موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (46-53)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْفُلْكُ: أي: السُّفنُ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [592] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
فَتُثِيرُ: أي: فتُنشِئُ، وأصلُ (ثور): يدُلُّ على انبِعاثِ الشَّيءِ [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/519)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/395)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181). .
فَيَبْسُطُهُ: أي: يَنشُرُه، والبَسطُ: النَّشرُ، وأصلُ (بسط): يَدُلُّ على امتِدادِ شَيءٍ [594] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/121). .
كِسَفًا: أي: قِطَعًا، وأصلُ (كسف): يدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [595] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/81)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/177)، ((التبيان لابن الهائم)) (ص: 269). .
الْوَدْقَ: أي: المطَرَ، وأصلُ (ودق): يدُلُّ على إتيانٍ؛ لأنَّ المطَرَ يَجيءُ مِنَ السَّماءِ [596] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 342)، ((تفسير ابن جرير)) (17/336)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/96)، ((المفردات)) للراغب (ص: 861)، ((تفسير القرطبي)) (14/44)، ((التبيان لابن الهائم)) (ص: 313). .
لَمُبْلِسِينَ: أي: لَيائِسينَ، وأصْلُ (بلس): يدُلُّ على يأسٍ [597] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153، 342)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 143)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 347)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 875). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا آياتِه الدَّالَّةَ على قدرتِه، ومظاهرِ فضلِه على النَّاسِ ورحمتِه بهم: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وكَمالِ قُدرتِه وغَيرِ ذلك: أن يُرسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لكم بما فيه نَفعُكم، كنُزولِ المطَرِ، ولِيُصيبَكم ببَعضِ نِعَمِه، ولِتَسيرَ السُّفُنُ في البِحارِ بأمرِه تعالى، ولِتَلتَمِسوا الرِّزقَ بالسَّيرِ في البَحرِ، ولعلَّكم تَشكُرونَ رَبَّكم على هذه النِّعَمِ.
ولقد أرسَلْنا مِن قَبلِك -يا مُحمَّدُ- رُسُلًا إلى قَومِهم، فجاؤُوهم بالآياتِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على صِدقِهم، فأهلَكْنا الَّذين كَفَروا وكذَّبوا، وكان واجِبًا علينا نصرُ المؤمنينَ.
اللهُ وَحْدَه الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ فتُنشِئُ سَحابًا وتُسَيِّرُه، فيَنشُرُه في السَّماءِ كما يَشاءُ، ويجعَلُه قِطَعًا، فتَرى المطَرَ يَقطُرُ مِن بَينِ السَّحابِ، فإذا أصاب ذلك المطَرُ مَن يشاءُ اللهُ مِن عبادِه، فَرِحوا به، والحالُ أنَّهم كانوا قبْلَ نُزولِ المطَرِ عليهم يائِسينَ، فانظرْ إلى آثارِ المطَرِ الَّذي يُنزِلُه اللهُ رَحمةً لِعِبادِه، كيف يُحيي به اللهُ الأرضَ اليابِسةَ بعدَ جُدوبِها؟!
إنَّ اللهَ الَّذي أحيا الأرضَ الميِّتةَ بالمطَرِ لَمُحيي الموتَى في الآخرةِ بقُدرتِه، وهو على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
ولَئِنْ أرسَلْنا ريحًا أفسَدَت زَرْعَهم فرآه أصحابُه قد اصفَرَّ ويَبِسَ بعدَما كان أخضَرَ، لَظَلُّوا مِن بعدِ ذلك يَكفُرون برَبِّهم ويَجحَدونَ نِعَمَه سُبحانه!
 ثمَّ يسلِّي الله تعالى نبيَّه عمَّا لَحِقه منهم مِن أذى، فيقولُ: فإنَّك -يا محمَّدُ- لا تُسمِعُ هؤلاء الكُفَّارَ الَّذين ماتت قلوبُهم، ولا تُسمِعُ الكُفَّارَ الَّذين أصَمَّ اللهُ آذانَهم سَماعًا ينتَفِعونَ به، وما أنت بهادي الكُفَّارِ الَّذين أعمى اللهُ قلوبَهم فتَرُدَّهم عن ضَلالتِهم إلى الإيمانِ؛ ما تُسمِعُ -يا محمَّدُ- الحَقَّ سَماعَ انتِفاعٍ به إلَّا الَّذين يُؤمِنونَ بآياتِنا، فهم خاضِعونَ لله، مُنقادونَ لطاعتِه سُبحانَه.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
 لَمَّا ذكَرَ تعالى ظُهورَ الفَسادِ والهلاكِ بسبَبِ الشِّركِ؛ ذكَرَ ظُهورَ الصَّلاحِ، ولم يذكُرْ أنَّه بسَبَبِ العَمَلِ الصَّالحِ؛ لأنَّ الكريمَ لا يَذكُرُ لإحسانِه عِوَضًا، ويَذكُرُ لأضْدادِه سَببًا؛ لئَلَّا يُتوهَّمَ به الظُّلمُ [598] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/107). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ.
أي: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وعِلمِه ورَحمتِه، وحِكمتِه وكَمالِ قُدرتِه، وغَيرِ ذلك: أنْ يُرسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لكم بحُصولِ ما فيه نَفعُكم، مِن نُزولِ المطَرِ أو غَيرِه [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير القرطبي)) (14/43)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/113، 114). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] .
وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.
أي: ولِيُصيبَكم ببَعضِ نِعَمِه [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير القرطبي)) (ص: 643)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/113، 114). قال البقاعي: (من المياهِ العَذبةِ، والأشجارِ الرَّطبةِ، وصِحَّةِ الأبدانِ، وخِصبِ الزَّمانِ، وما يَتبَعُ ذلك من أمورٍ لا يُحصيها إلَّا خالِقُها، ولا يتصَوَّرُها حَقَّ تصَوُّرِها إلَّا مَن فَقَد الرِّياحَ؛ من وجودِ الرَّوحِ، وزكاءِ الأرضِ، وإزالةِ العُفونةِ مِن الهواءِ، والإعانةِ على تذريةِ الحُبوبِ، وغيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (15/114). .
وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ.
أي: ولِتَسيرَ السُّفُنُ في البِحارِ عندَ هُبوبِها بأمرِ اللهِ لها، وتقديرِه وتَسخيرِه ذلك [601] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير القرطبي)) (14/43)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/119). قال القرطبي: (وإنما زاد بِأَمْرِهِ؛ لأنَّ الرِّياحَ قد تَهُبُّ ولا تكونُ مؤاتيةً، فلا بُدَّ مِن إرساءِ السُّفُنِ والاحتيالِ بحَبسِها، وربمَّا عَصَفت فأغرقَتْها بأمرِه). ((تفسير القرطبي)) (14/43). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/114، 115). .
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ولِتَلتَمِسوا بالسَّيرِ في البَحرِ مِن رِزقِ اللهِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321). .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: ولعلَّكم تَشكُرونَ رَبَّكم على تلك النِّعَمِ الإلهيَّةِ، فتَقومونَ بتَوحيدِه وطاعتِه سُبحانَه [603] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/517)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير القرطبي)) (14/43)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى البراهينَ، ولم ينتَفِعْ بها الكُفَّارُ؛ سلَّى قَلبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وقال: حالُ مَن تقدَّمَك كان كذلك، وجاؤوا أيضًا بالبيِّناتِ، وكان في قَومِهم كافِرٌ ومُؤمِنٌ كما في قَومِك، فانتقَمْنا مِنَ الكافرينَ، ونصَرْنا المؤمِنينَ [604] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/108). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: ولقدْ أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا محمَّدُ- رُسُلًا إلى قَومِهم الكافِرينَ، فجاؤوهم بالدَّلائِلِ الواضِحاتِ على صِدقِهم [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/518، 519)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير القرطبي)) (14/43)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321). .
فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا.
أي: فأهلَكْنا الَّذين كَفَروا وكَذَّبوا بآياتي ورُسُلي؛ فكذلك نُهلِكُ مَن كَفَر وكَذَّب بالحَقِّ مِن قَومِك يا محمَّدُ [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/519)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321). .
كما قال تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16 - 18] .
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ونجَّيْنا المؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه، وكان واجِبًا علينا ذلك؛ فحَقٌّ علينا أيضًا أن ننصُرَك -يا محمَّدُ- والمؤمِنينَ بك [607] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/519)، ((الوسيط)) للواحدي (3/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/321). .
كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48).
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ.
أي: اللهُ وَحْدَه الذي يُرسِلُ الرِّياحَ مَرَّةً بعدَ أخرى، فتُحرِّكُ سَحابًا مِن سُكونِه وتُسَيِّرُه، فيَمُدُّه اللهُ ويَنشُرُه في السَّماءِ على الهيئةِ والصِّفةِ الَّتي يَشاؤُها سُبحانَه بحِكمتِه [608] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/519)، ((الوسيط)) للواحدي (3/437)، ((تفسير ابن عطية)) (4/341)، ((تفسير ابن كثير)) (6/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/118)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 308). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [فاطر: 9] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [النور: 43] .
وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: كِسَفًا قراءتانِ:
1- قراءةُ كِسْفًا قيل: هي اسمٌ مُفردٌ بمعنى: قِطعةٍ واحِدةٍ، وقيل: هي جَمعُ كِسْفةٍ، فتكونُ كِسْفًا بمعنى: قِطَعًا، وهي معنى القراءةِ الثانيةِ [609] قرأ بها هشامٌ بخُلفٍ عنه، وابن ذكوان، وأبو جعفر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/309). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 220)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/100، 101)، ((الكشف)) لمكي (2/51، 52). .
2- قِراءةُ كِسَفًا أي: قِطَعًا، جمعُ كِسْفةٍ، وهي القِطعةُ [610] قرأ بها الباقون، وهو الوجه الثاني لهشام. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/309). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 220)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/100، 101)، ((الكشف)) لمكي (2/51). .
  وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا.
