موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (44-49)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ

غريب الكلمات:

يَصُدُّونَ: أي: يُعرِضون وينصرَفون، ويصرفون غيرَهم، والصَّدُّ قد يكونُ انصرافًا عن الشَّيء وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غير مُتعدٍّ، وقد يكونُ صرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا بمعنى يصَدُّون غيرَهم. وأصل (صدد): إعراضٌ وعدولٌ .
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا: أي: يُحاولونَ أن يُغَيِّرُوا سَبيلَ الله، ويُبَدِّلُوها عنِ الاستقامَةِ الَّتي جعلَها اللهُ لها، وأصلُ (بغي) طَلَبُ الشَّيءِ، ومنه: بَغَيْتُ الشَّيءَ أبغيه: إذا طلبتَه، وعِوَجًا: أيْ: زَيغًا وتَحْريفًا، واعْوِجاجًا في الدِّينِ، وأصلُ (عوج): الميلُ في الشَّيءِ .
حِجَابٌ: أي: سُورٌ، والحِجابُ: كلُّ ما يَستُرُ المَطلوبَ، ويمنعُ مِنَ الوُصولِ إليه، وأصلُ (حجب): المنعُ .
الْأَعْرَافِ: جمْعُ عُرْفٍ، وهو سورٌ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ؛ سُمِّي بذَلِك لارتِفاعِه، وكلُّ مرتفِعٍ عندَ العرَبِ: عُرْفٌ .
بِسِيمَاهُمْ: أي: بعَلاماتِهم، والسِّيما: العلامةُ التي يُميَّزُ بها الشيءُ عن غيرِه؛ وأصلُ الوَسْمِ: الأثرُ والمَعْلَمُ .
صُرِفَتْ: أيْ: وُجِّهَت، والصَّرفُ: ردُّ الشَّيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغَيرِه، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رجْعِ الشَّيءِ .
تِلْقَاءَ: أيْ حِيالَ، أو تُجاهَ، أو نَحْوَ، واللِّقاءُ: مُقابلَةُ الشَّيءِ ومُصادَفتُه مَعًا، وأصلُ (لقي): تَوافِي شيئيْنِ .

المعنى الإجمالي:

ونادى أهلُ الجنَّةِ أهلَ النَّارِ بعدَ استِقْرارِ كلٍّ مِنهم في مَنازلِهم، قائِلينَ لهم: إنَّهم قد وجَدوا ما وعَدَهم ربُّهم مِن إثابةِ أهلِ طاعتِه حقًّا، وسَألوهم: هل وجَدوا هم ما وعَدَ ربُّهم حقًّا، قالوا: نعَم، فنادى مُنادٍ بصوتٍ عالٍ بينَ أصحابِ الجنَّةِ وأَصْحابِ النَّارِ: أنْ لعنَةُ اللهِ عَلى الظَّالِمينَ، الَّذين كانوا في الدُّنيا يُعْرِضونَ عَنِ الإسلامِ، ويَمنَعون غيْرَهم مِنِ اتِّباعِه، ويَسْعَونَ لإِظْهارِ دينِ الإسلامِ أعوَجَ غيرَ مُستقيمٍ، وهُم بالآخِرةِ لا يُؤمِنونَ.
وأخبَرَ تعالى أنَّ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ حاجزًا يَمنَعُ مِن وُصولِ أهلِ النَّارِ إلى الجنَّةِ، وعَلى هذا السُّورِ المرتفِعِ الَّذي يَحْجِزُ بينَهما رِجالٌ استَوَتْ حسَناتُهُم معَ سيِّئاتِهم، يَعرِفون كُلًّا مِن أهلِ الجنَّةِ وأَهلِ النَّارِ بعَلاماتِهم، ونادَوْا أصحابَ الجنَّةِ أنْ سَلامٌ علَيكم، ولَم يَدخُلوا الجنَّةَ بَعدُ، لَكنَّهم يَطمَعون في دُخولِها، وإذا صَرَفَ اللهُ عُيونَهم تُجاهَ أهلِ النَّارِ، فأبصَروا ما هم فيه، قالوا: ربَّنا لا تَجْعَلْنا مَع القومِ الظَّالمِينَ في النَّارِ.
