موسوعة التفسير

سُورةُ النَّجْمِ
الآيات (33-55)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غريب الكلمات:

وَأَكْدَى: أي: مَنَع وانقَطَع، وأصلُه مِنَ الكُدْيةِ -وهي ما صَلُبَ مِنَ الأرضِ- يقالُ لِمَن حفَرَ بِئرًا ثمَّ بَلَغ إلى حَجَرٍ لا يتهَيَّأُ له فيه حَفرٌ: قد أكْدَى، فشُبِّه الرَّجُلُ إذا أعطَى يسيرًا ثمَّ قَطَع بالحافرِ يَحفِرُ فيُكْدي فيُمْسِكُ عن الحفرِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/73)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/166)، ((البسيط)) للواحدي (21/64)، ((تفسير ابن عطية)) (5/ 205)، ((تفسير القرطبي)) (17/112)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 395). .
يُنَبَّأْ: أي: يُخْبَرْ، والنَّبَأُ: الخَبَرُ ذو الفائدةِ العَظيمةِ يَحصُلُ به عِلمٌ أو غَلَبةُ ظَنٍّ، وأصلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، والخبرُ يَأْتي مِن مكانٍ إلى مكانٍ [392] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/74)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 461)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/385)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788). .
وَفَّى: أي: أكمَلَ وأتمَّ ما يَجِبُ للهِ تعالى عليه بالطَّاعةِ والصَّبرِ، وأصلُ (وفي): يدُلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ [393] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((البسيط)) للواحدي (21/66)، ((تفسير القرطبي)) (17/113)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 950). .
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى: أي: لا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ إثْمَ نفْسٍ أُخرى، ولا تُؤخَذُ نفْسٌ بذَنْبِ غَيرِها، والوِزْرُ: الإثمُ والثِّقْلُ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقْلِ في الشَّيءِ [394] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 58)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867). .
الْأَوْفَى: أي: الأكمَلَ والأتَمَّ، وأصلُ (وفي): يدُلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ [395] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((البسيط)) للواحدي (21/69)، ((تفسير ابن كثير)) (7/465). .
نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [396] يُنظر: ((العين)) للخليل (7/436)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/266). قال الشنقيطي: (النُّطْفة مختلِطةٌ مِنْ ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المرأةِ، خلافًا لِمَنْ زَعَم أنَّها مِن ماءِ الرَّجُلِ وحْدَه). ((أضواء البيان)) (4/266). وذكَر الدَّليلَ على ذلك في موضِعٍ آخَرَ، فقال: (بدليلِ قولِه تعالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] ، أي: أخلاطٍ مِنْ ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المرأةِ). ((أضواء البيان)) (2/330). .
تُمْنَى: أي: تُصَبُّ، وتُلقَى في الرَّحِمِ، مِن قَولِك: أَمْنَى الرَّجُلُ: إذا خرَجَ منه المَنِيُّ، والمَنِيُّ: الماءُ الَّذي يُخلَقُ ويُقدَّرُ منه الوَلَدُ، ويَحتَمِلُ أن يكونَ مِن قَولِك: مَنَى اللهُ الشَّيءَ: إذا خَلَقه، فكأنَّه قال: تُخْلَقُ وتُقَدَّرُ، وأصلُ (مني): يدُلُّ على تقديرِ شَيءٍ ونَفاذِ القَضاءِ به، وماءُ الإنسانِ مَنِيٌّ، أيْ: يُقَدَّرُ منه خِلْقَتُه [397] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((تفسير ابن جرير)) (16/610)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 165)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/276)، ((البسيط)) للواحدي (21/73)، ((تفسير ابن عطية)) (5/207). .
النَّشْأَةَ الأُخرَى : أي: الخَلْقَ الثَّانيَ لِلبَعثِ يومَ القيامةِ، وأصلُ (نشأ): يدُلُّ على ارتِفاعٍ في شَيءٍ [398] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 469)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/428)، ((تفسير البغوي)) (7/418)، ((تفسير القرطبي)) (17/118)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467). .
وَأَقْنَى: أي: أعطاهم قُنْيةً يَقتَنونَها مِن أُصولِ الأموالِ وما يَدَّخِرونَه بعدَ الكِفايةِ؛ مِن قُنْيَةِ المالِ: وهو كَسْبُه وادِّخارُه، يُقالُ: أقْناه اللهُ مالًا: أي: أَكْسَبه إيَّاه، وقيل غيرُ ذلك [399] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 430)، ((تفسير ابن جرير)) (22/83)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/29)، ((المفردات)) للراغب (ص: 686)، ((تفسير البغوي)) (7/ 419)، ((تفسير القرطبي)) (17/118)، ((تفسير ابن جزي)) (2/320)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/106). .
الشِّعْرَى: اسمُ نَجمٍ في السَّماءِ، وكان ناسٌ في الجاهليَّةِ يَعبُدونَها [400] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457)، ((تفسير البغوي)) (7/419)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 377)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 395)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 543). .
وَالْمُؤْتَفِكَةَ: أي: قُرى قَومِ لُوطٍ المَخْسوفَ بها الَّتي ائتَفَكَت بأهلِها: أي: انقَلَبَت فصار أعلاها أسفَلَها، ومعنى الائتِفاكِ في اللُّغةِ: الانقِلابُ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ شَيءٍ وصَرفِه عن جِهتِه [401] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 430)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 449)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((البسيط)) للواحدي (10/546) و (21/79)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 396). .
أَهْوَى: أي: طَرَحَها مِن هواءٍ عالٍ إلى أسفَلَ، وأصلُ (هوي): يدُلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ [402] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 430)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 449)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 850)، ((تفسير ابن عطية)) (5/209). .
فَغَشَّاهَا: أي: ألبَسَها، والتَّغْشيةُ: إلباسُ الشَّيءِ الشَّيءَ، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تَغطيةِ شَيءٍ بشَيءٍ [403] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 378)، ((تفسير القرطبي)) (7/221). .
آَلَاءِ: أي: نِعَمِ، واحِدُها أَلًى وإِلًى [404] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((تفسير ابن جرير)) (22/229)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 59)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((المفردات)) للراغب (ص: 84)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 113). .
تَتَمَارَى: أي: تَرتابُ وتَشُكُّ وتُجادِلُ، والمِرْيةُ: التَّرَدُّدُ في الأمرِ، وهو أخَصُّ مِنَ الشَّكِّ، وأصلُ (مري): يدُلُّ على صَلابةٍ في شَيءٍ؛ لأنَّ المِراءَ كَلامٌ فيه بَعضُ الشِّدَّةِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/92)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تفسير القرطبي)) (17/121)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
قَولُه تعالى: أَلَّا تَزِرُ: أَنْ: مُخفَّفةٌ مِنَ الثَّقيلةِ، واسمُها ضَميرُ الشَّأنِ مَحذوفٌ، أي: أنَّه. والجُملةُ المَنفيَّةُ (لا تَزِرُ) في محَلِّ رَفعٍ خَبَرُ «أَنْ» المخفَّفةِ، والمَصدَرُ المُؤَوَّلُ أَلَّا تَزِرُ: في محَلِّ جَرٍّ بَدَلٌ مِن «ما» في قَولِه تعالى: بِمَا فِي صُحُفِ، والتَّقديرُ: بأنَّه لا تَزِرُ وازِرةٌ...
ويجوزُ أن يكونَ المصدَرُ المُؤَوَّلُ أَلَّا تَزِرُ: في محَلِّ رَفعٍ خَبَرًا لِمُبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: ذلك أَنْ لا تَزِرُ، أو هو أنْ لا تَزِرُ. وجملةُ «هُو أَنْ لا تَزِرُ» استِئنافيَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وهو استِئنافٌ بيانيٌّ، كأنَّه قيلَ: ما في صُحُفِهما؟ فقيلَ: هو أَلَّا تَزِرُ. ويجوزُ أن يكونَ المصدَرُ في محَلِّ نَصبٍ على المفعوليَّةِ بإضمارِ «أعني» [406] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/75)، ((التبيان)) للعكبري (2/1189)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/102)، ((تفسير الألوسي)) (14/65). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى ذامًّا مَنْ أعرَض عن الحقِّ: أفرَأيتَ -يا محمَّدُ- الَّذي أعرَضَ عن الحَقِّ، وأعطى قليلًا مِنَ الخَيرِ ثمَّ انقَطَع عنه، أعِندَه عِلمُ الغَيبِ، فهو يَراه؟! أم لمْ يُخبَرْ هذا الكافِرُ بما في التَّوراةِ الَّتي أنزَلَها اللهُ على موسى، وبما في صُحُفِ إبراهيمَ الَّذي أكمَلَ وأتمَّ شَرائِعَ الإسلامِ الَّتي فرَضَها اللهُ عليه؟!
وذلك الَّذي في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى هو أنَّه لا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ ذَنْبَ نفْسٍ أُخرى، وأنَّه ليس للمَرءِ في الآخِرةِ إلَّا ما عَمِلَه في الدُّنيا، وأنَّ عَمَلَ كُلِّ عاملٍ سوف يُرى ويُشاهَدُ يومَ القيامةِ، ثمَّ يُجزَى على سَعْيِه الجزاءَ التَّامَّ الأكمَلَ!
ثمَّ يقولُ الله تعالى مبيِّنًا جانبًا مِن مظاهرِ قدرتِه ورحمتِه: وأنَّ إلى ربِّك -يا محمَّدُ- مَرجِعَ ومَصيرَ جَميعِ العِبادِ، وأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي أضحَكَ وأبكى، وأنَّه تعالى هو الَّذي أمات وأحيا، وأنَّه تعالى خَلَق الصِّنفَينِ -الذَّكَرَ والأُنثى- مِن نُطفةِ مَنِيٍّ حينَ تُصَبُّ في الأرحامِ، وأنَّ عليه تعالى إعادةَ المخلوقاتِ بعدَ مَوتِهم، وأنَّه تعالى هو الَّذي أغنى مَن شاءَ مِن عِبادِه، وجَعَل لِمَن شاءَ منهم ما يَقتَنيه ويَدَّخِرُه بَعْدَ كِفايتِه، وأنَّه تعالى هو خالِقُ نَجمِ الشِّعْرَى!
وأنَّه تعالى أهلَكَ عادًا قَومَ هُودٍ، وثَمودَ قَومَ صالحٍ، فما أبقى منهم أحَدًا، وأهلَكَ بالغَرَقِ قَومَ نُوحٍ مِن قَبْلِ عادٍ وثَمودَ؛ إنَّهم كانوا هم أشَدَّ ظُلمًا، وأعظَمَ كُفرًا وطُغيانًا، وقَلَبَ قَريةَ قَومِ لُوطٍ؛ فجَعَل عالِيَها سافِلَها، فغطَّى تلك القَريةَ ما غَطَّاها مِنَ الحِجارةِ الَّتي أُمطِرَت عليهم. فبأيِّ نِعَمِ رَبِّك تَرتابُ وتُكذِّبُ وتُجادِلُ، أيُّها الإنسانُ؟!?

تفسير الآيات:

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ جَهْلَ المُشرِكينَ في عِبادةِ الأصنامِ؛ ذَكَر واحِدًا منهم مُعَيَّنًا بسُوءِ فِعْلِه [407] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/200). .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33).
أي: أفرأيتَ -يا محمَّدُ- الَّذي أعرَضَ عن الحَقِّ [408] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/71)، ((تفسير أبي حيان)) (10/23)، ((تفسير ابن كثير)) (7/463)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/467)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 239). واستظهر الرَّازيُّ أنَّ الَّذِي تَوَلَّى في هذه الآيةِ يعودُ إلى المُتوَلِّي في قَولِه تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا [النجم: 29] ، فهو عامٌّ غيرُ مُختَصٍّ بواحدٍ مِنَ المعانِدينَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/272، 273). وقال ابنُ عاشور: (اتَّفق المفَسِّرون والرُّواةُ على أنَّ المرادَ به هنا مُعَيَّنٌ... واختَلَفوا في تعيينِ هذا الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا؛ فروى الطَّبريُّ عن مجاهِدٍ وابنِ زَيدٍ: أنَّ المرادَ به: الوليدُ بنُ المُغيرةِ... وروى القرطبيُّ عن السُّدِّيِّ: أنَّها نزَلَت في العاصي بنِ وائلٍ السَّهْميِّ، وعن محمَّدِ ابنِ كَعبٍ: نزَلَت في أبي جَهلٍ، وعن الضَّحَّاكِ: نزَلَت في النَّضرِ بنِ الحارثِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/127). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/71، 72)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/191)، ((تفسير القرطبي)) (17/111، 112). !
كما قال تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31، 32].
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34).
أي: وأعطَى قليلًا مِنَ الخَيرِ ثمَّ انقَطَع عنه، ولم يَستَمِرَّ على ذلك [409] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/23)، ((تفسير ابن كثير)) (7/463)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/467). قال ابنُ جرير: (ذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ نَزَلت في الوليدِ بنِ المُغيرةِ؛ مِن أجْلِ أنَّه عاتَبَه بَعضُ المُشرِكينَ، وكان قد اتَّبَع رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على دينِه، فضَمِنَ له الَّذي عاتَبَه إنْ هو أعطاه شَيئًا مِن مالِه ورَجَع إلى شِرْكِه أن يتحَمَّلَ عنه عذابَ الآخرةِ، ففَعَل، فأعطى الَّذي عاتَبَه على ذلك بَعضَ ما كان ضَمِنَ له، ثمَّ بَخِلَ، ومَنَعَه تمامَ ما ضَمِنَ له!). ((تفسير ابن جرير)) (22/71). قال أبو حيان: (وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى قال ابنُ عبَّاسٍ: أطاع قليلًا ثمَّ عصى. وقال مجاهِدٌ: أعطى قليلًا مِن نَفْسِه بالاستِماعِ، ثمَّ أكْدَى بالانقِطاعِ. وقال الضَّحَّاكُ: أعطى قليلًا مِن مالِه ثمَّ مَنَع. وقال مقاتِلٌ: أعطى قليلًا مِنَ الخَيرِ بلِسانِه ثمَّ قَطَع). ((تفسير أبي حيان)) (10/23). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/484). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المعنى: وأعطى قليلًا مِن مالِه، ثمَّ بَخِلَ عليه فمَنَعه ولم يستَمِرَّ في عَطائِه: ابنُ جرير، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/128)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 239، 240). !
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35).
أي: أعِندَه عِلمُ ما غاب عن النَّاسِ، فهو يراه [410] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((تفسير القرطبي)) (17/112)، ((تفسير ابن كثير)) (7/463)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 240). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: أعِندَ هذا الَّذي ضَمِنَ له صاحِبُه أن يتحَمَّلَ عنه عذابَ اللهِ في الآخرةِ عِلمُ الغَيبِ، فهو يرى حقيقةَ قَولِه، ووفاءَه بما وَعَده؟!). ((تفسير ابن جرير)) (22/74). وقال الشنقيطي: (الآيةُ تدُلُّ على أنَّ سَبَبَ النُّزولِ لا يَخلو مِن إعطاءِ شَيءٍ في مُقابَلةِ تحَمُّلِ الذُّنوبِ عمَّن أعطى؛ لأنَّ فاعِلَ ذلك ليس عِندَه عِلمُ الغَيبِ؛ فيَعلَمَ به أنَّ الَّذي ضَمِنَ له تحمُّلَ ذُنوبِه يَفعَلُ ذلك، ولم يُنَبَّأْ بما في الصُّحُفِ الأُولى مِن أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38]). ((أضواء البيان)) (7/472). ؟!
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان هذا الَّذي تولَّى قد يظُنُّ أنَّ عَمَلَ غَيرِه يَنفَعُه، عَبَّرَ عنه جامِعًا للوَعظِ والتَّهويلِ، بقَولِه [411] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/71). :
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36).