أي: ويجعَلُ اللهُ السَّحابَ قِطَعًا [611] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/520)، ((الوسيط)) للواحدي (3/437)، ((تفسير ابن كثير)) (6/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/119). قال البقاعي: (كِسَفًا أي: قِطَعًا غيرَ متَّصِلٍ بَعضُها ببعضٍ اتِّصالًا يمنَعُ نزولَ الماءِ). ((نظم الدرر)) (15/119، 120). وقال ابن عثيمين: (قال بعضُ المفَسِّرين: معنى كونِه كِسَفًا: أنَّه قِطَعٌ مُتراكِبةٌ بَعضُها فوقَ بعضٍ، حتَّى يَسْوَدَّ ويَدْلَهِمَّ ويحصُلَ فيه الرَّعدُ والبَرقُ، وهذا أَولى، وهو في الغالِبِ أكثَرُ مَطرًا). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 308). قال ابنُ كثير: (  وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا قال مجاهدٌ، وأبو عمرِو بنُ العلاءِ، ومطرٌ الورَّاقُ، وقَتادةُ: يعني قِطَعًا. وقال غيره: مُتراكِمًا، قاله الضَّحَّاكُ. وقال غيره: أسوَدُ مِن كثرةِ الماءِ، تراه مُدْلَهِمًّا ثقيلًا قريبًا مِن الأرضِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/322). .
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ.
أي: فترى المطَرَ يَقطُرُ مِن بينِ السَّحابِ [612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/520)، ((تفسير ابن عطية)) (4/342)، ((تفسير ابن كثير)) (6/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/120)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 309). قال ابن عاشور: (الخِطابُ في فَتَرَى الْوَدْقَ خِطابٌ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ، وهو كُلُّ مَن يتأتَّى منه سماعُ هذا، وتتأتَّى منه رؤيةُ الوَدْقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/122). .
فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
أي: فإذا أنزل اللهُ المطَرَ على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، تراهم يَفرَحونَ بنُزولِه [613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/521)، ((تفسير القرطبي)) (14/44)، ((تفسير ابن كثير)) (6/322). .
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49).
أي: والحالُ أنَّهم قَبلَ نُزولِ المطَرِ عليهم كانوا حزينينَ يائِسينَ باحتِباسِه عنهم [614] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/521)، ((تفسير القرطبي)) (14/44)، ((تفسير ابن كثير)) (6/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/121)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 311). قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: مِنْ قَبْلِهِ يعودُ إلى المطرِ. ومِمَّن قال بذلك: ابن جرير، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/521)، ((الوسيط)) للواحدي (3/437). وقيل: مِنْ قَبْلِهِ تكريرٌ معناه التَّأكيدُ. وممن اختاره الأخفشُ، والشوكاني، ونسَبه النَّحاسُ إلى أكثَر النَّحْويِّينَ. يُنظر: ((معانى القرآن)) للأخفش (2/476)، ((تفسير الشوكاني)) (4/266)، ((معاني القرآن)) للنحاس (5/268). قال الشوكاني بعدَ أنْ رجَّح هذا الوجهَ: (ما بعدَه مِن هذه الوجوهِ كُلِّها ففي غايةِ التَّكلُّفِ والتَّعسُّفِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/266). وقيل: الضَّميرُ عائِدٌ إلى استبشارِهم. ومِمَّن قال بهذا المعنى: البقاعي، وأبو السعود، واستحسَنه ابن عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/121)، ((تفسير أبي السعود)) (7/64)،  ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 313). وقيل: الضميرُ يعود إلى القَبْلِ المذكورِ في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، فهُم مِن قَبلِ هذا القَبلِ مُبلِسونَ؛ إشارةً إلى أنَّ الإبلاسَ مُستَمِرٌّ معهم مِن قديمِ الزمان. ذكر هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 313). وقال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا قولُه تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فهي مِن أشكَلِ ما أُورِدَ، وممَّا أعضَلَ على النَّاسِ فَهمُها... وأمَّا قَولُه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ فليس مِن التَّكرارِ، بل تحتَه معنًى دقيقٌ، والمعنى فيه: وإن كانوا من قَبلِ أن يُنَزَّلَ عليهم الوَدْقُ مِن قَبلِ هذا النُّزولِ لَمُبلِسينَ؛ فهنا قبليَّتانِ: قبليَّةٌ لِنُزولِه مُطلقًا، وقبليَّةٌ لذلك النُّزولِ المعَيَّنِ ألَّا يكونَ متقَدِّمًا على ذلك الوَقتِ؛ فيَئِسوا قبلَ نُزولِه يأسَينِ: يأسًا لِعَدمِه مَرئيًّا، ويأسًا لتأخُّرِه عن وَقتِه؛ فـ «قَبلُ» الأولى: ظرفُ اليأسِ، و«قبلُ» الثَّانيةُ: ظرفُ المجيءِ والإنزالِ؛ ففي الآيةِ ظَرفانِ مَعمولانِ وفِعلانِ مُختَلِفانِ عاملانِ فيهما، وهما الإنزالُ والإبلاسُ، فأحدُ الظَّرفَينِ متعَلِّقٌ بالإبلاسِ، والثَّاني متعَلِّقٌ بالنُّزولِ؛ وتمثيلُ هذا: أن تقولَ إذا كنتَ مُعتادًا للعطاءِ مِن شَخصٍ فتأخَّرَ عن ذلك الوَقتِ ثمَّ أتاك به: قد كنتُ آيِسًا). ((مجموع الفتاوى)) (15/277-279). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/323). .
فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه رَتَّب على ما تقَرَّر مِن استِحضارِ صورةِ تكوينِ أسبابِ المطَرِ، واستِبشارِ النَّاسِ بنُزولِه بعدَ الإبلاسِ: أنِ اعتَرَضَ بذِكرِ الأمرِ بالنَّظَرِ إلى أثَرِ الرَّحمةِ، وإغاثةِ اللهِ عِبادَه حينَ يُحيي لهم الأرضَ بعدَ مَوتِها بالجَفافِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/123). .
فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: فانظُرْ إلى آثارِ المطَرِ الَّذي رَحِمَ اللهُ به عِبادَه: كيف يُحيي به اللهُ الأرضَ اليابِسةَ، فيُنبِتُها بعدَ قُحوطِها وجُدوبِها [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/523)، ((الوسيط)) للواحدي (3/437)، ((تفسير ابن كثير)) (6/323). ؟
كما قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] .
إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى .
أي: إنَّ اللهَ الَّذي أحيا الأرضَ المَيتةَ بالمطَرِ، لَمُحْيي الموتى في الآخِرةِ بقُدرتِه [617] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/523)، ((الوسيط)) للواحدي (3/437)، ((تفسير ابن كثير)) (6/323). .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9 - 11] .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، لا يُعجِزُه شَيءٌ سُبحانَه، ومِن ذلك: بعْثُ عِبادِه بعدَ مَوتِهم [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/523)، ((البسيط)) للواحدي (18/79)، ((تفسير الألوسي)) (11/53). .
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّهم عندَ توقُّفِ الخيرِ يكونونَ مُبلِسينَ آيِسينَ، وعندَ ظُهورِه يكونونَ مُستَبشِرينَ؛ بيَّنَ أنَّ تلك الحالةَ أيضًا لا يَدومونَ عليها، فهم مُتقَلِّبونَ غيرُ ثابتينَ؛ لِنَظَرِهم إلى الحالِ لا إلى المآلِ [619] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/109). .
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51).
أي: ولَئِنْ أرسَلْنا ريحًا مُفسِدةً للزَّرعِ، فرأى أصحابُ الزَّرعِ زَرعَهم قد فَسَد بالرِّيحِ فاصفَرَّ ويَبِسَ؛ لَظَلُّوا مِن بعدِ هذه الحالِ [620] قيل: المرادُ: مِن بعدِ اصفِرارِ زَرعِهم بالرِّيحِ. ومِمَّن قال بذلك: السمرقندي، وابن الجوزي، والبقاعي والعليمي والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/17)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/427)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/123)، ((تفسير العليمي)) (5/294)، ((تفسير القاسمي)) (8/20). وقيل: المرادُ: مِن بعدِ استبشارِهم وفرحتِهم بزَرعِهم الأخضرِ قبلَ اصفرارِه. ومِمَّن قال بذلك: ابن جرير، ومكي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/523)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5702)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 327). يَكفُرونَ برَبِّهم، فيَيئَسونَ مِن رَحمتِه، ويَجحَدونَ نِعَمَه سُبحانَه [621] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/45)، ((تفسير ابن كثير)) (6/323)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/123-124)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/125). وقيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعودُ إلى الرِّيحِ. ومِمَّن قال بذلك: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/45). قال القرطبي: (الريحُ يجوزُ تذكيرُه. قال محمَّدُ بنُ يزيدَ: لا يمتَنِعُ تذكيرُ كُلِّ مُؤنَّثٍ غيرِ حقيقيٍّ، نحو: أعجبَني الدَّارُ، وشِبهُه. وقيل: فرأوا السَّحابَ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: الزَّرعَ، وهو الأثَرُ، والمعنى: فرَأَوُا الأثَرَ مُصفَرًّا، واصفِرارُ الزَّرعِ بعدَ اخضِرارِه يدُلُّ على يُبسِه، وكذا السَّحابُ يدُلُّ على أنَّه لا يُمطِرُ، والرِّيحُ على أنَّها لا تُلقِحُ). ((تفسير القرطبي)) (14/45). ويُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/189). !
كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة: 63 - 67] .
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عَلَّمَ رَسولَه أنواعَ الأدِلَّةِ وأصنافَ الأمثلةِ، ووعَدَ وأوعَدَ، ولم يَزِدْهم دعاؤُه إلَّا فِرارًا، وإنباؤُه إلَّا كُفرًا وإصرارًا؛ قال له [622] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/110). :
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى.
أي: فإنَّك -يا محمَّدُ- لا تَستطيعُ أن تُسمِعَ هؤلاء الكُفَّارَ الَّذين ماتت قُلوبُهم سَماعًا ينتَفِعونَ به، إنْ لم يُرِدِ اللهُ أن يَهديَهم [623] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/524)، ((تفسير القرطبي)) (14/46)، ((تفسير ابن كثير)) (6/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/124، 125)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 328-330). .
كما قال سُبحانَه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179] .
وقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22] .
وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ يَسْمَعُ بفَتحِ الياءِ والميمِ، والصُّمُّ بالرَّفعِ فاعِلًا للفِعلِ، أي: لا يَنقادون للحَقِّ كما لا يُجيبُ الأصَمُّ النِّداءَ الموَجَّهَ إليه [624] قرأ بها ابن كثير. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/339). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (18/524)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/245)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 536). .