ونادَوْا رِجالًا مِمَّن هُم في النَّارِ مِن رُؤَساءِ الكُفَّارِ والمُشرِكينَ، عرفوهم في الدُّنيا بأعيانِهم، ويَعرِفونَهم في النَّارِ بعَلاماتِ أهلِها، قالوا لهم: ماذا نَفَعَكم ما كُنتُم تَجْمَعونَه في الدُّنيا، وماذا أفادَكم استِكْبارُكم فيها، أهَؤلاءِ الضُّعفاءُ الَّذينَ أدخَلَهمُ اللهُ الجنَّةَ هُمُ الَّذينَ أقسَمتُم أنَّ اللهَ لَن يَنالَهم برَحمةٍ؟! ويُقالُ لِهؤلاءِ الواقِفينَ عَلى السُّورِ الحاجزِ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ: ادخُلوا الجنَّةَ، لا خَوْفٌ علَيكُم مِمَّا هو آتٍ، ولا أنتُم تَحزَنونَ على ما فاتَ.

تفسير الآيات:

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا شرَح اللهُ تعالى وَعيدَ الكُفَّارِ، وثَوابَ أهلِ الإيمانِ والطَّاعاتِ، أتبعَه بذِكْرِ المناظَراتِ الَّتي تَدور بينَ الفَريقينِ ، فقال تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ
أي: ونادى أهلُ الجنَّةِ أهلَ النَّارِ بعدَ استِقْرارِ كُلٍّ مِنهم في مَنازِلِهم .
   أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ
أي: فقال أهلُ الجنَّةِ لهم: يا أهلَ النَّارِ، قد وَجَدْنا ما وعَدَنا ربُّنا على ألسِنَةِ رُسلِه مِنَ الثَّوابِ على الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ حقًّا، فهَل وجَدتُّم ما وعَدَكم ربُّكم مِنَ العَذابِ على الكُفرِ والمَعاصي حقًّا؟ فقالوا: نعَم، قد وجَدْناه حقًّا .
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
أيْ: فنادى مُنادٍ ، وأعْلَمَ بصوتٍ عالٍ بينَ أهلِ النَّارِ وأهلِ الجنَّةِ قائلًا: لَعنةُ اللهِ مُستقِرَّةٌ على الكفَرةِ الَّذين كانوا يضَعونَ العِبادَةَ في غَيرِ مَوضعِها .
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أيِ: الَّذين كانوا في الدُّنيا يُعرِضون عَنِ الإسلامِ، ويَمنَعون النَّاسَ مِن اتِّباعِه .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .
وقال سُبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [سبأ: 33] .
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا
أيْ: ويَطْلُبون ويُحاوِلون إظهارَ دينِ الإسلامِ أعوَجَ غيرَ مُستقيمٍ؛ حتَّى لا يَتَّبعَه أحَدٌ؛ كأَنْ يَختَلِقوا له نَقائصَ يُموِّهون بها على النَّاسِ تَنفيرًا عنه، أو بإلقاءِ الشُّكوكِ والشُّبهاتِ حَولَه .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] .
وقال سُبحانه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 18 - 25] .
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ
أيْ: وهُم بيَومِ القيامةِ جاحِدونَ مُكَذِّبون .
كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء: 38] .
وقال سُبحانه: وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة: 10] .
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ
أيْ: وبينَ الجنَّةِ والنَّارِ حاجزٌ يمنَع مِن وُصولِ أهلِ النَّارِ إلى الجنَّةِ .
كما قال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13] .
وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ
أيْ: وعَلى هذا السُّورِ المرتَفعِ رِجالٌ قد استَوَتْ حسَناتُهم معَ سيِّئاتِهم .
يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ
أيِ: الرِّجالُ الَّذينَ على الأَعرافِ يَعرِفون أهلَ الجنَّةِ بعَلامتِهم الَّتي يتَميَّزون بها، وهي بَياضُ وحُسنُ وُجوهِهم، ويَعرِفون أهْلَ النَّارِ بسَوادِ وقُبحِ وُجوهِهم .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] .
وقال سُبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس: 38-41] .
وقال عزَّ وجلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26-27] .
