موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (1-6)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لَآَيَاتٍ: أي: لَحُجَجًا ودَلالاتٍ، وتُطلقُ الآيةُ أيضًا على: الموعظةِ، والعلامةِ، والعجيبةِ، وغيرِ ذلك، وأصلُ (أيي): النَّظرُ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 212)، ((تفسير ابن جرير)) (21/72)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/167)، ((تفسير القرطبي)) (7/11)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 81). .
يَبُثُّ: أي: يُفَرِّقُ ويَنشُرُ، وأصلُ (بثث): يدُلُّ على تفريقِ الشَّيءِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/12)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/172)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
دَابَّةٍ: الدَّابَّةُ هي كلُّ شَيءٍ دبَّ على وجهِ الأرضِ، ويُستعمَلُ في كلِّ حَيوانٍ، وفي الحشراتِ أكثَر، وأصلُ (دبب): حركةٌ على الأرض أخَفُّ مِن المَشْيِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 217)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/263)، ((المفردات)) للراغب (ص: 306)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 438). .
يُوقِنُونَ: أي: يَعلمونَ عِلمًا مُتمَكِّنًا في نُفوسِهم، لا يُمكِنُ أن يَدخُلَه شكٌّ، وأصلُ اليقينِ: زوالُ الشَّكِّ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 892)، ((تفسير ابن عطية)) (1/86)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 48، 90). .
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ: أي: تَحويلِها وتَقليبِها تارةً بالرَّحمةِ، وتارةً بالعَذابِ، وتارةً حارَّةً، وتارةً بارِدةً، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رَجعِ الشَّيءِ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/12)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 135)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/342)، ((تفسير ابن كثير)) (1/475)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .

المعنى الإجماليُّ:

ابتدأَ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: حم، وهما مِن الحروف المقطَّعةِ الَّتي تأتي لبيانِ إعجازِ هذا القرآنِ، ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ هذا الكِتابَ العَظيمَ -وهو القُرآنُ- تنزيلٌ مِن عندِه سُبحانَه وتعالى، وهو سُبحانَه المتَّصِفُ بالأُلوهيَّةِ والعِزَّةِ والحِكمةِ.
ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ في خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ عَلاماتٍ للمُؤمِنينَ على كَمالِ قُدرتِه تعالى، وبَديعِ صُنعِه، وفي خَلقِ اللهِ للنَّاسِ وما يَنشُرُه مِن الدَّوابِّ عَلاماتٌ واضِحةٌ لِقَومٍ يُوقِنونَ بالحَقِّ فيُقِرُّونَ به، وفي اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وتَعاقُبِهما دَومًا، وفيما أنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ، فأنبَتَ به الأرضَ بعدَ جَدْبِها، وفي تنويعِ الرِّياحِ في الجهاتِ والصِّفاتِ: عَلاماتٌ واضِحةٌ كذلك لِقَومٍ يَعقِلونَ.
ثمَّ خاطب اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائِلًا له: تلك آياتُ اللهِ نَقرَؤُها عليك -يا محمَّدُ- بواسِطةِ جِبريلَ، وهي مُشتَمِلةٌ على الحَقِّ الَّذي لا باطِلَ فيه، فإنْ لم يُؤمِنِ المُشرِكونَ بهذا القُرآنِ فبأيِّ حَديثٍ بعدَ كِتابِ اللهِ وبعدَ حُجَجِه وآياتِه يُؤمِنونَ؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

حم (1).
افتُتِحَت هذه السُّورةُ بهذَينِ الحَرفَينِ مِن الحروفِ المقطَّعةِ الَّتي تُستفتَحُ بها كثيرٌ مِن سوَرِ القرآنِ لبيانِ إعجازِه؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضَتِه بمِثلِه، مع أنَّه مرَكَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [11] يُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سُورةِ البَقَرةِ (1/64) من هذا ((التَّفسير المحرَّر)). .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2).
أي: تَنزيلُ القُرآنِ مِن عندِ اللهِ المتَّصِفِ بكَمالِ العِزَّةِ؛ فهو الغالِبُ القاهِرُ، العَظيمُ القَدْرِ، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ نَقصٍ وعَيبٍ؛ والمُتَّصِفِ أيضًا بالحِكمةِ التَّامَّةِ في شَرْعِه وخَلْقِه وقَدَرِه؛ فيضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/72)، ((تفسير القرطبي)) (16/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/325). .
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ تعالى أنَّ هذا الكِتابَ الكريمَ أنزَلَه العَزيزُ الحَكيمُ؛ أعقَبَ ذلك بنتائِجِ العِزَّةِ والحِكمةِ [13] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/141). ، فقال تعالى:
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3).
أي: إنَّ في خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ لَعَلاماتٍ باهِرةً، ودلائِلَ واضِحةً على الحَقِّ للمُؤمِنينَ دُونَ غَيرِهم [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/72)، ((تفسير القرطبي)) (16/157)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/179). .
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 6 - 8] .
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَّرَ اللهُ سُبحانَه بالنَّظَرِ في آياتِ الآفاقِ، ونبَّه بخلقِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ أتْبَعَ ذلك بذِكرِ آياتِ الأنفُسِ، وما بثَّ في الأرضِ [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/62، 64). .