2- قراءةُ تُسْمِعُ بالتَّاءِ المضمومةِ وكَسرِ الميمِ، والصُّمَّ بالنَّصبِ مَفعولًا به، والخِطابُ لِرَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: إنَّك لا تَقدِرُ أن تُسمِعَ دُعاءَك الصُّمَّ المعرِضينَ عنك [625] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/239). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 536)، ((الكشف)) لمكي (2/110، 185). .
وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
أي: ولا تَقدِرُ -يا مُحمَّدُ- أن تُسمِعَ الحَقَّ الكُفَّارَ الَّذين أصَمَّ اللهُ آذانَهم سَماعًا ينتَفِعونَ به، إذا أعرَضوا عن سَماعِ الحَقِّ وتدَبُّرِه [626] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/524)، ((تفسير ابن كثير)) (6/324)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/128). .
كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .
وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ [الأنبياء: 45] .
وقال تبارك وتعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22، 23].
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بدأ بفاقِدِ حاسَّةِ السَّمعِ؛ لأنَّها أنفَعُ مِن حيثُ إنَّ الإنسانَ إنَّما يفارِقُ غيرَه مِن البهائِمِ بالكلامِ، أتْبَعَها حاسَّةَ البصَرِ [627] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/125). .
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ.
أي: وما أنت -يا مُحمَّدُ- بهادِي الكُفَّارِ الَّذين أعمى اللهُ بصائِرَهم وقُلوبَهم عن الحَقِّ؛ فتَصرِفَهم عن ضَلالِهم وكُفرِهم، وتَرُدَّهم إلى الإيمانِ [628] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/524)، ((البسيط)) للواحدي (17/299)، ((تفسير ابن كثير)) (6/324). .
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
أي: ما تُسمِعُ -يا مُحمَّدُ- الحَقَّ سَماعَ انتِفاعٍ به إلَّا الَّذين يُؤمِنونَ بآياتِنا، فهم مُتذَلِّلونَ وخاضِعونَ لله، مُنقادونَ لطاعتِه سُبحانَه [629] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/525)، ((تفسير القرطبي)) (14/46)، ((تفسير ابن كثير)) (6/324). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 36].

الفَوائِدُ التربويَّةُ:

قال الله تعالى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي: هؤلاءِ الَّذين ينفَعُ فيهم إسماعُ الهُدى: المؤمِنونَ بآياتِنا بقُلوبِهم، المُنقادونَ لأوامِرِنا، المُسلِمونَ لنا؛ لأنَّ معهم الدَّاعيَ القَويَّ لِقَبولِ النَّصائِحِ والمواعِظِ، وهو استِعدادُهم للإيمانِ بكُلِّ آيةٍ مِن آياتِ اللهِ، واستِعدادُهم لِتَنفيذِ ما يَقدِرونَ عليه مِن أوامِرِ اللهِ ونواهيه [630] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، فجمَع الرِّياحَ هنا؛ إشارةً إلى باهرِ القُدرةِ؛ فإنَّ تحويلَ الرِّيحِ الواحدةِ مِن جهةٍ إلى أخرى أمرٌ عظيمٌ، لا قُدرةَ لغيرِه عليه في الفضاءِ الواسِعِ، وكذا إسكانُه، فكيف إذا كانت رياحٌ مُعاكِسةٌ؟ ففي إثارتِها كذلك ثمَّ إسكانِها مِن باهِرِ القُدرةِ ما لا يَعلَمُه إلَّا أُولو البصائرِ [631] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/113). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إثباتُ العِلَلِ والحِكَمِ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لِقَولِه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؛ لأنَّها للتعليلِ [632] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 295). .
3- قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا تنبيهًا على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمُ النَّبيِّينَ، بتَخصيصِ إرسالِ غَيرِه بما قبْلَ زَمانِه [633] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/174). .
4- في قَولِه تعالى: رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ أنَّ الرِّسالاتِ السَّابقةَ خاصَّةٌ، ويُبيِّنُه الحديثُ الثَّابِتُ في الصَّحيحَينِ: ((وكان النَّبيُّ يُبعثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عامَّةً [634] أخرجه مطولًا البخاري (335) واللفظ له، ومسلم (521) من حديث جابرِ بنِ عبدِ الله رَضيَ الله عنهما. ) [635] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 301). .
5- في قوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ جعَلَ عزَّ وجَلَّ على نفْسِه حقًّا لعِبادِه المؤمنينَ، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ، وفي الصَّحيحَينِ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال لِمُعاذِ بنِ جبَلٍ وهو رَديفُه: يا مُعاذُ، أتَدْري ما حقُّ الله على عِبادِه؟ قُلْتُ: الله ورسولُه أعلَمُ، قال: حقُّه عليهم أن يَعبُدوه، ولا يُشرِكوا به شيئًا. أتَدري ما حقُّ العِبادِ على الله إذا فعَلوا ذلك؟ قلتُ: الله ورسولُه أعلَمُ. قال: حقُّهم عليه ألَّا يُعَذِّبَهم )) [636] أخرجه البخاري (2856، 5967)، ومسلم (30) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. . فهذا حقٌّ وجَبَ بكَلِماتِه التَّامَّةِ، ووعْدِه الصَّادِقِ، وقد اتَّفَقَ العلماءُ على وُجوبِ ما يجِبُ بوَعْدِه الصَّادِقِ [637] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/309، 310). .