أي: أم لمْ يُخبَرْ هذا الكافِرُ بما في التَّوراةِ الَّتي أنزَلَها اللهُ على موسى [412] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/203)، ((تفسير أبي حيان)) (10/23)، ((تفسير الشوكاني)) (5/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/129)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 240). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: أم لم يُخْبَرْ هذا المَضمونُ له أن يُتحَمَّلَ عنه عذابُ اللهِ في الآخِرةِ بالَّذي في صُحُفِ موسى بنِ عِمْرانَ صَلَواتُ الله عليه ...؟!). ((تفسير ابن جرير)) (22/74). ؟!
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37).
أي: أم لمْ يُخبَرْ أيضًا بما في صُحُفِ إبراهيمَ الَّذي أطاع اللهَ تعالى في جميعِ أوامِرِه ونواهيه، وأكمَلَ شَرائِعَ الإسلامِ الَّتي فرَضَها اللهُ عليه، فلم يَنقُصْ منها شَيئًا [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/74، 78)، ((تفسير ابن عطية)) (5/206)، ((تفسير القرطبي)) (17/113)، ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم (ص: 51)، ((تفسير ابن كثير)) (7/463)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/469)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 241). ؟
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124] .
وقال سُبحانَه: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: 101 - 111] .
وقال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 18، 19].
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38).
أي: وذلك الَّذي في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى هو أنَّه لا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ ذَنْبَ نفْسٍ أُخرى؛ فكُلُّ إنسانٍ يُجازَى بعَمَلِه، ولا يَحمِلُ ذنْبَ غَيرِه [414] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/79)، ((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/599)، ((الوسيط)) للواحدي (4/203)، ((تفسير ابن كثير)) (7/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/472). قال ابنُ جريرٍ: (وإنَّما عَنَى بقَولِه: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الَّذي ضَمِنَ للوَليدِ بنِ المُغيرةِ أن يتحَمَّلَ عنه عذابَ اللهِ يومَ القيامةِ! يقولُ: ألم يُخبَرْ قائِلُ هذا القَولِ وضامِنُ هذا الضَّمانِ بالَّذي في صُحُفِ موسى وإبراهيمَ؛ مَكتوبٌ: أنْ لا تأثَمُ آثِمةٌ إثمَ أُخرى غَيرِها). ((تفسير ابن جرير)) (22/79). !
كما قال الله تعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164].
وقال سُبحانَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 13 - 15] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18] .
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَفَى أن يَضُرَّه إثمُ غَيرِه؛ نَفَى أن يَنفَعَه سَعيُ غَيرِه، فقال [415] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/72). :
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39).
أي: وأنَّه ليس للمَرءِ في الآخِرةِ إلَّا ما عَمِلَه في الدُّنيا [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/79)، ((تفسير ابن كثير)) (7/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/132)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 242). قال أبو حيان: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى: الظَّاهِرُ أنَّ الإنسانَ يَشملُ المُؤْمنَ والكافرَ، وأنَّ الحصرَ في السَّعيِ، فليس له سَعْيُ غيرِه، وقال عِكْرِمةُ: كان هذا الحُكمُ في قومِ إبراهيمَ وموسى، وأمَّا هذه الأمَّةُ فلها سعيُ غيرِها... وقال الرَّبيعُ: الإنسانُ هنا الكافرُ، وأمَّا المؤمنُ فله ما سعى وما سعى له غيرُه). ((تفسير أبي حيان)) (10/24). قال السَّمعاني: (قولُه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مَعْناهُ: إنْ سعى في الخَيرِ يَلْقَ الخَيْرَ، وإنْ سعى في الشَّرِّ يَلْقَ الشَّرَّ). ((تفسير السمعاني)) (5/301). وقال ابن كثير: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أي: كما لا يُحمَلُ عليه وِزْرُ غيرِه، كذلك لا يُحصِّلُ مِن الأجرِ إلَّا ما كسَبَ هو لِنَفْسِه). ((تفسير ابن كثير)) (7/465). واختار ابنُ عاشور أنَّ المرادَ بالسَّعيِ هنا: عمَلُ الخَيرِ وما سعاه مِن الأعمالِ الصَّالحةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/132). وقال الرَّازي: (قولُه تعالى: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ليس المرادُ منه أنَّ له عيْنَ ما سعى، بل المرادُ... ليس له إلَّا ثوابُ ما سعى، أو إلَّا أجرُ ما سعى، أو يقالُ بأنَّ المرادَ: أنَّ ما سعى محفوظٌ له، مَصونٌ عن الإحباطِ؛ فإذَنْ له فِعلُه يومَ القيامةِ). ((تفسير الرازي)) (29/276). وقال ابنُ جُزَي: (اتَّفَق العلماءُ على أنَّ الأعمالَ الماليَّةَ -كالصَّدقةِ والعِتقِ- يجوزُ أن يَفعَلَها الإنسانُ عن غيرِه، ويَصِلُ نفعُها إلى مَن فُعِلَتْ عنه. واختلَفوا في الأعمالِ البدَنيَّةِ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ. وقيل: إنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ بقولِه: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21]. والصَّحيحُ أنَّها مُحْكَمةٌ؛ لأنَّها خبَرٌ، والأخبارُ لا تُنسَخُ. وفي تأويلِها ثلاثةُ أقوالٍ؛ الأوَّلُ: أنَّها إخبارٌ عمَّا كان في شريعةِ غيرِنا، فلا يَلزَمُ في شريعتِنا. الثَّاني: أنَّ للإنسانِ ما عَمِل بحقٍّ، وله ما عَمِل له غيرُه بهِبَةِ العاملِ له، فجاءت الآيةُ في إثباتِ الحقيقةِ دونَ ما زاد عليها. الثَّالثُ: أنَّها في الذُّنوبِ، وقد اتُّفِق أنَّه لا يَحتملُ أحدٌ ذنْبَ أحدٍ، ويدُلُّ على هذا قولُه بعدَها: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وكأنَّه يقولُ: لا يؤاخَذُ أحدٌ بذنْبِ غيرِه، ولا يؤاخَذُ إلَّا بذنْبِ نفْسِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/320). .
كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 7] .
وقال سُبحانَه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46] .
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثَبَت أنَّه ليس له ولا عليه إلَّا ما عَمِلَ، وكان في الدُّنيا قد يَفعَلُ الشَّيءَ مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ ولا يَراه مَن فَعَله مِن أجْلِه ولا غَيرُه؛ نفى أن تكونَ الآخرةُ كذلك، فقال [417] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/72). :
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40).
أي: وأنَّ عَمَلَ كُلِّ عاملٍ سوف يُرى ويُشاهَدُ يومَ القيامةِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/80)، ((تفسير ابن كثير)) (7/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/139). قيل: إنَّ المعنى: يُعرَضُ عليه، ويُكشَفُ له، أي: أنَّ اللهَ تعالى يُرِيه إيَّاهُ -مِن أرَيْتُه الشَّيءَ- فيرى العبدُ عمَلَه يومَ القيامةِ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: السَّمعانيُّ، والرازي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/301)، ((تفسير الرازي)) (29/277)، ((تفسير النسفي)) (3/396)، ((تفسير أبي السعود)) (8/164)، ((تفسير الشوكاني)) (5/138)، ((تفسير القاسمي)) (9/82). وقال القرطبي: (أي: يُريه اللهُ تعالى جزاءَه يومَ القيامةِ). ((تفسير القرطبي)) (17/115). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/495). قال الرازي: (وفيه بِشارةٌ للمؤمنينَ...، وذلك أنَّ اللهَ يُريه أعمالَه الصَّالحةَ؛ لِيَفرَحَ بها. أو يكونُ يُرِي ملائكتَه وسائرَ خَلْقِه؛ لِيَفتخِرَ العاملُ به على ما هو المشهورُ، وهو مذكورٌ لفرَحِ المسلِمِ ولحزنِ الكافرِ؛ فإنَّ سَعْيَه يُرى للخَلقِ، ويُرى لنفْسِه). ((تفسير الرازي)) (29/277). ويحتمِلُ أن يكونَ قولُه: يُرَى مِن رأى يَرى، فيكونَ كقولِه تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] . يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/277)، ((تفسير القاسمي)) (9/82). ويُنظر أيضًا: ((تفسير النسفي)) (3/396)، ((تفسير الخازن)) (4/214). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وأنَّ عمَلَ كلِّ عاملٍ سوف يَراه يومَ القيامةِ مَن ورَدَ القيامةَ، بالجزاءِ الَّذي يُجازَى عليه؛ خيرًا كان أو شرًّا، لا يؤخَذُ بعقوبةِ ذنْبٍ غيرُ عامِلِه، ولا يُثابُ على صالِحِ عمَلٍ عامِلٌ غيرُه). ((تفسير ابن جرير)) (22/80). وقال ابن جُزَي: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى قيل: معناه: يَراه الخَلقُ يومَ القيامةِ، والأظهرُ أنَّه صاحِبُه؛ لقولِه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ). ((تفسير ابن جزي)) (2/320). وقال مكِّي: (قال تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى أي: وإنَّ عمَلَ كلِّ عامِلٍ سوف يَراه اللهُ يومَ القيامةِ). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (11/7172). وقال ابن عطيَّة: (وقولُه: يُرَى فاعِلُه حاضِرو القيامةِ، أي: يَراه الله ومَن شاهَدَ الأمرَ، وفي عَرضِ الأعمالِ على الجميعِ تشريفٌ للمُحسِنينَ، وتَوبيخٌ للمُسيئينَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/207). وذهب ابنُ عثيمينَ إلى أنَّ الآيةَ عامَّةٌ، أي: أنَّ عمَلَه سوف يُرَى في الدُّنيا وفي الآخرةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 245). وذهب ابنُ قُتَيْبةَ إلى أنَّ معنى قولِه: سَوْفَ يُرَى أي: يُعلَمُ. يُنظر: ((غريب القرآن)) (ص: 429). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانَه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41).
أي: ثمَّ يَجزيه اللهُ على سَعْيِه الجزاءَ الأَوفَرَ التَّامَّ [419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/81)، ((تفسير ابن كثير)) (7/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/140). قال ابنُ عاشور: (الْأَوْفَى: اسمُ تَفضيلٍ مِنَ الوَفاءِ، وهو التَّمامُ والكَمالُ، والتَّفضيلُ مُستَعمَلٌ هنا في القُوَّةِ، وليس المرادُ تَفضيلَه على غَيرِه. والمعنى: أنَّ الجزاءَ على الفِعلِ مِن حَسَنٍ أو سَيِّئٍ مُوافِقٌ للمَجْزيِّ عليه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/140). وقال ابنُ عثيمين: (الأكمَلُ والأَوفى في الصَّالِحِ: زيادةُ المَثوبةِ، والأَوفى في السَّيِّئِ: العَدلُ، بحيثُ لا يُزادُ في سَيِّئاتِه، وعلى هذا فالأَوفى يُفَسَّرُ بمعنى العَدلِ، ويُفَسَّرُ بالزِّيادةِ والفَضلِ؛ العَدلُ في السَّيِّئةِ: لا يُمكِنُ أن يُزادَ سَيِّئةً، والفَضلُ في الحَسَناتِ: الحَسَنةُ بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمِئَةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كَثيرةٍ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 246). .
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42).
أي: وأنَّ إلى ربِّك -يا محمَّدُ- مَرجِعَ ومَصيرَ جَميعِ العِبادِ، لا إلى غَيرِه [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/81)، ((الوسيط)) للواحدي (4/204)، ((تفسير ابن كثير)) (7/466)، ((تفسير الشوكاني)) (5/138). وممَّن قال بالمعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: المصادر السابقة. وذهب البِقاعي والسعدي إلى ما هو أعَمُّ مِن معنى الرُّجوعِ الأُخرويِّ إلى اللهِ تعالى. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/73)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822). قال البقاعي: (الْمُنْتَهَى أي: الانتِهاءَ برُجوعِ الخَلائِقِ حِسًّا بالبَعثِ، ومَعنًى بالعَمَلِ والعِلمِ، وإسنادِ الأُمورِ وإرسالِ الآمالِ؛ ومكانَ رُجوعِهم وزَمانَه، كما كان منه المُبتَدأُ؛ أكَّدَ ذلك خَلقًا لذلك كُلِّه وحِسابًا عليه). ((نظم الدرر)) (19/73). وقال السعدي: (قَولُه: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى أي: إليه تَنتهي الأمورُ، وإليه تَصيرُ الأشياءُ والخلائِقُ بالبَعثِ والنُّشورِ، وإلى اللهِ المُنتَهى في كُلِّ حالٍ؛ فإليه يَنتهي العِلمُ والحُكمُ، والرَّحمةُ وسائِرُ الكمالاتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 822). وممَّن ذهب إلى هذا العُمومِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 247). ويُنظر أيضًا: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/499) و(2/256). .
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
انتِقالٌ مِنَ الاعتِبارِ بأحوالِ الآخِرةِ إلى الاعتِبارِ بأحوالِ الحياةِ الدُّنيا [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/142). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى الأُمورَ الاختياريَّةَ وقَدَّمَها لأنَّها مَحَطٌّ للبَلاءِ، وسَلَب عِلْمَها عن أصحابِها، وحَذَّرَ مِن عاقِبَتِها بإحاطتِه بكُلِّ شَيءٍ، وكان معنى ذلك أنَّه القادِرُ على غَيرِه، والعالِمُ لا غَيرُه؛ عَطَف عليه قَولَه ذاكِرًا للأُمورِ الاضطراريَّةِ الَّتي هي في غايةِ التَّنافي؛ إكمالًا للدَّليلِ على أنَّه يَعلَمُ ما في النُّفوسِ دونَ أصحابِها وغَيرِهم، وأنَّه إليه المُنتهَى إعادةً وإبداءً [422] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/74). .
وأيضا إنَّما جَرَى ذِكْرُ الإضحاكِ والإبكاءِ في هذا المَقامِ؛ لمُناسَبةِ أنَّ الجزاءَ الأَوفى لسعْيِ النَّاسِ: بعضُه سارٌّ لفريقٍ، وبَعضُه مُحزِنٌ لفريقٍ آخَرَ [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/142، 143). .
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي أضحَكَ وأبكَى مَنْ شاء أن يُضحِكَهم أو يُبكِيَهم [424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/81)، ((البسيط)) للواحدي (21/71)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 59، 60، 134)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 247، 248). قال الواحدي: (أكثَرُ المُفَسِّرينَ على أنَّ هذا عامٌّ في كُلِّ ضَحِكٍ وبُكاءٍ). ((البسيط)) (21/71). وممَّن قال بأنَّ هذا الضَّحِكَ والبُكاءَ عامٌّ في الدُّنيا والآخِرةِ: ابنُ جرير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/81)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 247، 248). وقال ابنُ عاشور: (لَمَّا كان هذا الغَرَضَ مِن إثباتِ انفرادِ اللهِ تعالى بالتَّصَرُّفِ في الإنسانِ بما يَجِدُه النَّاسُ في أحوالِ أنفُسِهم مِن خُروجِ أسبابِ الضَّحِكِ والبُكاءِ عن قُدرتِهم؛ تعَيَّنَ أنَّ المرادَ: أضحَكَ وأبكى في الدُّنيا، ولا عَلاقةَ لهذا بالمَسَرَّةِ والحُزنِ الحاصِلَينِ في الآخِرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/142، 143). .
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي أمات مَن شاءَ مِن خَلْقِه، وأحيا مَن شاءَ مِنهم [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/81)، ((تفسير السمعاني)) (5/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 248). قال الواحدي: (المتقَدِّمون مِنَ المفَسِّرينَ حَمَلوا هذا على الإماتةِ في الدُّنيا، والإحياءِ للبَعثِ، والمتأخِّرونَ منهم ذَكَروا وُجوهًا أُخرى؛ منها: أنَّه أمات الآباءَ، وأحيا الأبناءَ... ومنها: أنَّه أمات النُّطفةَ، وأحيا النَّسَمةَ، وأمات الكافِرَ بالكُفرِ، وأحيا المؤمِنَ بالإيمانِ). ((البسيط)) (21/72). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/166)، ((تفسير الثعلبي)) (9/156)، ((تفسير الماوردي)) (5/404). .
قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ... [الملك: 2].
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ الانتقالِ إلى هذه الجُملةِ أنَّ فيها كَيفيَّةَ ابتداءِ الحياةِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/145). .
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي خَلَق الصِّنفَينِ: الذَّكَرَ والأُنثى [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/82)، ((تفسير ابن عطية)) (5/207)، ((تفسير الشوكاني)) (5/140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/472)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 248). قال الشوكاني: (المرادُ بالزَّوجَينِ: الذَّكَرُ والأُنثَى مِن كُلِّ حَيوانٍ، ولا يدخُلُ في ذلك آدَمُ وحَوَّاءُ؛ فإنَّهما لم يُخلَقا مِن النُّطفةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/140). وقصَر ابنُ عاشورٍ المرادَ بالزَّوجينِ على البشرِ، فقال: (المرادُ بالزَّوجَينِ: الذَّكَرُ والأُنثَى مِن خُصوصِ الإنسانِ؛ لأنَّ سياقَ الكلامِ للاعتِبارِ ببَديعِ صُنعِ اللهِ، وذلك أشَدُّ اتِّفاقًا في خِلْقةِ الإنسانِ، ولأنَّ اعتِبارَ النَّاسِ بما في أحوالِ أنفُسِهم أقرَبُ وأمكَنُ، ولأنَّ بَعضَ الأزواجِ مِن الذُّكورِ والإناثِ لا يَتخَلَّقُ مِن نُطفةٍ، بل مِن بَيضٍ وغَيرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/145). .
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46).
أي: خلَق اللهُ الصِّنفينِ -الذَّكَرَ والأُنثى- مِن نُطفةِ مَنِيٍّ حينَ تُصَبُّ وتُراقُ في الأرحامِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/82)، ((الوسيط)) للواحدي (4/204)، ((تفسير ابن عطية)) (5/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/146، 147)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/472)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 249). وقيل: معنى تُمْنَى: تُخلَقُ وتُقدَّرُ. وممَّن اختاره: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسَّمْعانيُّ، ونسَبه الماوَرْديُّ للأخفَشِ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/238)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 429)، ((تفسير السمعاني)) (5/302)، ((تفسير الماوردي)) (5/405). .
كما قال الله تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 - 40] .
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ساق هذه الأشياءَ دَليلًا على إحاطةِ عِلْمِه، فلَزِمَها أنْ دَلَّت على تمامِ قُدرتِه، وخَتَمَها بالنَّشأةِ الأُولى، فلَزِمَ من ذلك الإقرارُ حَتمًا بأنَّه قادِرٌ على البَعثِ- عَبَّرَ بما يَقتَضي أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ به وَعْدُه على جميعِ ألسِنَةِ رُسُلِه صار واجِبًا عليه، بمعنى أنَّه لا بُدَّ مِن كَونِه؛ لأنَّه لا يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيه، لا غَيرُ ذلك [429] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/75). .
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47).
أي: وأنَّ على اللهِ تعالى أن يَخلُقَ النَّاسَ بعدَ مَوتِهم، فيُعيدَهم أحياءً يومَ القيامةِ [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/82)، ((تفسير ابن عطية)) (5/207)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822). .
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي أغنى مَن شاءَ مِن عِبادِه، وجَعَل لِمَن شاءَ منهم ما يَقتَنيه ويَدَّخِرُه بَعْدَ كِفايتِه [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/82)، ((الوسيط)) للواحدي (4/204)، ((تفسير ابن عطية)) (5/207، 208)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822). قال الواحدي: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى النَّاسَ بالأموالِ ومَوَّلَهم، وَأَقْنَى أعطى القُنْيَةَ وأصولَ الأموالِ، وما يَدَّخِرونَه بعد الكفايةِ). ((الوسيط)) (4/204). وقال ابنُ عطية: (والوَجهُ فيها بحَسَبِ اللُّغةِ: أكسَبَ ما يُقتَنَى. وقال ابنُ عبَّاسٍ: «أَقْنى»: قَنَّعَ. والقَناعةُ خَيرُ قُنْيةٍ، والغِنى عَرَضٌ زائِلٌ، فلِلَّه دَرُّ ابنِ عَبَّاسٍ!). ((تفسير ابن عطية)) (5/208). وقال ابن كثير: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى أي: مَلَّك عِبادَه المالَ، وجعَلَه لهم قُنْيةً مُقيمًا عِندَهم لا يحتاجونَ إلى بَيعِه، فهذا تمامُ النِّعمةِ عليهم، وعلى هذا يدورُ كَلامُ كَثيرٍ مِنَ المفَسِّرينَ؛ منهم أبو صالحٍ، وابنُ جريرٍ، وغَيرُهما). ((تفسير ابن كثير)) (7/467). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/82). وقال ابن عاشور: (معنى أَغْنَى جَعَل غَنيًّا، أي: أعطى ما به الغِنى، والغِنى: التَّمَكُّنُ مِن الانتِفاعِ بما يُحَبُّ الانتِفاعُ به. ويَظهَرُ أنَّ معنى «أقْنَى» ضِدُّ معنى «أغْنَى»؛ رَعيًا لنظائِرِه الَّتي زاوَجَت بيْنَ الضِّدَّينِ مِن قَولِه: أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم: 43] ، وأَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم: 44] ، والذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [النجم: 45] ؛ ولذلك فَسَّره ابنُ زَيدٍ والأخفَشُ وسُليمانُ التَّيْميُّ بمعنى: أفقَرَ. وعن مُجاهدٍ وقَتادةَ والحَسَنِ: أقنى: أخْدَمَ؛ فيكونُ مُشتَقًّا مِنَ القِنِّ: وهو العَبدُ، أو المولودُ في الرِّقِّ، فيكونُ زيادةً على الإغناءِ. وقيل: أقنى: أعطى القُنْيةَ، وهذا زيادةٌ في الغِنى. وعن ابنِ عبَّاسٍ: أقنى: أرضَى، أي: أرضَى الَّذي أغناه بما أعطاه، أي: أغناه حتَّى أرضاه، فيكونُ زيادةً في الامتِنانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/149).ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/405). .
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى هو خالِقُ نَجمِ الشِّعْرَى المُضيءِ، ومالِكُه ومُدَبِّرُ شَأنِه [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/85)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 251). قال ابنُ جرير: (هو نَجمٌ كان بَعضُ أهلِ الجاهِليَّةِ يَعبُدُه مِن دونِ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/85). وأوَّلُ مَن سنَّ للعربِ عِبادةَ «الشِّعْرَى»، وأدخَل تلك العبادةَ إليهم: «أبو كَبْشةَ»، فخالَف قُرَيشًا في عبادةِ الأصنامِ، وعبَدَ الشِّعْرى، فقيل: لم يَعبُدْها مِن قبائلِ العربِ إلَّا خُزاعةُ، وقيل: حِمْيَرُ وخُزاعةُ، وقيل: بعضُ قبائلِ لَخْمٍ وخُزاعةَ وحِمْيرَ وقُرَيشٍ، ولم تَعبُدِ العربُ مِن الكواكبِ غيرَها؛ فلذلك عُيِّنتْ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/119)، ((الموافقات)) للشاطبي (4/155)، ((المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (11/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/151). .
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا استُوفِيَ ما يَستحِقُّه مَقامُ النِّداءِ على باطلِ أهْلِ الشِّركِ مِن تَكذيبِهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطعْنِهم في القرآنِ، ومِن عِبادةِ الأصنامِ، وقولِهم في الملائكةِ، وفاسِدِ مُعتَقَدِهم في أُمورِ الآخرةِ، وفي المُتصرِّفِ في الدُّنيا، وكان مُعظَمُ شأْنِهم في هذه الضَّلالاتِ شَبيهًا بشأْنِ أُمَمِ الشِّركِ البائدةِ؛ نُقِلَ الكلامُ إلى تَهديدِهم بخَوفِ أنْ يَحُلَّ بهم ما حلَّ بتلك الأُمَمِ البائدةِ، فذُكِرَ مِن تلك الأُمَمِ أشهَرُها عندَ العربِ، وهمْ: عادٌ، وثَمودُ، وقومُ نوحٍ، وقومُ لوطٍ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/152). .
وأيضًا لَمَّا دَلَّ سُبحانَه على كَمالِ عِلْمِه وشُمولِ قُدرتِه بأُمورِ الخافِقَينِ -العُلويِّ والسُّفليِّ-، فكان ذلك داعِيًا إلى الإقبالِ على ما يُرضِيه، وناهيًا عن الإلمامِ بما يُسخِطُه؛ شَرَع في التَّهديدِ لِمَن وَقَف عن ذلك، بما وَقَع في مَصارِعِ الأوَّلِينَ مِن عجائِبِ قُدرتِه؛ فقال تعالى [434] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/77). :
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى أهلَكَ قَبيلةَ عادٍ؛ قَومِ هُودٍ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/208)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 822)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/153)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 251). وقد ذهب ابنُ جريرٍ ومكِّيٌّ والواحديُّ إلى أنَّ عادًا لَمَّا أهلَكَها اللهُ بالرِّيحِ خَلَفَتْها أمَّةٌ أُخرى مِن نَسْلِها فكانوا عادًا الأخرى. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/86-88)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7175)، ((الوسيط)) للواحدي (4/205). وضعَّف هذا القَولَ ابنُ عَطيَّةَ، وابنُ عاشور؛ لعَدَمِ وُجودِ دَليلٍ على صِحَّتِه. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/208)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/153). قال ابنُ عطية: (اختُلِفَ في معنى وَصْفِها بـ الْأُولَى؛ فقال ابنُ زَيدٍ والجُمهورُ: ذلك لأنَّها في وَجهِ الدَّهرِ وقَديمِه، فهي أُولى بالإضافةِ إلى الأُمَمِ المتأخِّرةِ. وقال الطَّبريُّ: سُمِّيَت أُولى، لأنَّ ثَمَّ عادًا أَخيرةً، وهي قَبيلةٌ كانت بمكَّةَ مع العماليقِ، وهم بنو لُقَيْمِ بنِ هَزَّالٍ. قال القاضي أبو محمَّدٍ [ابن عطية]: والقَولُ الأوَّلُ أبيَنُ؛ لأنَّ هذا الأخيرَ لم يَصِحَّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/208). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/87). وقال ابن عاشور: (معنى كَونِها أُولى؛ لأنَّها أوَّلُ العَرَبِ ذِكرًا، وهم أوَّلُ العَرَبِ البائِدةِ، وهم أوَّلُ أمَّةٍ أُهلِكَت بعدَ قَومِ نُوحٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/153). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 251). وقال ابن عثيمين: (الْأُولَى وَصْفٌ كاشِفٌ، وليس وَصفًا مُقيِّدًا، يعني: ليس هناك عادٌ أُولى وعادٌ ثانيةٌ، بل هي واحِدةٌ، لكِنَّها عادٌ قديمةٌ سابِقةٌ؛ ولهذا وَصَفَها بأنَّها الأُولى، أي: أنَّها القَديمةُ السَّابقةُ، وليس ثَمَّةَ عادٌ أُخرى). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 251). وقيل: سمَّاها الأُولى؛ لأنَّهم كانوا مِن قبْلِ ثَمودَ. وممَّن اختاره: القُرطبيُّ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/120)، ((تفسير الشوكاني)) (5/141). !
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 16].
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 19، 20].
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51).
أي: وأنَّ اللهَ تعالى أهلَكَ قَبيلةَ ثَمودَ؛ قَومِ صالحٍ، فما أبقَى منهم أحَدًا [436] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 823). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولم يُبْقِ اللهُ ثَمودَ فيَترُكَها على طُغيانِها وتمَرُّدِها على رَبِّها مُقيمةً، ولكِنَّه عاقَبَها بكُفرِها وعُتُوِّها، فأهلَكَها). ((تفسير ابن جرير)) (22/85). !
 كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر: 31].
وقال سُبحانَه: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس: 14] .
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَدَّمَ مَن كان إهلاكُهم بنَفْسِ الرِّيحِ الَّتي هي مَبدَأُ الأمطارِ الآتيةِ لهم في السَّحابِ، وأتْبَعَهم مَن إهلاكُهم بها بحَمْلِها للصَّيحةِ وإرجافِها بهم؛ أتْبَعَهم مَن كان إهلاكُهم بالماءِ الَّذي هو غايةُ السَّحابِ، فقال تعالى [437] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/78، 79). :
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ.
أي: وأنَّ اللهَ تعالى أهلَكَ بالغَرَقِ قَومَ نُوحٍ مِن قَبْلِ عادٍ وثَمودَ [438] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/89)، ((الوسيط)) للواحدي (4/205)، ((تفسير القرطبي)) (17/120)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467). !
كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ [الفرقان: 37] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] .
إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى.
أي: إنَّ قَومَ نُوحٍ كانوا هم أشَدَّ ظُلمًا، وأعظَمَ كُفرًا وطُغيانًا مِن غَيرِهم [439] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/89)، ((الوسيط)) للواحدي (4/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/474). قال ابنُ عطية: (جَعَلَهم أظلَمَ وأَطغى؛ لأنَّهم سَبَقوا إلى التَّكذيبِ دونَ اقتِداءٍ بأحَدٍ قَبْلَهم، وأيضًا فإنَّهم كانوا في غايةٍ مِنَ العُتُوِّ، وكان عُمُرُ نوحٍ قد طال في دُعائِهم!). ((تفسير ابن عطية)) (5/209). قال ابن عاشور: (ضميرُ الجَمعِ في إِنَّهُمْ كَانُوا يجوزُ أن يعودَ إلى قَومِ نُوحٍ، أي: كانوا أظلَمَ وأطغَى من عادٍ وثَمودَ، ويجوزُ أن يكونَ عائِدًا إلى عادٍ وثَمودَ وقَومِ نُوحٍ، والمعنى: أنَّهم أظلَمُ وأطغى مِن قَومِك الَّذين كَذَّبوك؛ فتكونَ تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الرُّسُلَ مِن قَبْلِه لَقُوا مِن أُمَمِهم أشَدَّ مِمَّا لَقِيَه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/154). وقال ابن عثيمين: (وكِلا المعنَيَينِ صَحيحٌ؛ فهؤلاء الأُمَمُ أظلَمُ وأطغى مِن قُرَيشٍ، وقَومُ نوحٍ أظلَمُ وأَطغى مِن عادٍ وثمودَ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 254). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 9، 10].
وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 46].
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53).
أي: وقَريةَ قَومِ لُوطٍ أسقَطَها جبريلُ، وجَعَل عالِيَها سافِلَها [440] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/90)، ((تفسير القرطبي)) (17/120)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 823)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/154). قال ابنُ عطيَّةَ: (المُؤتَفِكةُ: قَريةُ قَومِ لُوطٍ، بإجماعٍ مِنَ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/209). .
كما قال تعالى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [الحجر: 74] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة: 9، 10].
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54).
أي: فغطَّى تلك القَريةَ ما غَطَّاها مِنَ الحِجارةِ الَّتي أُمطِرَت عليهم [441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/91)، ((تفسير ابن كثير)) (7/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 823)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/154)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 254). قال الواحدي: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى أي: فغَشَّاها اللهُ وألبَسَها ما غَشَّى، يعني: الحِجارةَ، في قَولِ جَميعِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (21/79). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود: 82].
