موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (7-11)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَيْلٌ: الوَيلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُستعمَلُ أيضًا في التَّحسُّرِ، وقيل: هي وادٍ في جهنَّمَ، أو ما يَسيلُ مِن صديدٍ في أصلِ جهنَّمَ، وأصْلُ الوَيلِ: الشَّرُّ وحُلولُه .
أَفَّاكٍ: أي: كذَّابٍ فاجِرٍ، والأفَّاكُ: كثيرُ الإفْكِ، وهو أسوأُ الكذبِ، وقيل: الإفكُ: صَرْفُ الشَّيءِ عمَّا يحِقُّ أن يكونَ عليه، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهَتِه .
أَثِيمٍ: أي: كثيرِ الإثمِ، مُتجاوِزٍ في الظُّلمِ، وقيل: هو مرتكبُ الإثمِ بقلبِه وجوارحِه، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على البُطءِ والتَّأخُّرِ، ومنه اشتُقَّ الإثمُ؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخَيرِ، متأخِّرٌ عنه .
هُزُوًا: الهزوُ: الاستِخْفافُ، والسُّخريةُ. يُقالُ: هَزِئ به واستَهْزَأ، أي: استخفَّ به، وسَخِر منه .
أَوْلِيَاءَ: الأولياءُ: المعبوداتُ الَّتي يُوالونَها بالعبادةِ مِن دونِ الله، وأصْل (ولي): يدُلُّ على قُرْبٍ؛ سواءٌ مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .
رِجْزٍ: الرِّجزُ: سوءُ العذابِ وأليمُه، وأصلُ (رجز): يدُلُّ على الاضطِرابِ .

المعنى الإجماليُّ:

يذكرُ الله تعالى أحوالَ المشركينَ معَ القرآنِ، ويُبيِّنُ مصيرَهم في الآخرةِ ويَتوعَّدُهم، فيقولُ: وَيْلٌ لكُلِّ كافرٍ كذَّابٍ مُفتَرٍ أثيمٍ، يَسمَعُ آياتِ اللهِ تُقرَأُ عليه، ثمَّ يُصِرُّ على كُفرِه مُستَكبِرًا كأنَّه لم يَسمَعْها! فبَشِّرْه -يا محمَّدُ- بعَذابٍ شَديدِ الإيلامِ.
وإذا عَرَف هذا الكذَّابُ الأثيمُ شَيئًا مِن آياتِ القُرآنِ استَهزأَ بها وسَخِرَ منها! فلِأُولَئكَ عَذابٌ يُهينُهم، مِن ورائِهم نارُ جَهنَّمَ هي مَصيرُهم في الآخِرةِ، ولا يَدفَعُ عنهم ما كَسَبوه في الدُّنيا شيئًا مِن عذابِ اللهِ تعالى، ولا تَدفَعُ عنهم آلهتُهم الَّتي عَبَدوها مِن دونِ اللهِ شيئًا مِن عذابِ اللهِ تعالى، ولهم عَذابٌ عَظيمٌ.
ثمَّ يخبِرُ الله تعالى أنَّ هذا القُرآنَ هُدًى للنَّاسِ، وأنَّ الَّذين كَفَروا بآياتِ القُرآنِ لهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ شَديدُ الإيلامِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ الآياتِ للكُفَّارِ، وبَيَّنَ أنَّهم بأيِّ حَديثٍ يُؤمِنونَ إذا لم يُؤمِنوا بها مع ظُهورِها؛ أتْبَعَه بوَعيدٍ عَظيمٍ لهم، فقال :
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ لكُلِّ كافرٍ كذَّابٍ مُفتَرٍ، مُبالِغٍ في اقتِرافِ الآثامِ .
يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8).
يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا.
أي: يَسمَعُ آياتِ القُرآنِ تُقرَأُ عليه، ثمَّ يُصِرُّ على كُفرِه وإثمِه مُستَكبِرًا عن الإيمانِ بها وقَبولِها واتِّباعِها، كأنَّه لم يَسمَعْها أصلًا !
فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
أي: فبَشِّرْ -يا محمَّدُ- هذا الأفَّاكَ الأثيمَ المُعرِضَ عن آياتِ اللهِ، المُصِرَّ على كُفرِه وباطِلِه: بعَذابٍ مُوجِعٍ شَديدِ الإيلامِ .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 7] .
