موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (99-113)

ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غَريبُ الكَلِماتِ:

السَّعْيَ: أي: العَمَلَ والتَّصَرُّفَ وعَوْنَ أبيه، وأصلُ (سعي): يدُلُّ على المَشيِ السَّريعِ [666] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 373)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 322) .
أَسْلَمَا: أي: استَسْلَما وفَوَّضا الأمرَ للهِ، وأصلُ (سلم): يدُلُّ على انقيادٍ [667] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 373)، ((تفسير ابن جرير)) (19/581، 583)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/90)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 322). .
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أي: أضجَعَه على جَنْبِه على الأرضِ، والجَبينُ: جانِبُ الجَبهةِ، وللوَجهِ جَبينانِ، والجَبهةُ بيْنَهما، فالجَبينُ غيرُ الجَبهةِ، والتَّلُّ هنا: الدَّفعُ والصَّرْعُ [668] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 373)، ((تفسير ابن جرير)) (19/585)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/339)، ((الغريبين)) للهروي (1/259)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (19/90)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 322). .
الْبَلَاءُ الْمُبِينُ: أي: الاختبارُ الظاهِرُ، وأصلُ البلاءِ: الاختبارُ والامتحانُ، وأصلُ (بين): انكِشافُ الشيءِ، يُقالُ: بانَ الشَّيءُ وأبانَ، إذا اتَّضَح وانكشَف [669] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292، 327-328)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (9/6139)، ((البسيط)) للواحدي (19/92)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 322). .
بِذِبْحٍ: أي: بكَبشٍ، والذِّبْحُ: اسمُ ما ذُبِحَ، فِعلٌ بمعنى مَفعولٍ، وأصلُ (ذبح): يدُلُّ على شَقِّ حَلقِ الحَيَواناتِ [670] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((تفسير ابن جرير)) (19/601)، ((المفردات)) للراغب (ص: 326)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 354). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى جانبًا آخَرَ مِن قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: وقال إبراهيمُ لَمَّا نجَّاه اللهُ تعالى مِن كَيدِ قَومِه: إنِّي مُهاجِرٌ إلى رَبِّي، وهو سيَهديني إلى طَريقِ الحَقِّ والصَّلاحِ، وقال إبراهيمُ: ربِّ ارزُقْني صالِحينَ مِن لَدُنْك، فبَشَّرْناه بأنَّه سيُولَدُ له غُلامٌ حَليمٌ وهو إسماعيلُ عليه السَّلامُ، فلمَّا بَلَغ ابنُه إسماعيلُ معه السَّعيَ، قال إبراهيمُ له: يا بُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنَّني أذبَحُك، فماذا ترَى؟
قال له ابنُه إسماعيلُ: يا أبتِ افعَلْ ما أمَرَك اللهُ به، ستَجِدُني إن شاء اللهُ صابِرًا؛ وأسْلَمَ إبراهيمُ وابنُه أمْرَهما لله، وأضجَعَ إبراهيمُ ابنَه على جانبِ جبهتِه لِيَذبَحَه، ونادَيْناه فقُلْنا له: يا إبراهيمُ قد حقَّقتَ الرُّؤيا وعَمِلْتَ بها، إنَّا كذلك نَجزي كُلَّ مَن كان مُحسِنًا، فنُنَجِّيه مِنَ الكُرَبِ والشَّدائدِ.
إنَّ هذا الَّذي أمَرْنا به إبراهيمَ لَهُوَ الاختِبارُ الشَّديدُ، وفَدَيْنا ابنَه بكَبشٍ عَظيمٍ، وأنعَمْنا على إبراهيمَ بالثَّناءِ الباقي فيمَنْ بَعْدَه، سَلامٌ على إبراهيمَ. مِثلَ هذا الجزاءِ نَجزي كُلَّ مَن كان مُحسِنًا. إنَّ إبراهيمَ مِن عبادِنا المؤمِنينَ.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى مظهرًا آخَرَ مِن مَظاهِرِ فضْلِه على نبيِّه إبراهيمَ، فيقولُ: وبشَّرْناه بوِلادةِ ابنِه إسحاقَ، وأنَّه يكونُ نبيًّا مِنَ الصَّالِحينَ، وبارَكَ اللهُ على إبراهيمَ وعلى إسحاقَ، ومِن ذُرِّيَّتِهما مُحسِنٌ بطاعةِ اللهِ، ومِنهم ظالمٌ لِنَفْسِه ظُلمًا بيِّنًا بالكُفرِ والعِصيانِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا سَلَّم اللهُ إبراهيمَ مِن قَومِه ومِن النَّارِ الَّتي ألقَوه فيها؛ عَزَم على مُفارَقتِهم؛ لِيَتمكَّنَ مِن عبادةِ رَبِّه، ويَتضَرَّعَ له مِن غَيرِ أن يَلقَى مَن يُشَوِّشُ عليه [671] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/115). .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99).
أي: وقال إبراهيمُ لَمَّا نجَّاه اللهُ تعالى مِن كَيدِ قَومِه: إنِّي مُفارِقٌ قَومي وما هم عليه مِنَ الشِّركِ، إلى رَبِّي الَّذي خلَقَني، وهو المحسِنُ إلَيَّ، ومُدبِّرُ أمري [672] على أنَّ المرادَ أنَّه ذاهبٌ حقيقةً، فقد قيل: المعنى: إنِّي ذاهبٌ إلى حيثُ أتمَكَّنُ مِن عبادةِ الله تعالى. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/147). وقيل: المعنى: ذاهبٌ إلى المكانِ الَّذي أمَرني ربِّي بالهجرةِ إليه. وممَّن اختاره: الواحديُّ، وابنُ عادل، والشوكانيُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 912)، ((تفسير ابن عادل)) (19/354)، ((تفسير الشوكاني)) (4/462). وقد هاجَر إبراهيمُ عليه السَّلامُ إلى الأرضِ المُقَدَّسةِ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/613)، ((تفسير ابن جرير)) (19/576)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6131). ونسَب ابنُ الجوزي إلى الأكثَرينَ أنَّه قال ذلك حينَ أراد هِجرةَ قومِه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/546). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/195). وممَّن قال مِن السَّلفِ بنحوِ هذا القولِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/102). وقيل: المرادُ أنَّه ذاهبٌ إلى الله بقلبِه وعمَلِه ونيَّتِه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/546). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/576). ، وهو سيَهديني إلى طَريقِ الصَّوابِ والخَيرِ والصَّلاحِ [673] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/576)، ((تفسير القرطبي)) (15/97)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/146)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 221، 222). وممَّن اختار نحوَ المعنى المذكورِ في قولِه: سَيَهْدِينِ: الرسعنيُّ، والقرطبي، والعُليمي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/403)، ((تفسير القرطبي)) (15/97)، ((تفسير العليمي)) (5/530)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 222). وقال ابنُ جريرٍ: (قولُه: سَيَهْدِينِ يقولُ: سيُثَبِّتُني على الهدَى الَّذي أبصَرْتُه، ويُعينُني عليه). ((تفسير ابن جرير)) (19/577). وقيل: المعنى: سيُرشدُني إلى طريقِ الهجرةِ. ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/403). قال ابنُ عاشور: (الظَّاهِرُ: أنَّ هذا القَولَ قاله علَنًا في قَومِه؛ لِيَكُفُّوا عن أذاه... ويحتمِلُ أن يكونَ قال ذلك في أهلِه الَّذين يُريدُ أن يَخرُجَ بهم معه). ((تفسير ابن عاشور)) (23/146). وقال البِقاعي: («قَالَ» أي: إبراهيمُ عليه السَّلامُ لِمَن يَتوسَّمُ فيه أنَّ كَلامَه يُحْييه مِن مَوتِ الجَهلِ). ((نظم الدرر)) (16/259). .
كما قال اللهُ تبارك وتعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 48 - 50] .
وقال سُبحانَه: ... إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 26، 27].
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذه الجُملةَ بقيَّةُ قَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه بعدَ أنْ أخبَرَ أنَّه مُهاجِرٌ، استَشْعَرَ قِلَّةَ أهْلِه، وعُقمَ امرأتِه، وثارَ ذلك الخاطِرُ في نَفْسِه عندَ إزْماعِ الرَّحيلِ؛ لأنَّ الشُّعورَ بقِلَّةِ الأهْلِ عِندَ مُفارَقةِ الأوْطانِ يكونُ أقوى؛ لأنَّ المَرءَ إذا كان بيْنَ قَومِه كان له بعضُ السُّلُوِّ بوُجودِ قَرابَتِه وأصدِقائِه [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/148). .
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100).
أي: وقال إبراهيمُ: رَبِّ ارزُقْني صالِحينَ مِن جملةِ الَّذين يُصلِحونَ في الأرضِ بطاعَتِك ولا يَعصُونَك؛ عِوَضًا عن قَومي الكافِرينَ الَّذين فارَقْتُهم [675] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/577)، ((تفسير القرطبي)) (15/98)، ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). قيل: المرادُ بقَولِ إبراهيمَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ: طَلَبُ الولَدِ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة، ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/613). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/577). وقيل: طَلَب إبراهيمُ عليه السَّلامُ بدُعائِه ما هو أعَمُّ مِن الولَدِ، أي: هَبْ لي مِن الصَّالحينَ مَن يكونُ عَونًا لي مِن الأولادِ وغَيرِهم. ذكر هذا الوجهَ ابنُ عثيمين احتِمالًا، ومالَ إليه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 233). .
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101).
أي: فبَشَّرْنا إبراهيمَ بأنَّه سيُولَدُ له ولَدٌ ذَكَرٌ، لا يَعْجَلُ بالعقوبةِ مع القدرةِ، فهو في غايةِ الرَّزانةِ والثَّباتِ [676] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/149). قال ابن عاشور: (والحليمُ: الموصوفُ بالحِلْمِ، وهو اسمٌ يَجمَعُ أصالةَ الرَّأْيِ، ومَكارِمَ الأخلاقِ، والرَّحمةَ بالمخلوقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/149). .
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لَمَّا قال: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101]؛ أتْبَعَه بما يَدُلُّ على حُصولِ ما بُشِّرَ به وبُلوغِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وعَدَه في الآيةِ الأُولى بكَونِ ذلك الغُلامِ حَليمًا؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ ما يدُلُّ على كَمالِ حِلمِه؛ وذلك لأنَّه كان به مِن كَمالِ الحِلمِ وفُسحةِ الصَّدرِ ما قوَّاه على احتِمالِ تلك البَليَّةِ العَظيمةِ، والإتيانِ بذلك الجَوابِ الحَسَنِ [677] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/346). .
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ.
أي: فوُهِبَ له الغُلامُ المُبشَّرُ به -وهو إسماعيلُ عليه السَّلامُ-، فكَبِرَ وتَرَعْرَعَ حتَّى بلَغَ مع والِدِه السَّعيَ [678] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/578)، ((تفسير القرطبي)) (15/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 225). قيل: المرادُ ببُلوغِ السَّعيِ هنا: أنَّه صار مُطيقًا للعَمَلِ، فيُعينُ والِدَه على أعمالِه. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/578)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/310)، ((تفسير القرطبي)) (15/99). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وعِكْرِمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/579)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/103). وقيل: المرادُ بالسَّعيِ هنا: المَشيُ، أي: فصار يَمشي مع أبيه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 225). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/838)، ((تفسير ابن جرير)) (19/580). قال السعدي: (فَلَمَّا بَلَغَ الغلامُ مَعَهُ السَّعْيَ أي: أدرَك أن يَسعى معه، وبلغَ سِنًّا يكونُ في الغالِبِ أحَبَّ ما يكونُ لوالِدَيه، قد ذهَبَت مَشَقَّتُه، وأقبَلَتْ مَنفعتُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 706). وقيل: المرادُ ببُلوغِ السَّعيِ: بُلوغُ السِّنِّ الَّتي يُكَلَّفُ فيها بأداءِ العباداتِ الَّتي فُرِضَت عليه. وممَّن رُوِيَ عنه هذا القَولُ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (19/81، 82). .
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.
