلَّا بعد موته بزمن، أفلا تعقلون أنَّ ما تقولونه باطل؟!
فها أنتم خاصمتُم فيما تَعلمونه مِن أمْرِ دِينكم، وما جاء ذِكْره في كُتبكم؛ فلماذا الجدالُ والمُماراة فيما لم يَصلِكم عِلمُه من شأنِ إبراهيم الخليل ودِينه الَّذي كان عليه؟! واللهُ قد أحاطَ عِلمُه بكلِّ شيءٍ ممَّا خَفِيَ عنكم علمُه، أمَّا أنتم فلا تعلمون ما يَعلمُه الله.
ثم يُبيِّن الله لهم الحقيقةَ الواضحةَ من أمْر إبراهيم، حيثُ نفَى الله عنه أن يكونَ يهوديًّا أو نَصرانيًّا، بل أَثْبَتَ أنَّه كان حنيفًا مستقيمًا، مُتَّبِعًا لأمْر الله، مُخلِصًا له، كما أنَّه لم يكُن من المشركين، الذين يَعكُفون على عبادةِ الأصنام وغيرِها.
ثمَّ يذكُر اللهُ بعد ذلك الطائفةَ الَّتي هي أحقُّ النَّاس بإبراهيم ووَلايتِه ونُصرتِه، فبيَّن أنَّهم مَن اتَّبع دِينَه، وسلَك طريقَه، ومنهم محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والَّذين آمنوا به من أصحابه ومَنْ بعدَهم، فهؤلاءِ أحقُّ بولايتِه، واللهُ يتولَّى المؤمنين، ويُؤيِّدهم وينصُرهم على مَن عاداهم.

تفسير الآيات:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نَكَصَ أهلُ الكتاب عن المباهلة بعد أنْ أَوْرَدَ عليهم أنواع الحُجج فانقطعوا، فلم تبقَ لهم شُبهةٌ، وقَبِلوا الصَّغارَ والجزية، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حريصًا على هداية الخَلق- أمَره الله تعالى أن يقومَ بتكرير دَعوتهم، وإرشادِهم بطريقٍ أخفَّ ممَّا مضى، بأنْ يُؤْنِسَهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساةِ، فيدعو دُعاءً يشملُ المحاجِّين من النَّصارى وغيرِهم- ممَّن له كتابٌ من اليهود وغيرهم- إلى الكلمةِ الَّتي قامت البراهين على حقيَّتها، ونهضت الدَّلائل على صِدقها، على وجهٍ يتضمَّن نفْيَ ما قد يُتَخَيَّلُ من إرادة التفضُّل عليهم والاختصاصِ بأمرٍ دونهم؛ وذلك أنَّه بدأ بمباشرةِ ما دعاهم إليه، ورَضِيَ لهم ما رَضِيَ لنفْسه، وما اجتمعتْ عليه الكتُبُ، واتَّفقت عليه الرُّسلُ فقال تعالى :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
 أي: قل- يا محمَّدُ- لأهل الكِتابِ من اليهود والنَّصارى: يا أهلَ الكتاب، هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا إلى كلمةِ عدْل نستوي- نحن وأنتم- فيها .
ثمَّ فسَّر هذه الكلمةَ بقوله:
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
أي: نوحِّد الله ونُفرِده بالعبادة .
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
أي: لا نُشرِك بالله شيئًا؛ لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا وَلِيًّا، ولا صنمًا، ولا وَثَنًا، ولا حيوانًا، ولا جمادًا، ولا غير ذلك .
فهذه دعوةُ الرُّسل- كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وقال أيضًا: وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
 أي: ولا يُنْزِلُ بعضُنا بعضًا منزلةَ الرُّبوبيَّة؛ فيُعبد، أو يُسجَد له، أو يُطاع في تحليل ما حرَّم الله، أو تحليل ما أحلَّ الله .
كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31] .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
 أي: فإنْ أعْرَضوا عن إجابة ما دُعُوا إليه فقولوا- أيُّها المؤمنون- لهؤلاء المعرِضين: اشهدوا أنَّنا مُستمرُّون على الإسلام، منقادون لشريعتِه، مقرُّون بتوحيد الله، مُخلِصون في عبادتِه .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
 أي: يا أهلَ الكتاب، من اليَهود والنَّصارى، لِمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيمَ خليلِ الرَّحمن، ويدَّعي كلُّ فريقٍ منكم أنَّه كان منهم ويَدِينُ دِينهم .