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى كُفرَ المُشرِكِ بما يَسمَعُ مِن الآياتِ؛ أتْبَعَه ما هو أعَمُّ منه، فقال :
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا.
أي: وإذا عَرَف شَيئًا -ولو قليلًا- مِن آياتِ القُرآنِ، استَهزأَ بها، وسَخِرَ منها .
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أي: أولئك لهم عَذابٌ يُخزيهم ويُذِلُّهم ويُهينُهم .
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10).
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ.
أي: لهم نارُ جَهنَّمَ يَصيرونَ إليها في الآخِرةِ .
وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا.
أي: ولا يَدفَعُ عن الكُفَّارِ عذابَ جَهنَّمَ أيُّ شَيءٍ -ولو قليلًا- ممَّا كَسَبوه في الدُّنيا مِن الأموالِ أو الأولادِ !
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران: 10] .
وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ.
أي: ولا يَدفَعُ عنهم آلهتُهم الَّتي عَبَدوها في الدُّنيا مِن دونِ اللهِ، أو رُؤساؤُهم الَّذين أطاعوهم في الكُفرِ باللهِ !
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 197] .
وقال سُبحانَه: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14].
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ كبيرٌ شَديدٌ .
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى آياتِه القُرآنيَّةَ والعِيانيَّةَ، وأنَّ النَّاسَ فيها على قِسمَينِ؛ أخبَرَ عن القُرآنِ المُشتَمِلِ على هذه المطالِبِ العاليةِ أنَّه هُدًى .
هَذَا هُدًى.
أي: هذا القُرآنُ هُدًى يُبَيِّنُ الحَقَّ مِن الباطِلِ، ويَدُلُّ مَنِ اتَّبَعه إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].
وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: أَلِيمٌ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ أَلِيمٌ بالرَّفعِ وصْفًا للعذابِ، أي: عذابٌ أليمٌ مِن رِجزٍ .
2- قِراءةُ أَلِيمٍ بالجَرِّ وصفًا للرِّجْزِ، أي: عذابٌ مِن رِجزٍ أليمٍ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
أي: والَّذين كَفَروا بآياتِ القُرآنِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ، فلم يُؤمِنوا ويَعمَلوا بها: لهم عَذابٌ مِن جنسِ العذابِ المُوجِعِ شَديدِ الإيلامِ !

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ فتَوعَّدَ الله تعالى مَن تَرَك الاستِدلالَ بآياتِه ، وذَمَّ الَّذين يُعرِضونَ عن سَماعِ القُرآنِ وتَدَبُّرِه إلى سَماعِ غَيرِه، كما قال اللهُ تعالى أيضًا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] ، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ عُلِمَ بهذا الوَصفِ أنَّ كُلَّ مَن لم تَرُدَّه آياتُ اللهِ تعالى كان مُبالِغًا في الإثمِ والإفكِ؛ فكان له الوَيلُ !
2- لم يَجِئْ إعدادُ العذابِ المُهينِ في القُرآنِ إلَّا في حَقِّ الكُفَّارِ؛ كقَولِه تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية: 9] ، وقَولِه عزَّ جَلَّ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 37] ، وقَولِه: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102] ، وقولِه: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90] ، وقولِه: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] ، وقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج: 57] .
3- قال الله تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ قَولُه تعالى في هذه الآيةِ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي: لأنَّ عَذابَ الكُفَّارِ الَّذين كانوا يَستَهزِئونَ بآياتِ اللهِ لا يُرادُ به إلَّا إهانتُهم وخِزيُهم وشِدَّةُ إيلامِهم بأنواعِ العَذابِ، وليس فيه تَطهيرٌ ولا تمحيصٌ لهم، بخِلافِ عُصاةِ المُسلِمينَ؛ فإنَّهم وإن عُذِّبوا فسيَصيرون إلى الجنَّةِ بَعدَ ذلك العَذابِ؛ فليس المقصودُ بعَذابِهم مُجرَّدَ الإهانةِ، بل لِيَؤُولوا بَعدَه إلى الرَّحمةِ ودارِ الكرامةِ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أعقَبَ ذِكرَ المُؤمِنينَ المُوقِنينَ العاقِلينَ المُنتفِعينَ بدَلالةِ آياتِ اللهِ، وما يُفِيدُه مَفهومُ تلك الصِّفاتِ الَّتي أُجْرِيَتْ عليهم مِن تَعريضٍ بالَّذين لمْ يَنتَفِعوا بها؛ بصَريحِ ذِكرِ أولئك الَّذين لمْ يُؤمِنوا ولم يَعقِلوها، كما وصَفَ لذلك قولَه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] .