أي: قال إبراهيمُ لابنِه إسماعيلَ: يا بُنيَّ، إنِّي أرَى في النَّومِ أنَّني أذبَحُك؛ أمْرًا مِنَ اللهِ تعالى [679] يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/65)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/353 - 355)، ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((تفسير الإيجي)) (3/452، 453)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/157). قال ابن جُزَي: (يحتملُ أن يكونَ رأَى في المنامِ الذَّبحَ وهو الفعلُ، أو أُمِر في المنامِ أنْ يَذبَحَه). ((تفسير ابن جزي)) (2/195). ممَّن اختار القَولَ بأنَّ الذَّبيحَ هو إسماعيلُ: أبو حاتمٍ الرَّازيُّ، وابن عطية -ونسَبَه للجمهورِ-، وابنُ تيميَّةَ -ونسَبَه لأكثَرِ العُلَماءِ-، وابنُ القَيِّم، وابنُ كثير، والعليمي، والسعدي، وابنُ عاشور، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/3223)، ((تفسير ابن عطية)) (4/20)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/332 - 335)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 517)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/71 - 74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/27)، ((تفسير العليمي)) (5/532)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/156 - 159)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/317)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 243- 245). وممَّن قال مِن السَّلفِ بهذا القولِ: ابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعبدُ الله بنُ سَلَامٍ، وأبو الطُّفَيْلِ عامرُ بنُ واثِلةَ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه، والزُّهْريُّ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ في روايةٍ عنه، والحسَنُ البَصريُّ، وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، والشَّعبيُّ، ومجاهدٌ، ويوسفُ بنُ مِهْرانَ، وأبو صالحٍ، ومحمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ سابطٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/592)، ((تفسير الثعلبي)) (8/151)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/547). وقيل: الذَّبيحُ هو إسحاقُ عليه السَّلامُ. وممَّن رجَّح ذلك: ابنُ جرير، والنحاسُ ونسَبَه لأكثرِ العلماءِ، ونسَبَه الواحديُّ إلى الأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/580، 598)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/ 291)، ((الوسيط)) للواحدي (3/529). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وابنُ مسعودٍ، وأبو موسى الأشعريُّ، وأبو هُرَيرةَ، وأنسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه، والزُّهْريُّ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ في روايةٍ عنه، وكعبُ الأحبارِ، ووهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ، ومَسروقٌ، وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ، والقاسمُ بنُ أبي بَزَّةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/578) (19/588)، ((تفسير الثعلبي)) (8/149)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/547). قال ابنُ كثيرٍ بعدَ أن ذكَر أسماءَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ الذين يُروَى عنهم القولُ بأنَّ الذَّبيحَ هو إسحاقُ عليه السَّلامُ: (وهو اختيارُ ابنِ جَريرٍ، وهذا عجَبٌ منه، وهو إحدى الرِّوايتَينِ عن ابنِ عبَّاسٍ، ولكنَّ الصَّحيحَ عنه وعن أكثرِ هؤلاءِ أنَّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ). ((البداية والنهاية)) (1/368). وقال أيضًا: (وقد قال بأنَّه إسحاقُ طائفةٌ كثيرةٌ مِن السَّلفِ وغيرِهم، وإنَّما أخَذوه -واللهُ أعلَمُ- مِن كعبِ الأحبارِ، أو صُحُفِ أهلِ الكتابِ، وليس في ذلك حديثٌ صحيحٌ عن المعصومِ حتَّى نَترُكَ لأجْلِه ظاهرَ الكتابِ العزيزِ، ولا يُفهَمُ هذا مِن القرآنِ، بل المفهومُ بل المَنطوقُ بل النَّصُّ عندَ التَّأمُّلِ على أنَّه إسماعيلُ). ((البداية والنهاية)) (1/367). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/27). وممَّن توقَّف فلم يُرَجِّحْ أحدَ القولَينِ: الزَّجَّاجُ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/311)، ((تفسير الشوكاني)) (4/468). !
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى.
أي: فما الَّذي تَراه في شأنِ هذه الرُّؤيا الَّتي أخبَرْتُك بها [680] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/582)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/310)، ((تفسير السمعاني)) (4/407)، ((تفسير النيسابوري)) (5/572)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 228، 229). ؟
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ.
أي: قال إسماعيلُ لأبيه إبراهيمَ: امتَثِلْ يا أبَتِ ما أمَرَك اللهُ به؛ طاعةً له، وانقيادًا إليه [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/583)، ((تفسير السمعاني)) (4/407)، ((تفسير القرطبي)) (15/103)، ((تفسير ابن كثير)) (7/28)، ((تفسير الشوكاني)) (4/464)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). .
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
أي: ستَجِدُني -إن شاء اللهُ- صابِرًا مِن جُملةِ الصَّابِرينَ على حُكمِ اللهِ وبَلائِه، فأحتَسِبُ أجْري عندَ الله، ولا أجزَعُ مِن الذَّبحِ [682] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/615)، ((تفسير ابن جرير)) (19/583)، ((البسيط)) للواحدي (19/88)، ((تفسير السمعاني)) (4/408)، ((تفسير ابن كثير)) (7/28)، ((تفسير الألوسي)) (12/124). .
كما قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] .
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103).
فَلَمَّا أَسْلَمَا.
أي: فلَمَّا أسلَمَ إبراهيمُ وابنُه أمْرَهما إلى اللهِ تعالى، وانْقادَا لحُكمِه، ورَضِيَا بقَضائِه، واستعَدَّا لِتَنفيذِه [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/583)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/152، 153). وممَّن ذهب في الجُملةِ إلى المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، وابنُ القيِّم، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ المذكورِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، ومُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/584)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/104). وقيل: المرادُ: فلمَّا تَشَهَّدا وذكَرَا اللهَ تعالى: إبراهيمُ على الذَّبحِ، والولَدُ على شَهادةِ الموتِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/28). قال ابن عطيَّة: (واختلف النُّحاةُ في جوابِ «لَمَّا»؛ فقال الكوفيُّونَ: الجوابُ «نادَيْناهُ»، والواوُ زائدةٌ. وقالت فِرقةٌ: الجوابُ: «تَلَّهُ»، والواو زائِدةٌ، كزيادتِها في قَولِه: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ [النبأ: 19] . وقال البَصريُّونَ: الجوابُ مَحذوفٌ، تقديرُه: فلمَّا أسْلَمَا أسْلَمَ وتَلَّه... وقال بعضُ البَصريِّينَ: الجوابُ محذوفٌ، وتقديرُه: فلمَّا أسْلَمَا وتَلَّه للجَبينِ أجزَلَ أجرَهما، أو نحوُ هذا ممَّا يقتضيه المعنى). ((تفسير ابن عطية)) (4/481). وقال ابنُ جريرٍ: (قَولُه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ جوابُ قَولِه تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا، ومعنى الكَلامِ: فلمَّا أسلَمَا وتَلَّه للجَبينِ، نادَيْناه أنْ يا إبراهيمُ، وأُدخِلَت الواوُ في ذلك كما أُدخِلَت في قَولِه: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر: 73] ). ((تفسير ابن جرير)) (19/586). وقيل: الجوابُ محذوفٌ، تقديرُه: فلمَّا أسلَمَا وتَلَّه للجَبينِ وناديناه أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقْتَ الرُّؤيا، كان ما كان ممَّا تَنطِقُ به الحالُ، ولا يُحيطُ به الوَصفُ؛ مِنِ استِبشارِهما واغتِباطِهما، وحَمدِهما لله وشُكرِهما على ما أنعَمَ به عليهما؛ مِن دَفعِ البَلاءِ العظيمِ بعدَ حُلولِه، وما اكتَسَبا في تضاعيفِه بتَوطينِ الأنفُسِ عليه مِنَ الثَّوابِ والأعواضِ، ورِضوانِ اللهِ الَّذي ليس وراءَه مَطلوبٌ. قاله الزمخشري. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/55). .
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
أي: ووضَعَ إبراهيمُ ابنَه إسماعيلَ بقوَّةٍ على الأرضِ على جانبِ جَبْهتِه -على هيئةِ ما يُرادُ ذبحُه-؛ لِيَذبَحَه [684] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/585)، ((تفسير ابن عطية)) (4/481، 482)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/153). قال ابنُ كثير: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: على الجَبينِ، وله نظائِرُ في اللُّغةِ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (5/383). وقال أيضًا: (معنى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: ألْقاه على وجْهِه؛ قيل: أراد أن يَذبَحَه مِن قفاهُ لئلَّا يُشاهِدَه في حالِ ذبحِه. قاله ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. وقيل: بل أضْجَعه كما تُضْجَعُ الذَّبائحُ، وبَقيَ طرَفُ جبينِه لاصقًا بالأرضِ). ((البداية والنهاية)) (1/364). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/28). وقال الواحدي: (والصَّحيحُ أنَّه أضْجَعه على أحدِ شِقَّيْهِ؛ لأنَّ الجبينَ غيرُ الجبهةِ). ((التفسير البسيط)) (19/90). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/585). .
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105).
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ....
أي: ونادَيناه فقُلْنا له: يا إبراهيمُ، قد حقَّقتَ الرُّؤيا، فصدَّقتَ الأمرَ فيها، وعَمِلْتَ به حينَ أضجَعْتَ ابنَك لِذَبحِه [685] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 373)، ((تفسير ابن جرير)) (19/586)، ((تفسير ابن كثير)) (7/30)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/153، 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 239). .
كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] .
...  إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
أي: إنَّا كما جَزَينا إبراهيمَ ففرَّجْنا عنه كَرْبَه، كذلك نَجزي كُلَّ مَن كان مُحسِنًا، فنُنَجِّيه ممَّا هو فيه مِنَ الكُرَبِ والشَّدائِدِ [686] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/106)، ((تفسير ابن كثير)) (7/30)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 241). .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106).
أي: إنَّ أمْرَنا إبراهيمَ بذَبحِ ابنِه لَهُوَ الاختِبارُ الشَّديدُ والمِحنةُ العَظيمةُ الَّتي تَبيَّنَ بها استِسلامُه لأمرِ اللهِ تعالى [687] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/587)، ((تفسير ابن كثير)) (7/30)، ((تفسير الشوكاني)) (4/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 242). .
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124] .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قَدَّم ما هو الأهَمُّ مِن نَهيِ إبراهيمَ عن الذَّبحِ، ومِن البِشارةِ بالجَزاءِ؛ ذكَرَ فِداءَه بما جعَلَه سُنَّةً باقيةً، يُذكَرُ بها الذِّكرَ الجَميلَ على مَرِّ الأيَّامِ وتَعاقُبِ السِّنينَ [688] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/267). .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107).
أي: وفَدَيْنا إسماعيلَ بكَبشٍ [689] قال ابنُ كثير: (الصَّحيحُ الذي عليه الأكثَرونَ أنَّه فُدِيَ بكَبشٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/31). عَظيمٍ [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/587، 605)، ((تفسير الزمخشري)) (4/55)، ((تفسير القرطبي)) (15/107)، ((تفسير ابن كثير)) (7/31)، ((تفسير النيسابوري)) (5/573)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/156). قيل: معنى عَظِيمٍ: عَظيمُ الحَجمِ، ضَخمُ الجُثَّةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: الزمخشريُّ، والنسفي، والنيسابوري. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/55)، ((تفسير النسفي)) (3/132)، ((تفسير النيسابوري)) (5/573). وقيل: المعنى: أنَّه عَظيمُ القَدْرِ، شَريفٌ جليلٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/156). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/268). وقال السعدي: (كان عظيمًا مِن جِهةِ أنَّه كان فِداءً لإسماعيلَ، ومِن جِهةِ أنَّه مِن جُملةِ العباداتِ الجَليلةِ، ومِن جِهةِ أنَّه كان قُربانًا وسُنَّةً إلى يَومِ القيامةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 706). قال ابنُ جرير: (لا قَولَ في ذلك أصَحُّ مِمَّا قال اللهُ جَلَّ ثناؤُه، وهو أن يُقالَ: فَداه اللهُ بذِبحٍ عَظيمٍ؛ وذلك أنَّ اللهَ عَمَّ وَصْفَه إيَّاه بالعِظَمِ دونَ تَخصيصِه؛ فهو كما عَمَّه به). ((تفسير ابن جرير)) (19/605). .