كما قال تعالى مُبَيِّنًا وجْهَ مُحاجَّتِهم في إبراهيم: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ، وكما قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا.
ثمَّ يُقِيمُ الحُجَّة الداحِضة لدعواهم، والدَّليل المبطِل لقولهم، فيقول:
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ
 أي: كيف تَدَّعُونَ- أيُّها اليهود- أنَّه كان يهوديًّا، وأيُّها النَّصارى- أنَّه كان نصرانيًّا، وما أُنْزِلَت التَّوراة ولا الإنجيل إلَّا بعد موته بزمن. واليهوديَّةُ ما حَدَثَتْ إلَّا بعد نزول التَّوراة، ولا حدَثت النصرانيَّة إلَّا بعد نزول الإنجيل؟! .
ولَمَّا كان الدَّليل عقليًّا، قال الله مُوَبِّخًا لهم :
أَفَلَا تَعْقِلُونَ
 أي: أفلا تَعقِلون بُطْلانَ قولَكم؟! فلو عَقَلتم ما تقولون، لم تقولوا ذلك .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
 أي: ها أنتُم- يا هؤلاء- جادلتُم وخاصَمتُم فيما لكم به عِلمٌ من أمْر دِينكم ممَّا وجدتموه في كُتُبكم .
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
 أي: فلِمَ تُجادلون وتُخاصِمون في الَّذي لا عِلمَ لكم به من أمْر إبراهيم وما كان عليه مِن الدِّين ؟!
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
 أي: واللهُ يعلمُ ما غاب عنكم، ولم يَأتِكم عِلمُه عن طريقِ رُسله من أمْر إبراهيم عليه السَّلام وغيره من الأمور، وأنتُم لا تعلمونَ ما يَعلمُه اللهُ مِن هذا وغيرِه .
كما قال تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ.
ثم يُقرِّر الله تعالى ما كان عليه إبراهيمُ عليه السَّلام من الدِّين، فيقول:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا
 أي: لم يكُن إبراهيمُ عليه السَّلام يَهوديًّا على ملَّة اليهود، ولا نصرانيًّا على ملَّة النَّصارى .
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
أي: ولكن كان إبراهيمُ عليه السَّلام مستقيمًا، مُتَّبِعًا لأمْر الله، مُخْلِصًا له، قد خشَع لله قلبُه، وانقادتْ له جوارحُه، والتزم بأحكامِه .
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
 أي: لم يكُن إبراهيمُ عليه السَّلام من المشركين، الَّذين يَعبُدون غيرَ الله من الأصنام وغيرها .
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
 أي: إنَّ أحقَّ النَّاسِ بإبراهيمَ وولايتِه ونُصرتِه وأقربَهم إليه، هم الَّذين اتَّبعوه على دِينِه وملَّته، وسلَكوا طريقَه .
وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
 أي: ومحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والَّذين آمنوا به من أصحابه ومَنْ بعدَهم .
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
أي: والله ناصرُ المؤمنين، ومُعِينُهم ومؤيِّدهم .

الفوائد التربوية :

1- يُؤخَذ من قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أنَّه ينبغي للمسلم أن يَعتزَّ بدِينه، وأن يُعلنه ويُشْهِرَه، خِلافًا لضعفاء الشَّخصية، الَّذين يتستَّرون بدِينهم مخافةَ أن يُعَيِّرَهم النَّاسُ به .
2- في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، عُلِّقَت الولايةُ بالإيمان، والحُكم المُعَلَّقُ بوصف يَزدادُ قوَّةً بقوَّة هذا الوصف فيه، وعليه فكلَّما كان الإنسانُ أقوى وأكمل إيمانًا، كانت ولايةُ الله له أتمَّ وأخصَّ وأكملَ .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- إذا صدَّر اللهُ تعالى الشَّيء بـقُلْ الموَجَّه للرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّه يَقتضي زيادةَ العناية به؛ لأنَّه أُمِرَ بأنْ يُبلِّغَ هذا الشيءَ بخصوصِه .
2- الكلمة تُطْلَقُ على الجملة المفيدة كما في قوله: إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، ثمَّ قال: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... .
3- في قوله: سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، تنازلٌ مع الخَصْم لإلزامه بالحقِّ، فمعلومٌ أنَّ الحقَّ مع الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن من أجل إلزام الخَصْم وإقامة الحجة عليه تنازل معه .