- وافتُتِحَ الكَلامُ بالوَيلِ له؛ تَعجيلًا لإنْذارِه وتَهديدِه قبْلَ ذِكرِ حالِه، و(وَيلٌ له) كَلمةُ دُعاءٍ بالشَّرِّ، وأصْلُ الوَيلِ: الشَّرُّ وحُلولُه .
- والأثيمُ: صِفةُ مُبالَغةٍ، أو صِفةٌ مُشبَّهةٌ، وهو يدُلُّ على المُبالِغِ في اقتِرافِ الآثامِ، أي: الخَطايا .
- وجُعِلَت حالُ الأفَّاكِ الأثيمِ أنَّه يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا؛ لأنَّ تلك الحالةَ -وهي حالةُ تَكرُّرِ سَماعِه آياتِ اللهِ، وتَكرُّرِ إصْرارِه مُستكبِرًا عنها- تَحمِلُه على تَكريرِ تَكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَكريرِ الإثْمِ؛ فلا جَرَمَ أنْ يكونَ أفَّاكًا أثيمًا، بَلْهَ ما تَلبَّسَ به مِن الشِّركِ الَّذي كلُّه كذِبٌ وإثْمٌ .
- قولُه: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا حرْفُ (ثُمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ ذلك الإصرارَ بعْدَ سَماعِ مِثلِ تلك الآياتِ أعظَمُ وأعجَبُ؛ فهو يُصِرُّ عِندَ سَماعِ آياتِ اللهِ، وليس إصْرارُه مُتأخِّرًا عن سَماعِ الآياتِ .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ يُصِرُّ؛ لِدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: يُصِرُّون على كُفْرِهم، كما دلَّ على ذلك قولُه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] .
- وفي قولِه: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا شَبَّه حالَهم في عَدَمِ انتِفاعِهم بالآياتِ بحالِهم في انتِفاءِ سَماعِ الآياتِ، أي: يَصِيرُ مِثلَ غَيرِ السَّامعِ، وهذا التَّشبيهُ كِنايةٌ عن وُضوحِ دَلالةِ آياتِ القُرآنِ بحيثُ إنَّ مَن يَسمَعُها يُقِرُّ ويؤْمِنُ بما دلَّتْ عليه، فلَولا إصْرارُهم واستِكبارُهم لَانْتَفَعوا بها .
- قولُه: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُطلِقَ على الإنذارِ اسمُ البِشارةِ -الَّتي هي الإخبارُ بما يَسُرُّ- على طَريقةِ التَّهكُّمِ ، وذلك بناءً على أنَّ البشارةَ لا تكونُ إلا فيما يَسرُّ.
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وقال في سُورةِ (لُقمانَ): وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 7] ؛ فقال: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، واسْتَغْنى الكلامُ عنه في سُورةِ (الجاثيةِ)، مع أنَّ القِصَّتينِ مُشْتَبِهتانِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ هذا الكافرَ لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عنه في سُورةِ (لُقمانَ) أنَّه يُعرِضُ عن القُرآنِ إذا سمِعَه، غيرَ مُنتفِعٍ به حتَّى كأنَّه لم يَسمَعْه، وتَستمِرُّ به هذه الحالُ كما تَستمِرُّ لِمَن به صَمَمٌ، وقولُه في (الجاثيةِ): ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا يدُلُّ على ما دلَّ عليه: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا؛ لأنَّ الإصرارَ عزْمٌ لا يُهَمُّ معه بإقلاعٍ، فإذا أصَرَّ على التَّصامِّ، فهو كمَن في أُذُنَيه وَقْرٌ، فصارَ أحدُ اللَّفظَينِ يُغْني عن الآخَرِ، ويقومُ مَقامَه، ويُؤدِّي مِن المعنى أداءَهُ؛ فلذلك لم يُجمَعْ بيْنَهما، وكان الموضعُ الَّذي ذُكِرَ فيه: وَلَّى مُسْتَكْبِرًا أحقَّ بقولِه: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، والموضعُ الَّذي ذُكِر فيه الإصرارُ على تَرْكِ الاستماعِ، أغْنى عن ذِكرِ كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا .
وفيه وَجهٌ آخَرُ: أنَّه لَمَّا كان الإصْرارُ معناهُ الدَّوامُ المُتحكِّمُ، لم يَذكُرِ الوَقْرَ الَّذي هو مِن الأمراضِ الثَّابتةِ في سُورةِ (الجاثيةِ)، كما ذكَرَه في سُورةِ (لُقمانَ) .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
- قولُه: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، أي: اتَّخَذَ الآياتِ هُزوًا، ولم يَقُلْ: (اتَّخَذه)؛ للإشعارِ بأنَّه إذا أحسَّ بشَيءٍ مِن الكلامِ أنَّه مِن جُملةِ الآياتِ الَّتي أنْزَلَها اللهُ تعالَى على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، خاضَ في الاستِهزاءِ بجَميعِ الآياتِ، ولم يَقتصِرْ على الاستِهزاءِ بما بلَغَه. ويَحتمِلُ: وإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيئًا يُمكِنُ أنْ يَتشبَّثَ به المُعانِدُ، ويَجِدَ له مَحْملًا يَتسلَّقُ به على الطَّعنِ والغَميزةِ؛ افْتَرَصَه واتَّخَذَ آياتِ اللهِ هُزوًا .
- وجِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم أحْرِياءُ بما ذُكِرَ؛ مِن أجْلِ ما قبْلَ اسمِ الإشارةِ مِن الأوصافِ، مِن قولِه تعالَى: لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ إلى قولِه: هُزُوًا .
- وفي قولِه: عَذَابٌ مُهِينٌ وصَفَ العذابَ بالإهانةِ؛ تَوفيةً لِحَقِّ استِكبارِهم واسْتِهزائِهم بآياتِ اللهِ سُبحانه وتعالَى .
3- قولُه تعالَى: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- قولُه: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ بَيانٌ لِجُملةِ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وفي قولِه: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ تَحقيقٌ لِحُصولِ العذابِ، وكَونِه قَريبًا منْهم، وأنَّهم غافِلون عن اقْتِرابِه .
- وعطَفَ جُملةَ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا على جُملةِ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ؛ لأنَّ ذلك مِن جُملةِ العَذابِ المُهِينِ؛ فإنَّ فِقدانَ الفِداءِ، وفِقدانَ الولِيِّ ممَّا يَزِيدُ العذابَ شِدَّةً، ويَكسِبُ المُعاقَبَ إهانةً .
- وعُدِّيَ الإغناءُ بحَرْفِ (عن)؛ لِتَضْمينِه معنى (يَدفَعُ)، فكأنَّه عبَّرَ بفِعلَينِ: لا يُغْنِيهم، ولا يَدفَعُ عنْهم .
- وتَنْكيرُ شَيْئًا للتَّقليلِ، أي: لا يَدفَع عنهم ولو قَليلًا مِن جهنَّمَ، أي: عَذابِها .
- قولُه: وَلَا مَا اتَّخَذُوا عطْفٌ على مَا كَسَبُوا، وأُعِيدَ حرْفُ النَّفيِ (لا) للتَّأكيدِ .
- وأُردِفَ عَذَابٌ مُهِينٌ بعطْفِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ؛ لإفادةِ أنَّ لهم عذابًا غيرَ ذلك، وهو عَذابُ الدُّنيا بالقتْلِ والأسْرِ ، أو: لأنَّ كَونَ العذابِ مُهينًا يدُلُّ على حُصولِ الإهانةِ مع العذابِ، وكَونَه عَظيمًا يدُلُّ على كَونِه بالِغًا إلى أقصى الغاياتِ في كَونِه ضَررًا .
4- قولُه تعالَى: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ
- قولُه: هَذَا هُدًى استِئنافٌ ابْتِدائيٌّ، انتُقِلَ به مِن وَصْفِ القُرآنِ في ذاتِه بأنَّه مُنزَّلٌ مِن اللهِ، وأنَّه مِن آياتِ اللهِ؛ إلى وَصْفِه بأفْضلِ صِفاتِه بأنَّه هُدًى .