عن صَفيَّةَ بنتِ شَيْبةَ، قالت: أخبَرَتْني امرأةٌ مِن بني سُلَيمٍ وَلَّدت عامَّةَ أهلِ دارِنا، أنَّها سألت عُثمانَ بنَ طَلْحةَ: لِمَ دعاك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: ((إنِّي كُنتُ رأيْتُ قَرْنَيِ الكَبشِ حينَ دَخلْتُ البَيتَ، فنَسِيتُ أن آمُرَكَ أن تُخَمِّرَهما [691] أي: تغطيهما. والتَّخميرُ: التَّغطيةُ، يُقالُ: خَمِّرْ إناءَك. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 97). ، فخَمِّرْهما؛ فإنَّه لا يَنبغي أن يكونَ في البَيتِ شَيءٌ يَشغَلُ المُصَلِّي )). قال سُفْيانُ -هو ابنُ عُيينةَ، أحدُ رواةِ الحديثِ-: لم تَزَلْ قَرْنَا الكَبشِ في البَيتِ حتَّى احتَرَق البَيْتُ، فاحتَرَقَا [692] أخرجه أبو داود (2030) مختصرًا، وأحمد (16637) واللَّفظُ له. حسَّن إسنادَه الذَّهبيُّ في ((المهذب)) (2/866)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2030). قال ابنُ كثير: (هذا دليلٌ مُستقِلٌّ على أنَّه [يعني: الذَّبيحَ] إسماعيلُ عليه السَّلامُ؛ فإنَّ قُريشًا تَوارَثوا قَرْنَيِ الكَبشِ الَّذي فَدى به إبراهيمُ خَلَفًا عن سَلَفٍ، وجيلًا بعدَ جيلٍ، إلى أنْ بَعَث اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن كثير)) (7/32). وقال أيضًا: (وهذا وحدَه دليلٌ على أنَّ الذَّبيحَ إسماعيلُ؛ لأنَّه كان هو المقيمَ بمكَّةَ، وإسحاقُ لا نعلمُ أنَّه قدِمها في حالِ صغرِه، والله أعلمُ). ((البداية والنهاية)) (1/366). .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108).
أي: وأثنَيْنا على إبراهيمَ، وأنعَمْنا عليه بالذِّكرِ الجَميلِ، والثَّناءِ الباقي في الَّذين يأتونَ مِن بَعدِه [693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/605)، ((الوسيط)) للواحدي (3/527)، ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير القرطبي)) (15/112)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/388)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 457 - 462)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). .
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109).
أي: سلامٌ على إبْراهيمَ وثَناءٌ حسنٌ، فلا يُذْكَرُ بسوءٍ [694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/606)، ((الوسيط)) للواحدي (3/527)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 461، 462)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/133، 134). وقال ابن جرير: (وقولُه: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ يقولُ تعالَى ذِكْرُه: أمَنَةٌ مِن اللهِ في الأرضِ لإبراهيمَ أنْ يُذْكَرَ مِن بَعدِه إلَّا بالجميلِ مِن الذِّكْرِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/606). .
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110).
أي: مِثلَ هذا الجزاءِ الَّذين جزَيْنا به إبراهيمَ لأنَّه كان مِن المُحسنينَ، نَجْزي به أيضًا كلَّ مَن كان محسنًا [695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/606)، ((تفسير ابن عطية)) (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (15/90)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/134). .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111).
أي: إنَّ إبراهيمَ مِن عبادِنا المُؤمِنينَ باللهِ؛ فوَحِّدوا اللهَ وأخلِصوا في عبادتِه له وَحْدَه لا شريكَ له [696] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/611)، ((تفسير ابن جرير)) (19/606)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). .
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112).
أي: وبَشَّرْنا إبراهيمَ بوِلادةِ ابنِه إسحاقَ، وأنَّه يكونُ نَبيًّا مِن جُملةِ الصَّالِحينَ [697] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/607)، ((تفسير ابن كثير)) (7/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/161)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 247). .
كما قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71].
وقال سُبحانَه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 72] .
وقال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم: 49] .
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أثنى اللهُ تعالى على إبراهيمَ عليه السَّلامُ بما عالَجَ مِمَّا لم يَحصُلْ لِغَيرِه مِثلُه، وكان مِن أعظَمِ جزاءِ الإنسانِ البَرَكةُ في ذُرِّيَّتِه؛ قال [698] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/269). :
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ.
أي: وأحَلَّ اللهُ بَرَكَتَه على إبراهيمَ [699] ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ -أي: بارَكَ اللهُ عليه وعلى ابنِه إسحاقَ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، والسمعاني، والقرطبي، والبيضاوي، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/616)، ((تفسير ابن جرير)) (19/608)، ((تفسير السمرقندي)) (3/150)، ((تفسير السمعاني)) (4/410)، ((تفسير القرطبي)) (15/112، 113)، ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير العليمي)) (5/539)، ((تفسير الشوكاني)) (4/466)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 248). وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى إسماعيلَ عليه السَّلامُ، أي: بارَكَ اللهُ على إسماعيلَ وأخيه إسحاقَ. وممَّن رجَّح ذلك: البِقاعي، وهو ظاهرُ اختيارِ السعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/ 269، 270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). قال البِقاعي مؤيِّدًا هذا الرَّأيَ: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ أي: على الغلامِ الحليمِ، وهو الذَّبيحُ المُحَدَّثُ عنه الَّذي جرَّ هذا الكلامَ كلَّه الحديثُ عنه، وكان آخِرُ ضميرٍ مُحَقَّقٍ عاد عليه الهاءَ في وَفَدَيْنَاهُ، ثمَّ في وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ. وهذا عندي أَوْلى مِن إعادةِ الضَّميرِ على إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه استوفَى مدحَه. ثمَّ رأيتُ حمزةَ الكرمانيَّ صنَع هكذا... وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أي: الأخَوَينِ، ولا شكَّ أنَّ هذا أقرَبُ وأقعَدُ مِن أن يكونَ الضَّميرُ للأبِ والابنِ؛ لأنَّ قِرانَ الأخَوينِ في الإخبارِ عن ذُرِّيَّتِهما أَولَى مِن قرانِ الابنِ مع أبيه في ذلك، فيَكونُ الابنُ حينَئذٍ مِن جملةِ المُخبَرِ عنه بذُرِّيَّةِ الأبِ). ((نظم الدرر)) (16/269، 270). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/113). وعلى إسحاقَ [700] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/608)، ((الوسيط)) للواحدي (3/531)، ((تفسير القرطبي)) (15/112)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 248). قال القرطبي: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ أيْ: [ثَبَّتْنا] عليهما النِّعمةَ. وقيلَ: كَثَّرْنا وَلَدَهما، أي: بارَكْنا على إِبراهيمَ وعلى أولادِه، وعلى إسحاقَ حينَ أَخْرَج أنبياءَ بني إسرائيلَ مِن صُلْبِه). ((تفسير القرطبي)) (15/112). وقيل: المرادُ: أفَضْنا عليهما بَرَكاتِ الدِّينِ والدُّنيا. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/414). .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 73].
وقال سُبحانَه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الله تعالى ما أعْطَى إبراهيمَ وإسحاقَ عليهما السَّلامُ؛ نَقَل الكلامَ إلى ذُرِّيَّتِهما [701] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). ، فقال:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
أي: ومِن ذُرِّيَّتِهما مُحسِنٌ في طاعةِ الرَّحمنِ، ومنهم ظالِمٌ لِنَفْسِه ظُلمًا بَيِّنًا بالكُفرانِ والعِصيانِ [702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/608)، ((الوسيط)) للواحدي (3/531)، ((تفسير الشوكاني)) (4/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). .
كما قال تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ أنَّه ينبغي -بل يجِبُ- على الإنسانِ ألَّا يَعتمِدَ على نَفْسِه، بل يَعتمِدُ على ربِّه عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه هنا: سَيَهْدِينِ [703] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 223). .
2- في قَولِه تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ تَحَنُّنُ الإنسانِ إلى ربِّه بالدُّعاءِ بأنْ يأتيَ بالعباراتِ الدَّالَّةِ على التَّحَنُّنِ والتَّعَطُّفِ والافتِقارِ إلى الرَّبِّ؛ لِقَولِه: إِلَى رَبِّي، فأضافَ الرُّبوبيَّةَ إلى نفْسِه مِن بابِ التَّلَطُّفِ والتَّحَنُّنِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ [704] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 223). .
3- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ المَوضِعَ الَّذي تَكثُرُ فيه الأعداءُ تَجِبُ مُهاجَرتُه؛ وذلك لأنَّ إبراهيمَ صَلواتُ اللهِ عليه وسَلامُه -مع أنَّ اللهَ سُبحانَه خَصَّه بأعظَمِ أنواعِ النُّصرةِ- لَمَّا أحَسَّ منهم بالعَداوةِ الشَّديدةِ هاجَرَ مِن تلك الدِّيارِ؛ فلَأنْ يَجِبَ ذلك على الغَيرِ كان أَولى [705] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/344). .
4- في قَولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ استِحبابُ بشارةِ مَن وُلِد له ولدٌ، وتهنِئتِه، فلمَّا كانت البشارةُ تَسُرُّ العبدَ وتُفرحُه استُحِبَّ للمسلمِ أن يُبادِرَ إلى مسرَّةِ أخيه، وإعلامِه بما يُفرِحُه [706] يُنظر: ((تحفة المودود بأحكام المولود)) لابن القيم (ص: 27، 28). .
5- قال الله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى في قَولِه عزَّ وجَلَّ: قَالَ يَا بُنَيَّ أنَّه ينبغي لِمَن أراد أنْ يُنَفِّذَ شَيئًا مَكروهًا لِشَخصٍ: أنْ يأتيَ بأُسلوبٍ يدُلُّ على أنَّه لا يُريدُ الإضرارَ به، وإنَّما هو أمرٌ لا بُدَّ منه؛ فإنَّ إتيانَه على صيغةِ التَّلَطُّفِ هو مِن أجْلِ أنْ يُبعِدَ عنه تُهمةَ أنَّه لا يُحِبُّه [707] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 235). .
6- في قَولِه تعالى: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ جوازُ حَثِّ المفضولِ للفاضلِ على فِعلِ الأوامِرِ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائِدةِ أنَّه لا ينبغي للإنسانِ أنْ يَحقِرَ نَفْسَه في الأمرِ بالخَيرِ، فيَقولَ: هذا أَجَلُّ مِنِّي، هذا أعلَمُ منِّي، هذا أكبَرُ منِّي؛ فلن آمُرَه بشَيءٍ! بل نقولُ: مُرْ بالخَيرِ سواءٌ كنتَ أصغَرَ سِنًّا أو شَأْنًا مِن المأمورِ، أو مِثْلَه، أو أكبَرَ منه [708] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 237). .
7- أنَّ الصَّبرَ يكونُ على امتِثالِ الأوامِرِ، وعلى المصائبِ؛ فإنَّ قَولَه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: الصَّابِرينَ على تَنفيذِ هذا الأمرِ، وعلى ما يَقتَضيه مِن الآلامِ؛ لأنَّه ذَبحٌ [709] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 238). .
أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يُعَلِّقَ كلَّ أمرٍ مُستقبَلٍ على مَشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ؛ فإنَّ هذا أمرٌ مُستقبَلٌ، واللهُ سُبحانَه وتعالى قَصَّه علينا لِنَعتبِرَ به، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111] ، ويُؤيِّدُ هذا أيضًا شَرعُنا؛ فإنَّ اللهَ قال لِنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [710] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 237). [الكهف: 23، 24]. فلَمَّا كان مِن أخلاقِ الكُمَّلِ عَدَمُ القَطعِ في المُستقبَلاتِ؛ لِما يَعلَمونَ مِن قُدرةِ الله تعالى على نَقضِ العزائِمِ بالحَيلولةِ بيْنَ المَرءِ وقَلبِه؛ قال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ [711] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/265). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 218). .
8- أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَحولَ بينَ نَفْسِه وبَينَ كُلِّ شَيءٍ قد يَعوقُه عن تَنفيذِ أمرِ اللهِ؛ لِقَولِه: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، حتَّى لا يرَى وجْهَه حينَ يَذْبَحُه؛ فإنَّ هذا يُهَوِّنُ عليهما الأمرَ، فيَهُونُ عليهما التَّنفيذُ، ورُبَّما يَتفَرَّعُ على هذه الفائِدةِ العَمَلُ بسَدِّ الذَّرائعِ ومَنْعِها، أي: الذَّرائعِ الَّتي تَحُولُ بيْنَ المَرءِ وبيْن تَنفيذِ أمرِ اللهِ، أو تُوجِبُ أن يَقَعَ فيما نهَى اللهُ عنه [712] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 230، 238). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ بيانُ حكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ فيما يُقَدِّرُه على عبدِه المؤمنِ مِن مكروهٍ؛ فلا يَقُلِ الإنسانُ: لماذا ابتلاني اللهُ تعالى بهذا دونَ غيري؟! بل يقولُ: للهِ في ذلك حِكَمٌ عظيمةٌ، واللهُ عزَّ وجلَّ يَبتلي المؤمنَ بالمصائبِ؛ فإذا صَبَر نال بذلك درجةَ الصَّابرينَ، وإذا احتَسَب الأجرَ بهذا الصَّبرِ نال بذلك ثوابَ الصَّابرينَ، والصَّبرُ مرتبةٌ عاليةُ يُوَفَّى فيها العاملُ أجْرَه بلا حسابٍ، ولا يُمكِنُ صَبْرٌ بلا مَصبورٍ عليه! بل لا بُدَّ مِن ابتلاءٍ وامتحانٍ يُعْلَمُ به قَدْرُ صَبْرِ الإنسانِ حتَّى يُثابَ على قَدْرِ ما حَصَل منه مِن الصَّبرِ [713] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 254). .
10- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ فيه تنبيهٌ على أنَّه لا يَلزَمُ مِن كَثرةِ فَضائِلِ الأبِ فَضيلةُ الابنِ [714] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/351). .
11- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ فيه دليلٌ على أنَّ البَرَّ قد يَلِدُ الفاجِرَ، ولا يَلحَقُه مِن ذلك عَيبٌ ولا مَنقَصةٌ [715] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/120). ، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ فَسادَ الأعقابِ لا يُعَدُّ غَضاضةً على الآباءِ [716] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). .
12- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ فيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسَبَ لا أثَرَ له في الهُدى والضَّلالِ [717] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير الشربيني)) (3/388). ، وأنَّ الخَبيثَ والطَّيِّبَ لا يَجري أمْرُهما على العِرقِ والعُنصُرِ؛ فقد يَلِدُ البَرُّ الفاجِرَ، والفاجِرُ البَرَّ، وهذا ممَّا يَهدِمُ أمرَ الطَّبائعِ والعناصِرِ [718] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/59). .
13- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ فيه تنبيهٌ على أنَّ المرءَ إنَّما يُعابُ بسُوءِ فِعلِه، ويُعاتَبُ على ما اجتَرَحت يداه، لا على ما وُجِدَ مِن أصلِه أو فَرعِه [719] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/59). ، وأنَّ مَناطَ الفَضلِ في الإنسانِ هو خِصالُ الذَّاتِ، وما اكتسَبَ المَرءُ مِن الصَّالحاتِ، وأمَّا كرامةُ الآباءِ فتَكمِلةٌ للكَمالِ، وباعِثٌ على الاتِّسامِ بفَضائِلِ الخِلالِ [720] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ لم يَقُلْ: «إلى اللهِ»؛ لأنَّ المقامَ يَختَصُّ بالرُّبوبيَّةِ أكثَرَ؛ إذْ إنَّ الرُّبوبيَّةَ مُقتضاها التَّدبيرُ، وهو الآنَ يَحتاجُ إلى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُه إلى ما فيه مَصلحتُه، فقال: ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وهي مِن الرُّبوبيَّةِ الخاصَّةِ [721] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 222). .
2- قال الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ هذه الآيةُ أصلٌ في الهِجرةِ والعُزلةِ، وأوَّلُ مَن فَعَل ذلك إبراهيمُ عليه السَّلامُ [722] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/97). .
3- الصَّلاحُ أفضَلُ الصِّفاتِ؛ بدليلِ أنَّ الخَليلَ عليه السَّلامُ طَلَب الصَّلاحَ لِنَفْسِه، فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ، وطَلَبه للوَلَدِ، فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، وطلَبَه سُلَيمانُ عليه السَّلامُ بعدَ كَمالِ دَرَجتهِ في الدِّينِ والدُّنيا، فقال: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الصَّلاحَ أشرَفُ مَقاماتِ العبادِ [723] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/345). .
4- قَولُ الله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وَصَفه بأنَّه مِن الصَّالِحينَ؛ لأنَّ نِعمةَ الوَلَدِ تكونُ أكمَلَ إذا كان صالِحًا؛ فإنَّ صَلاحَ الأبناءِ قُرَّةُ عَينٍ للآباءِ، ومِن صلاحِهم بِرُّهم بوالِدِيهم [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/148). .
5- قَولُ الله تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ لَمَّا كان هذا الوَصفُ رُبَّما أفهَمَ الطَّيشَ، وصَفَه بما أبقَى صَفاءَه ونفَى كَدَرَه، فقال: حَلِيمٍ [725] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/261). .
6- في قَولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ دليلٌ أنَّ إسماعيلَ هو الذَّبيحُ؛ من وجهينِ:
الأوَّل: أنَّه بَشَّرَه بالذَّبيحِ، وذَكَرَ قِصَّتَه أوَّلًا؛ فلمَّا استوفى ذلك قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ؛ فبَيَّنَ أنَّهما بِشارتانِ: بِشارةٌ بالذَّبيحِ، وبِشارةٌ ثانيةٌ بإسحاقَ. وهذا بَيِّنٌ [726] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/332). .
والثاني: أنَّه ذَكَرَ في الذَّبيحِ أنَّه غُلامٌ حَليمٌ، ولَمَّا ذَكَرَ البِشارةَ بإسحاقَ ذَكَرَ البِشارةَ بغُلامٍ عَليمٍ، في غيرِ هذا الموضِعِ. والتَّخصيصُ لا بُدَّ له مِن حِكمةٍ، وهذا ممَّا يُقوِّي اقتِرانَ الوَصفَينِ، والحِلْمُ مُناسِبٌ للصَّبرِ الَّذي هو خُلُقُ الذَّبيحِ، وإسماعيلُ وُصِفَ بالصَّبرِ في قَولِه تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] ، وأيضًا فإنَّه قال في الذَّبيحِ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، وقد وَصَفَ اللهُ إسماعيلَ أنَّه مِن الصَّابِرينَ، ووَصَفَ اللهُ تعالى إسماعيلَ أيضًا بصِدْقِ الوَعدِ في قَولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] ؛ لأنَّه وَعَدَ أباه مِن نَفْسِه الصَّبرَ على الذَّبحِ، فَوَفَّى به [727] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/333). .
7- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ إلى قَولِه: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أنَّ العِبادةَ هي ما أمَرَ اللهُ به، وإنْ كانت في غيرِ هذا الموضِعِ مَعصِيةً؛ فإنَّ قَتْلَ الابنِ مِن أكبرِ الكبائِرِ، فإذا أمَرَ اللهُ به صار طاعةً، ومِن أفضَلِ الطَّاعاتِ؛ لأنَّ تَنفيذَه مِن أشَقِّ ما يكونُ على النَّفْسِ، فإذا نَفَّذَه الإنسانُ -مع قوةِ الدَّاعي لِمَنعِه- كان ذلك أكمَلَ وأفضَلَ. ولهذا نَظيرٌ؛ فالسُّجودُ لغيرِ اللهِ شِركٌ، ولَمَّا أمَرَ اللهُ الملائِكةَ أنْ يَسجُدوا لآدمَ صار السُّجودُ لآدمَ طاعةً. فالحاصِلُ أنَّ العِبادةَ ما أمَرَ اللهُ به، وإنْ كان جِنسُها قد يكونُ مَعصيةً في مَوضِعٍ آخَرَ [728] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 250). .
8- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد يَبتلي عبدَه المؤمنَ بِبَلوى عَظيمةٍ شَديدةٍ على النُّفوسِ، وذلك بما أَرَى اللهُ نبيَّه إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن ذَبحِ وَلَدِه، ونحن نعلمُ أنَّ اللهَ لو قَدَّرَ على ولَدِك أنْ يموتَ لَكانت هذه مُصيبةً عظيمةً، لكنْ إذا أمَرَك اللهُ سُبحانَه وتعالى أنْ تَذبَحَه أنت بنَفْسِك صار هذا أعظَمَ وأشَدَّ، وصار الصَّبرُ على هذا الأمرِ أشدَّ وأفضَلَ مِن الصَّبرِ على مَوتِه بقَدَرٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ [729] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 234). .
9- قال الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ والمقصودُ مِن هذا الابتِلاءِ إظهارُ عَزمِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وإثباتُ عُلُوِّ مَرتبتِه في طاعةِ رَبِّه؛ فإنَّ الولَدَ عَزيزٌ على نَفْسِ الوالِدِ، والوَلَدُ الوَحيدُ الَّذي هو أمَلُ الوالِدِ في مُستقبَلِه: أشَدُّ عِزَّةً على نَفْسِه لا مَحالةَ، وقد عَلِمْتَ أنَّه سأل ولَدًا؛ لِيَرثَه نَسْلُه ولا يَرِثَه مَواليه؛ فبَعْدَ أنْ أقَرَّ اللهُ عَيْنَه بإجابةِ سُؤلِه وتَرعْرُعِ ولَدِه؛ أمَرَه بأن يَذبَحَه فيَنعَدِمَ نَسْلُه، ويَخيبَ أمَلُه، ويَزولَ أُنسُه، ويَتولَّى بيَدِه إعدامَ أحَبِّ النُّفوسِ إليه، وذلك أعظَمُ الابتِلاءِ! فقابَلَ أمْرَ رَبِّه عزَّ وجلَّ بالامتِثالِ، وحصَلَت حِكمةُ اللهِ مِن ابتِلائِه، وهذا معنى قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/150). [الصافات: 106] ، فلم يكُنِ الذَّبحُ مَصلَحةً، ولا كان هو مَطلوبَ الرَّبِّ في نَفْسِ الأمرِ، بل كان مُرادُ الرَّبِّ سبحانه ابتِلاءَ إبراهيمَ؛ لِيُقَدِّمَ طاعةَ رَبِّه ومَحبَّتَه على محبَّةِ الولَدِ، ولا يَبقَى في قَلبِه التِفاتٌ إلى غيرِ اللهِ؛ فإنَّه كان يُحِبُّ الولَدَ محبَّةً شَديدةً، وكان قد سأل اللهَ أن يَهَبَه إيَّاه، وهو خَليلُ اللهِ؛ فأراد تعالى تَكميلَ خُلَّتِه لله بألَّا يَبقى في قَلبِه ما يُزاحِمُ به مَحبَّةَ رَبِّه [731] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/203). .
10- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أُورِدَ هذا التَّكليفُ في النَّومِ لا في اليَقَظةِ، وبيانُ الحِكمةِ في ذلك مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا التَّكليفَ كان في نهايةِ المَشقَّةِ على الذَّابِحِ والمذبوحِ؛ فورَدَ أوَّلًا في النَّومِ حتَّى يصيرَ ذلك كالمُنبِّهِ لوُرودِ هذا التَّكليفِ الشَّاقِّ، ثمَّ يتأكَّدَ حالَ النَّومِ بأحوالِ اليَقَظةِ؛ فحينَئذٍ لا يَهجُمُ هذا التَّكليفُ دَفعةً واحِدةً، بل شَيئًا فشَيئًا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى جعَلَ رُؤيا الأنبياءِ عليهم السَّلامُ حَقًّا؛ قال اللهُ تعالى في حَقِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [الفتح: 27] ، وقال عن يوسُفَ عليه السَّلامُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] ، وقال في حَقِّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] ، والمقصودُ مِن ذلك تَقويةُ الدَّلالةِ على كَونِهم صادِقينَ؛ لأنَّ الحالَ إمَّا حالُ يَقَظةٍ وإمَّا حالُ مَنامٍ، فإذا تظاهَرَت الحالتانِ على الصِّدقِ كان ذلك هو النِّهايةَ في بَيانِ كَونِهم مُحقِّينَ صادِقينَ في كُلِّ الأحوالِ [732] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/349). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: إنَّما كان في المنامِ في هذا الأمرِ الخَطِرِ جِدًّا؛ لِيُعلَمَ وُثوقُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بما يأتيهم عن اللهِ في كُلِّ حالٍ [733] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/264). .
