موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (59- 63)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ

غريبُ الكَلِماتِ:

الْمُمْتَرِين: أي الشَّاكِّين، والـمِرْية: التَّردُّد في الأمر، وهي أخصُّ من الشَّكِّ .
نَبْتَهِلْ: أي: نتداعَ باللَّعْن، أو نلتعِن؛ يقال: عليه بهلةُ الله، وبهلتُه، أي: لعنتُه، وأصل (البَهْل): كونُ الشيءِ غيرَ مراعًى، والبَهْل والابتهال في الدُّعاء: الاسترسالُ فيه والتَّضرُّع .
الْقَصَصُ: الأخبارُ المتتبَّعة، والأثَرُ، وأصْل القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيء .
مُشكِلُ الإعرابِ:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
كَمَثَلِ: الكافُ حرْف تَشبيه. و(مَثَلِ) مجرورة، وهي هنا بمعنى الحالِ والشأن، أي: إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدَم، وقيل: إنَّ المَثَل بمعنى الصِّفة، وقول: صِفةُ عيسى كصِفةِ آدَم كلامٌ مُطَّرد. وقيل غير ذلك.
خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ: جملةٌ مفسرةٌ لوجهِ التَّشبيه بين المَثَلين، لا محلَّ لها من الإِعراب؛ فهي خبرٌ مستأنَفٌ على جِهةِ التَّفسير لحالِ آدَمَ عليه السَّلام، كقولِك: كمَثلِ زيد- تريد أنَّك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصَّة زيد، فتقول:- فعَل كذا وكذا. وقيل غير ذلك.
كُنْ فَيَكُونُ: فَيَكُونُ مرفوعٌ على الاستئنافِ، أي: فهو يكون، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَيَكُونُ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلًا، والمعنى: فيكونُ كما يأمرُ الله، فيكونُ حكايةً للحالِ التي يكونُ عليها آدم، ويجوز أن يكون فَيَكُونُ بمعنى (فكان)؛ لأنَّ الخبرَ عن أمر آدمَ تناهَى عند قوله: كُنْ، وكلمة فَيَكُونُ خبرٌ لمبتدأ، واعلم أن ما قال له ربُّك: كُنْ، فهو كائنٌ، أو رفع فَيَكُونُ على الابتداء، ومعناه: كُنْ، فكان، فكأنَّه قال: فإذا هو كائنٌ .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُقيم اللهُ تعالى الحُجَّةَ على النَّصارى الَّذي عبَدوا عيسى عليه السَّلام بدَعْوى أنَّه لا أبَ له، فيُشبِّهُ خَلْقَ عيسى عليه السَّلام حين خلَقه من غير أبٍ بخَلْق آدمَ حين خلَقه من ترابٍ بلا أبٍ ولا أمٍّ، ثمَّ قال له: كُنْ، فكان, فخَلْقُ عيسى بلا أبٍ ليس بأعجبَ مِن خَلْق آدمَ.
ثمَّ يقول اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا القولَ الَّذي أخبرتُك به، وقَصصتُه عليك، من أمرِ عيسى- هو الحقُّ مِن عند ربِّك, فلا تكُنْ من الشَّاكِّين، فمَن جادَلك وخاصمَك في عيسى بعدَ ما جاءَك من العِلم والبيان في شأنه، فقُلْ للَّذين يُحاجُّونك: هلمُّوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم، وزوجاتِنا وزوجاتِكم، وإيَّانا وإيَّاكم, ثمَّ نلتعِنْ فنَجعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكاذِبِينَ منَّا ومنكم.
ثمَّ قال الله تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا الَّذي قصَصْناه عليك- يا محمَّدُ- في شأنِ عيسى وخبرِه هو الحقُّ البيِّن, وكلُّ ما خالَفه وناقضه فباطلٌ, ولا معبود يستحقُّ العبادةَ بحقٍّ إلَّا اللهُ العزيزُ الحكيم.
فإن أعرَض هؤلاء وتولَّوا عن الحقِّ الَّذي ذكَرْناه إلى غيرِه, ومالوا إلى الباطِلِ, فهم المفسِدون، واللهُ عليمٌ بهم، وسيُجازيهم على ذلك.