- ولَمَّا عَدَّ تعالَى أنواعَ اسْتِخفافِهم وتَكذيبِهم بالقُرآنِ، ووَصَفهم بالكذِبِ، والإفْكِ، والإثْمِ، والاستِكبارِ، ورتَّبَ عليه البِشارةَ بالعَذابِ، وحَكَى عنِ اسْتِهزائِهم وانْتِهازِ فُرْصَتِهم لِيَستَخِفُّوا به، ورتَّبَ عليه: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ؛ عيَّنه تَعْيينًا، ومَيَّزَه تَمْييزًا، وجعَلَه كالعَلَمِ المُشارِ إليه بالحُسنِ. ونكَّرَ المَصْدرَ الواقعَ خَبرًا تَنكيرَ تَهويلٍ ومُبالَغةٍ، فقال: هَذَا هُدًى، أي: هذا المُتميِّزُ المُشخَّصُ كامِلٌ في الهِدايةِ، ليس بخافٍ على كُلِّ ذي بَصيرةٍ أنَّه ليس بمَكانٍ للتَّكذيبِ والاستِهزاءِ، والَّذين كذَّبوا به، واسْتَكْبروا عن قَبولِه، وأعْرَضوا عنه بالاسْتِهزاءِ؛ لهم عَذابٌ بعْدَ عَذابٍ .
- وجُملةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عطْفٌ على جُملةِ هَذَا هُدًى، قيل: والمُناسَبةُ: أنَّ القرآنَ مِن جُملةِ آياتِ اللهِ، وأنَّه مُذكِّرٌ بها؛ فالَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ كَفَروا بالقُرآنِ في عُمومِ الآياتِ، وهذا واقعٌ مَوقِعَ التَّذييلِ لِمَا تَقدَّمَه ابْتِداءً مِن قَولِه: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7] .
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، أي: بالقُرآنِ، وإنَّما وُضِعَ مَوضعَ ضَميرِه -حيث لم يُقَلْ: (كفروا به)-؛ لِزِيادةِ تَشْنيعِ كُفْرِهم به، وتَفْظيعِ حالِهم .
- وجِيءَ بالموصولِ وصِلَتِه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ؛ لِما تُشعِرُ به الصِّلةُ مِن أنَّهم حَقِيقونَ بالعِقابِ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ .
- واستُحْضِروا في هذا المَقامِ بعُنوانِ الكُفرِ دُونَ عُنْوانَيِ الإصرارِ والاستِكبارِ اللَّذَينِ استُحْضِروا بهما في قولِه: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا [الجاثية: 8] ؛ لأنَّ الغرَضَ هنا النَّعيُ عليهم إهمالَهم الانْتِفاعَ بالقُرآنِ، وهو النِّعمةُ العُظْمى الَّتي جاءتْهم مِن اللهِ، فقابَلوها بالكُفرانِ عِوَضًا عن الشُّكرِ .
- وتَنوينُ عَذَابٌ للتَّفخيمِ .
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ في اقْتِرانِ ذِكرِ (الرَّبِّ) مع الآياتِ، وذِكرِ (اللهِ) في قولِه: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ [الجاثية: 6] : إشعارٌ بأنَّ تلك التِّلاوةَ وذلك الإرشادَ لمْ يكُنْ إلَّا لِمَحْضِ الإنعامِ، والكافِرون عَكَسوا القضيَّةَ، فكَفَروا بَدَل الشُّكرِ؛ ولذلك جِيءَ بقولِه: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ [الجاثية: 12] ، وبقولِه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ [الجاثية: 13] ، وختَمَ الأولى بقولِه: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، والثَّانيةَ بقولِه: لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ؛ لِيُنبِّهَ بالشُّكرِ على الإنعامِ، وبالتَّفكُّرِ على أنَّ ذلك الإنعامَ أيضًا دَليلٌ مِن الدَّلائلِ السَّابقةِ، وأُخِّرَت مِن أخَواتِها تَطْرِئةً للتَّنبيهِ. وعُلِمَ مِن ذلك أنَّ التَّفكُّرَ مِلاكُ التَّعقُّلِ والإيقانِ والإيمانِ .
- وأيضًا هذه الآيةُ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ مِن الاحتِباكِ ، حيثُ ذَكَر الهُدَى أوَّلًا دَليلًا على الضَّلالِ ثانيًا، والكُفرَ والعذابَ ثانيًا دَليلًا على ضِدِّهما أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّه ذَكَر السَّببَ المُسعِدَ ترغيبًا فيه، والمُشقيَ ترهيبًا منه .