11- في قَولِ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ إلى قَولِه تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ استَدَلَّ بهذه الآيةِ والقِصَّةِ جماعةٌ مِن عُلَماءِ الأُصولِ على صِحَّةِ النَّسخِ قبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الفِعلِ، خِلافًا لطائفةٍ مِن المُعتزِلةِ، والدَّلالةُ مِن هذه ظاهِرةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَع لإبراهيمَ ذَبْحَ ولَدِه، ثمَّ نسَخَه عنه وصَرَفه إلى الفِداءِ، وإنَّما كان المقصودُ مِن شَرْعِه أوَّلًا إثابةَ الخليلِ على الصَّبرِ على ذَبحِ ولَدِه، وعَزمِه على ذلك [734] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/30). ويُنظر أيضًا: ((أصول السَّرَخْسي)) (2/63- 65)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/169- 174)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/226 - 228). ويُنظر في الاعتراضِ على هذه الفائدةِ: ((تفسير الزمخشري)) (4/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/150). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى الحِكمةُ في مُشاوَرةِ الابنِ في هذا البابِ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُطلِعَ ابنَه على هذه الواقِعةِ؛ لِيَظهَرَ له صَبرُه في طاعةِ الله، فتَكونَ فيه قُرَّةُ عينٍ لإبراهيمَ؛ حيثُ يراه قد بلَغَ في الحِلمِ إلى هذا الحَدِّ العَظيمِ، وفي الصَّبرِ على أشَدِّ المكارهِ إلى هذه الدَّرَجةِ العالِيةِ، ويَحصُلَ للابنِ الثَّوابُ العَظيمُ في الآخِرةِ، والثَّناءُ الحَسَنُ في الدُّنيا [735] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/350). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُصَبِّرَه إن جَزِعَ، ويُوطِّنَ نَفْسَه على مُلاقاةِ هذا البَلاءِ، وتَسكُنَ نَفْسُه لِما لا بُدَّ منه؛ إذ مُفاجَأةُ البلاءِ قبْلَ الشُّعورِ به أصعَبُ على النَّفْسِ [736] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/116). .
الوجه الثَّالث: لِيَكتسِبَ المَثوبةَ بالانقيادِ لأمرِ الله قبْلَ نزولِه [737] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/54). .
الوَجهُ الرابع: لِتَكونَ سُنَّةً في المُشاوَرةِ [738] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 482). قال ابن جرير: (لم يكُنْ ذلك منه مُشاورةً لابنِه في طاعةِ اللهِ، ولكِنَّه كان منه لِيَعلَمَ ما عندَ ابنِه مِن العَزمِ: هل هو مِن الصَّبرِ على أمرِ اللهِ على مِثلِ الَّذي هو عليه فيُسَرَّ بذلك، أمْ لا؟ وهو في الأحوالِ كُلِّها ماضٍ لأمرِ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/582، 583). .
13- في قَولِه تعالى: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى أنَّه يجوزُ امتِحانُ الشَّخصِ بما لا يُؤخَذُ رأيُه فيه، ولكِنْ للاستِعلامِ؛ فإنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يُريدُ أنْ يَنظُرَ إلى ابنِه؛ إنْ قال: لا تذبَحْني، تَرَكَ الذَّبْحَ! بل يريدُ أنْ يَعرِفَ مدى قَبولِه واستِعدادِه؛ فيَكونَ في هذا تَوريةٌ، والتَّوريةُ لا شَكَّ أنَّها جائِزةٌ للاستِعلامِ والاستِخبارِ [739] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 235). .
14- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فيه أنَّ رُؤْيا الأنبياءِ وَحيٌ [740] يُنظر: ((صحيح البخاري)) عقب حديث (138)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 218). ؛ فإنَّها معصومةٌ مِن الشَّيطانِ، وهذا باتِّفاقِ الأمَّةِ، ولهذا أقدَم الخليلُ على ذبْحِ ابنِه إسماعيلَ عليهما السَّلامُ بالرُّؤيا، وأمَّا رُؤيا غيرِهم فتُعرَضُ على الوحيِ الصَّريحِ، فإنْ وافَقَتْه وإلَّا لم يُعمَلْ بها [741] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/75). .
15- في قَولِه تعالى: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى أنَّ الخَبرَ قد يكونُ بمعنى الأمرِ؛ لأنَّ هذه الرُّؤيا بمَنزلةِ الخَبَرِ؛ حيثُ لم يُقَلْ له في الرُّؤيا: اذبَحْ ولدَك، بل رأى نَفْسَه يَذبَحُ الولَدَ -على أحدِ المعنيَينِ في تأويلِ الآيةِ-، ولكِنَّ الخبَرَ قد يكونُ بمعنى الأمرِ، وهل يَحتاجُ إلى قرينةٍ في هذا أمْ لا؟ الجوابُ: نعم، يَحتاجُ إلى قَرينةٍ؛ لأنَّ الأصلَ في الخبَرِ أنَّه لا يدُلُّ على الطَّلَبِ، ولكِنْ إذا وُجِدَتْ قرينةٌ تقتضي ذلك كان أمرًا [742] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 237). .
16- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ لَمَّا كان خِطابُ الأبِ يَا بُنَيَّ على سَبيلِ التَّرَحُّمِ، قال هو: يَا أَبَتِ على سَبيلِ التَّعظيمِ والتَّوقيرِ [743] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/117). .
17- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَضيلةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيثُ استَسْلَما لأمرِ اللهِ في هذا الأمرِ العَظيمِ الَّذي لا يُقدِمُ عليه إلَّا أمثالُهما، ولا شَكَّ أنَّ هذا مِن مَناقِبِهما [744] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 238). .
18- أنَّ الشَّارعَ قد يَأمُرُ بشَيءٍ لِيَمتَحِنَ العبدَ هل يُطيعُه أم يَعصيه، ولا يكونُ المرادُ فِعلَ المأمورِ به، كما أُمِر إبراهيمُ بذَبحِ ابنِه، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ حَصَلَ المَقصودُ ففَداه بالذِّبْحِ، وكذلك حديثُ: الأبرصِ والأقرعِ والأعمى؛ لَمَّا بَعَثَ اللهُ إليهم مَن سألَهم الصَّدَقةَ، فلمَّا أجابَ الأعمى قال المَلَكُ: ((أمسِكْ مالَك؛ فإنَّما ابتُليتُم، فقد رَضيَ اللهُ عنك، وسَخِطَ على صاحِبَيْك )) [745] أخرجه البخاري (3464) واللفظ له، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. ؛ فالحِكمةُ مَنشَؤُها مِن نَفْسِ الأمرِ، لا مِن نَفْسِ المأمورِ به [746] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/436). .
19- في قَولِه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إثباتُ الكلامِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه: وَنَادَيْنَاهُ أي: يا إبراهيمُ، قد صَدَّقْتَ الرُّؤيا؛ وأنَّه بصَوتٍ؛ لِقَولِه: وَنَادَيْنَاهُ، وبحرفٍ؛ لِقَولِه: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إلى آخِرِه [747] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 249). .
20- الإنسانُ إذا قَصَدَ العَمَلَ وسَعى إليه كُتِبَ له أجْرُه؛ لِقَولِه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، مع أنَّه لم يَذْبَحْ، لكِنَّه فَعَل ما أُمِرَ به، ولم يَبْقَ إلَّا أنْ يُنَفِّذَه [748] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 249). .
21- قَولُ الله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فيه سؤالٌ: كيف قال: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا مع أنَّ تَصديقَها إنما يكونُ بالذَّبحِ، ولم يُوجَدْ؟
الجوابُ عن ذلك مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ معناه: قد فَعلْتَ ما في غايةِ وُسْعِك ممَّا يَفعَلُه الذَّابحُ؛ مِن إلقاءِ وَلَدِك، وإمرارِ المُدْيةِ على حَلْقِه، ولكنَّ اللهَ منَعَها أنْ تَقطَعَ.
الثاني: أنَّ الَّذي رآه في النَّومِ مُعالَجةُ الذَّبحِ فقط، لا إراقةُ الدَّمِ، وقد فعَلَ ذلك في اليَقَظةِ؛ فكان مُصدِّقًا للرُّؤيا [749] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 482، 483). .
الثَّالث: أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ صدَّقَ الرُّؤيا إلى أنْ نَهاهُ اللهُ عن إكمالِ مِثالِها؛ فأُطلِقَ على تَصديقِه أكثَرَها أنَّه صدَّقَها [750] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/154). .
22- في قَولِه تعالى: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا أنَّ التَّصديقَ إنَّما يَتِمُّ بأمْرَينِ؛ أحدُهما: اعتِقادُ الصِّدْقِ، والثَّاني: محَبَّةُ القَلبِ وانقيادُه؛ فإبراهيمُ كان مُعتَقِدًا لِصِدقِ رُؤياه مِن حينِ رآها؛ فإنَّ رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وإنَّما جَعَلَه مُصَدِّقًا لها بعدَ أنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به [751] يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 50). .
23- في قَولِه تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أنَّ كُلَّ مُحسِنٍ فإنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ له مِن كُلِّ همٍّ فَرَجًا، ويَكتُبُ له أجرَ العبادةِ وإنْ لم يَفعَلْها، إذا سَعَى في أسبابِها [752] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 252). .
24- في قَولِه تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العمَلِ؛ فكما أحسَنَ في عبادةِ اللهِ أحسَنَ اللهُ إليه، وقد قال اللهُ عزَّ وجلَّ في سورةِ (الرَّحمنِ): هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]، يعني: ما جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسانُ، وبهذا يَتبيَّنُ لك كَمالُ فَضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو الَّذي أحسَنَ إليك أوَّلًا بتوفيقِك للطَّاعاتِ والإحسانِ، ثُمَّ أحسَنَ إليك ثانيًا بالجَزاءِ عليه [753] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 253). .
25- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ قِصَّةُ الذَّبيحِ هذه تُؤيِّدُ أحَدَ القَولَينِ المَشهورَينِ عندَ أهلِ الأُصولِ في حِكمةِ التَّكليفِ: هل هي للامتِثالِ فقط، أو هي مُتردِّدةٌ بيْنَ الامتِثالِ والابتِلاءِ؟ لأنَّه بيَّنَ في هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ حِكمةَ تَكليفِه لإبراهيمَ بذَبحِه ولَدَه ليست هي امتِثالَه ذلك بالفِعلِ؛ لأنَّه لم يُرِدْ ذَبْحَه كَونًا وقَدَرًا، وإنَّما حِكمةُ تَكليفِه بذلك مُجَرَّدُ الابتِلاءِ والاختِبارِ: هل يُصَمِّمُ على امتِثالِ ذلك أو لا؟ كما صَرَّح بذلك في قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ؛ فتَبيَّنَ بهذا أنَّ التَّحقيقَ أنَّ حِكمةَ التَّكليفِ مُترَدِّدةٌ بيْنَ الامتِثالِ والابتِلاءِ [754] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/318). .
26- في قَولِه تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بيانُ أنَّ رَفْعَ الذَّبحِ عن الابنِ جُعِلَ له مُقابِلٌ لِتَكميلِ التَّنفيذِ والامتِثالِ؛ وذلك بأنْ أُمِرَ إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يَذْبَحَ فِداءً عن ابنِه، ويكونَ هذا الذِّبْحُ -أي: المذبوحُ- عَظيمًا؛ فلهذا قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، يعني: أمَرْناه أنْ يَذبَحَ ذِبْحًا عَظيمًا؛ فِداءً له [755] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 255). .