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4).
أي: وفي خَلقِ اللهِ إيَّاكم -أيُّها النَّاسُ-، وخَلْقِه ما يَنشُرُه ويُفَرِّقُه مِن الدَّوابِّ بأنواعِها: دَلالاتٌ واضِحةٌ، وعَلاماتٌ باهِرةٌ لِقَومٍ يُوقِنونَ بالحَقِّ، فيُقِرُّونَ به، ويَعلَمونَ صِحَّتَه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/72)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/327)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/179). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى: 29] .
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5).
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: وفي تَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ دائِبَينِ لا يَفتُرانِ، واختِلافِهما في الطُّولِ والقِصَرِ، والنُّورِ والظُّلْمةِ، إلى غيرِ ذلك [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/74)، ((تفسير السمعاني)) (5/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/179). قال السعدي في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سُورةِ البَقَرةِ (164): (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهو تَعاقُبُهما على الدَّوامِ؛ إذا ذهَبَ أحَدُهما خَلَفَه الآخَرُ، وفي اختِلافِهما في الحَرِّ والبَردِ والتَّوسُّطِ، وفي الطُّولِ والقِصَرِ والتَّوسُّطِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 78). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/554). .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190] .
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: وفيما أنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ، فأنبَتَ به الأرضَ بعدَ جَدْبِها، فأخرَجَ منها أرزاقَ العِبادِ وأقواتَهم [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/327). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالرِّزقِ هنا: المطرُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/835)، ((تفسير ابن جرير)) (21/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/377)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/327). قال الشنقيطي: (أوضَحَ بقَولِه: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا أنَّ مُرادَه بالرِّزقِ المطَرُ؛ لأنَّ المطَرَ هو الَّذي يُحيي اللهُ به الأرضَ بعدَ مَوتِها، وقد أوضَحَ جَلَّ وعلا أنَّه إنَّما سُمِّيَ المطَرُ رِزقًا؛ لأنَّ المطَرَ سَبَبُ الرِّزقِ في آياتٍ كَثيرةٍ مِن كِتابِه، كقَولِه تعالى في سورةِ البَقَرةِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ الآيةَ [البقرة: 22] ، والباءُ في قَولِه فَأَخْرَجَ بِهِ سَبَبيَّةٌ كما ترى). ((أضواء البيان)) (6/377) و(7/183). وقيل: المرادُ بالرِّزقِ: المطَرُ وغَيرُه مِن الأسبابِ المُهَيِّئةِ لإخراجِ الرِّزقِ. وممَّن قال بهذا القولِ: البِقاعي، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/66)، ((تفسير الشربيني)) (3/593). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] .
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ.
أي: وفي تنويعِ الرياحِ بإرسالِها مِن جهاتٍ مُختَلِفةٍ -فتارةً تَهُبُّ مِن جهةٍ، وتارَةً مِن أُخرَى- وبصِفاتٍ مُختلِفةٍ؛ فتارَةً تكونُ حارَّةً، وتارةً باردةً، وتارةً تكونُ نافعةً، وتارةً ضارَّةً، وتارةً تكونُ رحمةً، وتارةً عذابًا... إلى غيرِ ذلك [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/74)، ((الوسيط)) للواحدي (1/247)، ((تفسير ابن جزي)) (1/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/67)، ((تفسير الشوكاني)) (5/6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 96). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم: 46] .
آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أي: في اختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وإنزالِ المطرِ، وإحياءِ الأرضِ به، وتصريفِ الرِّياحِ- دَلالاتٌ واضِحاتٌ وعلاماتٌ باهِراتٌ على الحَقِّ لِقَومٍ يَعقِلونَ عن اللهِ تعالى حُجَجَه، ويَفهَمونَ ما وعَظَهم به مِنَ الآياتِ والعِبَرِ [20] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/835)، ((تفسير ابن جرير)) (21/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 775)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/179). .
كما قال الله سُبحانَه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] .
تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6).
تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.
أي: تلك آياتُ اللهِ نُخبِرُك بها -يا مُحمَّدُ- ونَقرَؤُها عليك بواسِطةِ جِبريلَ، مُشتَمِلةً على الحَقِّ والصِّدقِ الخالِصِ، الَّذي لا باطِلَ معه ولا كَذِبَ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/75)، ((تفسير السمرقندي)) (3/276)، ((تفسير القرطبي)) (16/158)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/671) وَ (2/730)، ((تفسير ابن كثير)) (7/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/329، 330)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/185 - 187). قال البقاعي: (بِالْحَقِّ أي: الأمرِ الثَّابِتِ الَّذي لا يُستطاعُ تَحويلُه؛ فليس بسِحرٍ ولا كَذِبٍ). ((نظم الدرر)) (18/68). .
كما قال تعالى: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 252] .