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الفرقان: 40] .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّك -أيُّها الإنسانُ- تَرتابُ وتُشَكِّكُ، وتُكذِّبُ وتُجادِلُ [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/92)، ((الوسيط)) للواحدي (4/205)، ((تفسير ابن عطية)) (5/209)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/31، 208)، ((تفسير ابن كثير)) (7/468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 823)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 255). ممَّن ذهب إلى أنَّ الخِطابَ للإنسانِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والواحدي، وابن كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/92)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/78)، ((تفسير السمرقندي)) (3/367)، ((الوسيط)) للواحدي (4/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 823)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 255). وقيل: الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: البِقاعي، واستظهره ابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/155، 156). وقيل: هو خِطابٌ للكافِرِ على وَجهِ الخُصوصِ. وممَّن قال بهذا: الماوَرْديُّ، والسمعاني، وابن عطية، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/406)، ((تفسير السمعاني)) (5/304)، ((تفسير ابن عطية)) (5/209)، ((تفسير القرطبي)) (17/121). قال ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا ذَكَر ما ذَكَره في سورةِ «النَّجمِ»، وذكَرَ إهلاكَ مُكَذِّبي الرُّسُلِ؛ قال: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى، فإهلاكُهم مِن آلاءِ رَبِّنا، وآلاؤُه: نِعَمُه الَّتي تدُلُّ على رحمتِه، وعلى حِكمتِه، وعلى مَشيئتِه وقُدرِته، ورُبوبيَّتِه سُبحانَه وتعالى). ((مجموع الفتاوى)) (16/170). ؟!

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: إِلَّا مَا سَعَى جاء الفِعلُ بصيغةِ الماضي دونَ المُستَقبَلِ؛ لزِيادةِ الحَثِّ على السَّعيِ في العَمَلِ الصَّالحِ، فقال: ليس له إلَّا ما قد سعى وحَصَّل وفَرَغ منه، وأمَّا تسويلاتُ الشَّيطانِ وعِداتُه فلا اعتِمادَ عليها [443] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/276). قال ابن تيميَّة: (وما هَمَّ به مِن القولِ الحسَنِ والعملِ الحسَنِ إنَّما يُكتَبُ له به حسَنةٌ واحدةٌ، فإذا صار قولًا وفعلًا كُتِب له به عَشْرُ حسَناتٍ إلى سَبْعِمِئةٍ). ((مجموع الفتاوى)) (7/137). وقال السعدي: (مَن نَوى الخَيرَ، واقترَن بنيَّتِه الجازِمةِ سَعْيٌ فيما يَقدِرُ عليه، ثمَّ لم يقدرْ؛ فإنَّه يُنزَّلُ مَنزِلةَ الفاعِلِ التَّامِّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
2- في قَولِه تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى أي: المنتهى في أمورِ الدِّينِ والدُّنيا -على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ-؛ فإلى اللهِ المنتهى في مسائلِ العِلمِ، في الحُكْمِ بيْنَ النَّاسِ وللنَّاسِ، ومنتهَى جميعِ الخلائقِ إليه يومَ القيامةِ، فإلى اللهِ المصيرُ، فمُنتهى أحوالِنا وأحكامِنا وجميعِ ما يَصْدُرُ مِنَّا وعلينا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإذا كان إلى اللهِ المنتهَى؛ فاجعَلْ شكواك إليه إذا أصابَك الضُّرُّ، واجعَلْ توجُّهَك إليه إذا أرَدْتَ النَّفعَ؛ لأنَّ إليه المنتهَى، فلا يَجْلِبُ لك الخَيرَ إلَّا اللهُ، ولا يمنعُ عنك الضَّرَرَ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ، فاجعَلْه مُنتهاك في كلِّ أمورِك [444] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 247). .
3- قَولُه تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى مُتضَمِّنٌ لكَنزٍ عَظيمٍ، وهو أنَّ كلَّ مُرادٍ إنْ لم يُرَدْ مِن أجْلِه، ويَتَّصِلْ به، وإلَّا فهو مُضمَحِلٌّ مُنقَطِعٌ؛ فإنَّه ليس إليه المُنتهى! وليس المُنتهى إلَّا إلى الَّذي انتَهَتْ إليه الأمورُ كلُّها؛ فانتَهَتْ إلى خَلْقِه ومَشيئتِه وحِكمتِه وعِلْمِه؛ فهو غايةُ كلِّ مطلوبٍ، وكلُّ محبوبٍ لا يُحَبُّ مِن أجْلِه فمَحبَّتُه عَناءٌ وعذابٌ، وكلُّ عَمَلٍ لا يُرادُ مِن أجْلِه فهو ضائعٌ وباطلٌ، وكلُّ قلبٍ لا يَصِلُ إليه فهو شَقِيٌّ مَحجوبٌ عن سَعادتِه وفَلاحِه! فاجتمَعَ ما يُراد منه كلُّه في قَولِه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر: 21] ، واجتَمَعَ ما يُرادُ له كلُّه في قَولِه: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى؛ فليس وراءَه سُبحانَه غايةٌ تُطلَبُ، وليس دونَه غايةٌ إليها المُنتَهى، وتحتَ هذا سِرٌّ عظيمٌ مِن أسرارِ التَّوحيدِ، وهو أنَّ القلبَ لا يَستقِرُّ ولا يَطمئِنُّ ويَسكُنُ إلَّا بالوُصولِ إليه، وكلُّ ما سِواه مما يُحَبُّ ويُرادُ فمُرادٌ لغَيرِه، وليس المرادُ المحبوبُ لِذَاتِه إلَّا واحِدًا إليه المُنتَهى، ويَستحيلُ أنْ يكونَ المُنتَهى إلى اثنَينِ، كما يَستحيلُ أنْ يكونَ ابتِداءُ المخلوقاتِ مِنِ اثنَينِ؛ فمَنْ كان انتِهاءُ مَحبَّتِه ورَغبتِه وإرادتِه وطاعتِه إلى غَيرِه، بَطَلَ عليه ذلك، وزالَ عنه، وفارقَه أحْوَجَ ما كان إليه، ومَن كان انتهاءُ محبَّتِه ورغبتِه ورَهبتِه وطَلَبِه هو سُبحانَه، ظَفِرَ بنِعَمِه ولَذَّتِه وبَهجتِه وسَعادتِه أَبَدَ الآبادِ [445] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 202). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى تَنبيهٌ إلى أنَّ الظُّلمَ والطُّغيانَ لا يُخَلِّصُ الإنسانَ، ولا يُغْني ولا يُجدِي، بل يُرْدِي، بدَلالةِ قومِ نوحٍ؛ فقد كانوا أظْلَمَ منهم وأَطغَى، فأُهلِكوا [446] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/508، 543). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتَ هذا الاستِخبارُ ليس لعدَمِ عِلْمِه جلَّ وعلا، ولكنْ لِشَحْذِ النُّفوسِ والهِمَمِ إلى الاستِماعِ إلى ما يُلْقَى [447] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 240). .
2- قَولُه تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى يقتَضي أنَّ المُنَبَّأَ بذلك يجِبُ عليه تصديقُ ذلك، والإيمانُ به؛ لأنَّه مِمَّا أَخبرَ به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم مُصَدِّقًا لإبراهيمَ وموسى، كما ذُكِرَ ذلك في آخرِ سورةِ (الأعلَى): إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 18، 19]، وهذا يَقتَضي ثلاثةَ أُصولٍ؛ الأوَّلُ: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. الثَّاني: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. الثَّالثُ: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى؛ فالأصلُ الأوَّلُ: أنَّ ذَنْبَ الإنسانِ لا يَحمِلُه غيرُه، وهو قَولُه: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: لا يَحْمِلُ أحدٌ عن أحدٍ مِن ذنْبِه شَيئًا. الثَّاني: أنَّه ليس للإنسانِ إلَّا سعيُه، وهو قولُه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. الثَّالِثُ: أنَّه يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وهذه أصولُ الإيمانِ بالوَعدِ والوَعيدِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وهي نتيجةُ الإيمانِ بالأمرِ والنَّهيِ والمَعادِ، بل نتيجةُ الجزاءِ في الدُّنيا والآخِرةِ [448] يُنظر: ((تفسير آيات أَشكلت على كثير من العلماء)) لابن تيمية (1/451). .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ... إلى آخِرِ السِّياقِ: أنَّ أكثَرَ هذه الصُّحُفِ أمثالٌ ومَواعِظُ [449] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/507). .
4- في قَولِه تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى إلى آخِرِ السِّياقِ: تأكيدُ تَرابُطِ الكُتُبِ السَّماويَّةِ [450] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/507). .
5- قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أمَّا بَيانُ تَوفيتِه ففيه لطيفةٌ: وهي أنَّه لم يَعْهَدْ عَهدًا إلَّا وَفَّى به، وقال لأبيه: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] فاستغفَرَ ووَفَّى بالعَهدِ، ولم يغفِرِ اللهُ له! فعُلِمَ أنْ ليس للإنسانِ إلَّا ما سعَى، وأنَّ وِزرَه لا تَزِرُه نَفْسٌ أُخرى [451] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/275). .
6- في قَولِه تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أنَّ الإنسانَ لا يَحمِلُ ذَنْبَ غيرِه، إلَّا أنَّه يُستَثنَى مِن ذلك إذا كان صاحِبَ سُنَّةٍ آثمةٍ؛ فإنَّ عليه وِزْرَها ووِزْرَ مَن عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، ولكِنَّ الحقيقةَ أنَّ هذا لا يَتحمَّلُ وِزْرَ غَيرِه؛ لأنَّ غيرَه قد وُزِرَ وأَثِمَ، لكِنْ هو تَحَمَّلَ إثمَ السُّنَّةِ السَّيِّئةِ، والبَدْءِ بالشَّرِّ، فيكونُ حقيقةً أنَّه لم يُوزَرْ وِزْرَ غَيرِه، ولكِنَّه وُزِرَ بوِزْرِ نفْسِه [452] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 241). !
7- قَولُه تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى هذا خبَرٌ مِن الرَّسولَينِ الكَريمَينِ: إبراهيمَ وموسى عليهما السَّلامُ، وهما خبَرانِ عامَّانِ، والأخبارُ لا تُنسَخُ، ولا تَختَلِفُ شرائِعُ الأنبياءِ في الأخبارِ المُجرَّدةِ [453] يُنظر: ((تفسير آيات أَشكلت على كثير من العلماء)) لابن تيمية (1/458). ، فهما آيتانِ مُحكَمتانِ يَقتَضيهما عَدلُ الرَّبِّ تعالى، وحِكمتُه، وكمالُه المُقَدَّسُ، والعَقلُ والفِطرةُ شاهِدانِ بهما، فالأُولى: تقتَضي أنَّه لا يُعاقَبُ بجُرْمِ غَيرِه، والثَّانيةُ: تقتَضي أنَّه لا يُفْلِحُ إلَّا بعَمَلِه وسَعْيِه، فالأُولى: تُؤَمِّنُ العبدَ مِن أخْذِه بجَريرةِ غيرِه، كما يَفعلُه مُلوكُ الدُّنيا، والثَّانيةُ: تَقطَعُ طَمَعَه مِن نجاتِه بعَمَلِ آبائِه وسَلَفِه ومَشايخِه، كما عليه أصحابُ الطَّمَعِ الكاذِبِ؛ فتأمَّلْ حُسْنَ اجتِماعِ هاتَينِ الآيتَينِ [454] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 127). ، وهذا هو العَدلُ الَّذي نَزَّهَ نفْسَه عن خِلافِه [455] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/108). .
8- في قَولِه تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أنَّه قال في حَقِّ المُسيءِ: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وهو لا يدُلُّ إلَّا على عَدَمِ الحَملِ عن الوازِرةِ، وهذا لا يَلزَمُ منه بقاءُ الوِزرِ عليها -مِن ضَرورةِ اللَّفظِ-؛ لجَوازِ أن يَسقُطَ عنها ويَمحوَ اللهُ ذلك الوِزرَ، فلا يَبقى عليها، ولا يَتحَمَّلُ عنها غَيرُها، ولو قال: «لا تَزِرُ وازرةٌ إلَّا وِزرَ نَفْسِها» كان مِن ضَرورةِ الاستِثناءِ أنَّها تَزِرُ؛ وقال في حَقِّ المحسِنِ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، ولم يَقُلْ: «ليس له ما لم يَسْعَ»؛ لأنَّ العبارةَ الثَّانيةَ ليس فيها أنَّ له ما سعى، وفي العبارةِ الأُولى أنَّ له ما سعى -نظرًا إلى الاستِثناءِ-، فقال في حَقِّ المُسيءِ بعِبارةٍ لا تَقطَعُ رَجاءَه، وفي حَقِّ المُحسِنِ بعِبارةٍ تَقطَعُ خَوفَه؛ كُلُّ ذلك إشارةً إلى سَبْقِ الرَّحمةِ الغَضَبَ [456] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/277). .
9- قَولُه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى استَدَلَّ به الشَّافِعيُّ على أنَّ ثَوابَ القِراءةِ لا يَلحَقُ المَيِّتَ [457] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 251). قال ابن كثير: (ومِن هذه الآيةِ الكريمةِ استنبط الشَّافعيُّ -رحِمه الله- ومَنِ اتَّبعه أنَّ القِراءةَ لا يَصِلُ إهداءُ ثَوابِها إلى الموتَى؛ لأنَّه ليس مِن عمَلِهم ولا كَسبِهم؛ ولهذا لم يَندُبْ إليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّتَه، ولا حثَّهم عليه، ولا أرشَدهم إليه بنصٍّ ولا إيماءٍ، ولم يُنقَلْ ذلك عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ رضيَ الله عنهم، ولو كان خيرًا لَسَبَقونا إليه، وبابُ القُرُباتِ يُقتصَرُ فيه على النُّصوصِ، ولا يُتصرَّفُ فيه بأنواعِ الأقيسةِ والآراءِ، فأمَّا الدُّعاءُ والصَّدقةُ فذاك مُجمَعٌ على وُصولِهما، ومنصوصٌ مِن الشَّارعِ عليهما). ((تفسير ابن كثير)) (7/465). وقال السعدي: (وقد استَدلَّ بقولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مَن يرَى أنَّ القُرَبَ لا يُفيدُ إهداؤُها للأحياءِ ولا للأمواتِ؛ قالوا: لأنَّ اللهَ قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، فوُصولُ سعْيِ غيرِه إليه مُنافٍ لذلك، وفي هذا الاستِدلالِ نظرٌ؛ فإنَّ الآيةَ إنَّما تدُلُّ على أنَّه ليس للإنسانِ إلَّا ما سعَى بنفْسِه، وهذا حقٌّ لا خلافَ فيه، وليس فيها ما يدُلُّ على أنَّه لا ينتفِعُ بسَعيِ غيرِه إذا أهداه ذلك الغيرُ له، كما أنَّه ليس للإنسانِ مِن المالِ إلَّا ما هو في ملكِه وتحتَ يدِه، ولا يَلزَمُ مِن ذلك ألَّا يَملِكَ ما وهَبه له الغيرُ مِن مالِه الَّذي يَملِكُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 822). .
10- في قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أنَّ الإنسانَ لا يَملِكُ غيرَ سَعيِه، ولا يَستَحِقُّ غيرَه، وإنْ كان قد يَحصُلُ له نَفعٌ بفَضلِ اللهِ وبرَحمتِه وبدُعاءِ غيرِه؛ فإنَّه قد عُرِفَ أنَّ اللهَ يَرحَمُ كثيرًا مِن النَّاسِ مِن غيرِ جِهةِ عَمَلِه، لكِنْ ليس له إلَّا ما سعَى [458] يُنظر: ((تفسير آيات أَشكلت على كثير من العلماء)) لابن تيمية (1/451). !