تفسير الآيات:

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
 أي: إنَّ شَبَهَ عيسى في خَلْق اللهِ له من غيرِ أبٍ كشَبَهِ آدمَ .
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
 أي: خلَق آدمَ من ترابٍ بلا أبٍ ولا أمٍّ، ثمَّ قال له: كُنْ، فكان، فليس خَلْقُ اللهِ عيسى بلا أبٍ بأعجَبَ مِن خَلْق آدمَ؛ فكيف يَستنكِرُ وجودَ عيسى من غيرِ أبٍ مَن يُقرُّ بوجود آدمَ من غير أبٍ ؟!
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
 أي: هذا القولُ الَّذي أنبأتُك به مِن خبرِ عيسى هو الحقُّ مِن عند ربِّك .
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
أي: فلا تكُنْ من الشَّاكِّين في شيءٍ ممَّا أخبرك به ربُّك .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ
 أي: فمَن جادَلك- يا محمَّدُ- في المسيحِ عيسى ابنِ مريم .
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
 أي: مِن بعدِ ما جاءَك من العِلم الَّذي قد بيَّنْتُه لك أنَّ عيسى عليه السَّلام عبدُ اللهِ ورسولُه .
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ
 أي: فقُلْ لهم: هلمُّوا وأقبِلوا، ولندعُ أبناءَنا وأبناءَكم، وزوجاتِنا وزوجاتِكم، وإيَّانا وإيَّاكم .
عن سعدِ بنِ أبي وقَّاص قال: ((لما نزلتْ هذه الآيةُ: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران: 61] دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليًّا وفاطمةَ وحسنًا وحُسينًا، فقال: اللهمَّ هؤلاء أهلي )) .
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
أي: ثمَّ نلتعِنْ فنَجعَلْ لَعْنَةَ اللهِ وعقوبتَه على الكاذِبينَ منَّا ومنكم .
عن حذيفةَ قال: ((جاء العاقبُ والسَّيدُ صاحبا نَجْران إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدُهما لصاحبِه: لا تفعلْ، فوالله لئنْ كان نبيًّا فلاعنَّا لا نُفْلح نحن، ولا عقِبُنا مِن بعدِنا. قالا: إنَّا نُعطيكَ ما سألْتَنا، وابعثْ معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعثْ معنا إلَّا أمينًا. فقال: لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ. فاستشرفَ له أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: قمْ يا أبا عبيدةَ بنَ الجرَّاح. فلمَّا قام قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم : هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ )) .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ
 أي: إنَّ هذا الَّذي قصَصْناه عليك من أمرِ عيسى عليه السَّلام، وأنَّه عبدٌ لله ورسوله، هو القَصَصُ الحقُّ، والصِّدقُ، وما خالَفه فهو باطلٌ .
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ
أي: وما من معبود بحقٍّ إلَّا اللهُ؛ فهو الَّذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له .
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
 أي: وإنَّ اللهَ هو الَّذي لا يُغلَب؛ فهو الَّذي قهَر كلَّ شيءٍ وخضع له، ذو الحكمةِ فهو الحاكمُ، ولا حاكمَ غيره، والمُحكِم أي المُتقِنُ لِما حكَم به .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
 أي: فإنْ أعرَضوا عن الإقرار بالتَّوحيد، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه، وعدَلوا عن الحقِّ إلى الباطل، فهُمُ المفسِدون، واللهُ عليمٌ بهم، ويُجازيهم على ذلك شرَّ الجزاء، ويُعاقبُهم أشدَّ العُقوبة .

الفوائد التربوية :

كلُّ مَن تولَّى عن دِين الله فهو مُفسدٌ، ولو زعَم أنَّه مصلِحٌ؛ كما في قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- إقامةُ الحُجَّة بمِثل ما يَحتجُّ به الخَصم؛ لأنَّه أقام الحُجَّة على النَّصارى بمِثْل ما احتَجُّوا به؛ كما في قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .
2- قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، إنْ قال قائلٌ: كيف شُبَّه عيسى بآدم وقدْ وُجِد هو مِن غيرِ أبٍ، ووُجِد آدَمُ من غير أبٍ وأمٍّ؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ التَّشبيهَ إنَّما هو في الحالةِ الخارجةِ عن المألوف؛ فقد شُبِّه به لأنَّه وُجِد وجودًا خارجًا عن العادة المستمرَّة، وهما في ذلك نظيران. الثاني: أنَّ المماثلةَ هي مشاركةٌ في بعض الأوصافِ؛ فعيسى عليه السَّلام مَثيلُ آدَمَ عليه السَّلام في إحْدى الطَّرفين؛ فلا يمنعُ اختصاصُ آدَم عليه السَّلام دونه بالطَّرَفِ الآخَرِ من تشبيهه به. الثالث: أنَّ الوجودَ من غير أب وأمٍّ أغربُ وأخرقُ للعادة من الوجودِ بغير أبٍ، فشُبِّه الغريبُ بالأغربِ؛ ليكونَ أقطعَ للخَصمِ، وأحسمَ لمادَّة شُبهتِه إذا نظَر فيما هو أغربُ ممَّا استغربَه ؛ ففي قولِه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ... ردٌّ على مَن يدَّعي أُلوهيَّة عيسى عليه السَّلام، فإذا كانوا يقولون: عيسى ابنُ الله- تعالى اللهُ عن ذلك-؛ لأنَّه وُلِد بلا أبٍ، فأَوْلى منه بذلك آدَمُ عليه السَّلام؛ لأنَّه خُلِق بلا أبٍ ولا أمٍّ؛ فإذا لم يكُن آدمُ إلهًا أو ابنَ إلهٍ، فعيسى ليسَ كذلك مِن باب أَوْلى .
3- في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ إثباتُ القياسِ، وكلُّ مَثَل مضروبٍ في القُرْآن، فإنَّه دليلٌ على ثبوت القياس؛ لأنَّه إلحاقُ الـمُورَدِ بالمضروبِ .
4- قال تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، المقولِ له: كُنْ هو آدَمُ عليه السَّلام؛ وإنَّما قال: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بعدَ أنْ ذكَر أنَّه خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ- وإنْ كان الترتيبُ الزمنيُّ يَقتضي أن يقول له: كُنْ قبل أنْ يَخلقَه لا بعده-؛ لأنَّه خلقَه قالبًا مِن ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَرًا. وقيل: الآية ليس فيها ترتيبٌ زمنيٌّ لهذه الأفعال، وإنَّما أخبرَنا اللهُ تعالى أولًا أنَّه خَلَقَ آدمَ مِن غيرِ ذَكَرٍ ولا أُنثى، ثم ابتدأَ خبرًا آخَرَ، أرادَ أنْ يُخبِرَنا به فقال: إنِّي مُخبرُكم أيضًا بعد خَبَري الأوَّل أنِّي قلتُ له: كُنْ فكان، فجاءَ بـثُمَّ لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبرِ الذي تأخَّر في الذِّكر؛ لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه: كُنْ .
4- في إضافةِ الرُّبوبيَّة إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قوله: مِنْ رَبِّكَ فضيلةٌ له؛ لأنَّ الرُّبوبيَّة هذه خاصَّةٌ، والرُّبوبيَّة الخاصَّةُ تُفيد معنًى أخصَّ من الرُّبوبيَّة العامَّة .
6- في قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهيُه عن الامتراء- وجلَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يكون ممتريًا- من باب التَّهييج لزيادة الثَّباتِ والطُّمأنينة .
7- في قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قاعدةٌ شريفة، وهي أنَّ ما قامت الأدلَّةُ على أنَّه حقٌّ وجزَم به العبدُ من مسائلِ العقائد وغيرها، وجَب الجزمُ بأنَّ كلَّ ما عارَضه باطلٌ، وكلَّ شُبهة تُورَدُ عليه فاسدة، سواءٌ قدَر العبدُ على حلِّها أو لا؛ لأنَّ ما خالَف الحقَّ فهو باطلٌ .
8- جواز المخاطبة بالتَّعريض؛ لأنَّ قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، لا يعني أنَّ الرَّسول يمكن أنْ يكونَ منهم، بل هو تعريضٌ بهؤلاء، وأنَّهم ذَوو خُلُق سيِّئ .