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
أي: فإنْ لم يُؤمِنِ المُشرِكونَ بهذا القُرآنِ فبَأيِّ حَديثٍ بَعدَه يُؤمِنونَ ويَنتَفِعونَ ويَعتَبِرون؟! إذ لا أحسَنَ مِن القُرآنِ حَديثًا [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/75)، ((تفسير السمعاني)) (5/135)، ((تفسير الرازي)) (27/671)، ((تفسير ابن كثير)) (7/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/330)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/188). قال الشوكاني: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعدَ حَديثِ اللهِ وبعدَ الآياتِ، فيَكونُ مِن بابِ: أعجَبَني زَيدٌ وكَرَمُه. وقيل: المرادُ: بعدَ حديثِ اللهِ، وهو القُرآنُ، كما في قَولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] ، وهو المرادُ بالآياتِ، والعَطفُ لِمُجرَّدِ التَّغايُرِ العُنوانيِّ). ((تفسير الشوكاني)) (5/6). وقال ابنُ عاشور: (وعَطَف وَآَيَاتِهِ على حَدِيثٍ؛ لأنَّ المرادَ بها الآياتُ غيرُ القُرآنِ؛ مِن دلائِلِ السَّمَواتِ والأرضِ مِمَّا تَقدَّمَ في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/330). .
كما قال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 50] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قال تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إذا أنعَمَ العَبدُ نَظَرَه في استِواءِ قَدِّه وقامتِه، واستِكمالِ عَقلِه وتمامِ تَمييزِه، وما هو مَخصوصٌ به في جوارِحِه وحوائِجِه، ثمَّ فَكَّر فيما عَداه مِن الدَّوابِّ؛ فى أجزائِها وأعضائِها، ثمَّ وَقَف على اختِصاصِ وامتيازِ بني آدَمَ مِن بيْنِ البَرِيَّةِ مِن الحيواناتِ في الفَهمِ والعَقلِ والتَّمييزِ والعِلمِ، ثمَّ في الإيمانِ- عَرَف تَخَصُّصَهم بمناقِبِهم، وانفِرادَهم بفَضائِلِهم؛ فاستَيقَنَ أنَّ اللهَ كَرَّمهم، وعلى كثيرٍ مِن المخلوقاتِ قَدَّمهم [23] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/388، 389). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- ابتداءُ تَنزيلِ القُرآنِ مِنَ اللهِ تعالى، لا مِن جِبريلَ ولا غَيرِه؛ قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فجِبريلُ نزَل به مِن عندِ اللهِ تعالى، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192، 193]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [24] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/94). [النحل: 102].
2- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إثباتُ العُلُوِّ للهِ تعالى، ووجْهُ ذلك: الإخبارُ بنُزولِ الأشياءِ منه [25] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/164). ، والنُّزولُ إنَّما يكونُ مِن الأعلَى [26] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/384). .
3- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ تلك الآياتِ لا أثَرَ لها في نُفوسِ مَن هم بخِلافِ المؤمِنينَ والَّذين يُوقِنونَ [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/326). .
4- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ رَتَّبَها على ثلاثةِ مَقاطِعَ، والغَرَضُ: التَّنبيهُ على أنَّه لا بُدَّ مِن إفرادِ كُلِّ واحدٍ منها بنَظَرٍ تامٍّ شافٍ [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/671). .
5- قَولُ الله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ جُعِلَ خَلقُ النَّاسِ والدَّوابِّ آيةً للمَوصوفينَ بالإيقانِ؛ لأنَّ دَلالةَ الخَلقِ كائِنةٌ في نَفْسِ الإنسانِ وما يُحيطُ به مِن الدَّوابِّ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/328). . وقيل: لَمَّا كانت آياتُ الأنفُسِ أدَقَّ وأدَلَّ على القُدرةِ والاختيارِ بما لها مِنَ التَّجَدُّدِ والاختِلافِ، قال: لِقَوْمٍ، أي: فيهم أهليَّةُ القيامِ بما يُحاوِلونَه يُوقِنُونَ أي: يَتجَدَّدُ لهم العُروجُ في دَرَجاتِ الإيمانِ إلى أن يَصِلوا إلى شَرَفِ الإيقانِ فلا يُخالِطَهم شَكٌّ في وَحدانيَّتِه [30] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/65). .
6- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا كانت مَنافِعُ السَّماءِ غيرَ مُنحَصِرةٍ في الماءِ قال: مِنْ رِزْقٍ، أي: مَطَرٍ وغَيرِه مِن الأسبابِ المُهَيِّئةِ لإخراجِ الرِّزقِ [31] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/66). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
7- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا كان الماءُ بما يَحدُثُ عنه مِن الإنباتِ أوضَحَ دَلالةً مِن بقيَّةِ الآياتِ على البَعثِ، ومِن أجْلِ شِدَّةِ ظُهورِها ناط الأمرَ فيها بالعَقلِ فقال: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [32] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/67). .
8- قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه سِتَّةُ براهينَ مِن براهينِ التَّوحيدِ الدَّالَّةِ على عَظَمتِه تعالى وجَلالِه، وكَمالِ قُدرتِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه.
الأوَّلُ منها: خَلْقُه السَّمَواتِ والأرضَ. الثَّاني: خَلْقُه النَّاسَ. الثَّالِثُ: خَلْقُه الدَّوابَّ. الرَّابعُ: اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ. الخامِسُ: إنزالُ الماءِ مِن السَّماءِ، وإحياءُ الأرضِ به. السَّادِسُ: تَصريفُ الرِّياحِ.