11- في قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى سؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ تدُلُّ على أنَّه لا يَنتَفِعُ أحَدٌ بعَمَلِ غَيرِه، وقد جاءت آيةٌ أُخرى تدُلُّ على أنَّ بَعضَ النَّاسِ رُبَّما انتفَع بعَمَلِ غيرِه، وهي قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21]، فرَفعُ دَرَجاتِ الأولادِ -سواءٌ قُلنا: إنَّهم الكِبارُ أو الصِّغارُ- نَفعٌ حاصِلٌ لهم، وإنَّما حصَلَ لهم بعَمَلِ آبائِهم لا بعَمَلِ أنفُسِهم؟
الجوابُ مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ آيةَ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى إنَّما دَلَّت على نَفيِ مِلكِ الإنسانِ لغَيرِ سَعْيِه، ولم تدُلَّ على نَفيِ انتِفاعِه بسَعيِ غَيرِه؛ لأنَّه لم يَقُلْ: «وأنْ لن ينتَفِعَ الإنسانُ إلَّا بما سَعى»، وإنَّما قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ، وبيْنَ الأمْرَينِ فَرقٌ ظاهِرٌ؛ لأنَّ سَعيَ الغَيرِ مِلكٌ لساعيه: إنْ شاء بَذَله لِغَيرِه فانتفَعَ به ذلك الغَيرُ، وإن شاء أبقاه لنَفْسِه، وقد أجمَعَ العُلَماءُ على انتِفاعِ المَيِّتِ بالصَّلاةِ عليه، والدُّعاءِ له، والحَجِّ عنه، ونحوِ ذلك مِمَّا ثَبَت الانتِفاعُ بعَمَلِ الغَيرِ فيه.
الثَّاني: أنَّ إيمانَ الذُّرِّيةِ هو السَّبَبُ الأكبَرُ في رَفعِ دَرَجاتِهم؛ إذ لو كانوا كُفَّارًا لَمَا حَصَل لهم ذلك؛ فإيمانُ العَبدِ وطاعتُه سَعيٌ منه في انتِفاعِه بعَمَلِ غَيرِه مِنَ المُسلِمينَ، كما وَقَع في الصَّلاةِ في الجَماعةِ؛ فإنَّ صَلاةَ بَعضِهم مع بعضٍ يَتضاعَفُ بها الأجرُ زِيادةً على صَلاتِه مُنفَرِدًا، وتلك المُضاعَفةُ انتِفاعٌ بعَمَلِ الغَيرِ سَعى فيه المُصَلِّي بإيمانِه وصلاتِه في الجماعةِ، وهذا الوَجهُ يُشيرُ إليه قَولُه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ.
الثَّالِثُ: أنَّ السَّعيَ الَّذي حَصَل به رفْعُ دَرَجاتِ الأولادِ ليس للأولادِ، كما هو نَصُّ قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، ولكِنَّه مِن سَعيِ الآباءِ، فهو سَعيٌ للآباءِ أقَرَّ اللهُ عُيونَهم بسَبَبِه بأنْ رَفَع إليهم أولادَهم؛ لِيَتمتَّعوا في الجنَّةِ برُؤيتِهم؛ فالآيةُ تُصَدِّقُ الأُخرى ولا تُنافيها؛ لأنَّ المقصودَ بالرَّفعِ إكرامُ الآباءِ لا الأولادِ، فانتِفاعُ الأولادِ تَبَعٌ، فهو بالنِّسبةِ إليهم تفَضُّلٌ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتعالى عليهم بما ليس لهم، كما تَفضَّلَ بذلك على الوِلْدانِ والحُورِ العِينِ والخَلْقِ الَّذين يُنشِئُهم للجَنَّةِ [459] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 224). .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى بِشارةٌ للمُوَحِّدِ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى يُريه أعمالَه الصَّالِحةَ لِيَفرَحَ بها، ويَحزَنَ الكافِرُ بأعمالِه الفاسِدةِ، فيَزدادَ غَمًّا [460] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/136). .
13- في قَولِه تعالى: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى أنَّه لَمَّا كان في هذه الدَّارِ رُبَّما وَقَعت المُسامَحةُ ببَعضِ الأشياءِ، والغَفلةُ عن بَعضِها؛ قال: الْجَزَاءَ الْأَوْفَى أي: الأتَمَّ الأكمَلَ؛ فإن كان خيرًا فمعَ المُضاعَفةِ، وإن كان غَيرَه فعلى السَّواءِ؛ لِمَن أراد اللهُ تعالى ذلك له، ويَعفو عن كثيرٍ، لكِنَّه تَذكِرةٌ له [461] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/73). !
14- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى دَلالةٌ على أنَّ كُلَّ ما يَعمَلُه الإنسانُ فبِقَضاءِ اللهِ تعالى وخَلْقِه، حتَّى الضَّحِكَ والبُكاءَ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/211). .
15- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وكذا قَولُه: وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا: أَتَى بالأمْرَينِ وهما مُتقابِلانِ؛ لِيُعلَمَ بذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهو القادِرُ على خَلْقِ الضِّدَّينِ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 248). .
16- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا أنَّه سُبحانَه المُحْيي المُميتُ، وأنَّه خَلَقَ الموتَ والحياةَ؛ فثَبَتَ أنَّ الأفعالَ كلَّها؛ خَيرَها وشرَّها: صادِرةٌ عن خَلْقِه وإحداثِه إيَّاها [464] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/532). .
17- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أنَّه سُبحانَه خَلَقَ هذَينِ الصِّنفَينِ المُختَلِفَينِ خَلْقًا، والمُختَلِفَينِ مِزاجًا، والمُختَلِفَينِ عَقلًا، والمُختَلِفَينِ فِكْرًا؛ خَلَقَهما مِن شيءٍ واحدٍ؛ مِن نطفةٍ؛ ولهذا قال اللهُ تبارك وتعالى في آخرِ سورةِ (القيامةِ): فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 39، 40]؟ الجوابُ: بلى، فاللهُ تعالى خَلَقَ الزَّوجَينِ مِن شَيءٍ واحدٍ، وهذا يدُلُّ على كمالِ قُدرتِه جلَّ وعلا؛ إذْ إنَّه خَلَقَ صِنفَينِ مُختَلِفَينِ في كلِّ الأحوالِ: في القُوَّةِ البَدَنيَّةِ، والعَقليَّةِ، والفِكريَّةِ، والتَّنظيميَّةِ، يختَلِفُ الذَّكَرُ عنِ الأنثى، وبذلك نَعْرِفُ ضلالَ أولئك القومِ الَّذين يُريدونَ أنْ يُلْحِقوا المرأةَ بالرَّجُلِ في أعمالٍ تختَصُّ بالرَّجُلِ! فإنَّهم سُفَهاءُ العُقولِ، ضُلَّالُ الأديانِ، فكيف يمكنُ أنْ نُسَاويَ بيْنَ صِنفَينِ فَرَّقَ اللهُ بيْنَهما خِلْقةً وشَرعًا؟! فهناك أحكامٌ يُطالَبُ بها الرَّجُلُ ولا تُطالَبُ بها المرأةُ، وأحكامٌ تُطالَبُ بها المرأةُ ولا يُطالَبُ بها الرَّجُلُ، وأمَّا قَدَرًا وخِلْقةً فالأمرُ واضحٌ، لكنَّ هؤلاء الَّذين لم يُوَفَّقوا وسَلَبَ اللهُ عقولَهم، وأَضعَفَ أديانَهم يُحاوِلونَ الآن أنْ يُلْحِقوا النِّساءَ بالرِّجالِ! وهذه لا شكَّ أنَّها فِكرةٌ خاطِئةٌ، مُخالِفةٌ للفِطرةِ، ومُخالِفةٌ للطَّبيعةِ، كما أنَّها مُخالِفةٌ للشَّريعةِ [465] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 249). .
18- قَولُه تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى هذا مِن أعظَمِ الأدِلَّةِ على كَمالِ قُدرتِه سُبحانَه وتعالى، وانفرادِه بالعِزَّةِ العَظيمةِ، وهذا مِن وَجهَينِ؛ الأوَّلُ: أنَّه أوجَدَ تلك الحيواناتِ -صَغيرَها وكبيرَها- مِن نُطفةٍ ضَعيفةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ، ثمَّ نَمَّاها وكَمَّلها، حتَّى بلَغَت ما بلَغَت، ثمَّ صار الآدميُّ منها إمَّا إلى أرفَعِ المقاماتِ في أعلى عِلِّيِّينَ، وإمَّا إلى أدنى الحالاتِ في أسفَلِ سافِلينَ [466] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 822). . الثَّاني: أنَّ النُّطفةَ جِسمٌ مُتناسِبُ الأجزاءِ، يَخلُقُ اللهُ منها أعضاءً مُختَلِفةً، وطِباعًا مُتبايِنةً! وخَلْقُ الذَّكَرِ والأُنثى منها أعجَبُ ما يكونُ؛ ولهذا لم يَقدِرْ أحَدٌ على أن يَدَّعِيَه، كما لم يَقدِرْ على أن يدَّعِيَ خَلْقَ السَّمَواتِ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/213). .
19- في قَولِه تعالى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى دَليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى أَوجبَ على نفْسِه أنْ يَبْعَثَ النَّاسَ؛ لأنَّه لو كان النَّاسُ يَحيَونَ ويَموتونَ بلا إرجاعٍ لَكان هذا عَبَثًا مَحْضًا؛ لأنَّنا نَعلَمُ الآنَ أنَّ النَّاسَ في الدُّنيا يختَلِفونَ في الغِنى والفَقرِ، والقُوَّةِ والضَّعفِ، والذَّكاءِ والعَقلِ، وغيرِ ذلك، ولو كان الخَلْقُ هكذا فقط بدونِ إرجاعٍ لَكان هذا مُنافيًا للحِكمةِ تمامًا، لكِنْ لا بُدَّ مِن رُجوعٍ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 249). .
20- في قَولِه تعالى: الْأُخْرَى إشارةٌ إلى أنَّ القاِدرَ على الأُولى قادِرٌ على الآخِرةِ، كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [469] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 250). [الروم: 27].
21- في قَولِه تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى سُؤالٌ: أنَّ قَولَه: وَقَوْمَ نُوحٍ المقصودُ منه تخويفُ الظَّالِمِ بالهَلاكِ، فإذا قال: هم كانوا في غايةِ الظُّلمِ والطُّغيانِ فأُهلِكوا، فيَقولُ الظَّالِمُ: هم كانوا أظلَمَ فأُهلِكوا؛ لِمُبالَغتِهم في الظُّلمِ، ونحن ما بالَغْنا، فلا نَهلِكُ! وأمَّا لو قال: أُهلِكوا لأنَّهم ظَلَمةٌ، لَخاف كُلُّ ظالمٍ؛ فما الفائِدةُ في قَولِه: أَظْلَمَ؟
الجوابُ: المقصودُ بَيانُ شِدَّتِهم، وقُوَّةِ أجسامِهم؛ فإنَّهم لم يُقْدِموا على الظُّلمِ والطُّغيانِ الشَّديدِ إلَّا بتَماديهم وطولِ أعمارِهم، ومع ذلك ما نجا أحَدٌ منهم! فما حالُ مَن هو دُونَهم مِن العُمُرِ والقُوَّةِ؟! فهو كقَولِه تعالى: أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [470] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/284). [الزخرف: 8] .
22- في قَولِه تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى سُؤالٌ: ما الحِكمةُ في اختِصاصِ المُؤتَفِكةِ باسمِ الموضِعِ في الذِّكرِ، وقال في عادٍ وثمودَ وقَومِ نُوحٍ اسمَ القَومِ؟
الجَوابُ مِن وَجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ ثَمودَ اسمُ المَوضِعِ، فذَكَر عادًا باسمِ القَومِ، وثمودَ باسمِ المَوضِعِ، وقَومَ نوحٍ باسْمِ القَومِ، والمُؤتَفِكةَ باسْمِ المَوضِعِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ القَومَ لا يُمكِنُهم صَونُ أماكِنِهم عن عذابِ اللهِ تعالى، ولا الموضِعُ يُحَصِّنُ القَومَ عنه؛ فإنَّ في العادةِ تارةً يَقوَى السَّاكِنُ فيَذُبُّ عن مَسكَنِه، وأُخرى يَقوَى المَسكَنُ فيَرُدُّ عن ساكِنِه؛ وعذابُ اللهِ تعالى لا يَمنَعُه مانِعٌ! وهذا المعنى حَصَل للمُؤمِنينَ في آيتَينِ؛ إحداهما: قَولُه تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الفتح: 20] ، وقَولُه تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر: 2] ؛ ففي الأُولى: لم يَقدِرِ السَّاكِنُ على حِفظِ مَسكَنِه، وفي الثَّانيةِ: لم يَقْوَ الِحصنُ على حِفظِ السَّاكِنِ.
والوَجهُ الثَّاني: هو أنَّ عادًا وثَمودَ وقَومَ نوحٍ كان أمرُهم مُتقَدِّمًا، وأماكِنُهم كانت قد دَثَرت؛ ولكِنَّ أمْرَهم كان مَشهورًا مُتواتِرًا؛ وقومَ لُوطٍ كانت مساكِنُهم وآثارُ الانقِلابِ فيها ظاهِرةً؛ فذَكَر الأظهَرَ مِنَ الأمْرَينِ في كُلِّ قَومٍ [471] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/284). .
23- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ضُمِّنَ «تَتمارى» معنى «تُكَذِّبُ»؛ ولهذا عَدَّاه بالباءِ؛ فإنَّه «تَفاعَلَ» مِن المِراءِ، يقالُ: تَمارَيْنا في الهِلالِ، و((مِراءٌ في القُرآنِ كُفْرٌ)) [472] أخرجه أبو داودَ (4603)، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (8093)، وأحمد (7848) واللَّفظُ له مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. استحسنه يحيى بنُ مَعِينٍ كما في ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (45/73)، وصحَّح الحديثَ ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (1464)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (2/243) وقال: (على شرطِ مسلمٍ)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13/241)، وحسَّن الحديثَ ابنُ القيِّم في ((تهذيب السنن)) (12/353)، وقال الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4603): (حسَنٌ صحيحٌ). ، وهو يكونُ لتكذيبٍ وتشكيكٍ، ويقالُ: لَمَّا كان الخِطابُ لهم قال: «تَتمارَى» أي: يَتمارَونَ، ولم يَقُلْ: «تَمتَري»؛ لأنَّ التَّفاعُلَ يكونُ بيْنَ اثنَينِ [473] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/208). .
24- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى سؤالٌ: كيف قال تعالى ذلك بعدَ تَعديدِ النِّقَمِ، والآلاءُ: النِّعَمُ؟!
الجَوابُ: قد تَقدَّمَ تعديدُ النِّعَمِ، مع أنَّ النِّقمةَ في طَيِّها نِعمةٌ؛ لِما تَضمَّنَتْه مِنَ المواعِظِ والزَّواجِرِ [474] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 541). لِمَن اعتَبَرَ وتَدبَّرَ، لذا أُطلِقَ على النِّعَمِ والنِّقَمِ لفظُ الآلاءِ، وهي النِّعَمُ الَّتي لا يَتشكَّكُ فيها سامعٌ [475] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/429)، ((تفسير البيضاوي)) (5/162)، ((تفسير أبي حيان)) (10/28)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 541)، ((تفسير أبي السعود)) (8/165)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/368). . وأيضًا فهلاكُ الكافرينَ مِن حيثُ إنَّه تَخليصٌ لأهلِ الأرضِ مِن شُؤمِ عَقائدِهم وأعمالِهم نعمةٌ جليلةٌ، يحقُّ أن يُحمَدَ عليها [476] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/420)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/232). .
25- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى أنَّ كلَّ ما خَلَقَه اللهُ تعالى فهو نِعمةٌ على عبادِه المُؤمِنينَ؛ يَستَحِقُّ أنْ يَحمَدوه ويَشكُروه عليه، وهو مِن آلائِه [477] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/301). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى الفاءُ لتَفريعِ الاستِفهامِ التَّعجيبيِّ على قولِه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] ؛ إذ كان حالُ هذا الَّذي تَولَّى وأعْطَى قَليلًا وأَكْدَى جَهْلًا بأنَّ للإنسانِ ما سَعى، وقد حصَلَ في وقْتِ نُزولِ الآيةِ المُتقدِّمةِ أو قبْلَها حادثٌ أنبَأَ عن سُوءِ الفَهمِ لمُرادِ اللهِ مِن عِبادِه، مع أنَّه واضحٌ لِمَن صرَف حقَّ فَهْمِه، ففُرِّعَ على ذلك كلِّه تَعجيبٌ مِن انحرافِ أفْهامِهم؛ فالَّذي تَولَّى وأعْطى قليلًا هو هنا ليس فَريقًا مِثلَ الَّذي عَناهُ قولُه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا [النجم: 29] ، بلْ هو شَخصٌ بعَينِه، ولعلَّ ذلك وَجْهُ التَّعبيرِ عنه بلَفظِ (الَّذي) دونَ كَلمةِ (مَن)؛ لأنَّ (الَّذي) أظهَرُ في الإطلاقِ على الواحِدِ المُعيَّنِ دونَ لَفظِ (مَن) [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/127). .
- قولُه: وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى وُصِفَ عَطاؤُه بأنَّه قليلٌ؛ تَوطئةً لذَمِّه بأنَّه مع قِلَّةِ ما أعطاهُ قد شحَّ به فقطَعَه، وأشار قولُه: وَأَكْدَى إلى بُخْلِه وقَطْعِه العَطاءَ، وهذه مَذمَّةٌ ثانيةٌ بالبُخلِ [479] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/128). ، على قولٍ في التَّفسيرِ.
2- قولُه تعالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى
- الاستِفهامُ في قولِه: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إنكاريٌّ، أي: ما عِندَه عِلمُ الغيبِ. وهذا الخبَرُ كِنايةٌ عن خَطَئِه فيما تَوهَّمَه، والجُملةُ استِئنافٌ بَيانيٌّ للاستِفهامِ التَّعجيبيِّ مِن قولِه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ... إلخ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/128). .
- وتَقديمُ (عِنْدَهُ) -وهو مُسنَدٌ- على عِلْمُ الْغَيْبِ -وهو مُسنَدٌ إليه-؛ للاهتِمامِ بهذه العِنديَّةِ العَجيبِ ادِّعاؤُها، والإشارةِ إلى بُعْدِه عن هذه المَنزِلةِ [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/128). .
- وفُرِّعَ على هذا التَّعجيبِ قولُه: فَهُوَ يَرَى، أي: فهو يُشاهِدُ أُمورَ الغَيبِ. والرُّؤيةُ في قولِه: فَهُوَ يَرَى بَصريَّةٌ، ومَفعولُها مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: فهو يَرى الغَيبَ [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/128). .
- وتَقديمُ الضَّميرِ المُسنَدِ إليه فَهُوَ على فِعلِه المُسنَدِ يَرَى دونَ أنْ يقولَ: فيَرى؛ لإفادةِ تَقوِّي الحُكمِ، نحْو: هو يُعطِي الجَزيلَ. وهذا التَّقوِّي بِناءً على ما أظهَرَ مِن اليقينِ بالصَّفقةِ الَّتي عاقَدَ عليها -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهو أدخَلُ في التَّعجيبِ مِن حالِه [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/129). .
3- قولُه تعالَى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى
- حرْفُ (أَمْ) لإضرابِ الانتِقالِ إلى مُتعجَّبٍ منه، وإنكارٍ عليه آخَرَ، وهو جَهْلُه بما عليه أنْ يَعلَمَه الَّذين يَخشَون اللهَ تعالى مِن عِلمِ ما جاء على ألْسِنةِ الرُّسلِ الأوَّلينَ؛ فإنْ كان هو لا يُؤمِنُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهلَّا تَطلَّبَ ما أخبَرَت به رُسلٌ مِن قبْلُ، طالَما ذَكَرَ هو وقومُه أسماءَهُم وشَرائعَهم في الجُملةِ؟ وطالَما سأَلَ هو وقَومُه أهلَ الكتابِ عن أخبارِ مُوسى، فهلَّا سأَلَ عمَّا جاء عنهم في هذا الغرَضِ الَّذي يَسْعى إليه؟ -وهو طلَبُ النَّجاةِ مِن عَذابِ اللهِ- فيُنبِّئَه العالِمون؛ فإنَّ مآثِرَ شَريعةِ إبراهيمَ مأْثورٌ بعضُها عندَ العرَبِ، وشَريعةَ مُوسى مَعلومةٌ عندَ اليهودِ، فالاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) إنكارٌ، والتَّقديرُ: بلْ ألمْ يُنبَّأْ بما في صُحفِ مُوسى... إلخ [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/129). .
- قولُه: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى تَنبيهٌ لِمَن خُوطِبَ بقولِه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى على خَطَئِه في إمساكِه عن البِرِّ، وقَبولِ قولِ أخيهِ: أنا أتحمَّلُ ذُنوبَك كلَّها -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ ولذلك جُعِلَ قولُه: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38] ؛ تَمهيدًا لقولِه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [485] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/105). [النجم: 39] .
- وإنَّما خصَّ هذه الصُّحفَ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العرَبَ يَعرِفون إبراهيمَ وشَريعتَه ويُسَمُّونها الحَنيفيَّةَ، ورُبَّما ادَّعى بعضُهم أنَّه على أثارةٍ منها، وأمَّا صُحفُ مُوسى فهي مُشتهِرةٌ عندَ أهْلِ الكِتابِ، والعرَبُ يُخالِطون اليهودَ في خَيبرَ وقُرَيظةَ والنَّضيرِ وتَيْمَا، ويُخالِطون نَصارى نَجْرانَ [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/129، 130). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قدَّمَ مُوسَى هاهنا فقال: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، وفي سُورةِ (الأعْلى) قال: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 18، 19]، فقدَّمَ إبراهيمَ؛ وذلك لعِدَّةِ أوجهٍ: الأوَّلُ: مِثلُ هذا في كلامِ الفُصحاءِ لا يُطلَبُ له فائدةٌ، بلِ التَّقديمُ والتأخيرُ سواءٌ في كَلامِهم. الثَّاني: أنَّ الذِّكرَ في سُورةِ (الأعلى) لمُجرَّدِ الإخبارِ والإنذارِ، وهاهنا المقصودُ بَيانُ انتفاءِ الأعذارِ، فذُكِرَ هناك على تَرتيبِ الوجودِ: صُحفُ إبراهيمَ قبْلَ صُحفِ مُوسى في الإنزالِ، وأمَّا هاهنا فإنَّ الكلامَ مع أهلِ الكِتابِ -وهم اليهودُ- فقدَّمَ كِتابَهم، وإنْ قُلنا: الخِطابُ عامٌّ؛ فصُحُفُ مُوسى عليه السَّلامُ كانتْ كثيرةَ الوجودِ؛ فكأنَّه قِيل لهم: انْظُروا فيها تَعلَموا أنَّ الرِّسالةَ حقٌّ، وأُرسِلَ مِن قبْلِ مُوسى رُسلٌ، والتَّوحيدَ صِدقٌ، والحَشرَ واقعٌ، فلمَّا كانتْ صُحُفُ مُوسى عندَ اليَهودِ كثيرةَ الوجودِ قدَّمَها، وأمَّا صُحُفُ إبراهيمَ فكانتْ بعيدةً، وكانتِ المواعظُ الَّتي فيها غيرَ مَشهورةٍ فيما بيْنَهم كصُحُفِ مُوسى؛ فأخَّرَ ذِكرَها [487] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/275). ، ولأنَّ كتابَ موسى عليه السَّلامُ أعظَمُ كتابٍ بعدَ القرآنِ الكريمِ [488] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/134). .
وقيل: إنَّ تَقديمَ صُحفِ مُوسى؛ لأنَّها اشتُهِرَت بسَعةِ ما فيها مِن الهُدَى والشَّريعةِ، وأمَّا صُحفُ إبراهيمَ فكان المأْثورُ منها أشياءَ قليلةً. وإنَّما قُدِّمَ في سُورةِ (الأعْلى) صُحفُ إبراهيمَ على صُحفِ مُوسى؛ مُراعاةً لوُقوعِهما بدَلًا مِن الصُّحفِ الأُولى، فقُدِّمَ في الذِّكْرِ أقدَمُهما. أو تأْخيرُ ذِكرِ صُحفِ إبراهيمَ؛ ليقَعَ ما بعْدَها هنا جامعًا لِما احتَوَت عليه صُحفُ إبراهيمَ، فتَكونَ صُحفُ إبراهيمَ هي الكلماتِ الَّتي ابتَلى اللهُ بها إبراهيمَ المذكورةَ في قولِه في سُورةِ (البقرةِ): وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124]، أي: بلَّغَهنَّ إلى قَومِه ومَنْ آمَنَ به، ويكونَ قَولُه هنا: الَّذِي وَفَّى في معنى قولِه: فَأَتَمَّهُنَّ في سُورةِ البقرةِ، الآية (124) [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/130). .
- ووَصْفُ إبراهيمَ بأنَّه الَّذِي وَفَّى تَسجيلٌ على المشرِكين بأنَّ إبراهيمَ بلَّغَ ما أُوحِيَ إليه إلى قَومِه وذُرِّيَّتِه، ولكنَّ العرَبَ أهْمَلوا ذلك، واعتاضُوا عن الحنيفيَّةِ بالإشراكِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/130). .
- وتَخصيصُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بـ الَّذِي وَفَّى؛ لاحتِمالِه ما لم يَحتمِلْه غيرُه، كالصَّبرِ على نارِ نُمْروذَ، وذَبْحِ الولَدِ [491] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/161)، ((تفسير أبي حيان)) (10/23)، ((تفسير أبي السعود)) (8/163). . وقيل: مَدحُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه كان مُتَّفَقًا عليه بيْنَ اليَهودِ والمُشرِكينَ والمُسلِمينَ، ولم يُنكِرْ أحَدٌ كَونَه وَفيًّا ومُوفِيًا، ورُبَّما كان المُشرِكونَ يَتوقَّفونَ في وَصفِ موسى عليه السَّلامُ [492] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/275). .
- وجاءَ قولُه: وَفَّى مُشدَّدًا، والتَّشديدُ مُبالَغةٌ في الوفاءِ، أو بمعْنى: وفَّى وأتَمَّ ما الْتزَمَه أو أُمِرَ به [493] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/427)، ((تفسير البيضاوي)) (5/161). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ وَفَّى؛ ليَتناوَلَ كلَّ وَفاءٍ وتَوفيةٍ، مِن ذلك: تَبليغُه الرِّسالةَ، واستِقلالُه بأعباءِ النُّبوَّةِ، والصَّبرُ على ذبْحِ ولَدِه وعلى نارِ نَمروذَ، وقِيامُه بأضيافِه وخِدمتُه إيَّاهم بنفْسِه [494] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/427)، ((تفسير أبي حيان)) (10/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/130). .
- وخَصَّ هذَينِ النَّبيَّينِ عليهما أفْضلُ الصَّلاةِ والسَّلامُ بالذِّكرِ؛ قِيل: لأنَّه ما بيْنَ نوحٍ وإبراهيمَ كانوا يأْخُذون الرَّجُلَ بأبِيه وابنِه وعمِّه وخالِه، والزَّوجَ بامرأتِه، والعبدَ بسيِّدِه، فأوَّلُ مَن خالَفَهم إبراهيمُ، ومِن شَريعةِ إبراهيمَ إلى شَريعةِ مُوسى صلَّى اللهُ وسلَّم عليهما كانوا لا يأْخُذون الرَّجُلَ بجَريمةِ غَيرِه [495] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/23). .
وقيل: لأنَّ المُدَّعِينَ مِن بني إسرائيلَ -اليهودَ والنَّصارى- يَدَّعونَ مُتابَعةَ مُوسى عليه السَّلامُ، ومِنَ العَرَبِ يَدَّعونَ مُتابَعةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ومَن عَداهم لا مُتمَسَّكَ لهم ولا سَلَفَ في نبُوَّةٍ مُحَقَّقةٍ، ولا شَريعةٍ مَحفوظةٍ [496] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/71)، ((تفسير الشربيني)) (4/135). .
4- قولُه تعالَى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
- تَفسيرٌ للَّذي في الصُّحُفِ، أو استِئنافٌ [497] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/72). .
- وعُمومُ لَفظِ وِزْرَ يَقْتضي اطِّرادَ الحُكمِ في أُمورِ الدُّنيا وأُمورِ الآخرةِ، وتأنيثُ وَازِرَةٌ بتأْويلِ: (نَفْس)، وكذلك تأنيثُ أُخْرَى، ووُقوعُ (نَفْس) وأُخْرَى في سِياقِ النَّفيِ يُفيدُ العُمومَ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/131). .
5- قولُه تعالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى بَيانٌ لعدَمِ انتِفاعِ الإنسانِ بعمَلِ غَيرِه مِن حيثُ جلْبُ النَّفعِ إليه، إثرَ بَيانِ عدَمِ انتِفاعِه بهِ مِنْ حيثُ دفْعُ الضَّررِ عنه [499] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/163، 164). .
- وهو عطْفٌ على جُملةِ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38] ؛ فيصِحُّ أنْ تكونَ عطْفًا على المَجرورِ بالباءِ، فتَكونَ (أنْ) مُخفَّفةً مِن الثَّقيلةِ. ويصِحُّ أنْ تكونَ عطْفًا على أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فتَكونَ (أنْ) تَفسيريَّةً، وعلى كِلا الاحتمالَينِ تكونُ (أنْ) تأْكيدًا لنَظيرتِها في المَعطوفِ عليها [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/132). .
- وتَعريفُ الإنسانِ هنا تَعريفُ الجِنسِ، ووُقوعُه في سِياقِ النَّفيِ يُفيدُ العُمومَ، والمعْنى: لا يَختصُّ به إلَّا ما سعاهُ، قيل: المُرادُ هنا عمَلُ الخَيرِ؛ بقَرينةِ ذِكرِ لامِ الاختِصاصِ، وبأنْ جُعِلَ مُقابِلًا لقولِه: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38] ، والمعْنى: لا تَحصُلُ لأحدٍ فائدةُ عمَلٍ إلَّا ما عمِلَه بنفْسِه، فلا يكونُ له عمَلُ غيرِه، ولامُ الاختِصاصِ يُرجِّحُ أنَّ المُرادَ ما سَعاهُ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ، وبذلك يكونُ ذِكْرُ هذا تَتْميمًا لمعْنى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/132). .
6- قولُه تعالَى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى فيه وَعيدٌ للكافِرِ، ووعْدٌ للمؤمِنِ [502] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/25). .
- ومعنَى يُرَى يُشاهَدُ عِندَ الحِسابِ؛ فيَجوزُ أنْ تُجسَّمَ الأعمالُ فتَصيرَ مُشاهَدةً، وأُمورُ الآخرةِ مُخالِفةٌ لمُعتادِ أُمورِ الدُّنيا. ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ عَلاماتٌ على الأعمالِ يُعلَنُ بها عنها، كما في قولِه تعالى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم: 8] ، وما في الحديثِ: «إنَّ الغادِرَ يُنصَبُ له لِواءٌ يومَ القِيامةِ، فيُقال: هذه غَدْرةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ» [503] أخرجه البخاريُّ (6178) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1735) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما. ، فيُقدَّرُ مُضافٌ تَقديرُه: وأنَّ عُنوانَ سَعْيِه سَوف يُرى. ويَجوزُ أنْ يكونَ ذلك بإشهارِ العمَلِ والسَّعيِ، كما في قولِه تعالى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الأعراف: 49] الآيةَ، فتكون الرُّؤيةُ مُعبَّرًا بها عن العِلْمِ؛ لقصْدِ تَحقُّقِ العِلمِ واشتِهارِه. وحِكمةُ ذلك تَشريفُ المُحسنينَ بحُسْنِ السُّمعةِ، وانكسارُ المُسيئينَ بسُوءِ الأُحدوثةِ، وقولُه: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى هو المَقصودُ مِن الجُملةِ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/139). .