27- قَولُ الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ احتَجَّ قَومٌ مِن العُلَماءِ بهذه الآيةِ على أنَّ مَن نذَرَ ذَبْحَ ولَدِه لَزِمَه ذَبْحُ شاةٍ، وأنكَرَ غَيرُهم هذا الاستِدلالَ، ورَأَوْا أنَّ نَذْرَ ذَبحِ الوَلَدِ مَعصيةٌ؛ فلا يكونُ فيه فِداءٌ، بخِلافِ ذَبحِ إبراهيمَ لِوَلدِه؛ فإنَّه كان مُمتَثِلًا لأمرِ اللهِ تعالى فيه، ثمَّ فداه اللهُ تعالى بالذِّبحِ تفَضُّلًا منه، والفَرْقُ بَيِّنٌ [756] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفَرَس (3/454). .
28- قَولُ الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فُسِّرَ الذِّبحُ في الأحاديثِ والآثارِ بكَبشٍ؛ فاستدَلَّ به المالكيَّةُ على أنَّ الغَنَمَ في الضَحيَّةِ أفضَلُ مِن الإبِلِ [757] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 218). ويُنظر أيضًا: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (3/38). . وفي الحديثِ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه، قال: ((ضحَّى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بكَبْشَينِ أمْلَحَينِ [758] الأمْلَح: هو الَّذي فيه بَياضٌ وسَوادٌ، والبياضُ أكثَرُ، وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/170) و (13/120). أقْرَنَينِ [759] أقرنَينِ: أي: لكلِّ واحدٍ منهما قَرْنانِ حسَنانِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/120). ، ذبَحَهما بيَدِه، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووضَع رِجْلَه على صِفاحِهِما [760] صِفاحِهما: أي: صفحةِ العُنُقِ، وهي جانِبُه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/121). ) [761] رواه البخاري (5565)، ومسلم (1966). .
29- لَطيفةٌ: مَنْصِبُ الخُلَّةِ مَنصِبٌ لا يَقْبَلُ المزاحَمةَ بغيرِ المحبوبِ، ولمَّا أَخَذ الولَدُ شُعبَةً مِن شِعَابِ القَلبِ؛ أمَرَ الله تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ بذَبحِه، فلمَّا أَسلَمَ للامتِثالِ خرَجَتْ تلك المُزاحَمةُ، وخَلَصَتِ المحبَّةُ لأهلِها، فجاءَتْه البُشرى وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، ليس المرادُ أنْ يُعَذَّبَ، ولكِنْ يُبْتَلى لِيُهَذَّبَ. ليس العَجَبُ مِن أمرِ الخَليلِ بذَبحِ الولَدِ، إنَّما العَجَبُ مِن مُباشرةِ الذَّبحِ بيَدِه، ولولا الاستِغراقُ في حُبِّ الآمِرِ لَمَا هانَ مِثلُ هذا المأمورِ؛ فلذلك جُعِلَتْ آثارُها مَثَابةً للقلوبِ تَحِنُّ إليها أعظَمَ مِن حنينِ الطُّيورِ إلى أوكارِها [762] يُنظر: ((المدهش)) لابن الجوزي (ص: 86، 87)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/223). .
30- قال تعالى: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فُهِمَ مِن ذِكرِ المُحسِنينَ أنَّ الجزاءَ إحسانٌ بمِثلِ الإحسانِ، فصار المعنى: إنَّا كذلك الإحسانِ العظيمِ الَّذي أحسَنْتَه نَجْزي المحسِنينَ، فهذا وَعدٌ بمَراتبَ عَظيمةٍ مِن الفضْلِ الرَّبَّانيِّ، وتضمَّن وَعْدَ ابنِه بإحسانٍ مِثلِه مِن جِهَةِ نَوطِ الجَزاءِ بالإحسانِ، وقد كان إحسانُ الابنِ عَظيمًا ببَذْلِ نَفْسِه [763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/155). .
31- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الثَّناءُ على إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهذينِ الوَصفَينِ، وهما: العُبوديَّةُ والإيمانُ، ويَتفرَّعُ على ذلك: أنَّ مَنِ اتَّصَفَ بالعُبوديَّةِ والإيمانِ نالَه مِن الثَّناءِ بقَدْرِ ما اتَّصَفَ به منهما؛ فكُلَّما كان الإنسانُ للهِ أعبَدَ، وبه آمَنَ؛ كان الثَّناءُ عليه أكثَرَ وأعظَمَ، ولا تَغتَرَّ بما تُلاقيه في الدُّنيا مِن مُجابَهاتٍ؛ فإنَّ هذا قد يَرِدُ، ولكِنْ يكونُ امتِحانًا وابتِلاءً واختِبارًا، ويكونُ الثَّناءُ ولو بعدَ مَوتِ الإنسانِ؛ فكم مِن أئمَّةٍ مِن هذه الأُمَّةِ أُوذوا في حياتِهم؟! ولكِنْ بعدَ مماتِهم صار جزاءُ هذه الأذِيَّةِ أنَّ اللهَ تعالى رَفَع لهم الذِّكرَ، وصارتِ العاقِبةُ لهم والثَّناءُ الحَسَنُ بعدَ مَماتِهم، والشَّواهِدُ على ذلك كَثيرةٌ [764] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 258). .
32- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ فَضيلةُ العُبوديَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ والإيمانِ به؛ لأنَّه لا شَكَّ أنَّ المرادَ بقَولِه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الثَّناءُ عليه [765] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 258). .
33- قال الله تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ البِشارةُ ورَدَت مَرَّتينِ: مرَّةً في قَولِه: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فهذه الآيةُ قاطِعةٌ في أنَّ المُبَشَّرَ به هو الذَّبيحُ؛ ومرَّةً في قَولِه: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] الآيةَ. قد صَرَّح فيها أنَّ المبشَّرَ به إسحاقُ، ولم يكُنْ مِن سُؤالِ إبراهيمَ، بل قالت امرأتُه إنَّها عَجوزٌ، وإنَّه شَيخٌ، وكان ذلك في الشَّامِ، لَمَّا جاءت الملائِكةُ إليه؛ بسَبَبِ قَومِ لُوطٍ، وهو في أواخِرِ أمْرِه، وأمَّا البِشارةُ الأُولى لَمَّا انتَقَل مِن العِراقِ إلى الشَّامِ حينَ كان سِنُّه لا يُسْتغرَبُ فيه الوَلَدُ؛ ولذلك سألَه، فعَلِمْنا بذلك أنَّهما بِشارتانِ في وَقتَينِ بغُلامينِ: أحَدُهما بغيرِ سُؤالٍ، وهو إسحاقُ، صَريحًا. والثَّانيةُ: قبْلَ ذلك بسُؤالٍ، وهو غيْرُه، فقَطَعْنا بأنَّه إسماعيلُ، وهو الذَّبيحُ [766] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 218). .
34- قَولُ الله تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ في ذِكرِ الصَّلاحِ بعدَ النُّبُوَّةِ تعظيمٌ لِشأنِه، وإيماءٌ بأنَّه الغايةُ لها؛ لتَضمُّنِها معنَى الكَمالِ والتَّكميلِ [767] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/388). .
35- ذَكَر اللهُ تعالى لنا في القُرآنِ بَرَكَتَه على إسحاقَ، في مِثلِ قَولِه تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ، مُنَبِّهًا لنا على ما حصَلَ في أولادِه مِن نُبُوَّةِ مُوسى عليه السَّلامُ وغَيرِه، وما أُوتُوه مِنَ الكِتابِ والعِلمِ، مُستَدعيًا مِن عبادِه الإيمانَ بذلك والتَّصديقَ به، وألَّا يُهمِلوا مَعرِفةَ حُقوقِ هذا البَيتِ المبارَكِ، وأهلِ النُّبوَّةِ منهم، ولا يَقولَ القائِلُ: هؤلاء أنبياءُ بني إسرائيلَ لا تَعلُّقَ لنا بهم! بل يجِبُ علينا احترامُهم وتوقيرُهم والإيمانُ بهم، ومَحبَّتُهم ومُوالاتهُم والثَّناءُ عليهم -صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أجمَعينَ [768] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 309). .
36- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ فيه وَعيدٌ لليَهودِ ومَن كان مِن ذُرِّيَّتِهما لم يُؤمِنْ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [769] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/120). .
37- قال الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ في هذه التَّكمِلةِ إبطالُ غُرورِ المُشرِكينَ بأنَّهم مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [770] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). .
38- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ لعَلَّ هذا مِن بابِ دَفعِ الإيهامِ؛ فإنَّه لَمَّا قال تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ اقتضى ذلك البَرَكةَ في ذُرِّيَّتِهما، وأنَّ مِن تمامِ البَرَكةِ: أن تَكونَ الذُّرِّيَّةُ كُلُّهم مُحسِنينَ، فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ مِنهم مُحسِنًا وظالِمًا [771] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 706). .
39- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ دخَلَ تحتَ قَولِه: مُحْسِنٌ الأنبياءُ والمؤمِنونَ، وتحت قَولِه: (ظَالِمٌ) الكافِرُ والفاسِقُ. واللهُ أعلَمُ [772] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/351). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
- أجْرى إبراهيمُ عليه السَّلامُ كَلامَه، وبتَّ القَولَ بأنَّ ربَّهُ سيَهْديهِ؛ جَريًا على سَنَنِ مَوعِدِ ربِّهِ، أو بِناءً على عادةِ اللهِ تَعالى معه في هِدايَتِه وإرْشادِه، أو أظهَرَ بذلك تَوكُّلَه وتَفْويضَه أمْرَه إلى اللهِ؛ لأنَّه أرادَ إعلامَ قَومِهِ بأنَّه واثِقٌ برَبِّهِ، وأنَّه لا تردُّدَ له في مُفارَقَتِهم. ورُبَّما كان مَعْناهُ: إنِّي ذَاهِبٌ إلى حيثُ أمَرَني ربِّي، وهي المُهاجَرةُ للشَّامِ، أو إلى طاعةِ ربِّي ورِضاهُ. وقَولُه: سَيَهْدِينِ أي: سيُثبِّتُني على هُداي، ويَزيدُني هُدًى، ولم يَكُنْ كذلك حالُ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث قصَدَ الرَّجاءَ والطَّمَعَ، فقال حينَ قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 22] ؛ فلذلك ذُكِرَ بصِيغةِ التَّوقُّعِ [773] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/53)، ((تفسير البيضاوي)) (5/14)، ((تفسير أبي السعود)) (7/199)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 481). .
وقيل: إنَّ العَبدَ إذا تجلَّى له مَقاماتُ رَحمةِ الله، فقد يَجزِمُ بحُصولِ المقصودِ، وإذا تجلَّى له مَقاماتُ كَونِه غَنيًّا عن العالَمينَ، فحينَئذٍ يَستَحقِرُ نَفْسَه، فلا يجزِمُ، بل لا يُظهِرُ إلَّا الرَّجاءَ والطَّمعَ [774] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/344، 345). .
2- قولُه تعالَى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
- الفاءُ في فَبَشَّرْنَاهُ للتَّعقيبِ، فإنْ كان اللهُ بشَّرَ إبراهيمَ بأنَّه يُولَدُ له ولَدٌ، أو يُوجَدٌ له نَسْلٌ عقِبَ دُعائِه -كما هو الظَّاهرُ-؛ فالتَّعقيبُ على ظاهِرِه، وإنْ كان اللهُ بشَّرَه بغُلامٍ بعْدَ ذلك حِينَ حمَلَتْ منه هاجرُ جاريتُه بعْدَ خُروجِه بمُدَّةٍ طويلةٍ؛ فالتَّعقيبُ نِسبيٌّ، أي: بشَّرْناه حينَ قدَّرْنا ذلك أوَّلَ بِشارةٍ بغُلامٍ، فصار التَّعقيبُ آيِلًا -أي: عائِدًا وراجِعًا- إلى المُبادَرةِ، كما يُقالُ: تَزوَّجَ فوُلِدَ له [775] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/149). والقاعدة: أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ، وتعقيبُ كلِّ شيءٍ بحَسَبِه. يُنظر: ((شرح قطر الندى وبل الصدى)) لابن هشام (ص: 302)، ((تفسير ابن كثير)) (5/222، 450)، ((تفسير الألوسي)) (4/224). .