4- يُؤخَذ من قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أنَّه يجبُ العدلُ في المناظرة حتَّى مع العدوِّ الكافر، وإذا كان هذا واجبًا في مناظرةِ المسلمين مع الكفَّار، فهو في مناظرةِ المسلمين بعضِهم مع بعضٍ أوجبُ وأَوكَد .
5- في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَر ثلاثةَ أشياء: أولها: ألَّا نعبُد إلَّا الله. وثانيها: ألَّا نُشركَ به شيئًا. وثالثها: ألَّا يتَّخِذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون اللهِ، وإنَّما ذَكَر هذه الثلاثة؛ لأنَّ النَّصارى جمَعوا بين هذه الثلاثة .
6- في قوله: بَعْضُنَا بَعْضًا بيانُ أنَّ البعضيَّة تُنافي الإلهيَّة؛ إذ هي تماثُلٌ في البشريَّة، وما كان مِثلَك استحال أن يكون إلهًا .
7- في قوله: أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ دليلٌ على بُطلان القول بالاستحسانِ المجرَّد الَّذي لا يَستنِد إلى دليلٍ شرعيٍّ، وبُطلانِ القولِ بوجوب قَبُول قولِ الإمام دون إبانةِ مُستنَدٍ شرعي، كما ذهَب إليه الرَّوافض .
8- لَمَّا كان التَّوجُّهُ إلى غيرِ الله خِلافَ ما تدْعو إليه الفِطرة الأولى، عبَّر بصيغة الافتعال فقال: وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا .
9- في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّ الحكم بين النَّاس والعبادة مُقتَرِنان؛ لأنَّ الله قَرَنَ بينهما، ولأنَّك لن تعبُدَ الله إلَّا بشريعتِه، إذنْ يلزم أنْ يكون المشرِّعُ هو المعبودَ، ولا ينبغي لأحد أن يُشَرِّعَ من دونه .
10- الإشهادُ في قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ للتَّسجيل عليهم؛ لئلَّا يُظهروا إعراضَ المسلمين عن الاسترسالِ في مُحاجَّتهم في صورةِ العجزِ والتَّسليم بأحقيَّة ما عليه أهلُ الكتاب .
11- إشهادُ الخَصم على الحال الَّتي يكون عليها خَصمُه؛ لِمَا في ذلك من الغضاضةِ عليه، وكسْر جَبروته، وعدمِ انقيادِه للحقِّ، كما في قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .
12- الحثُّ على تعلُّم عِلم التاريخ، وأنَّه طريق لردِّ كثير من الأقوال الباطلة والدَّعاوى الَّتي تخالف ما عُلِمَ من التاريخ، كما جاءت الإشارة في قوله: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيلُ إلَّا مِنْ بَعْدِهِ .
13- في قوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، بيانٌ للاحتجاج بالعقل؛ وإشادةٌ به وأنَّه لا ينبغي إهمالُ العقل في الاستدلال، وأنَّه لا يَحْمِلُ صاحبَه إلَّا على السَّداد والصَّواب، لكن لا ينبغي الاعتمادُ عليه بالكلِّيَّة وترْكُ النَّصِّ .
14- في قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ...: تنزُّلٌ مع الخصم، يعني: لو فرضْنا أنَّ المحاجَّة قُبِلَتْ منكم فيما لكم به علمٌ، فإنَّها لا تُقْبَلُ منكم فيما ليس لكم به علمٌ .
15- إقرارُ الإنسان على المحاجَّة بالعِلم، ولكن بشَرْط أنْ يكون قصْدُه حسنًا، بحيث يُريدُ من المجادلة ِالوصولَ إلى الحقِّ، فيُثبت الحقَّ، ويُبطِل الباطلَ .
16- في الآية دليلٌ على أنَّ الأولويات تختلف، أي: إنَّ النَّاس يتفاضلون بالأولويَّة والولاية؛ لقوله: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ، وأَوْلَى اسم تفضيل يدلُّ على المفضَّل والمفضَّل عليه، ولا شكَّ أنَّ الولاية درجات .
17- عطف النَّبِيُّ على الَّذين اتَّبعوا إبراهيم؛ للاهتمامِ به وتعظيمِه، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ متابعتَه إبراهيمَ عليه السَّلام ليستْ متابعةً عامَّة؛ فكونُ الإسلامِ من الحنيفيَّة يعني أنَّه موافقٌ لها في أصولها .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى:  أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الأفعالُ الدَّاخلُ عليها أداةُ النَّفي (أَلَّا نَعْبُدَ - وَلَا نُشْرِكَ - وَلَا يَتَّخِذَ...) مُتقارِبةٌ في المعنى، يُؤكِّد بعضُها بعضًا؛ إذ اختصاصُ الله بالعبادة يتضمَّن نفْيَ الاشتراك، ونفْيَ اتخاذِ الأربابِ من دون الله، ولكن الموضِع مَوضِعُ تأكيدٍ وإسهابٍ ونشْرِ كلام .