- و(ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ حُصولَ الجَزاءِ أهمُّ مِن إظهارِه، أو إظهارِ المَجزيِّ عنه [505] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/140). .
- وضَميرُ النَّصبِ في قولِه: يُجْزَاهُ عائدٌ إلى السَّعيِ، أي: يُجْزَى عليه، أو يُجْزى به؛ فحُذِفَ حرْفُ الجرِّ، ونُصِبَ على نَزعِ الخافضِ؛ فقد كثُرَ أنْ يُقالَ: جَزاهُ عمَلَه، وأصْلُه: جَزاهُ على عمَلِه، أو جَزاهُ بعمَلِه [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/140). .
- والأَوْفَى: اسمُ تَفضيلٍ مِن الوَفاءِ، وهو التَّمامُ والكَمالُ، والتَّفضيلُ مُستعمَلٌ هنا في القوَّةِ، وليس المُرادُ تَفضيلَه على غيرِه، والمعْنى: أنَّ الجَزاءَ على الفِعلِ -مِن حَسَنٍ أو سَيِّئٍ- مُوافِقٌ للمَجزيِّ عليه [507] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/140). .
7- قولُه تعالَى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى يَجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ مَعطوفةً على جُملةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم: 40] ، فتَكونَ تَتِمَّةً لِما في صُحفِ مُوسى وإبراهيمَ، ويكونَ الخِطابُ في قَولِه: إِلَى رَبِّكَ الْتِفاتًا مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والمُخاطَبُ غيرُ مُعيَّنٍ، فكأنَّه قِيل: وأنَّ إلى ربِّه المُنْتهى. ويَجوزُ أنَّها ليستْ ممَّا اشتمَلَتْ عليه صُحفُ مُوسى وإبراهيمَ، ويَكونُ عطْفُها عطْفَ مُفرَدٍ على مُفرَدٍ، فيَكونُ المَصدَرُ المُنسبِكُ مِن (أنْ) ومَعمولِها مَدخولًا للباءِ، أي: لم يُنبَّأْ بأنَّ إلى ربِّك المُنتهى، والخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا نَتطلَّبُ لها نَظيرًا مِن كَلامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/140، 141). .
- والتَّعبيرُ عن اللهِ بلفْظِ رَبِّكَ تَشريفٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَعريضٌ بالتَّهديدِ لمُكذِّبِيه؛ لأنَّ شأْنَ الرَّبِّ الدِّفاعُ عن مَرْبوبِه [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/141). .
- ومعنى الرُّجوعِ إلى اللهِ: قيل: الرُّجوعُ إلى حُكْمِه المحْضِ الَّذي لا تُلابِسُه أحكامٌ هي في الظَّاهرِ مِن تَصرُّفاتِ المَخلوقاتِ ممَّا هو شأْنُ أُمورِ الدُّنيا؛ فالكلامُ على حذْفِ مُضافٍ دلَّ عليه السِّياقُ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/141). .
- وقيل: في الآيةِ معنًى آخَرُ، وهو أنْ يكونَ المُنتهى مُعبَّرًا به عن انتهاءِ السَّيرِ، بمعْنى الوُقوفِ؛ لأنَّ الوقوفَ انتهاءُ سَيرِ السَّائرِ، ويكونَ الوُقوفُ تَمثيلًا لحالِ المُطيعِ لأمْرِ اللهِ؛ تَشبيهًا لأمْرِ اللهِ بالحدِّ الَّذي تُحدَّدُ به الحوائطُ، والمعْنى: التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ لِما أمَرَ اللهُ ونَهى، وقيل غير ذلك [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/141). .
8- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى لا يَخْلو الإنسانُ مِن حالَيْ حُزنٍ وسُرورٍ؛ لأنَّه إذا لم يكُنْ حَزينًا مَغمومًا كان مَسرورًا؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ السُّرورَ والانشراحَ مُلازِمًا للإنسانِ بسَببِ سَلامةِ مِزاجِه وإدراكِه؛ لأنَّه إذا كان سالِمًا كان نَشيطَ الأعصابِ، وذلك النَّشاطُ تَنشَأُ عنه المَسرَّةُ في الجُملةِ، وإنْ كانتْ مُتفاوِتةً في الضَّعفِ والقُوَّةِ؛ فذِكْرُ الضَّحِكِ والبُكاءِ يُفيدُ الإحاطةَ بأحوالِ الإنسانِ بإيجازٍ، ويَرمُزُ إلى أسبابِ الفرَحِ والحُزنِ، ويُذكِّرُ بالصَّانعِ الحَكيمِ، ويُشيرُ إلى أنَّ اللهَ هو المُتصرِّفُ في الإنسانِ؛ لأنَّه خلَقَ أسبابَ فرَحِه ونكَدِه، وألْهَمَه إلى اجتِلابِ ذلك بما في مَقدورِه، وجعَلَ حدًّا عظيمًا مِن ذلك خارجًا عن مَقدورِ الإنسانِ، وذلك لا يَمْتري فيه أحدٌ إذا تأمَّلَ، وفيه ما يُرشِدُ إلى الإقبالِ على طاعةِ اللهِ والتَّضرُّعِ إليه؛ ليُقدِّرَ للنَّاسِ أسبابَ الفرَحِ، ويَدفَعَ عنهم أسبابَ الحُزنِ [512] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/142، 143). .
- وأفادَ ضَميرُ الفصْلِ (هُو) قصْرًا لصِفةِ خلْقِ أسبابِ الضَّحِكِ والبُكاءِ على اللهِ تعالى؛ لإبطالِ الشَّريكِ في التَّصرُّفِ، فتَبطُلُ الشَّرِكةُ في الإلهيَّةِ، وهو قصْرُ إفرادٍ [513] القَصرُ أو الحَصرُ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّرِكةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحيي المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لأنَّ المَقصودَ نفْيُ تَصرُّفِ غيرِ اللهِ تعالى، وإنْ كان هذا القصْرُ بالنَّظرِ إلى نفْسِ الأمرِ قصْرًا حقيقيًّا لإبطالِ اعتِقادِ أنَّ الدَّهرَ مُتصرِّفٌ، وإسنادُ الإضحاكِ والإبكاءِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه خالِقُ قُوَّتيِ الضَّحِكِ والبُكاءِ في الإنسانِ، وذلك خلْقٌ عَجيبٌ، ولأنَّه خالقُ طِبائعِ المَوجوداتِ الَّتي تَجلِبُ أسبابَ الضَّحِكِ والبُكاءِ مِن سُرورٍ وحُزْنٍ [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/143). .
- ولم يُذكَرْ مَفعولُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى؛ لأنَّ القصْدَ إلى الفِعلَينِ، لا إلى مَفعولَيْهما، فالفِعلانِ مُنزَّلانِ مَنزِلةَ اللَّازِمِ، أي: أوجَدَ الضَّحِكَ والبُكاءَ [515] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/143). .
- وفي قولِه: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى تَضادٌّ، وفي الاعتِبارِ بخلْقِ الشَّيءِ وضِدِّه إشارةٌ إلى دَقائقِ حِكمةِ اللهِ تعالى. وتَقديمُ الضَّحِكِ على البُكاءِ؛ لأنَّ فيه امتِنانًا بزِيادةِ التَّنبيهِ على القُدْرةِ، وحصَلَ بذلك مُراعاةُ الفاصِلةِ [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/143). .
9- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا انتُقِلَ مِن الاعتبارِ بانفرادِ اللهِ بالقُدرةِ على إيجادِ أسبابِ المَسرَّةِ والحُزنِ -وهما حالتانِ لا تَخلو عن إحداهما نفْسُ الإنسانِ- إلى العِبرةِ بانفرادِه تَعالى بالقُدْرةِ على الإحياءِ والإماتةِ، وهما حالتانِ لا يَخلو الإنسانُ عن إحْداهما؛ فإنَّ الإنسانَ أوَّلُ وُجودِه نُطفةٌ مَيتةٌ، ثمَّ عَلَقةٌ، ثمَّ مُضْغةٌ -قِطعةٌ ميِّتةٌ وإنْ كانت فيها مادَّةُ الحياةِ، إلَّا أنَّها لم تَبرُزْ مَظاهرُ الحياةِ فيها-، ثمَّ يُنفَخُ فيه الرُّوحُ، فيَصيرُ إلى حياةٍ، وذلك بتَدْبيرِ اللهِ تَعالى وقُدرتِه. ولعلَّ المقصودَ هو العِبرةُ بالإماتةِ؛ لأنَّها أوضَحُ عِبْرةً، وللرَّدِّ عليهم قولَهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، وأنَّ عطْفَ وَأَحْيَا تَتْميمٌ [517] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/ 49 - 51) و(1/240، 241). واحتراسٌ [518] الاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتِمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ: التَّكميلَ. والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49-51، 240-241). ؛ ولذلك قُدِّمَ أَمَاتَ على (أَحْيَا)، مع الرِّعايةِ على الفاصِلةِ [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/144). .
- وفِعلَا أَمَاتَ وَأَحْيَا مُنزَّلانِ مَنزلةَ اللَّازِمِ؛ إظهارًا لبَديعِ القُدْرةِ على هذا الصُّنْعِ الحَكيمِ، مع التَّعريضِ بالاستدلالِ على كَيفيَّةِ البَعثِ وإمكانِه، حيث أحالَه المُشرِكون، وشاهِدُه في خلْقِ أنفُسِهم [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/144). .
- وضَميرُ الفصلِ (هُو) للقصْرِ؛ ردًّا على أهلِ الجاهليَّةِ الَّذين يُسنِدون الإحياءَ والإماتةَ إلى الدَّهرِ، فقالوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، فليس المُرادُ الحياةَ الآخرةَ؛ لأنَّ المُتحدَّثَ عنهم لا يُؤمِنون بها، ولأنَّها مُستقبَلةٌ، والمُتحدَّثُ عنه ماضٍ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/144). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- وأيضًا في قولِه: أَضْحَكَ وَأَبْكَى وأَمَاتَ وَأَحْيَا ووَأَعْطَى وَأَكْدَى والذَّكَرَ وَالْأُنْثَى طِباقٌ [522] الطِّباقُ: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِنَ الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ؛ طابَقَ بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقون. ومنه: طباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّديَّةُ في الصُّورةِ مُتوهَّمةً، فتبدو المُطابَقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخال النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/225 - 233)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/377 - 381)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). لا يَخفَى، وهو في السُّورة جَميعِها مُتعدِّدٌ؛ ولهذا يَدخُلُ في بابِ المُقابَلةِ، وقد زادَ هذا الطِّباقَ حُسْنًا أنَّه أتَى في مَعرِضِ التَّسجيعِ الفَصيحِ؛ لمَجيءِ المُناسَبةِ التَّامَّةِ في فَواصِلِ الآيِ [523] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/369)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (27/59). .
10- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى هذه الآيةُ وإنْ كانتْ مُستقِلَّةً بإفادةِ أنَّ اللهَ خالِقُ الأزواجِ مِن الإنسانِ خلْقًا بَديعًا مِن نُطفةٍ فيَصيرُ إلى خَصائصِ نَوعِه، وذلك ما لا يَجهَلُه المُخاطَبون؛ فما كان ذِكْرُه إلَّا تَمهيدًا وتَوطئةً لقولِه: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [النجم: 47] على نحْوِ قولِه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] ، وباعتبارِ استقلالِها بالدَّلالةِ على عَجيبِ تَكوينِ نسْلِ الإنسانِ عُطِفَت عليها جُملةُ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [النجم: 47] ، وإلَّا لَكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إنَّ عليه النَّشأةَ الأُخرى) بدونِ عطْفٍ، وبكسْرِ هَمزةِ (إنَّ) [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/145). .
- ولم يُؤتَ في هذه الجُملةِ بضَميرِ الفصْلِ (هو) كما في اللَّتَينِ قبْلَها؛ لعدَمِ الدَّاعي إلى القَصْرِ هنا؛ إذ لا يُنازِعُ أحدٌ في أنَّ اللهَ خالِقُ الخلْقِ [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/147). قال ابنُ عرفة: (السُّهَيلي: لم يُؤْتَ في هذه بضَميرِ الفَصلِ كما أتى به فيما قَبْلَها؛ لأنَّ بَعضَ الجُهَّالِ قد نَسَب تلك الأفعالَ لغَيرِ اللهِ تعالى، كقَولِ النُّمرودِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وأمَّا هذا فلم يَدَّعِه أحَدٌ. انتهى). ((تفسير ابن عرفة)) (4/104). .
- ولعلَّ وجْهَ ذِكرِ الزَّوجينِ والبدَلِ منه الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى دونَ أنْ يقولَ: (وأنَّه خلَقَه -أي: الإنسانَ- مِن نُطفةٍ)، كما قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ... [الطارق: 5، 6] الآيةَ؛ أمْرانِ: أحدُهما: إدماجُ الامتِنانِ في أثناءِ ذِكرِ الانفِرادِ بالخلْقِ بنِعمةِ أنْ خلَقَ لكلِّ إنسانٍ زوجةً، كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا... [الروم:21] الآيةَ. الثَّاني: الإشارةُ إلى أنَّ لكِلَا الزَّوجَينِ حظًّا مِن النُّطفةِ الَّتي منها يُخلَقُ الإنسانُ، فكانتْ للذَّكَرِ نُطفةٌ، وللمرأةِ نُطفةٌ، كما ورَدَ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّه إذا سبَقَ ماءُ الرَّجُلِ أشبَهَ المولودُ أباهُ، وإنْ سبَقَ ماءُ المرأةِ أشبَهَ المولودُ أُمَّه [526] يُنظر ما أخرجه البخاريُّ (3938) مِن حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رضيَ الله عنه. وما أخرجه مسلمٌ (311) مِن حديثِ أمِّ سُلَيمٍ رضيَ الله عنها. ، وبهذا يَظهَرُ أنَّ لكلٍّ مِن الذَّكَرِ والأُنثى نُطفةً، وإنْ كان المُتعارَفُ عندَ الناسِ قبْلَ القُرآنِ أنَّ النُّطفةَ هي ماءُ الرَّجلِ، إلَّا أنَّ القرآنَ يُخاطِبُ النَّاسَ بما يَفهَمون، ويُشيرُ إلى ما لا يَعلَمون إلى أنْ يَفهَمَه المُتدبِّرون [527] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/145، 146). .
- ولفْظُ (مِن) في قولِه: مِنْ نُطْفَةٍ ابتدائيَّةٌ؛ فإنَّ خلْقَ الإنسانِ آتٍ وناشئٌ بواسِطةِ النُّطفةِ، فإذا تكوَّنَتِ النُّطفةُ وأُمْنِيَتِ ابتدَأَ خلْقُ الإنسانِ [528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/146). .