6- في قَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ قال: يُرْسِلُ فَتُثِيرُ فأضاف الإثارةَ إلى السَّحابِ؛ لأنَّها سَبَبُ هذه الإثارةِ، فتُثيرُ سَحابًا فيَبسُطُه في السَّماءِ كيف يشاءُ؛ فلا بأسَ بإضافةِ الشَّيءِ إلى سَبَبِه مع اعتِقادِ أنَّه سَبَبٌ محضٌ، وأنَّ خالِقَ السَّبَبِ هو اللهُ عزَّ وجَلَّ [638] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/123). .
7- في قَولِه تعالى: فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ أنَّ السَّماءَ تُطلَقُ على كُلِّ ما علا؛ فإنَّ السَّحابَ لا يُبسَطُ في السَّماءِ التي هي السَّقفُ المحفوظُ، وإنَّما يُبسَطُ في الجوِّ العالي [639] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 315). .
8- في قوله تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ دليلٌ على جواز التَّأكيدِ في القرآن وزيادةِ البيان -على القولِ بأنَّ مِنْ قَبْلِ للتأكيدِ-، وهو رَدٌّ على مَن قال: «ليس ذلك في القرآن» [640] يُنظر: ((النُّكَت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/621). !
9- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا دَلالةٌ على أنَّ الجَمادَ يُوصَفُ بالحياةِ والموتِ؛ ففيه رَدٌّ على الفلاسِفةِ الَّذين يقولونَ: «إنَّ الجَمادَ لا يمكِنُ أن يُوصَفُ بالحياةِ والموتِ؛ لأنَّه غيرُ قابلٍ لها»، فنقولُ: إنَّ اللهَ وَصَفَ الجمادَ بأنَّه حَيٌّ ومَيِّتٌ كما في هذه الآيةِ، وكما في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 20، 21] مع أنَّها أصنامٌ مِن الأحجارِ والأشجارِ وما أشبَهَها [641] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 325). .
10- في قَولِه تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ بيانُ أنَّ مُجَرَّدَ دُعائِك وتبليغِك وحِرصِك على هُدى النَّاسِ: ليس بموجِبٍ ذلك، وإنَّما يَحصُلُ ذلك إذا شاء اللهُ هُداهم فشَرَح صدورَهم للإسلامِ، كما قال تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [642] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/591). [النحل: 37].
11- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَمَّا نفى إسماعَ الميِّتِ والأصَمِّ، وأثبت إسماعَ المؤمِنِ بآياتِه؛ لزِمَ أن يكونَ المؤمِنُ حَيًّا سَميعًا، وهو كذلك؛ لأنَّ المؤمِنَ تَرِدُ على قَلبِه أمطارُ البراهينِ، فتَنبُتُ في قَلبِه العقائِدُ الحَقَّةُ، ويَسمَعُ زواجِرَ الوَعظِ، فتَظهَرُ منه الأفعالُ الحَسَنةُ [643] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/111). .
12- قولُه: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ سُمُّوا عُمْيًا؛ إمَّا لعَمَى قُلوبِهم، أو لِفَقْدِهم المقصودَ الحَقيقيَّ مِن الإبصارِ [644] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/65). . فإنَّه يُقالُ لكلِّ صحيحِ البصَرِ ولا يُعمِلُ بصَرَه: أعمى، وإنَّما يُرادُ به: أنَّه قد حلَّ محلَّ مَن لا يُبصِرُ الْبَتَّةَ، إذا لم يُعمِلْ بصَرَه، وكذلك يُقالُ للسَّميعِ الَّذي لا يَقْبَلُ: أصَمُّ، قال الله جلَّ ذِكرُه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] ، كما قال جل ثناؤه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ، وكذلك: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل: 80] ، وقوله عز وجل: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [645] يُنظر: ((الكامل في اللغة والأدب)) للمبرد (2/115). [البقرة: 171] .
13- قَولُ الله تعالى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أشار بالإفرادِ في الشَّرطِ إلى أنَّ لَفتَ الواحِدِ عن رأيِه أقرَبُ مِن لَفتِه وهو مع غيرِه، وأشار بالجَمعِ في الجزاءِ إلى أنَّ هذه الطَّريقةَ إن سُلِكَت كثُرَ التَّابعُ، فقال: فَهُمْ مُسْلِمُونَ [646] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/127). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَوْدٌ إلى تَعدادِ الآياتِ الدَّالَّةِ على تفرُّدِه بالإلهيَّةِ؛ فهو عَطْفٌ على جُملةِ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: 25] ، وما تَخلَّلَ بيْنَهما مِن أفانينِ الاستِدلالِ على الوَحدانيَّةِ والبعثِ ومِن طرائقِ الموعظةِ، كان لِتَطْريةِ نَشاطِ السَّامعينَ لهذه الدَّلائلِ المُوضِّحةِ المُبيِّنةِ [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/118). .