وهذه البَراهينُ العَظيمةُ ثَلاثةٌ منها مِن براهينِ البَعثِ الَّتي يَكثُرُ في القُرآنِ العَظيمِ الاستِدلالُ بها على البَعثِ كَثرةً مُستَفيضةً.
والأوَّلُ مِن البراهينِ المذكورةِ: هو خَلقُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ خَلْقَه جَلَّ وعلا للسَّمَواتِ والأرضِ: مِن أعظَمِ البَراهينِ على بَعثِ النَّاسِ بعدَ الموتِ؛ لأنَّ مَن خَلَق الأعظَمَ الأكبَرَ لا شَكَّ في قُدرتِه على خَلْقِ الأضعَفِ الأصغَرِ.
وأمَّا الثَّاني مِنَ البَراهينِ المذكورةِ: فهو خَلْقُه تعالى للنَّاسِ المرَّةَ الأُولى؛ لأنَّ مَنِ ابتَدَع خَلْقَهم على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ: لا شَكَّ في قُدرتِه على إعادةِ خَلْقِهم مرَّةً أُخرى، كما لا يَخفَى.
وأمَّا البُرهانُ الثَّالِثُ منها -وهو إحياءُ الأرضِ بعدَ مَوتِها-: فإنَّه يَكثُرُ الاستِدلالُ به أيضًا على البَعثِ في القُرآنِ العَظيمِ؛ لأنَّ مَن أحيا الأرضَ بعدَ مَوتِها قادِرٌ على إحياءِ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم؛ لأنَّ الجَميعَ إحياءٌ بعدَ مَوتٍ [33] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/179). .
9- قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ... هذا الكلامُ وإنْ كان مُوجَّهًا إلى قَومٍ لا يُنكِرون وُجودَ الإلهِ، وإنَّما يَزعُمون له شُركاءَ، وكان مَقصودًا منه ابتداءً إثباتُ الوَحدانيَّةِ؛ فهو أيضًا صالِحٌ لِإقامةِ الحُجَّةِ على المُعطِّلينَ الَّذين يَنفُون وُجودَ الصَّانعِ المُختارِ، وفي العرَبِ فَريقٌ منهم؛ فإنَّ أحوالَ السَّمواتِ كلَّها مُتغيِّرةٌ، والتَّغيُّرُ دَليلُ الحُدوثِ، وهو الحاجةُ إلى الفاعِلِ المُختارِ الَّذي يُوجِدُها بعْدَ العدَمِ ثمَّ يُعدِمُها [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/328). .
10- سُمِّيَت آياتُ القُرآنِ آياتٍ، وقيل: إنَّها آياتُ اللهِ؛ كقَولِه تعالى: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [البقرة: 252] ؛ لأنَّها عَلاماتٌ ودَلالاتٌ على اللهِ، وعلى ما أراد؛ فهي تدُلُّ على ما أخبَر به، وعلى ما أمَر به ونهَى عنه، وتدُلُّ أيضًا على أنَّ الرَّسولَ صادِقٌ؛ إذ كانت مِمَّا لا يَستطيعُ الإنسُ والجِنُّ أن يأتوا بمِثْلِها، وقد تحَدَّاهم بذلك [35] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/671). .
11- مِن أحسَنِ اللَّازِمِ وأبْيَنِه أنْ تُبَيِّنَ للسَّامِعِ الحَقَّ، ثمَّ تقولَ له: أَيْشٍ تقولُ خِلافَ هذا؟ وأين تَذهَبُ خِلافَ هذا؟ قال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185] ، وقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] ؛ فالأمرُ مُنحَصِرٌ في الحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ؛ فإذا عدَلْتم عن الهُدى والحَقِّ فأينَ العُدولُ وأين المَذهَبُ [36] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 127). ؟!
12- مَن لم يَهتَدِ بما جاءت به الأنبياءُ فهو أبعدُ النَّاسِ عن الهُدى؛ قال الله تعالى: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 48 - 50] ، وقال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [37] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/942). [آل عمران: 101] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: حم افتُتِحتِ السُّورةُ بالحَرفَيْنِ المُقَطَّعَيْنِ مِن حُروفِ الهِجاءِ؛ لأنَّ أوَّلَ أغراضِها أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ؛ ففي حَرفَيِ الهِجاءِ رَمزٌ إلى عَجزِهم عن مُعارَضَتِه بعْدَ أنْ تَحَدَّاهم؛ لذلك لم يَفعَلوا، وفي ذلك الافتِتاحِ تَشويقٌ إلى تَطَلُّعِ ما يأتي بعْدَه؛ لِلاهتِمامِ به [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/224) و(25/324). .