- والتَّقييدُ بـ إِذَا تُمْنَى؛ لِمَا في اسمِ الزَّمانِ مِن الإيذانِ بسُرعةِ الخلْقِ عندَ دَفْقِ النُّطفةِ في رَحِمِ المرأةِ؛ فإنَّه عندَ الْتِقاءِ النُّطفتَينِ يَبتدِئُ تخَلُّقُ النَّسلِ، فهذا إشارةٌ خَفيَّةٌ إلى أنَّ البُويضةَ -الَّتي هي نُطفةُ المرأةِ- حاصِلةٌ في الرَّحِمِ، فإذا أُمْنِيَتْ عليها نُطفةُ الذَّكَرِ أخَذَت في التَّخلُّقِ إذا لم يَعُقْها عائقٌ، ثمَّ لِما في فِعلِ تُمْنَى مِن الإشارةِ إلى أنَّ النُّطفةَ تُقطَّرُ وتُصَبُّ على شَيءٍ آخَرَ؛ لأنَّ الصَّبَّ يَقْتضي مَصبوبًا عليه، فيُشيرُ إلى أنَّ التَّخلُّقَ إنَّما يَحصُلُ مِن انصبابِ النُّطفةِ على أُخرى، فعندَ اختلاطِ الماءَينِ يَحصُلُ تَخلُّقُ النَّسلِ، فهذا سِرُّ التَّقييدِ بقولِه: إِذَا تُمْنَى [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/146، 147). .
11- قولُه تعالَى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى كان مُقْتضَى الظَّاهِرِ مِن التَّنظيرِ أنْ يُقدَّمَ قولُه: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم: 48] على قولِه: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى؛ لِما في قولِه: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى مِن الامتنانِ وإظهارِ الاقتِدارِ المُناسبَينِ لقولِه: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ... [النجم: 43- 45] إلخ؛ إذ يُنتقَلُ مِن نِعمةِ الخلْقِ إلى نِعمةِ الرِّزقِ، كما في قولِه تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء: 78، 79]، وقولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الروم: 40]، ولكنْ عُدِلَ عن ذلك على طَريقةٍ تُشبِهُ الاعتِراضَ؛ ليُقرَنَ بيْنَ البَيانَيْنِ ذِكْرُ قُدْرتِه على النَّشأتَينِ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/147). .
- وفي جُملةِ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى تَحقيقٌ لفِعلِه إيَّاها؛ شبَّهَها بالحقِّ الواجبِ على المَحقوقِ به بحيثُ لا يَتخلَّفُ، فكأنَّه حقٌّ واجبٌ؛ لأنَّ اللهَ وعَدَ بحُصولِ ما اقتَضَتْه الحِكمةُ الإلهيَّةُ؛ لظُهورِ أنَّ اللهَ لا يُكرِهُه شَيءٌ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/148). .
- والنَّشأةُ: المرَّةُ مِن الإنشاءِ، أي: الإيجادِ والخلْقِ، والأُخرى: مُؤنَّثُ الأخيرِ، أي: النَّشأةُ الَّتي لا نَشأةَ بعْدَها، وهي مُقابِلُ النَّشأةِ الأُولى الَّتي يَتضمَّنُها قولُه تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [النجم: 45] ، وهذه المُقابَلةُ هي مُناسَبةُ ذِكْرِ هذه النَّشأةِ الأُخرى [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/148، 149). .
- وتَقديمُ الخبَرِ عَلَيْهِ؛ للاهتِمامِ بالتَّحقيقِ الَّذي أفادَتْه (على)؛ تَنبيهًا على زِيادةِ تَحقيقِه بعْدَ أنْ حُقِّقَ بما في (أنَّ) مِن التَّوكيدِ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/149). .
12- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى
- الإتيانُ بضَميرِ الفصْلِ (هو) لقصْرِ صِفةِ الإغناءِ والإقناءِ عليه تَعالى دونَ غيرِه، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [534] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لمُقابَلةِ ذُهولِ النَّاسِ عن شُكرِ نِعمةِ اللهِ تَعالى بإسنادِهم الإرزاقَ لوسائلِه العاديَّةِ، معَ عدَمِ التَّنبُّهِ إلى أنَّ اللهَ أوجَدَ مَوادَّ الأرزاقِ وأسبابَها، وصرَفَ موانِعَها [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/150). .
13- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى في هذه الآيةِ مِن البَلاغةِ والبَديعِ مُحسِّنُ التَّنكيتِ؛ وهو أنْ يَقصِدَ المُتكلِّمُ إلى شَيءٍ بالذِّكرِ دونَ غيرِه ممَّا يسُدُّ مَسدَّه مِن أجْلِ نُكتةٍ في المَذكورِ تُرجِّحُ مَجيئَه؛ فقولُه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى، خَصَّ الشِّعرى بالذِّكرِ دونَ غيرِها مِن النُّجومِ؛ لأنَّ العرَبَ كان ظهَرَ فيهم رجلٌ يُعرَفُ بأبي كَبْشةَ عبَدَ الشِّعرى ودَعا خلْقًا إلى عِبادتِها، فأنزَلَ اللهُ سُبحانَه: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى الَّتي ادُّعِيَت فيها الرُّبوبيَّةُ دونَ سائرِ النُّجومِ [536] يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص 499)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/151، 152)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/369، 370) . أو لَعلَّ تَخصيصَها؛ للإشعارِ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنْ وافَقَ أبا كَبْشةَ في مخالِفةِ قُرَيشٍ بتركِ عبادةِ الأوثانِ، خالَفَه أيضًا بتركِ عبادةِ الشِّعرَى [537] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/162). .
وقيل: إنَّ تَخصيصَ الشِّعرى بالذِّكرِ في هاتِه السُّورةِ؛ لأنَّه تَقدَّمَ ذِكرُ اللَّاتِ والعُزَّى ومَناةَ، وهي مَعبوداتٌ وَهْميَّةٌ لا مُسمَّياتٍ لها، كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا [النجم: 23] ، وأعْقَبَها بإبطالِ إلهيَّةِ الملائكةِ، وهي مِن المَوجوداتِ المُجرَّداتِ الخَفِيَّةِ -أعقَبَ ذلك بإبطالِ عِبادةِ الكواكبِ، وخُزاعةُ أجوارٌ لأهْلِ مكَّةَ، فلمَّا عَبَدوا الشِّعرَى ظَهَرتْ عِبادةُ الكَواكبِ في الحِجازِ، وإثباتُ أنَّها مَخلوقةٌ للهِ تعالى دليلٌ على إبطالِ إلهيَّتِها؛ لأنَّ المخلوقَ لا يكونُ إلهًا، مع ما في لَفظِ الشِّعْرَى مِن مُناسَبةِ فَواصلِ هذه السُّورةِ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/152). .
- والإتيانُ بضَميرِ الفصْلِ (هو) يُفيدُ قصْرَ مَربوبيَّةِ الشِّعرَى على اللهِ تعالى، وذلك كِنايةٌ عن كَونِه ربَّ ما يَعتقِدون أنَّه مِن تَصرُّفاتِ الشِّعرى، أي: هو ربُّ تلك الآثارِ ومُقدِّرُها، وليستِ الشِّعرى ربَّةَ تلك الآثارِ المُسنَدةِ إليها في مَزاعمِهم، وليس لقصْرِ كَونِ ربِّ الشِّعرى على اللهِ تعالى دونَ غيرِه؛ لأنَّهم لم يَعتقِدوا أنَّ للشِّعرى ربًّا غيرَ اللهِ، ضَرورةَ أنَّ منهم مَن يَزعُمُ أنَّ الشِّعرى ربَّةٌ مَعبودةٌ، ومنهم مَن يَعتقِدُ أنَّها تَتصرَّفُ بقطْعِ النَّظَرِ عن صِفتِها [539] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/152). .
14- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى
- إنَّما قُدِّمَ في الآيةِ ذِكرُ عادٍ وثَمودَ على ذِكرِ قَومِ نُوحٍ، مع أنَّ هؤلاء أسبَقُ؛ لأنَّ عادًا وثمودَ أشهَرُ في العرَبِ وأكثَرُ ذِكرًا بيْنَهم، ودِيارُهم في بلادِ العرَبِ [540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/153). .
- وجاء بيْنَ أنَّ وخبَرِها لَفظُ (هو) في قولِه: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى؛ ففي الثَّلاثةِ الأُوَلِ لَمَّا كان قد يَدَّعي ذلك بعضُ النَّاسِ، كقولِ نُمْروذَ: أنا أُحْيي وأُميتُ، احتِيجَ إلى تأْكيدٍ في أنَّ ذلك إنَّما هو للهِ لا غَيرِه، فهو الَّذي يُضحِكُ ويُبْكي، وهو المميتُ المُحْيي، والمُغْني والمُقْني حقيقةً، وإنِ ادَّعى ذلك أحدٌ فلا حَقيقةَ له، وأمَّا وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى؛ فلأنَّها لَمَّا عُبِدَتْ مِن دونِ اللهِ تعالى، نصَّ على أنَّه تعالى هو ربُّها ومُوجِدُها، ولَمَّا كان خلْقُ الزَّوجينِ، والإنشاءُ الآخَرُ، وإهلاكُ عادٍ ومَن ذُكِرَ لا يُمكِنُ أنْ يَدَّعيَ ذلك أحدٌ؛ لم يُحتَجْ إلى تأْكيدٍ ولا تَنصيصٍ أنَّه تعالى هو فاعِلُ ذلك [541] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/26). . وأيضًا لِكَونِ هلاكِ هؤلاء مَعلومًا، لم تُقرَنِ الجُملةُ بضَميرِ الفَصْلِ هنا [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/153). .
15- قولُه تعالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى
- جُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى تَعليلٌ لجُملةِ أَهْلَكَ عَادًا إلى آخِرِها، وضَميرُ الجمْعِ في إِنَّهُمْ كَانُوا يَجوزُ أنْ يَعودَ إلى قَومِ نُوحٍ، أي: كانوا أظلَمَ وأطْغَى مِن عادٍ وثَمودَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ عائدًا إلى عادٍ وثَمودَ وقَومِ نُوحٍ، والمعْنى: أنَّهم أظلَمُ وأطْغى مِن قَومِك الَّذين كذَّبوك، فتَكونُ تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الرُّسلَ مِن قبْلِه لَقُوا مِن أُمَمِهم أشدَّ ممَّا لقِيَه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ مُبْقٍ على أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا يُهلِكُها؛ لأنَّه قدَّرَ دُخولَ بقيَّتِها في الإسلامِ ثمَّ أبنائِها [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/154). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هُمْ) في قولِه: كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ لتَقويةِ الخبَرِ [544] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/154). .
16- قولُه تعالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى
- (المُؤتفِكةُ) صِفةٌ لمَوصوفٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه اشتِقاقُ الوصْفِ، والتَّقديرُ: القُرَى المُؤتفِكةَ، وهي قُرى قومِ لُوطٍ الأربعُ، ووُصِفَتْ في سُورةِ (بَراءةَ) بـ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ [التوبة: 70] ؛ لأنَّ وصْفَ جمْعِ المُؤنَّثِ يَجوزُ أنْ يُجمَعَ، وأنْ يكونَ بصِيغةِ المُفرَدِ المُؤنَّثِ، وقد صار هذا الوصْفُ غالبًا عليها بالغَلَبةِ. وذُكِّرت القُرى باعتبارِ ما فيها مِن السُّكَّانِ؛ تَفنُّنًا، ومُراعاةً للفواصلِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ المؤتفكةُ هنا وصْفًا للأُمَّةِ، أي: لأُمَّةِ لُوطٍ؛ ليكونَ نَظيرًا لذِكْرِ عادٍ وثَمودَ وقومِ نُوحٍ [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/154). .
- وتَقديمُ المفعولِ وَالْمُؤْتَفِكَةَ؛ للاهتِمامِ بعِبْرةِ انقلابِها [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/155). .
17- قولُه تعالَى: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى
- أفاد العَطْفُ بفاءِ التَّعقيبِ في قولِه: فَغَشَّاهَا أنَّ ذلك كان بعَقِبِ إهْوائِها [547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/155). .
- ومَا هنا مَوصولةٌ، وجِيءَ بصِلَتِها مِن مادَّةِ وصِيغةِ الفِعلِ الَّذي أُسنِدَ إليها غَشَّى، وذلك لا يُفيدُ خَبرًا جديدًا زائدًا على مُفادِ الفِعلِ، والمَقصودُ منه التَّهويلُ؛ كأنَّ المُتكلِّمَ أراد أنْ يُبيِّنَ بالمَوصولِ والصِّلةِ وصْفَ فاعِلِ الفِعلِ، فلمْ يَجِدْ لبَيانِه أكثَرَ مِن إعادةِ الفِعلِ؛ إذ لا يُستطاعُ وصْفُه [548] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/429)، ((تفسير البيضاوي)) (8/162)، ((تفسير أبي السعود)) (8/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/155). .
18- قولُه تعالَى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى تَفريعُ فَذْلَكةٍ [549] الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلَكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحَوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما ذُكِرَ مِن أوَّلِ السُّورةِ ممَّا يَختَصُّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذلك -على قولٍ في تفسيرِ هذه الآيةِ-، كقولِه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى إلى قولِه: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 2- 18] ، وممَّا يَشملُه ويَشملُ غيرَه، مِن قولِه: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى إلى قولِه: هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم: 43- 49] ؛ فإنَّ ذلك خَليطٌ مِن نِعَمٍ وضِدِّها على نَوعِ الإنسانِ، وفي مَجموعِها نِعمةُ تَعليمِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتِه بمَنافعِ الاعتِبارِ بصُنْعِ اللهِ. ثمَّ مِن قَولِه: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا [النجم: 50] إلى هنا، فتلك نِقَمٌ مِن الضَّالِّين والظَّالِمين لنَصْرِ رُسلِ اللهِ، وذلك نِعمةٌ على جَميعِ الرُّسلِ، ونِعمةٌ خاصَّةٌ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي بِشارتُه بأنَّ اللهَ سيَنصُرُه؛ فجَميعُ ما عُدِّدَ مِن النِّعَمِ على أقوامٍ والنِّقَمِ على آخَرينَ هو نِعَمٌ مَحضَةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمؤمنينَ [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/155، 156). .
- والاستِفهامُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى في معْنى الإنكارِ [551] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/28)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/368). . و(أيّ) اسمُ استفهامٍ يُطلَبُ به تَمييزُ مُتشارِكٍ في أمْرٍ يعُمُّ بما يُميِّزُ البعضَ عن البقيَّةِ مِن حالٍ يَختَصُّ به، مُستعمَلٌ هنا في التَّسويةِ؛ كِنايةً عن تَساوي ما عُدِّد مِن الأُمورِ في أنَّها نِعَمٌ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وذلك على قولٍ-؛ إذ ليس لواحدٍ مِن هذه المَعدوداتِ نقْصٌ عن نَظائرِه في النِّعمةِ، والمَقصودُ مِن هذا الاستفهامِ تَذكيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذه النِّعَمِ؛ فالمعْنى: أنَّك لا تَحصُلُ لك مِرْيةٌ في واحدةٍ مِن آلاءِ ربِّك؛ فإنَّها سواءٌ في الإنعامِ [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/156). .
- والتَّماري: التَّشكُّكُ، وهو تَفاعُلٌ مِن المِرْيةِ؛ فإنْ كان الخِطابُ بقَولِه: رَبِّكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان تَتَمَارَى مُطاوِعَ مَاراهُ، والمعْنى: فبأيِّ آلاءِ ربِّك يُشكِّكونَك، أي: لا يَستَطيعونَ أنْ يُشكِّكوكَ في حُصولِ آلاءِ ربِّك الَّتي هي نِعَمُ النُّبوَّةِ، والَّتي منها رُؤيتُه جِبريلَ عِندَ سِدْرةِ المُنْتهى، والكلامُ مَسوقٌ لتأْييسِ المُشرِكين مِن الطَّمَعِ في الكفِّ عنهم. وإنْ كان الخِطابُ لغَيرِ مُعيَّنٍ كان تَتَمَارَى تفاعلًا مُستعمَلًا في المُبالَغةِ في حُصولِ الفِعلِ، ولا يُعرَفُ فِعلٌ مُجرَّدٌ للمِراءِ، وإنَّما يُقال: امتَرَى، إذا شكَّ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/157). .