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ليس تَبشيرُها مُقتَصَرًا به على المطَرِ، بلْ لها تبْشيراتٌ بسبَبِ السُّفنِ والسَّيرِ بها إلى مَقاصدِ أهْلِها؛ وكأنَّه بدَأَ أوَّلًا بشَيءٍ عامٍّ، وهو التَّبشيرُ، ثمَّ ذكَرَ مِن أعظَمِ تَباشيرِها إذاقةَ الرَّحمةِ، وهي نُزولُ المطَرِ، ويَتبَعُه حُصولُ الخِصْبِ، والرِّيحِ الذي معه الهُبوبُ، وإزالةِ العُفونةِ مِن الهواءِ، وتَذْريةِ الحُبوبِ، وغيرِ ذلك [648] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/398). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وقال في سُورةِ (الجاثيةِ): اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [الجاثية: 12] ، فزادَ: فِيهِ في سُورةِ (الجاثيةِ)، وترَكَها في سُورةِ (الرُّومِ)؛ وذلك لأنَّ الهاءَ في قولِه: ? عائدةٌ إلى البحرِ، وقد ذُكِرَ في سُورةِ (الجاثيةِ)، فعاد إليه الضَّميرُ، وهو قولُه: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [الجاثية: 12] ، ولم يَتقدَّمْ للبحرِ ذِكْرٌ في الآيةِ التي ذكَرَ فيها جَرْيَ الفُلكِ في سُورةِ (الرُّومِ)، وإنَّما نبَّهَ على النِّعمةِ بالرِّياحِ وإظهارِ آياتِه فيها، فقال: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم: 46] ، أي: باجتِلابِ السَّحابِ واعتِصارِه للأمطارِ، وهو الذي يُذِيقُنا مِن رَحمتِه، مع ما تُلقَّحُ منه الأشجارُ في وقْتِه، وقال: وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أي: بالرِّياحِ إذا أذِنَ اللهُ تعالى [649] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1054، 1055)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 203)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/401)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/369)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 444). .
- قولُه: وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ التَّقييدُ بقولِه: بِأَمْرِهِ تَعليمٌ للمؤمنينَ وتَحقيقٌ للمِنَّةِ، أي: لولا تَقديرُ اللهِ ذلك وجعْلُه أسبابَ حُصولِه؛ لَمَا جَرَتِ الفُلْكُ، وتحتَ هذا مَعانٍ كثيرةٌ يَجمَعُها إلهامُ اللهِ البشرَ لِصُنْعِ الفُلْكِ، وتَهذيبِ أسبابِ سَيْرِها. وخلَقَ نِظامَ الرِّيحِ والبحرِ؛ لِتَسخيرِ سَيرِها، كما دلَّ على ذلك قولُه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [650] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/119). .
- وإنَّما زاد بِأَمْرِهِ؛ لأنَّ الرِّيحَ قد تهُبُّ ولا تكونُ مُوافِقةً، فلا بُدَّ مِن إرساءِ السُّفنِ، والاحتيالِ لِحبْسِها، وربَّما عصَفَت فأغْرَقَتْها [651] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/484). .
2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ لعلَّ توسيطَ هذه الآيةِ الكريمةِ بطَريقِ الاعتراضِ بيْنَ ما سبَقَ وما لَحِقَ مِن أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها؛ لإنذارِ الكَفَرةِ وتَحْذيرِهم عن الإخلالِ بمَواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوَن)، بمُقابَلةِ النِّعمِ المَعدودةِ المَنُوطةِ بإرسالِها؛ كيْلَا يحُلَّ بهم مِثْلُ ما حَلَّ بأولئك الأُمَمِ مِن الانتقامِ [652] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/119). . فجاءتْ هذه الآيةُ تأْنيسًا للرَّسولِ وتَسليةً، ووعْدًا بالنَّصرِ، ووَعيدًا لأهْلِ الكُفْرِ [653] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/398). .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم: 47] ، وقولِه السابقِ في هذه السُّورةِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم: 9] : إنْ قِيل: لِمَ لمْ يَرِدْ ذِكْرُ أخْذِهم بالانتقامِ منهم لَمَّا أجْرَموا مُتَّصِلًا بالتَّذكيرِ بالاعتبارِ بهم، وكان يَحصُلُ ذلك كلُّه في كلامٍ مُتَّصلٍ بعضُه ببَعضٍ؟ ولِمَ وقَعَ ذِكْرُ أخْذِهم بالانتقامِ منهم لمَّا كذَّبوا مُتأخِّرًا عن الواردِ مِن حالِهم أوَّلًا التي أُمِرَ هؤلاء ونُهُوا عن الاعتبارِ بها؟
فالجوابُ: جَرى ذلك على المُعتادِ منه سُبحانه في دُعاءِ الخلْقِ إلى الإيمانِ مِن التَّلطُّفِ والرِّفقِ في الدُّعاءِ، وهذا في القرآنِ كثيرٌ، فلمَّا أُمِرَ هؤلاء وذُكِّروا بالاعتبارِ بمَن تقدَّمَ مِن القُرونِ، ولم يَتقدَّمْ قبْلَ الآيةِ إلَّا التَّلطُّفُ والتَّأنيسُ؛ لم يكُنْ لِيُناسِبَ ذلك مِن أخْذِ المُكذِّبين إلَّا ما يكونُ إيماءً وإشارةً لا إفصاحًا؛ فلذلك اكْتَفى أوَّلًا مِن الإشارةِ إلى أخْذِهم بقولِه سُبحانه: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ [الروم: 9] ، وترَكَ الإفصاحَ بالانتقامِ إلى أنْ ورَدَ إخبارًا منه سُبحانَه لِنَبيِّه -عليه السَّلامُ- في غيرِ مَعرضِ الدُّعاءِ إلى الإيمانِ، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم: 47] ، وحصَلَ التَّعريفُ بغايةِ حالِ المَذْكورين قبْلُ في تَكذيبِهم؛ فهذا مُوجِبُ تَفريقِ هذا الإخبارِ [654] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/395). .