2- قولُه تعالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- قولُه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، وهو جُملةٌ مُركَّبةٌ مِن مُبتدأٍ وخبَرٍ، والكتابُ هو المَعهودُ، وهو ما نَزَل مِن القُرآنِ إلى تلك السَّاعةِ، والمقصودُ: إثباتُ أنَّ القرآنَ مُوحًى به مِن اللهِ تعالى إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُجعَلَ القُرآنُ مُسنَدًا إليه، ويُخبَرَ عنه فيُقالَ: القُرآنُ مُنزَّلٌ مِن اللهِ العزيزِ الحَكيمِ؛ لأنَّ كَونَه مُنزَّلًا مِن اللهِ هو مَحَلُّ الجِدالِ، فيَقْتضي أنْ يكونَ هو الخبَرَ، ولو أذْعَنوا لِكَونِه تَنزيلًا لَمَا كان منهم نِزاعٌ في أنَّ تَنزيلَه مِن اللهِ، ولكنْ خُولِفَ مُقْتضى الظَّاهرِ لِغَرضَينِ:
 أحدُهما: التَّشويقُ إلى تَلقِّي الخبَرِ؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا الابتداءَ بتَنزيلِ الكِتابِ، اسْتَشْرفوا إلى ما سيُخبَرُ عنه؛ فأمَّا الكافِرونَ فيَترقَّبون أنَّه سيُلْقَى إليهم وَصْفٌ جَديدٌ لِأحْوالِ تَنزيلِ الكتابِ، فيَتهيَّؤون لِخَوضٍ جَديدٍ مِن جِدالِهم وعِنادِهم، والمُؤمِنون يَترقَّبون لِما يَزِيدُهم يَقينًا بهذا التَّنزيلِ.
والغرَضُ الثَّاني: أنْ يُدَّعى أنَّ كَونَ القُرآنِ تَنزيلًا أمْرٌ لا يُختلَفُ فيه؛ فالَّذين خالَفوا فيه كأنَّهم خالَفوا في كَونِه مُنزَّلًا مِن عِندِ اللهِ، وهل يَكونُ التَّنزيلُ إلَّا مِن عِندِ اللهِ؟ فيَؤولُ إلى تأْكيدِ الإخبارِ بأنَّه مُنزَّلٌ مِن عِندِ اللهِ؛ إذ لا فرْقَ بيْن مَدلولِ كَونِه تَنْزيلًا وكَونِه مِن عِندِ اللهِ إلَّا باختلافِ مَفهومِ المَعنيَينِ دُونَ ماصَدَقَيْهما [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/325). و(الماصَدَق): اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو الموصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). .
- وقيل: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ هو خَبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلِقَ على المفعولِ مُبالَغةً [40] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/67). . وهذا على الوجهِ بأنَّ حم خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ.
- قولُه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ في إضافةِ التَّنزيلِ إليه في هذا الموضِعِ وَجهانِ:
أحَدُهما: الافتِتاحُ بأنَّه كِتابٌ منه، كما يَفتَتِحُ الكاتِبُ كِتابَه به.
الثَّاني: أنَّه أضافَه إليه تَعظيمًا لِقَدْرِه، وتَضخيمًا لِشَأنِه عليه في الابتداءِ بإضافتِه إليه [41] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/260). .
- وإيثارُ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بالذِّكرِ هنا دونَ غَيرِهما مِن الأسماءِ الحُسْنى؛ لإشعارِ وَصْفِ العَزيزِ بأنَّ ما نزَلَ منه مُناسِبٌ لِعِزَّتِه؛ فهو كِتابٌ عَزيزٌ، أي: هو غالِبٌ لِمُعانِديه؛ وذلك لأنَّه أعجَزَهم عن مُعارَضتِه، ولإشعارِ وَصْفِ الحَكيمِ بأنَّ ما نزَلَ مِن عِندِه مُناسِبٌ لِحِكمَتِه؛ فهو مُشتمِلٌ على دَلائلِ اليَقينِ والحقيقةِ، ففي ذلك إيماءٌ إلى أنَّ إعْجازَه مِن جانِبِ بَلاغتِه؛ إذ غلَبَتْ بَلاغةَ بُلغائِهم، ومِن جانِبِ مَعانيه؛ إذ أعْجَزَت حِكمتُه حِكمةَ الحُكماءِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/325، 326). .
- وهذا الابتِداءُ بالتَّحدِّي بإعجازِ القُرآنِ، وأنَّه جاء بالحقِّ: تَوطئةٌ لِمَا سَيُذكَرُ بأنَّه حقٌّ، كما اقتضاهُ قولُه: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/324). [الجاثية: 6] .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للتَّنبيهِ على الآياتِ التَّكوينيَّةِ الآفاقيَّةِ والأنْفُسِيَّةِ [44] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/67). .
- وقولُه: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إلى قولِه: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ واقعٌ مَوقِعَ تَفصيلِ المُجمَلِ لِمَا جَمَعَتْه جُملةُ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: 2] ؛ باعتبارِ أنَّ آياتِ السَّمواتِ والأرْضِ وما عُطِفَ عليها إنَّما كانتْ آياتٍ للمُؤمِنينَ المُوقِنينَ، ولِلَّذِين حصَلَ لهم العِلمُ بسَببِ ما ذكَّرَهم به القُرآنُ، وممَّا يُؤيِّدُ ذلك قولُه تعالَى: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/326). [الجاثية: 6] .
- وأُكِّدَ الكلامُ بحَرْفِ (إِنَّ) وإنْ كان المُخاطَبون غيرَ مُنكِريه؛ لِتَنزيلِهم مَنزِلةَ المُنكِرِ لذلك بسَببِ عَدَمِ انتِفاعِهم بما في هذه الكائِناتِ مِن دَلالةٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالَى؛ وإلَّا فقدْ قال اللهُ تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/326). [الزُّخرف: 9].