- في قَولِهِ: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ إيجازُ قِصَرٍ [776] الإيجازُ: هو الاختصارُ والجمعُ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظِ القليلةِ، وأداءُ المقصودِ مِن الكلامِ بأقلَّ مِن عبارات مُتعارَفِ الأوساطِ. ويكونُ الإيجازُ محمودًا إذا لم يُخِلَّ بالمقصودِ. وقيل: الإيجازُ حذْفُ الفُضولِ، وتقريبُ البعيدِ. وقيل عن البلاغةِ كُلِّها: هي إصابةُ المعنى، وحُسنُ الإيجازِ. والإيجازُ نوعان؛ الأوَّلُ: إيجازُ القِصَرِ (ويُسمَّى إيجازَ البَلاغةِ)، وهو ما ليس بحَذْفٍ؛ كقولِه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ فإنَّه لا حذْفَ فيه، مع أنَّ معناه كثيرٌ يَزيدُ على لفْظِه؛ لأنَّ المرادَ به أنَّ الإنسانَ إذا علِم أنَّه متَى قَتَل قُتِل، كان ذلك داعيًا له قويًّا إلى ألَّا يُقدِمَ على القِتال؛ فارتفع بالقتْلِ -الَّذي هو قِصاصٌ- كثيرٌ مِن قتْلِ النَّاسِ بعضِهم لبعضٍ؛ فكان ارتفاعُ القتلِ حياةً لهم. الثَّاني: إيجازُ الحَذْفِ: وهو حذفُ ما يُعلمُ ويُفهمُ مِن سِياقِ الكلامِ بشرطِ وُجودِ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه؛ فقد يكونُ الإيجازُ بالحذفِ وغيرِه. يُنظر: ((البيان والتبيُّن)) للجاحظ (1/99)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رَشِيق (1/242)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 277)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/181 وما بعدها)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/102)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 198). ؛ فقدِ انطَوَتْ هذه البِشارةُ المُوجَزةُ على ثَلاثٍ: أنَّ الوَلَدَ ذَكَرٌ، وأنَّه يَبلُغُ أوانَ الحُلْمِ (أي: البلوغِ)، وأنَّه يكونُ حليمًا، وأيُّ حِلمٍ أدَلُّ على ذلك مِن حِلمِه حينَ عَرَض عليه أبوهُ الذَّبحَ فلم يَضطَرِبْ، ولم يَتخاذَلْ، ولم يَعتَرِضْ على مَشيئةِ أبيهِ، بل قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، ثمَّ استَسْلَم لذلك، ولم يكُنْ لِيَدورَ له في خَلَدِه أنَّ اللهَ سيَفْديهِ، وسيُهيِّئُ له كَبْشَ الفِداءِ [777] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/53)، ((تفسير البيضاوي)) (5/14)، ((تفسير أبي حيان)) (9/116)، ((تفسير أبي السعود)) (7/200)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/298). !
- وهذا الغُلامُ الَّذي بُشِّرَ به إبراهيمُ هنا هو إسماعيلُ ابنُه البِكْرُ، وهذا غيرُ الغلامِ الَّذي بشَّرَه به الملائكةُ الَّذين أُرْسِلوا إلى قَومِ لُوطٍ في قولِه تعالى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 53] ، وقولِه: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28]، وهو إسحاقُ عليه السلامُ، فذلك وُصِفَ بأنَّه عليمٌ، نَظَرًا لِشَرَفِ العِلمِ، وهذا وُصِفَ بـ حَلِيمٌ لِمُناسبَتِه حِلمَ إسماعيلَ عليه السلامُ؛ لِوَعدِه بالصَّبرِ في جَوابِه لسُؤالِ أبيهِ له في ذَبحِه بقَولِه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وأيضًا ذلكَ كانتِ البِشارةُ به بمَحضرِ سارةَ أُمِّه، وقد جُعِلَت هي المُبشَّرةَ في قولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود: 72] ، فتلك بِشارةُ كَرامةٍ، والأُولى بِشارةُ استجابةِ دُعائِه، فلمَّا وُلِدَ له إسماعيلُ تحقَّقَ أمَلُ إبراهيمَ أنْ يكونَ له وارِثٌ مِن صُلبِه، فالبِشارةُ بإسماعيلَ لمَّا كانت عَقِبَ دُعاءِ إبراهيمَ أنْ يَهَبَ اللهُ له مِن الصَّالِحينَ، عُطِفت هنا بفاءِ التَّعْقيبِ، وبِشارَتُه بإسْحاقَ ذُكِرَت في هذه السُّورةِ مَعْطوفةً بالواوِ عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ [778] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 481، 482)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/149). .
3- قولُه تعالَى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
- الفاءُ في فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فَصيحةٌ؛ لأنَّها مُفْصِحةٌ عن مُقدَّرٍ، تَقديرُه: فوُلِدَ له ويَفَعَ وبلَغَ السَّعيَ، فلمَّا بلَغَ السَّعيَ، قال: يا بُنَيَّ... إلخ [779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/149). وحُذِف هذا المقدَّرُ؛ تعويلًا على شَهادةِ الحالِ، وإيذانًا بعَدَمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ به؛ لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعْدَ البِشارةِ [780] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/199، 200). .
- قَولُه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: بلَغَ إسماعيلُ سِنَّ السَّعيِ مع أبيه إبراهيمَ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وقيل: لما قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: القدرةَ على أنْ يسعَى. فقِيل: معَ مَن يَسعَى؟ فقِيل: معَ أبيه. والفائِدةُ في التَّكريرِ: التَّأكيدُ، والمُبالَغةُ في استِصْحابِه إيَّاه كأنَّه بلَغَ معه، واستَكْمَلَ في أخْلاقِه مِن بَدءِ حالِه، واختِصاصُ الأبِ بالمَعيَّةِ؛ لأنَّه أرفَقُ النَّاسِ بابْنِه، وأعطَفُهم عليه في الاستِصْلاحِ، وغَيْرُه رُبَّما عَنَّفَ به في الاستِسْعاءِ فلا يَحتمِلُه؛ لأنَّه لم تَستحكِمْ قُوَّتُه، ولم يَصلُبْ عُودُه، والمُرادُ: أنَّه على غَضاضةِ سِنِّه، وتَقلُّبِه في حدِّ الطُّفولةِ، كان فيه مِن رَصانةِ الحِلمِ، وفُسحةِ الصَّدرِ ما جسَّرَه على احتِمالِ تلك البَليَّةِ العَظيمةِ، والإجابةِ بذلك الجَوابِ الحَكيمِ: أُتِيَ في المَنامِ فقيلَ له: اذْبَحِ ابْنَكَ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، ورُؤْيا الأنبياءِ وَحيٌ كالوَحيِ في اليَقَظةِ؛ فلهذا قال لابْنِه: يَا بُنَيَّ على سبيلِ التَّرحُّمِ، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فذَكَرَ تَأْويلَ الرُّؤْيا، كما يقولُ المُمتَحَنُ -وقد رَأى أنَّه راكِبٌ في سَفينةٍ-: رأيتُ في المَنامِ أنِّي ناجٍ مِن هذه المِحْنةِ [781] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/53)، ((تفسير البيضاوي)) (5/14)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/178)، ((تفسير أبي حيان)) (9/116)، ((تفسير أبي السعود)) (7/199). .
- والنِّداءُ في قَولِه: يَا بُنَيَّ نِداءُ شَفَقةٍ وتَرحُّمٍ [782] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/116). .
- قيل: إنَّما ذُكِرَ بلَفظِ المضارِعِ أَرَى؛ لِتَكرُّرِ الرُّؤيا، وقيل: لاستحضارِ الصورةِ الماضيةِ لنوعِ غرابةٍ [783] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/15)، ((تفسير الألوسي)) (12/123). .
- والفاءُ في قَولِه: فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى فاءُ تَفريعٍ، أو فصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مُقدَّرٍ قد حُذِفَ؛ أي: إذا عَلِمْتَ هذا فانظُرْ ماذا ترى [784] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/54)، ((تفسير البيضاوي)) (5/14)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 482)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/151). ؟
- قولُه: يَا أَبَتِ فيه ابتداءُ الجوابِ بالنِّداءِ، واستِحضارُ المُنادى بوَصْفِ الأُبُوَّةِ، وإضافةُ الأبِ إلى ياءِ المتكلِّمِ المُعوَّضِ عنها التَّاءُ، المُشعِرُ تَعويضُها بصِيغةِ تَرقيقٍ وتَحَنُّنٍ، وفي قولِه: يَا أَبَتِ تَعظيمٌ وتَوقيرٌ لأبيهِ [785] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/151). .
- والتَّعبيرُ عن الذَّبحِ بالموصولِ -وهو مَا تُؤْمَرُ- دونَ أنْ يقولَ: اذْبَحْني، يُفِيدُ وَحْدَه إيماءً إلى السَّببِ الَّذي جعَلَ جوابَه امْتثالًا لِذَبْحِه. وصِيغةُ الأمْرِ في قَولِه: افْعَلْ مُستعمَلةٌ في الإذْنِ، وعُدِلَ عن أنْ يُقالَ: اذْبَحْني، إلى افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ؛ للجمْعِ بيْن الإذنِ وتَعليلِه، أي: أذِنْتُ لك أنْ تَذْبَحني؛ لأنَّ اللهَ أمَرَك بذلك؛ ففيه تَصديقُ أبيهِ، وامتثالُ أمْرِ اللهِ فيه [786] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/151، 152). .
- وحُذِفَ المُتعلَّقُ بفِعلِ تُؤْمَرُ؛ لِظُهورِ تَقديرِه، أي: ما تُؤمَرُ به. وبقِيَ الفِعلُ كأنَّه مِن الأفعالِ المُتعدِّيةِ، وهذا الحذْفُ يُسمَّى بالحذفِ والإيصالِ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/152). .
- وصِيغةُ المُضارِعِ تُؤْمَرُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الأمْرَ مُتعلِّقٌ به، مُتوجِّهٌ إليه، مُستمِرٌّ إلى حِينِ الامتثالِ به [788] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/200). ، وقيل: للإيذانِ بغرابةِ ذلك، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ ما قاله لم يكُنْ إلَّا عن حلمٍ غيرِ مشوبٍ بجهلٍ بحالِ المأمورِ به، وقيل: لتكرُّرِ الرُّؤْيا، وقيل غيرُ ذلك [789] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/124). .
- قولُه: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ لم يَقُلْ: يا أبتِ لا مانعَ عِندي، بل قال: افْعَلْ؛ فحَثَّه على أنْ يَفعَلَ. ولم يقُلْ: افعَلْ ما رأيْتَ، بل قال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ؛ حثًّا لإبراهيمَ على أنْ يَفعَلَ؛ لأنَّه إذا ذكَّرَه أنَّ هذا أمْرُ اللهِ، فإنَّه يَزِيدُه قُوَّةً في تَنفيذِ هذا الأمْرِ؛ لأنَّ إسماعيلَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- خاف أنْ تُدرِكَ إبراهيمَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- رَحمةُ الولَدِ، فيُراجِعَ اللهَ عزَّ وجلَّ في ذلك، فأشار عليه أنْ يُبادِرَ بفِعلِ ما أُمِرَ به (افْعَلْ)، ولم يقُلْ: ما رأيتَ؛ لِيَكونَ هذا أشدَّ حثًّا لإبراهيمَ على الإقدامِ [790] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 229). .
- وجُملةُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ جوابٌ، والجُمَلُ الَّتي قبْلَها تَمهيدٌ لهذا الجوابِ؛ فإنَّ إسماعيلَ عليه السَّلامُ بعْدَ أنْ حثَّ أباهُ على فِعلِ ما أُمِرَ به، وَعَدَه بالامتثالِ له، وبأنَّه لا يَجزَعُ ولا يَهلَعُ، بل يكونُ صابرًا، وفي ذلك تَخفيفٌ مِن عِبْءِ ما عسَى أنْ يَعرِضَ لأبيهِ مِن الحُزْنِ؛ لِكَونِه يُعامِلُ ولَدَه بما يَكرَهُ، وقد قرَنَ وَعْدَه بقولِه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ استِعانةً على تَحقيقِه. وفي قَولِه: مِنَ الصَّابِرِينَ مِن المُبالَغةِ في اتِّصافِه بالصَّبرِ ما ليس في الوصفِ بـ(صابرٍ)؛ لأنَّه يُفِيدُ أنَّه سيَجِدُه في عِدادِ الَّذين اشتُهِروا بالصَّبرِ وعُرِفوا به [791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/152). .