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
أيْ: ونادَى الرِّجالُ الَّذينَ عَلى الأعرافِ أهلَ الجنَّةِ بالتَّحيَّةِ قائلينَ لهم: سَلامٌ عَليكُم؛ أيْ: سَلِمتُم مِن كلِّ الآفاتِ، وصِرْتُم في مأمَنٍ مِن جَميعِ المؤذِياتِ .
لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
أيْ: إنَّ أهلَ الأعرافِ لَم يَدْخُلوا الجنَّةَ بَعدُ، لكنَّهم يَطمَعونَ في دُخولِها برَحمةِ اللهِ تعالى .
  وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(47)
أيْ: وإذا صَرَف اللهُ عُيونَ أصحابِ الأعرافِ إلى جِهةِ أصحابِ النَّارِ، فأبصَروا ما هم فيه مِن العَذابِ، دعَوُا اللهَ قائِلينَ: يا ربَّنا لا تَجعَلْنا معَ الكُفَّارِ في النَّارِ .
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
أيْ: ونادى أُولئك الرِّجالُ الَّذين على الأعرافِ رِجالًا مِن رُؤَساءِ الكُفَّارِ والمُشرِكِينَ مِن أهلِ النَّارِ عرَفوهم في الدُّنيا بأعيانِهم، ويَعرِفونَهم في النَّارِ بعَلاماتِ أهلِها .
قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
أي: قال أصحابُ الأعرافِ لعُظماءِ المُشرِكينَ: ماذا نفَعَكم ما كُنتُم تَجمَعونَه في الدُّنيا مِنَ الأَمْوالِ والأولادِ والجُنودِ والأَتْباعِ، واستِكْبارُكم في الدُّنيا عَلى الخَلْقِ، وتَكبُّرُكم عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ؟!
كما قال تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .
وقال سُبحانه: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205-207] .
وقال عزَّ وجلَّ: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الجاثية: 10] .
وقال سُبحانه حاكِيًا قولَ مَن يَدخُلُ النَّارَ مِنَ الأغنياءِ المُستَكبِرين: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28-29] .
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ
أيْ: يَقولُ أهلُ الأَعْرافِ لأُولئكَ الكُفَّارِ: أهَؤلاءِ الضُّعَفاءُ الَّذين أدخَلَهمُ اللهُ الجنَّةَ همُ الَّذين أقسَمْتُم في الدُّنيا على أنَّ اللهَ لَن يَعْبِأَ بهِم فيُدخِلَهُم جَنَّتَه ؟!
كما قال تعالى: وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ [ص: 62-63] .
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
أيْ: يُقالُ لأهلِ الأعرافِ: ادخُلوا الجنَّةَ، لا خَوفٌ عَليكُم مِن آتٍ، ولا أنتُم تَحْزَنون على ما فاتَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

قال الله تَعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إنَّما أُضيفَت كلمةُ (السبيلِ) إلى اللهِ؛ لأنَّه هو الذي شَرَّعَهَا، وَبَيَّنَ مَعَالَمَهَا، ولأنَّها السَّبيلُ الَّتي أمَر بسُلوكِها، ووعَد بالثَّوابِ مَن سَلَكها، ونَهى عن عدَمِ سُلوكِها، ووعَد بالعِقابِ مَن لَم يَسلُكْها .
قولُ اللهِ تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، عبَّرَ بالطَّمَعِ؛ لأنَّه لا سبَبَ للعِبادِ إلى اللهِ مِن أنفُسِهم، وإن كانَت لهم أَعْمالٌ، فَضلًا عَن هؤلاءِ المَذْكورينَ الَّذين لا أعمالَ لهم تُبلِّغُهم .
قال اللهُ تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ، ظاهرُ القُرآنِ أنَّهم كُلَّهم ذُكورٌ؛ لأنَّه قال: رِجَالٌ، ولَم يَقُلْ: (نِسَاءٌ). والمقرَّرُ في الأُصولِ: أنَّ لَفْظةَ (الرِّجالِ) لا يَدْخُلُ فيها النِّساءُ. وقال بعضُ العُلماءِ: إذا ذُكِرَ الرِّجالُ فلا مانِعَ مِن دُخولِ النِّساءِ بحُكْمِ التَّبَعِ. واستَأنَسوا لِهَذا بأنَّ العرَبَ تُسمِّي المرأةَ (رَجُلةً)، وتَسمِيةُ المرأةِ (رَجُلةً) لُغةٌ صحيحةٌ مَعروفةٌ في كلامِ العرَبِ .