- قولُه: لَآَيَاتٍ لمْ يَأْتِ بالآياتِ مُفصَّلةً، بلْ أتَى بها مُجمَلةً؛ إحالةً على غَوامضَ يُثِيرُها الفِكْرُ، ويُخبِرُ بكَثيرٍ منها الشَّرْعُ [47] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/413). .
- والمُرادُ بكَونِ الآياتِ في السَّمواتِ والأرْضِ أنَّ ذاتَ السَّمواتِ والأرضِ وعِدادَ صِفاتِها دَلائلُ على الوَحدانيَّةِ؛ فجُعِلَت السَّمواتُ والأرضُ بمَنزلةِ الظَّرْفِ لِمَا أُودِعَتْه مِن الآياتِ؛ لأنَّها مُلازِمةٌ لها بأدْنى نَظَرٍ. وجُعِلَت الآياتُ للمُؤمِنينَ؛ لأنَّهم الَّذين انْتَفَعوا بدَلالتِها، وعَلِموا منها أنَّ مُوجِدَها ومُقدِّرَ نِظامِها واحدٌ لا شَريكَ له [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/326، 327). ، ولأنَّ في ضِمْنِ الإيمانِ العَقْلَ والتَّصديقَ [49] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/413). .
4- قولُه تعالَى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ عطْفٌ على جُملةِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] عطْفَ خاصٍّ على عامٍّ؛ لِمَا في هذا الخاصِّ مِن التَّذكيرِ بنِعمةِ إيجادِ النَّوعِ؛ استِدْعاءً للشُّكرِ عليه [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/327). .
- قولُه: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ ... البَثُّ: التَّوزيعُ والإكثارُ، وهو يَقْتضي الخلْقَ والإيجادَ؛ فكأنَّه قيلَ: وفي خَلْقِ اللهِ ما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ. وعُبِّرَ بالمُضارِعِ في يَبُثُّ؛ لِيُفِيدَ تَجدُّدَ البَثِّ وتَكرُّرَه باعتِبارِ اختلافِ أجناسِ الدَّوابِّ وأنْواعِها وأصْنافِها [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/327). .
- والخِطابُ مُوجَّهٌ إلى المُشرِكينَ؛ ولذلك قال: لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وقال: آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، دُونَ أنْ يُقالَ: لَآياتٍ لكمْ أو آياتٍ لكمْ، أي: هي آياتٌ لِمَن يَعلمونَ دَلالتَها مِن المُؤمِنينَ ومِن الَّذين يُوقِنون؛ إشارةً إلى أنَّ تلك الآياتِ لا أثَرَ لها في نُفوسِ مَن همْ بخِلافِ ذلك [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/326). .
5- قولُه تعالَى: وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- قولُه: مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ مِنْ رِزْقٍ، أي: مِن مَطَرٍ، وهو سبَبٌ للرِّزْقِ؛ عُبِّرَ عنهُ بذلكَ تَنبيهًا على كَونِه آيةً مِن جِهتَيِ القُدرةِ والرَّحْمةِ [53] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/68). .
- وأُخِّرَ قولُه: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ عن إنْزالِ المطَرِ مع تَقدُّمِه عليهِ في الوُجودِ؛ إمَّا لِلْإيذانِ بأنَّه آيَةٌ مُستقِلَّةٌ، حيثُ لو رُوعيَ التَّرتيبُ الوُجوديُّ لَرُبَّما تُوهِّمَ أنَّ مَجموعَ تَصْريفِ الرِّياحِ وإنْزالِ المطَرِ آيةٌ واحِدةٌ. وإمَّا لأنَّ كَونَ التَّصريفِ آيةً ليس لِمُجَرَّدِ كَونِه مَبدأً لإنشاءِ المَطرِ، بلْ له ولِسائرِ المَنافِعِ الَّتي مِن جُمْلتِها سَوْقُ السُّفنِ في البِحارِ [54] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/68). .