9- في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61]، قوله: مِنْ بَعْدِ يدلُّ على أنَّ هناك مهلةً بين العِلم الَّذي جاءه وبين المُحاجَّة الَّتي وقَعَت، بخلاف لو قال: (فمن حاجك فيه بعدما جاءك)، فإنَّها تفيد البَعديَّة، لكن لا تدلُّ على التَّراخي والمباعدة، ومعلوم أنَّ الإنسانَ كلَّما تمعَّن في النَّظر فيما علِم، ازداد به عِلمًا ويقينًا .
10- في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61]، جواز طلَب المباهلة عند عنادِ الخَصْم؛ وذلك مقيَّد بأنْ تكونَ بعِلم يقينيٍّ، أمَّا إذا كان الإنسان شاكًّا فلا يجوزُ له .
11- في قوله سبحانه: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ [آل عمران: 61]، جمَعَ في الملاعنةِ الأبناءَ والنِّساء؛ لأنَّه لَمَّا ظهَرَتْ مُكابرتُهم في الحقِّ وحبِّ الدُّنيا، عُلِم أنَّ مَن هذه صفتُه يكونُ أهلُه ونساؤُه أحبَّ إليه من الحقِّ .
12- في قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ جوازُ الدُّعاء باللَّعن على مَن خالَف الحقَّ، لكن بالوصفِ لا بالشَّخص؛ لأنَّ الكاذبين وصفٌ .
13- من شروط المباهَلة أنْ تكونَ في أمرٍ مهمٍّ، أمَّا الأمور الَّتي ليست مهمَّةً، فلا ينبغي للإنسان أنْ يُعرِّض نفسَه للخطَر، كما قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الآية [آل عمران: 61] .
13- واجبُنا نحوَ أحكام الله الكونيَّة والشَّرعيَّة التَّسليم والرِّضا والقناعة، وألَّا نطلُبَ سواها؛ لأنَّنا نعلَمُ أنَّها مبنيَّةٌ على الحِكمة ؛ وذلك يؤخذُ من قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
14- في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبطالٌ لإلهيَّة المسيح على حسَب اعتقادِ المخاطَبين من النَّصارى؛ فإنَّهم زعَموا أنَّ اليهودَ قتَلَتْه؛ وذلك ذِلَّةٌ وعجزٌ لا يَلتئمان مع الإلهيَّة، فكيف يكون إلهًا وهو غيرُ عزيزٍ، وهو محكومٌ عليه؟ وهو أيضًا إبطالٌ لإلهيَّتِه على اعتقادِنا؛ لأنَّه كان محتاجًا لإنقاذِه من أيدي الظَّالمين .
16- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنَّ كلَّ عزيزٍ إذا اقتَرَن في عزَّتِه الحكمةُ والحُكم، كملَتْ عِزَّتُه .

بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ: مَن جَعَل مَثَلَ هنا مرادفًا لـ(مِثْل)، كالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ، جعَل الجمْعَ بين أداتي تَشبيهٍ على طريقِ التَّأكيد للشبه، والتَّنبيه على عِظَم خطَرِه وقَدْره .
2- قوله تعالى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:
- (ثُمّ) للتراخي الرُّتبي؛ فإنَّ تكوينَه بأمْر كن أرفعُ رتبةً مِن خلْقِه من تراب، وهو أسبقُ في الوجودِ والتكوين المشارِ إليه بـكُنْ: هو تكوينُه على الصِّفة المقصودة؛ ولذلك لم يقُل: (كوَّنه من تراب)، ولم يقل: (قال له كن من تراب، ثم أحياه)، بل قال: خَلَقَه ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ .
- وعبَّر بقوله: فَيَكُونُ مع كونِه أمرًا قد مضَى، ولم يقل: (فكان)؛ لأنَّ معنى فَيَكُونُ فكان، أي: فهو كائنٌ؛ فاسْتُغنى بدَلالةِ الكلام على المعنى وقيل: فَيَكُونُ، فعطف بالمستقبلِ على الماضي على ذلك المعنى . وقيل: عبَّر بالمضارِعِ عن الماضي لاستحضارِ صورة تكوُّنه، ولا يُحمل المضارعُ في مِثل هذا إلَّا على هذا المعنى، مِثل قوله: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [فاطر: 9] .
- والإشارةُ بصيغةِ الافتعالِ المُمْتَرِينَ إلى أنَّه لا يَشكُّ فيه بعدَ هذا إلَّا مَن أمعن الفِكرَ في شُبه يُثيرها، وأوهامٍ يُزاولها .