- وقوله: ألَّا نَعبُدَ إلَّا اللهَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: فيه تَكرار اسم الله تعالى ، وإظهاره في موضِع الإضمار؛ لتربية المهابة، ولتأكيد معنى الألوهيَّة.
2- قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ عبَّر عن العِلم بالشَّهادة؛ وذلك على سبيلِ المبالغة، إذ خرَج ذلك من حيِّز المعقول إلى حَيِّز المشهود، وهو المحضَر في الحسِّ .
3- قوله سبحانه: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ..، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ: فيه تكرارٌ ؛ حيث تكرَّر اسم الخليل إبراهيم عليه السَّلام ثلاثَ مرَّات في ثلاث آيات؛ للتشريفِ وللتنويهِ بشأنِه، ولإظهارِ علوِّ مقامِه.
4- قوله تعالى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ: استفهامٌ مقصودٌ منه التنبيهُ على الغَلَط .
5- قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا:
- فيه مناسبةٌ حسَنةٌ، حيثُ بدأ بالنَّفي قبلَ الإثبات؛ للإشارة إلى (التخلية قبل التحلية)، وهو ترتيبٌ موافِق للطبيعة؛ لأنَّك تُخْلِي الشيءَ ممَّا يَشِينُه أوَّلًا، ثمَّ تضيفُ ما يكون به الكمالُ ثانيًا .
- وبدأ بنَفْي اليهوديَّة قبل النصرانيَّة في قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لأنَّ شريعةَ اليهود أقدمُ من شريعة النَّصارى، وكرَّر لَا، لتأكيدِ النَّفي عن كلِّ واحدٍ من الدِّينَيْنِ .
- ووقعتْ لَكِنْ في قوله: وَلَكِنْ كَانَ حنيفًا مسلمًا في أحسنِ موقعِها؛ إذ هي واقعةٌ بين النَّقيضينِ بالنِّسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطل ، وأفادَ الاستدراكُ بعدَ نفْي الضِّدِّ حَصْرًا لحالِ إبراهيمَ فيما يوافق أصولَ الإسلام؛ ولذلك بَيَّن حنيفًا بقوله: مُسْلِمًا؛ لأنَّهم يَعرِفون معنى الحنيفيَّة ولا يُؤمنون بالإسلام؛ فأَعْلَمَهم أنَّ الإسلامَ هو الحنيفيَّة .
6- قوله تعالى: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا: فيه استدراكٌ بعد نفْي الضدِّ؛ حصرًا لحال إبراهيمَ فيما يُوافِق أصولَ الإسلام؛ ولذلك بيَّن حَنِيفًا بقوله: مُسْلِمًا؛ لأنَّهم يَعرِفون معنى الحنيفيَّة، ولا يُؤمنون بالإسلامِ، فأعْلمَهم أنَّ الإسلام هو الحنيفيَّة .
- وفيه: قصْرٌ إضافيٌّ بالنسبةِ لليهوديَّة والنصرانيَّة، حيث كان العربُ يَزعُمون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيم، لكنَّهم مشركون .
7- قوله تعالى: وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ: فيه تعريضٌ بأنَّهم مشركون بقولهم: عزيرٌ ابنُ اللهِ، والمَسِيحُ ابنُ اللهِ، وردٌّ لادِّعاء المشركين أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام. وخصَّ بالنَّفْي مَن عُرفوا بالشِّرِك مع الصلاحِ لكلِّ مَن داخَلَه شِرْكٌ من غيرهم كمَن أشركَ بعُزيرٍ والمسيحِ عليهما الصَّلاة والسَّلام، فقال: وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ .
8- قوله: وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ: تذييلٌ، أي: هؤلاء هم أَوْلى الناس بإبراهيم، والله وليُّ إبراهيم، والذين اتَّبعوه، وهذا النبيُّ والذين آمنوا؛ لأنَّ التذييلَ يشمل المذيَّل قطعًا، ثم يشمل غيرَه تكميلًا، كالعامِّ على سببٍ خاصٍّ .
- وفي قوله: واللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ بعد قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا: تعريضٌ بأنَّ الذين لم يكُن إبراهيمُ منهم ليسوا بمؤمنين .