قال تَعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ، بيَّنَ اللهُ أنَّ أصحابَ الأعرافِ ربَّما نظَروا تارةً إلى الجنَّةِ، ورُبَّما أُجبِروا على النَّظرِ إلى أهلِ النَّارِ؛ لأنَّ منظَرَ النَّارِ فظيعٌ جدًّا، لا يَنظُرُ إليه أحَدٌ باختِيارِه ؛ لذا قال صُرِفَتْ فبَناه للمَفْعولِ، إشارةً إلى أنَّهم لا يَنظُرون إلى أهلِ النَّارِ إلَّا نَظرًا شَبيهًا بفِعْلِ مَن يَحمِلُه على الفِعْلِ حاملٌ، وليسَ عَن إرادةٍ مِنهم .
دلَّ صريحُ قَولِه تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ على أنَّ أهلَ الأعرافِ مِن بني آدَمَ؛ ولَيسُوا مِنَ الملائكةِ .
في قَولِه تعالى: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ دلالةٌ على أنَّ أصحابَ الأعرافِ بمكانٍ مرتَفِعٍ بين الجنَّةِ والنَّارِ .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لَفظةُ (رَبَّنَا) مُشعِرةٌ بوَصفِه تَعالى بأنَّه مُصلِحُهم وسيِّدُهم، وهُم عَبيدُه، فبالدُّعاءِ به طلَبُ رحمتِه، واستِعْطافُ كرَمِه .
في قَولِه تعالى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ نَذارةٌ ومَوعظةٌ لِجَبابرةِ المُشركينَ مِنَ العَرَبِ، الذين كانوا يَحقِرُونَ المُستَضعفينَ مِنَ المُؤمنينَ، وفيهم عَبيدٌ وفُقراءُ، فإذا سَمِعوا بِشاراتِ القُرآنِ للمُؤمنينَ بالجنَّةِ، سكتوا عمَّن كان مِن أحرارِ المُسلمينَ وسادَتِهم، وأنكروا أن يكون أولئك الضِّعافُ والعَبيدُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، وذلك على سبيلِ الفَرضِ، أي: لو فَرَضُوا صِدقَ وُجودِ جَنَّةٍ .

بلاغة الآيات:

قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ في التَّعْبيرِ عَنْهم بأصْحابِ الجنَّةِ دونَ ضميرِهم: تَوطِئةٌ لِذِكْرِ نِداءِ أصحابِ الأعرافِ، ونِداءِ أصحابِ النَّارِ؛ لِيُعبِّرَ عَنْ كلِّ فَرِيقٍ بعُنوانِه، ولِيكونَ مِنْه مُحسِّنُ الطِّباقِ في مُقابَلَتِه بِقولِه: أَصْحَابَ النَّارِ، وهذا النِّداءُ خِطابٌ مِنْ أصْحابِ الجنَّةِ، عبَّرَ عنه بالنِّداءِ كِنايَةً عَن بُلُوغِه إلَى أَسْماعِ أَصْحابِ النَّارِ مِن مَسَافَةٍ سَحِيقَةِ البُعْدِ؛ فإنَّ سَعَةَ الجنَّةِ وسَعةَ النَّارِ تقتَضِيانِ ذلك لا سيَّما قولُه: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ .
وفي قولِه: وَنَادَى عَبَّرَ بالماضِي عَنِ المُسْتقبَلِ؛ لجَعْلِ المُستقبَلِ في تَحقُّقِ وُقوعِه كالَّذي وقَع بالفِعْلِ، وفي هذا النِّداءِ تَقريعٌ وتَوْبيخٌ، وتَوْقيفٌ على مآلِ الفريقَيْنِ، وزيادَةٌ في كَرْبِ أهلِ النَّارِ بأن شُرِّفوا علَيهم .