- وتَنكيرُ (آيَاتٍ) في المواقعِ الثَّلاثةِ [الجاثية: 3، 4، 5]؛ للتَّفخيمِ كمًّا وكَيفًا [55] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/68). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ذُكِرَ في آيةِ (البَقَرةِ) ثَمانيةُ دَلائلَ تَدْعو للإيمانِ، في قولِه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، وذُكِرَ هاهنا سِتَّةُ أنواعٍ فقط، ولم يُذكَرِ الفُلْكُ والسَّحابُ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 3-5] ؛ والسَّببُ في ذلك: أنَّ مَدارَ الحَرَكةِ للفُلْكِ والسَّحابِ على الرِّياحِ المُختلِفةِ، فذِكْرُ الرِّياحِ -الَّذي هو كالسَّببِ- يُغْني عن ذِكْرِهما [56] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/671)، ((تفسير أبي حيان)) (9/414). .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ اختلَفتِ الفواصلُ الثَّلاثُ لِاخْتلافِ الآياتِ في الدِّقَّةِ والظُّهورِ والجَلاءِ؛ فختَمَ الآيةَ الأُولى بقولِه: لِلْمُؤْمِنِينَ، والثَّانيةَ بقولِه: يُوقِنُونَ، والثَّالثةَ بقولِه: يَعْقِلُونَ؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ذكَرَ العالَمَ ضِمْنًا -ولا بُدَّ له مِن صانعٍ مَوصوفٍ بصِفاتِ الكَمالِ، ومِن الإيمانِ بالصَّانعِ-؛ ناسَبَ خَتْمُ الأُولى بالمُؤمِنينَ، فكأنَّه قِيل لهمْ: إنْ كُنْتُم مِن المُؤمِنينَ فافْهَموا هذه الدَّلائلَ. ولَمَّا كان الإنسانُ أقرَبَ إلى الفَهْمِ مِن غَيرِه، وكان فِكْرُه في خَلْقِه وخلْقِ الدَّوابِّ ممَّا يَزيدُه يَقينًا في إيمانِه؛ ناسَبَ خَتْمُ الثَّانيةِ بقَولِه: يُوقِنُونَ، أي: وإنْ كُنتم لَسْتُم مِن المُؤمِنينَ، بلْ أنتُم مِن طُلَّابِ الجَزْمِ واليَقينِ، فافْهَموا تلك الدَّلائلَ. ولَمَّا كان جُزئياتُ العالَمِ -مِنِ اخْتِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما ذكَرَه مَعَهما- ممَّا لا يُدرَكُ إلَّا بالعقلِ؛ ناسَبَ ختْمُ الثَّالثةِ بقَولِه: يَعْقِلُونَ، كأنَّه قال: وإنْ كُنتُم لَسْتُم مِن هؤلاءِ ولا مِن هؤلاءِ، فلا أقلَّ مِن أنْ تَكونوا مِن زُمْرةِ العاقلينَ؛ فاجْتَهِدوا في مَعرفةِ الدَّلائلِ، وهذا مِن بابِ التَّنزُّلِ [57] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/671)، ((تفسير البيضاوي)) (5/105)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/236)، ((تفسير أبي حيان)) (9/414)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 519، 520)، ((تفسير أبي السعود)) (8/68)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/143). .
وقيل: المعنى: أنَّ المُنصِفينَ لَمَّا نَظَروا في السَّمَواتِ والأرضِ؛ وأنَّه لا بُدَّ لهما مِن صانِعٍ؛ آمَنوا، فإذا نَظَروا في خَلقِ أنفُسِهم ونَحوِها ازدادوا إيمانًا فأيْقَنوا، فإذا نَظَروا في سائِرِ الحَوادِثِ عَقَلوا واستحكَمَ عِلمُهم [58] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/67). ، فهو تَرَقٍّ مِن حالٍ شَريفٍ إلى ما هو أشرَفُ منه وأعلى [59] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/264). .
- وقيل: المُرادُ بـ (المُؤمِنينَ)، وبـ (قَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وبـ (قَوْمٍ يَعْقِلُونَ) واحدٌ، وهمُ المُؤمِنونَ بتَوحيدِ اللهِ؛ فحَصَلَ لهم اليقينُ وكانوا يَعقِلون، أي: يَعلَمون دَلالةَ الآياتِ، والمَعنى: أنَّ المؤمنينَ والَّذين يُوقِنون -أي يَعلَمون ولا يُكابِرون- والَّذين يَعقِلون دَلالةَ الآثارِ على المُؤثِّرِ، ونَظَروا النَّظَرَ الصَّحيحَ في شَواهدِ السَّمواتِ والأرضِ، فعَلِموا أنْ لا بُدَّ لها مِن صانعٍ، وأنَّه واحِدٌ، فأيْقَنَ بذلك العاقِلُ منهم الَّذي كان مُترَدِّدًا، وازدادَ إيمانًا مَن كان مُؤمِنًا فصارَ مُوقِنًا؛ فالمعنى: أنَّ الَّذين انتَفَعوا بالآياتِ همُ المُؤمِنونَ العاقِلونَ، فوُزِّعَتْ هذه الأوصافُ على فَواصلِ هذه الآيِ؛ لأنَّ ذلك أوقَعُ في نَفْسِ السَّامعِ مِن إتْلاءِ بَعضِها لِبَعضٍ، وقُدِّمَ المُتَّصِفونَ بالإيمانِ؛ لِشَرَفِه، وجُعِلَ خلْقُ النَّاسِ والدَّوابِّ آيةً للمَوصوفينَ بالإيقانِ؛ لأنَّ دَلالةَ الخلْقِ كائنةٌ في نفْسِ الإنسانِ وما يُحِيطُ به مِن الدَّوابِّ، وجُعِلَ اخْتِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، واختِلافُ حَوادثِ الجوِّ آيةً لِلَّذِين اتَّصَفوا بالعقْلِ؛ لأنَّ دَلالتَها على الوَحدانيَّةِ بِواسِطةِ لَوازِمَ مُترَتِّبةٍ بإدراكِ العَقلِ، وقدْ أومَأَ ذِكرُ هذه الصِّفاتِ إلى أنَّ الَّذين لم يَهْتُدوا بهذه الآياتِ لَيسوا مِن أصحابِ هذه الصِّفاتِ؛ ولذلك أعْقَبَه بقولِه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] اسْتِفهامًا إنْكاريًّا بمَعنى النَّفيِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/327، 328). . وقيل غيرُ ذلك [61] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1178-1182)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/441، 442)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/235)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 519). .