4- قولُه تعالَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
- جوابُ (لَمَّا) مَحذوفٌ -على قولٍ-؛ إيذانًا بعَدَمِ وَفاءِ التَّعبيرِ بتَفاصيلِه؛ كأنَّه قِيل: كانَ ما كانَ ممَّا لا يُحِيطُ به نِطاقُ البَيانِ مِن استِبْشارِهما، وشُكْرِهما للهِ تعالَى على ما أنْعَمَ به عليهما مِن دَفْعِ البلاءِ بعْدَ حُلولهِ، والتَّوفيقِ لِمَا لم يُوفَّقْ أحدٌ لِمِثلِه، وإظهارِ فَضْلِهما بذلك على العالَمينَ، مع إحرازِ الثَّوابِ العظيمِ... إلى غيرِ ذلك [792] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/55)، ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير أبي حيان)) (9/117)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 483)، ((تفسير أبي السعود)) (7/201). . وقيل: جوابُ فَلَمَّا أَسْلَمَا مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: وَنَادَيْنَاهُ، وإنَّما جِيءَ به في صُورةِ العطْفِ؛ إيثارًا لِمَا في ذلك مِن مَعنى القصَّةِ على أنْ يكونَ جوابًا؛ لأنَّ الدَّلالةَ على الجوابِ تَحصُلُ بعَطْفِ بعضِ القصَّةِ دونَ العكْسِ، وحَذْفُ الجوابِ في مِثلِ هذا كثيرٌ في القُرآنِ، وهو مِن أسالِيبِه [793] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/155). .
- قولُه: فَلَمَّا أَسْلَمَا أي: انْقادَا وخضَعَا، وحُذِفَ المُتعلَّقُ؛ لِظُهورِه مِن السِّياقِ، أي: أسْلَمَا لِأمْرِ اللهِ [794] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/152). .
- وقيل: دلَّ على السُّرعةِ باللَّامِ الواقعةِ مَوقعَ (على) في قولِه: لِلْجَبِينِ [795] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/267). .
5- قولُه تعالَى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ثَناءٌ مِن اللهِ تعالى على إبراهيمَ عليه السَّلامُ بمُبادَرتِه لامتثالِ الأمْرِ، ولم يَتأخَّرْ، ولا سأَلَ مِنَ اللهِ نسْخَ ذلك [796] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/154). .
- قولُه: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تَعليلٌ لِجُملةِ وَنَادَيْنَاهُ؛ لأنَّ نِداءَ اللهِ إيَّاهُ تَرْفيعٌ لِشَأْنِه، فكان ذلك النِّداءُ جَزاءً على إحسانِه، أي: مِثلَ عَظَمةِ ذلك التَّصديقِ نَجْزي جَزاءً عظيمًا للمُحسِنينَ، أي: الكامِلينَ في الإحسانِ، أي: وأنتَ منْهم [797] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/118)، ((تفسير أبي السعود)) (7/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/154)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/296). .
- ولِمَا يَتضمَّنُه لَفظُ الجَزاءِ مِن مَعنى المُكافأةِ ومُماثَلةِ المَجْزِيِّ عليه، عَظَّمَ شأْنَ الجزاءِ بتَشبيهِه بمُشبَّهٍ مُشارٍ إليه بإشارةِ البعيدِ، المُفيدِ بُعدًا اعتباريًّا، وهو الرِّفعةُ وعِظَمُ القَدْرِ في الشَّرفِ، فالتَّقديرُ: إنَّا نَجْزي المُحسِنينَ جَزاءً كذلك الإحسانِ الَّذي أحسَنْتَ به بتَصديقِك الرُّؤيا، مُكافأةً على مِقدارِ الإحسانِ؛ فإنَّه بَذَلَ أعزَّ الأشياءِ عليه في طاعةِ ربِّه، فبَذَلَ اللهُ إليه مِن أحسَنِ الخَيراتِ الَّتي بيَدِه تعالى، فالمُشبَّهُ والمُشبَّهُ به مَعقولانِ؛ إذ ليس واحدٌ منهما بمُشاهَدٍ، ولكنَّهما مُتخيَّلانِ بما يتَّسِعُ له التَّخيُّلُ المعهودُ عندَ المُحسِنينَ ممَّا يَقْتضيهِ اعتقادُهم في وَعْدِ الصَّادقِ مِن جزاءِ القادرِ العظيمِ. ولِمَا أفاد اسمُ الإشارةِ مِن عَظَمةِ الجزاءِ، أُكِّدَ الخبَرُ بـ (إنَّ)؛ لِدَفْعِ تَوهُّمِ المُبالَغةِ، أي: هو فوقَ ما تَعْهَدُه في العَظَمةِ، وما تُقدِّرُه العُقولُ [798] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/154، 155). .
6- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
- جُملةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ تأْكيدٌ لِمَا قبْلَها، أي: هذا التَّكليفُ الَّذي كلَّفْناك هو الاختبارُ البَيِّنُ، أي: الظَّاهرُ دَلالةً على مَرتبةٍ عظيمةٍ مِنِ امتثالِ أمْرِ اللهِ. وجُملةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ في مَحلِّ العِلَّةِ لِجُملةِ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [799] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/155). .
7- قولُه تعالَى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فيه وصْفُ الذِّبحِ بأنَّه عظيمٌ، أي: شرُفَ قَدْرُ هذا الذِّبحِ؛ وهو أنَّ اللهَ فَدَى به ابنَ رسولٍ، وأبْقى به مَن سيَكونُ رَسولًا، فعِظَمُه بعِظَمِ أثَرِه، ولأنَّه سخَّرَه اللهُ لإبراهيمَ في ذلك الوقتِ وذلك المكانِ. أو وُصِفَ الذِّبحُ بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه مُتقبَّلٌ يَقينًا [800] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير أبي حيان)) (9/118)، ((تفسير أبي السعود)) (7/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/156). . وقيل غيرُ ذلك.
- وقد أشارتْ هذه الآياتُ إلى قِصَّةِ الذِّبيحِ، ولم يُسَمِّه القُرآنُ، لعلَّه لئلَّا يُثِيرَ خِلافًا بيْن المسلِمينَ وأهلِ الكتابِ في تَعيينِ الذَّبيحِ مِن وَلَدَيْ إبراهيمَ، وكان المَقصدُ تألُّفَ أهلِ الكتابِ؛ لِإقامةِ الحُجَّةِ عليهم في الاعتِرافِ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَصديقِ القرآنِ، ولم يكُنْ ثَمَّةَ مَقصدٌ مُهِمٌّ يَتعلَّقُ بتَعيينِ الذَّبيحِ، ولا في تَخطئةِ أهلِ الكتابِ في تَعيينِه، وأمارةُ ذلك: أنَّ القُرآنَ سمَّى إسماعيلَ عليه السَّلامُ في مَواضعَ غيرِ قِصَّةِ الذَّبحِ، وسمَّى إسحاقَ عليه السَّلامُ في مَواضعَ، ومنها بِشارةُ أُمِّه على لِسانِ الملائكةِ الَّذين أُرسِلوا إلى قَومِ لُوطٍ عليه السَّلامُ، وذكَرَ اسْمَيْ إسماعيلَ وإسحاقَ عليهما السَّلامُ أنَّهما وُهِبَا لإبراهيمَ عليه السَّلامُ على الكِبَرِ، ولم يُسَمِّ أحدًا في قِصَّةِ الذَّبحِ؛ قَصْدًا للإبهامِ مع عَدَمِ فَواتِ المقصودِ مِن الفضْلِ؛ لأنَّ المقصودَ مِن القصَّةِ التَّنويهُ بشأْنِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فأيُّ ولَدَيْه كان الذَّبيحَ كان في ابتلائِه بذَبْحِه وعَزْمِه عليه، وما ظهَرَ في ذلك مِن المعجزةِ؛ تَنويهٌ عَظيمٌ بشَأْنِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وقال اللهُ تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [801] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/156). [العنكبوت: 46] .
8- قولُه تعالَى: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
- لم تُؤكَّدْ جُملةُ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بـ (إنَّ) هنا، وأُكِّدَت مع ذِكرِ نُوحٍ وفيما تقدَّمَ مِن ذِكرِ إبراهيمَ؛ لأنَّه لَمَّا تَقدَّمَ في هذه القصَّةِ قولُه: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 105] ، وكان إبراهيمُ هو المَجْزيَّ؛ اكْتُفِيَ بتَأْكيدِ نَظيرِه عن تأْكيدِه، أي: لأنَّه بالتَّأكيدِ الأوَّلِ حصَلَ الاهتِمامُ، فلمْ يَبْقَ داعٍ لإعادتِه، واقتُصِرَ على تأْكيدِ معنى الجُملةِ تأْكيدًا لَفظيًّا؛ لأنَّه تَقريرٌ للعِنايةِ بجَزائِه على إحسانِه [802] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/58)، ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/191)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 483)، ((تفسير أبي السعود)) (7/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/160). .
- وفي قَولِه: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إشارةٌ إلى إبقاءِ ذِكرِه الجميلِ فيما بيْن الأُمَمِ، لا إلى ما أُشِيرَ إليه فيما سبَقَ؛ فلا تَكرارَ [803] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/202). .
9- قولُه تعالَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
- هذه بِشارةٌ أُخرى لإبراهيمَ عليه السَّلامُ ومَكرُمةٌ له، وهي غيرُ البِشارةِ بالغلامِ الحليمِ؛ فإسحاقُ غيرُ الغُلامِ الحليمِ، ومعنى البِشارةِ به البِشارةُ بوِلادتِه له؛ لأنَّ البِشارةَ لا تَتعلَّقُ بالذَّواتِ، بل تَتعلَّقُ بالمعاني [804] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/161). .
- وانتصَبَ نَبِيًّا على الحالِ مِن (إسحاقَ)؛ فيجوزُ أنْ يكونَ حِكايةً للبِشارةِ، فيكون الحالُ حالًا مُقدَّرًا؛ لأنَّ اتِّصافَ إسحاقَ بالنُّبوَّةِ بعْدَ زَمنِ البِشارةِ بمُدَّةٍ طويلةٍ، بلْ هو لم يكُنْ مَوجودًا؛ فالمعنى: وبَشَّرْناهُ بوِلادةِ وَلدٍ اسمُه إسحاقُ مُقَدَّرًا حالُه أنَّه نبيٌّ. وإنْ كان وَضْعًا مُعْتَرضًا في أثناءِ القصَّةِ، كان تَنويهًا بإسحاقَ، وكان حالًا حاصلةً [805] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/58، 59)، ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير أبي السعود)) (7/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/161، 162). .
- وقولُه: مِنَ الصَّالِحِينَ حالٌ ثانيةٌ، وذكَرَها للتَّنويهِ بِشَأْنِ الصَّلاحِ؛ فإنَّ الأنبياءَ مَعْدودون في زُمْرةِ أهْلِه، وإلَّا فإنَّ كلَّ نَبيٍّ لا بُدَّ أنْ يكونَ صالحًا، والنُّبوَّةُ أعظَمُ أحوالِ الصَّلاحِ؛ لِمَا معها مِن العَظَمةِ [806] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/59)، ((تفسير البيضاوي)) (5/16)، ((تفسير أبي السعود)) (7/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/162). .
10- قولُه تعالَى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ
- ضرَبَ اللهُ قِصَّةَ إبراهيمَ وبَنِيه مَثلًا لحالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ثَباتِه على إبطالِ الشِّركِ، وفيما لَقِيَ مِنَ المشْرِكينَ، وإيماءً إلى أنَّه يُهاجِرُ مِن أرْضِ الشِّركِ، وأنَّ اللهَ يَهْديهِ في هِجرتِه، ويَهَبُ له أُمَّةً عظيمةً كما وهَبَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أتْباعًا [807] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/163). .
- وفي قَولِه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ مَثَلٌ لحالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ معه مِن أهْلِ مكَّةَ، ولحالِ المشركينَ مِن أهْلِ مكَّةَ [808] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/163). .