قولُه: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ
في قوله: مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا خاطَبَهم الله بهذا الوَعْدِ، وكَوْنُهم مُخاطَبينَ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى بهذا الوَعدِ يُوجِبُ مَزيدَ التَّشريفِ، ومَزيدُ التَّشريفِ لائقٌ بحالِ المؤمنينَ .
وقوله: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فِيه إِيجَازٌ بِحَذفِ المَفْعولِ مِنَ الفِعل الثَّاني مَا وَعَدَ حيث لم يقُل: (وعَدَكم)؛ إِسْقاطًا لَهمْ عَنْ رُتْبَةِ التَّشرِيفِ بِالخِطَابِ عِنْدَ الوَعْدِ، وقيل: لأنَّ ما ساءَهم مِن الموعودِ لم يَكُن بأَسْرِه مخصوصًا بهم وعدًا، كالبَعثِ والحِسابِ ونَعيمِ أهلِ الجَنَّةِ؛ فإنَّهم قد وَجَدوا جَميعَ ذلك حقًّا، وإنْ لم يَكُنْ وعْدُه مخصوصًا بهم .
قولُه: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا هذا الاستِفْهامُ مُستَعْمَلٌ في تَوقِيفِ المخاطَبِينَ على غَلَطِهِم، وإِثارَةِ نَدامَتِهم وغَمِّهِم على مَا فَرَطَ مِنْهُم، والشَّماتَةِ بِهِم في عَوَاقِبِ عِنادِهم؛ لأَنَّ أَصْحابَ الجَنَّةِ يَعلَمونَ أنَّ أَصْحابَ النَّارِ وَجَدوا وَعْدَه حَقًّا ، فهو سؤالُ توبيخٍ وتقريعٍ وشَماتةٍ .
وفي التَّعبيرِ بالوَعْدِ دونَ الوَعيدِ معَ أهلِ النَّارِ تَهكُّمٌ بِهم .
قولُه: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ عبَّرَ في الفِعلينِ يَصُدُّونَ ويَبْغونَهَا بالمُضارِعِ الَّذي مِن شأنِه الدَّلالةُ عَلى حدَثٍ حاصلٍ في زمَنِ الحالِ، مع أنَّهُم في زمَنِ التَّأذينِ لم يَكونوا مُتَّصِفينَ بالصَّدِّ عَن سَبيلِ اللهِ، ولا بِبَغْيِ عِوَجِ السَّبيلِ؛ ذَلك لِقَصدِ ما يُفيدُه المُضارِعُ مِن تَكرُّرِ حُصولِ الفِعْلِ تَبعًا لِمَعنى التَّجدُّدِ، والمعنى وَصفُهم بتَكرُّرِ ذلك مِنهُم في الزَّمنِ الماضي .
والإِخْبَارُ بالمَصْدَرِ في قَولِه: عِوَجًا لِلمُبَالَغَةِ .
وقولُه: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ بِالْآخِرَةِ على مُتعلَّقِه كَافِرُونَ؛ لِلاهتِمامِ به؛ فإنَّ أصْلَ كُفرِهم قد عُلِم مِمَّا قَبلَه، وهذا النَّوعُ مِن الكُفرِ له تأثيرٌ خاصٌّ في إصْرارِهم على ما أُسنِدَ إليهِم .
