موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (69-71)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

غريبُ الكَلِماتِ:

تَلْبِسُونَ: تَخلِطون، وأصل اللَّبس: المُخالَطةُ والمداخلة .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُحذِّر اللهُ تعالى عبادَه من مَكْر طائفةٍ خبيثةٍ من اليهود والنَّصارى، أُمنيتُها وغايتُها إضلالُ المسلمين وإخراجُهم من النورِ إلى الظُّلمات؛ حَسدًا من عند أنفسِهم، إلَّا أنَّ مَكْرَهم هذا لا يَحيقُ إلَّا بهم، وإضلالهم للمسلمين يَرتدُّ عليهم، فيكون جُهدُهم الَّذي يبذلونه في الإضلالِ سببًا في زيادةِ ضلالهم؛ فهُم بهذا السعيِ لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم وهم لا يَدْرُون.
ثم يقول الله تبارَك وتعالَى- مُنكِرًا على أهل الكتاب ما يفعلونه-: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي يَحمِلكم على الكُفْرِ بالقرآن، وأنتم تشهدون بصحَّته، وتُوقِنون بصدقه، وأنَّه منزَّلٌ من ربِّكم بالحقِّ؟! يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطل حتَّى يلتبسَ بعضُه ببعض، وتكتمونَ الحقَّ وتُخفونه، وأنتم تعلمونَ أنَّكم تَلبسونَ الحقَّ بالباطلِ وتكتمون الحقَّ؟!

تفسير الآيات:

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
يقول اللهُ تعالى محذِّرًا من مَكْرِ هذه الطَّائفة مِن أهل الكتابِ:
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
 أي: تمنَّتْ جماعةٌ من أهل التَّوراة مِن اليهودِ، وأهلِ الإنجيل مِن النَّصارى- أنْ يُخرجوكم من الهُدى إلى الضَّلال، ومِن الإسلامِ إلى الكفرِ .
 كما في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] .
 وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
 أي: هم بذلك لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم؛ لأنَّهم ابتعدوا عن الإسلامِ، وانْشَغلوا بمحاولةِ إضلالِ المؤمنينَ عن طلبِ الهِداية .
وَمَا يَشْعُرُونَ
أي: وما يَدْرُون، ولا يَعلمون أنَّهم لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم، وأنَّهم لا يَصِلون إلى إضلالِ المؤمنين .
ثم قال تعالى مُنْكِرًا عليهم:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ختَم الكلامَ فيهم بنَفْي شُعورِهم، بَيَّنَ تعالى في مَعرِضِ التبكيتِ أنَّ نفيهم عنه إنَّما هو لأنَّهم معانِدون، لا يَعملون بعِلمهم، بل يعَملون بخِلافه، فقال مستأنِفًا بما يدلُّ على غايةِ التبكيتِ المُؤْذِنة بشديد الغضب :
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
 أي: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي دعاكم إلى الكُفر بالقرآن ؟!
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
 أي: وأنتُم تَشهدون بصحَّةِ القرآن، وتعلمون صِدقَه، وأنَّه حقٌّ من عند ربِّكم .
فهم يَعلمون نعْتَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي جاء في كتبهم وأنَّ ما جاء به حقٌّ، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
 أي: يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطلِ حتَّى يلتبسَ أحدُهما بالآخَر .
ثم ذكَر لازِمَ لَبْسِ الحقِّ بالباطِل، وهو كتمانُ الحقِّ ، فقال:
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
 أي: وتُخْفون الحقَّ، ومن ذلك كتمانُهم صفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الموجودةَ في كتُبهم، ونبوَّتَه .
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
 أي: وأنتُم تعلمون أنَّكم تَلْبِسون الحقَّ بالباطل، وأنَّ الَّذي تكتُمونَه من الحقِّ حقٌّ .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرونَ أنَّ الإنسانَ في غَمْرَة الغَلَبَة، أو حبِّ الغَلَبَة، وسَكْرَة حبِّ الظُّهور يَنْسَى، ولا يشعر بضلاله وغوايته .
2- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ دليلٌ على أنَّ المعتدِّي يُجازَى بمثل عُدوانه، ويُبتلَى بمثل ما ابْتُلِيَ غيره به .
3- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ دليلٌ على أنَّ الإنسان قد يَعْمَى عن الباطل مع ممارستِه له .
4- في قوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أيضًا مبالغةٌ في ذمِّهم، حيث فقَدوا المنفعةَ بحواسِّهم .
5- يجب الحذرُ من أهلِ الباطل إذا لَبَسوا باطلَهم بالحقِّ، وألَّا نغترَّ بهم إذا زخرفوا القول .
6- في قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخٌ لكل مَن لَبَسَ الحقَّ بالباطل، وكتَم الحقَّ وسلَك هذا المسلك؛ لأنَّ تخصيصَ التوبيخِ لأهل الكتاب ليس تَخصيصًا للشخصِ والعين، بل بالجِنس والنوعِ والوصفِ؛ فمَن كان على شاكلتِهم، فإنَّه يَستحقُّ هذا التوبيخ .
7- في قوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليلٌ على وجوبِ بيان الحقِّ على من عَلِمَه، أمَّا مَن لم يَعلم، فعُذره ظاهرٌ .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ تعزيةُ المسلمين بما يُريده بهم هؤلاء من الإضلالِ. فكأنَّ الله قال: لا تخافوا منهم؛ فإنَّ الإضلالَ إنَّما يعود عليهم .
2- لانهماكِ أهلِ الكتاب في إضلالِ المسلمين لم يَشعُروا بأنَّه كان صارفًا لهم عن معرفة الحقِّ والهدى; لأنَّ المنهمكَ في الشَّيء لا يكادُ يَفطن لعواقبِه وآثاره، يُؤخَذ ذلك من قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
3- قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ولم يقُل: (وأنتم تعلمون)؛ لأنَّ الشهادةَ أقوى لكونِها تَقتضي أنْ يكونَ العالِم كالمشاهِد للشيءِ بحسِّه، والمشاهدة بالحسِّ أقوى من المشاهدة بالذِّهن، أو مِن العِلم بالذِّهن .
4- السَّاعي في إخفاء الحقِّ لا سبيلَ له إلى ذلك إلَّا من أحد وجهين: إمَّا بإلقاء شُبهةٍ تدلُّ على الباطل، وإمَّا بإخفاءِ الدَّليل الَّذي يدلُّ على الحقِّ، فقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بالباطل إشارةٌ إلى المقام الأوَّل، وقوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثَّاني .
5- خُتِمَت الآيةُ الأولى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ بقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، والثانية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ خُتِمَتْ بقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؛ قيل لأنَّ المنكَرَ عليهم في الآية الأولى هو الكفرُ بآيات الله، وهي أخصُّ مِن الحقِّ؛ لأنَّ آياتِ الله بعضُ الحقِّ، والشهادة أخصُّ من العِلم، فناسَب الأخصُّ الأخصَّ، وذَكَرَ تَعْلَمُونَ مع الحقِّ؛ لأنَّ الحقَّ أعمُّ من الآيات وغيرها، والعِلم أعمُّ من الشهادة، فناسب الأعمُّ الأعمَّ .
6- تلبيسُ الحقِّ بالباطل هو سببُ مَنْشَأ ضلالِ مَنْ ضَلَّ من الأُمم قَبلنا، وهو منشأ البِدع كلِّها؛ فإنَّ البدعَ لو كانت باطلًا محضًا لَما قُبِلَتْ، ولَبادَرَ كلُّ أحد إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانتْ حقًّا محضًا لم تكن بدعةً، وكانت مُوافِقةً للسُّنة، ولكنها تشتمل على الحقِّ والباطل، ويَلتبس فيها الحقُّ والباطل، كما قال اللهُ تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ...: استئنافٌ، و(مِن) هاهنا للتبعيض- على أحدِ الوجهين كما سبَق-، وإنَّما ذَكر بعضَهم ولم يعمَّهم؛ لأنَّ مِنهم مَن آمَن .
2- قوله: يَا أَهْلَ الكِتَابِ: المقصودُ مِن إعادةِ نِدائهم بهذا، هو التوبيخُ، وتسجيلُ باطلهم عليهم .