6- قولُه تعالَى: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
- قولُه: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ يَجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ وبَيانُها بآياتِ اللهِ إشارةً إلى الآياتِ المذكورةِ في قولِه: لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، وقولِه: آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] ، وقولِه: آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] . وإضافتُها إلى اسمِ الجَلالةِ؛ لأنَّ خَلْقَها على تلك الصِّفاتِ الَّتي كانتْ لها آياتٌ للمُستبصِرينَ. ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى حاضرٍ في الذِّهنِ غيرِ مَذكورٍ؛ لِما دلَّ عليه قولُه: الْكِتَابِ [الجاثية: 2] ، أي: تلك آياتُ اللهِ المُنزَّلةُ في القُرآنِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/329، 330). .
- وفي الإبهامِ في اسْمِ الإشارةِ تِلْكَ -وتَفسيرِه بـ آَيَاتُ اللَّهِ-، وقُرْبِ المُشارِ إليه وهو (أي اسمُ الإشارةِ تِلْكَ) مَوضوعٌ للبَعيدِ، وتَخصيصِ اسمِ (الله) الجامِعِ، وتَكريرِه، وإيثارِ صِيغةِ الجمْعِ نَتْلُوهَا للتَّعظيمِ: خطْبٌ خَطيرٌ، وشأْنُ جَليلٌ في الاستِبعادِ [63] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/238). .
- قولُه: نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أسنَدَ جلَّ وعلا تِلاوتَها إلى نفْسِه؛ لأنَّها كلامُه الَّذي أنْزَلَه على رسولِه بواسِطةِ المَلَكِ، وأمَرَ المَلَكَ أنْ يَتلوَه عليه مُبلِّغًا عنه جلَّ وعلَا [64] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/186). .
- قولُه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعْدَ آياتِ اللهِ. وتَقديمُ الاسمِ الجَليلِ (الله)؛ للمُبالَغةِ والتَّعظيمِ، كما في قَولِك: أعْجَبني زيدٌ وكرَمُه [65] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/105)، ((تفسير أبي السعود)) (8/68). ، أو أنَّ إضافةَ (بعْدَ) إلى اسمِ الجَلالةِ على تَقديرِ مُضافٍ دلَّ عليه ما تَقدَّمَ مِن قولِه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ، والتَّقديرُ: بعْدَ حَديثِ اللهِ، وهو كِتابُه وقُرآنُه، أي: بعْدَ سَماعِه [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/330). ، يعني: أنَّ القُرآنَ مِن بيْنِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ آيةٌ مُبصِرةٌ، ومُعجِزةٌ باهرةٌ؛ فحِينَ لمْ يُؤمِنوا به فبأيِّ كِتابٍ بعْدَه يُؤمِنون؟! ويَعضُدُ هذا التَّأويلَ عطْفُ وَآَيَاتِهِ على اللَّهِ، أي: بعْدَ كِتابِ اللهِ وآياتِه الباهرةِ وبَراهينِه السَّاطِعةِ، وهو مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ، وكذا تَرتُّبُ الفاءِ في فَبِأَيِّ على ما قبْلَه؛ فعلَى هذا: المُناسِبُ في الوجْهِ الأوَّلِ -وهو أنْ يُرادَ بقَولِه: بَعْدَ اللَّهِ: بعْدَ آياتِ اللهِ- أنْ يكونَ المُشارُ إليه بقولِه: تِلْكَ: الآياتِ المُتقدِّمةَ، وفي الوجْهِ الثَّاني: الآياتِ التَّاليةَ، على نحْوِ: هذا أخوكَ. وهذا أجمَعُ؛ لأنَّه يَضُمُّ الدَّلائلَ المَنْصوبةَ مِن الآفاقيَّةِ والأنْفُسيَّةِ مع النُّصوصِ القاهرةِ، وحصَلَ منه التَّرقِّي مِن الأدْنَى إلى الأعْلَى في البَيانِ والكشْفِ، وتَبيَّنَ أنَّ بَياناتِ النُّصوصِ هي الَّتي تُزِيلُ مِن ألْبابِ أربابِ العُقولِ الشُّكوكَ، وتُجْلِي الرِّيَبَ [67] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/238). .
- والاستِفهامُ في قولِه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ مُستعمَلٌ في التَّأْييسِ والتَّعجيبِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/330). . وفيه تَقريعٌ وتَوبيخٌ وتَهديدٌ [69] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/415). .
- وعلى قراءةِ تُؤْمِنُونَ -بالتَّاءِ الفوقيَّةِ [70] قال ابن الجزري: (قرَأ المَدَنيَّانِ وابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو ورَوحٌ وحفصٌ بالغَيبِ: يُؤْمِنُونَ، وقرأ الباقون بالخِطاب: [تُؤْمِنُونَ]). ((النشر في القراءات العشر)) (2/371). ويُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 659). - فهو الْتِفاتٌ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/331). .