ووصَفَهم باسْمِ الفاعِلِ كَافِرُونَ؛ لِلدَّلالةِ على ثَباتِ الكُفرِ فيهِم، وتَمكُّنِه مِنهم .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ، وقالَ في سُورة هودٍ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود: 19] ؛ فزِيدَ في هذه الآيةِ ضميرُ الفَصلِ، ولم يُزَدْ في سورة الأعرافِ؛ وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ، وهي أنَّ ابتداءَ الإخبارِ في سورةِ الأعرافِ بحالِ هؤلاء الملعونينَ في الآيتينِ هو قولُه تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وابتداءَ الإخبارِ عنهم في سُورةِ هود قولُه تعالى: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] ؛ ففي هذا إطنابٌ، وورودُ الظاهرِ في موضِع المضمَرِ من قولِه: عَلَى الظَّالِمِينَ، ولم يقُل: (عليهم)، ناسَب ذلك زِيادةُ ضَميرِ الفَصلِ (هم)، وفي آية الأعراف إيجازٌ ناسَبَه سقوطُه . وقيل: لم يذكرْ ضمير الفصلِ في الأعرافِ، وذكره في هود؛ لأنَّ ما في الأعرافِ جاءَ على أصْلِه غيرَ مزيدٍ فيه ما يَجري مجرَى التوكيدِ، والذي في سُورة هودٍ جاء بعدَ قوله: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] ؛  فأشير إليهم، ثمَّ قال: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ؛  فأَظْهَر ذِكرَ الظَّالِمين في موضعِ الإضمارِ، فلمَّا عبَّر عنهم بالظالمين، الْتَبَس أنَّهم هم الذين كَذَبوا على ربِّهم أم غيرهم، فقال: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كاَفِرُونَ؛ ليُعلمَ أنَّهم هم المذكورون لا غيرُهم، فلمَّا لم يَصرِفِ الخبرَ الثاني في سورة الأعراف مَصرفَ ما ليس هو بالأوَّل، لم يُحْتَجْ إلى توكيدِه، ولَمَّا عدَل في سُورة هود عن إعادةِ الضَّميرِ إلى الأوَّل، ووضَع مكانه ظاهرًا يحتملُ أنْ يكونَ غيرَ الأوَّل، وعَنَى (هم) أنَّهم هم، كان الموضعُ موضِعَ توكيدٍ؛ لتحقيقِ الخبرِ عنهم بالكُفر .
قَولُه: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ فِيهِ: تَقْدِيمُ  الجارِّ والمجرورِ وَبَيْنَهُمَا، وهو خَبَرٌ على المُبْتَدَأِ؛ للاهْتِمامِ بالمَكانِ المُتوَسِّطِ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وما ذَكَرَ مِن شَأْنِه، وبهذا التَّقْديمِ صَحَّ تَصْحيحُ الابْتِداءِ بالنَّكِرةِ، والتَّنْكيرُ في قَوْله: حِجَابٌ؛ للتَّعظِيمِ .
قولُه: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ جُملَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ للبَيانِ؛ لأنَّ قولَه: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ يُثيرُ سُؤالًا يَبحَثُ عن كَوْنِهم صَائرينَ إلى الجَنَّةِ أو إلى غَيرِها .
قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا فِيه: تَكْريرُ ذِكرِهم مَع كِفايَةِ الإِضْمارِ؛ لزِيادَة التَّقرِيرِ؛ فالتَّعبِيرُ عَنهم هُنا بأصْحابِ الأعْرافِ إِظْهارٌ في مَقامِ الإِضْمارِ؛ إذْ كان مُقْتَضَى الظَّاهرِ أن يُقالَ: (ونادَوْا رِجَالًا)، إلَّا أنَّه لَمَّا تَعدَّدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ ما يَصلُحُ لعَودِ الضَّمائرِ إليه وَقَعَ الإِظْهارُ في مَقامِ الإِضْمارِ؛ دَفعًا للالْتِباسِ .
قولُه: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ مَا الأُولى في قولِه: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ إمَّا اسْتِفهامِيَّةٌ؛ للتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، أَو نَافِيةٌ، والخَبَرُ مُستَعمَلٌ في الشَّماتَةِ والتَّوقِيفِ على الخَطَأ .
ومَا الثَّانيةُ في قولِه: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أي: واسْتِكبارُكم الَّذي مَضَى في الدُّنيا، ووَجْهُ صَوغِه بصِيغَةِ الفِعْلِ دونَ المَصْدرِ- إِذْ لَم يَقُل: اسْتِكْبارُكم-؛ لِيتَوسَّلَ بالفِعلِ إلى كَونِه مُضارِعًا؛ فيُفيدُ أنَّ الاستِكْبارَ كان دَأْبَهم، لا يَفْتُرونَ عَنْه .
قوله: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
قولُه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ الاسْتِفْهامُ فِيه مُسْتَعمَلٌ في التَّقرِيرِ .
قولُه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فيه تَلْوينٌ لِلخِطابِ، وتَوْجِيهٌ له إلى أُولئكَ المَذكُورِينَ؛ أيِ: ادخُلُوا الجَنَّةَ على رَغْمِ أُنُوفِهم .