3- قوله سبحانه: ثُمَّ نَبْتَهِلْ: أتى بـثُمَّ هنا تنبيهًا لهم على خِطابهم في مباهلتِه، كأنَّه يقول لهم: لا تَعْجَلوا وتأنَّوْا؛ لعلَّه أنْ يَظهرَ لكم الحقُّ؛ فلذلك أتى بحرف التَّراخي، وللإشارة أيضًا إلى خَطرِ الأمْرِ، وأنَّه ممَّا يَنبغي الاهتمامُ به، والتَّروِّي له، وإمعانُ النَّظرِ فيه؛ لوخامةِ العاقبةِ، وسُوءِ المُنقلَبِ للكاذبِ .
3- قوله: إنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ: فيه التنبيهُ بـ(ها) والإشارة (ذا) في قوله هَذَا، والجمعُ بين حرفي التأكيد (إنَّ واللام)، والفَصْل في قوله: إنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحقُّ ؛ فأُكِّد الخبرُ بثلاثة مؤكِّدات؛ لأنَّ المقامَ يَقتضي هذا, فمِن بلاغة الكلام أن يكون مطابقًا للواقع، أو موافقًا لمقتضى الحال .
4- قوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ:
- قوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ: فيه تأكيدُ النَّفي؛ بـ(ما) و(إلَّا)، وذلك أقوى صِيَغ الحَصْر؛ للمبالغةِ في أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الحقُّ سبحانه وتعالى .
- وصرَّح فيه بـ(مِن) الاستغراقيَّة؛ تأكيدًا للردِّ على النَّصارى في تثليثهم. ودخولها- (مِن)- بعد حرْف النَّفي؛ للتَّنصيصِ على قَصْد نفيِ الجِنس؛ لتدلَّ الجملةُ على التوحيد، ونفْي الشريكِ بالصَّراحة، ودَلالة المطابقة، وأنْ ليس المرادُ نفْيَ الوحدة عن غيرِ الله، فيُوهِم أنَّه قد يكونُ إلَاهانِ أو أكثر في شقٍّ آخَر، وإنْ كان هذا يؤول إلى نفْي الشريك، لكن بدلالة الالتزام .
- وفي قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ: تَكرارُ اسم الله تعالى ، وإظهارُه في موضِع الإضمار-حيث لم يقُلْ: (وإنه)-؛ لتربيةِ المهابةِ، ولتأكيدِ معنى الألوهيَّة .
- وقوله تعالى: وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ: فيه- مع التأكيد بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة- إشارةٌ إلى الجواب عن شُبهات النَّصارى .
- والضميرُ في قولِه: لَهُوَ القَصَصُ ضميرُ فصلٍ، ودخلتْ عليه لامُ الابتداءِ؛ لزيادةِ التقويةِ التي أفادَها ضميرُ الفصل؛ لأنَّ اللام وحْدَها مفيدةٌ تقويةَ الخبرِ، وضميرَ الفصلِ يُفيد القصرَ، أي: هذا القَصصُ لا ما تَقصُّه كتُبُ النصارى وعقائدُهم .
5- في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا: في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه انتقالٌ من خِطابٍ إلى غَيبة- هذا على القولِ بأنَّ الفِعل (تَوَلَّوا) ماضيًا، وأمَّا على القول بأنَّه مضارعٌ أصله (تَتولَّوا) وأُدغمتْ إحْدى التاءين في الأخرى، فليس فيه التِفاتٌ .
6- في قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: وضعُ الظَّاهر موضعَ المُضمَر؛ ليدلَّ على أنَّ التَّولِّيَ عن الحُجَج والإعراض عن التَّوحيد إفسادٌ للدِّين والاعتقاد، المؤدِّي إلى فساد النَّفس، بل وإلى فسادِ العالَم ، ومن فوائده أيضًا: انطباقُ الوصْفِ في هذا المظهَر على مَن يعودُ عليه، ومنها العموم؛ لأنَّه لو جاء الضَّميرُ هنا حسَب السِّياق، فإنَّ اللهَ عليمٌ بهم، لاختصَّ العِلم بهم وحدهم، لكن إذا قال: بِالْمُفْسِدِينَ صارَ عامًّا فيهم وفي غيرِهم .