- وقد اختصَرَ طريقَ الإفصاحِ عن غرَضِ الوعْدِ بالنَّصرِ والوعيدِ له؛ فأدرَجَ تحتَ ذِكْرِ النَّصرِ معنى الانتِصارِ، وأدْرَجَ ذِكْرَ الفريقينِ: فريقِ المُصدِّقين المَوعودِ، وفريقِ المُكذِّبين المُتوعَّدِ، وقد أُخلِيَ الكلامُ أوَّلًا عن ذِكْرِهما. وفي هذا تَبشيرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ بالنَّصرِ في العاقبةِ على المُكذِّبين، وأكَّدَ ذلك بقولِه: حَقًّا [655] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/484)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/120). .
- والفاءُ في قولِه: فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فَصيحةٌ، أي: فكذَّبُوهم فانْتَقمْنا منهم، وإنَّما وُضِعَ ضَميرُهم الموصولُ؛ للتَّنبيهِ على مكانِ المَحذوفِ، والإشعارِ بكَونِه عِلَّةً للانتقامِ [656] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/398)، ((تفسير أبي السعود)) (7/64). .
- قولُه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ في لفْظِ حَقًّا مُبالَغةٌ في التَّحتُّمِ، وتعْظيمٌ للمؤمنينَ، ورفْعٌ مِن شأْنِهم، وتأْهيلٌ لكَرامةٍ سَنيَّةٍ، وإظهارٌ لفضْلِ سابقةٍ ومَزِيَّةٍ؛ حيث جعَلَهم مُستَحقِّينَ على اللهِ أنْ يَنصُرَهم، مُستوجِبينَ عليه أنْ يُظهِرَهم ويُظفِرَهم [657] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/484)، ((تفسير البيضاوي)) (4/209)، ((تفسير أبي حيان)) (8/398)، ((تفسير أبي السعود)) (7/64). .
- والظَّاهرُ أنَّ حَقًّا خبَرُ (كان)، ونَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ الاسمُ، وأُخِّرَ لكونِ ما تعلَّقَ به فاصلةً؛ للاهتمامِ بالجزاءِ؛ إذ هو مَحطُّ الفائدةِ [658] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/398). .
- ومَوقِعُ قولِه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ مَوقِعُ التَّوكيدِ والتَّذييلِ والتَّعليلِ مِن قولِه: فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا؛ لأنَّ المعنى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فكذَّبوهم واسْتَهزؤوا بهم وقَصَدوا الفتْكَ بهم، فَانْتَقَمْنَا منهم ونصَرْنا المؤمنينَ، وقد جرَتْ سُنَّةُ اللهِ بالانتقامِ والنَّصرِ [659] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/265). .
3- قَولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ ما أُجْمِلَ فيما سبَقَ مِن أحوالِ الرِّياحِ [660] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/64). .
- وقد جاءتِ المُناسَبةُ هنا لذِكْرِ الاستِدلالِ بإرسالِ الرِّياحِ في قولِه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم: 46] ؛ استِدلالًا على التَّفرُّدِ بالتَّصرُّفِ، وتَصويرِ الصُّنْعِ الحكيمِ الدَّالِّ على سَعةِ العِلْمِ، ثمَّ أعقَبَ بالاستدلالِ بإرسالِ الرِّياحِ؛ توسُّلًا إلى ذِكْرِ إحياءِ الأرضِ بعدَ مَوتِها المُستدَلِّ به على البَعثِ؛ فقد أفادَتْ صِيغَةُ الحصْرِ بقولِه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ أنَّه هو المُتصرِّفُ في هذا الشَّأنِ العَجيبِ دونَ غيرِه، وكَفى بهذا إبطالًا لِإلَهِيَّةِ الأصنامِ؛ لأنَّها لا تَستطيعُ مِثْلَ هذا الصُّنعِ الذي هو أقرَبُ التَّصرُّفاتِ في شُؤونِ نفْعِ البشَرِ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/120). .
- وفي قولِه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ جمَعَ الرِّياحَ؛ لِمَا شاع في استعمالِهم مِن إطلاقِها بصِيغَةِ الجمْعِ على رِيحِ البِشارةِ بالمطَرِ؛ لأنَّ الرِّياحَ التي تُثِيرُ السِّحابَ هي الرِّياحُ المُختلفةُ جِهاتُ هُبوبِها بين: جَنوبٍ، وشِمالٍ، وصَبًا ودَبورٍ، بخلافِ اسمِ الرِّيحِ المُفرَدةِ؛ فإنَّه غلَبَ في الاستعمالِ إطلاقُه على رِيحِ القوَّةِ والشِّدَّةِ؛ لأنَّها تتَّصِلُ واردةً مِن صَوبٍ واحدٍ، فلا تَزالُ تَشتَدُّ [662] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/121). .
- والتَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارعِ في يُرْسِلَ وفَتُثِيرُ وفَيَبْسُطُهُ وَيَجْعَلُهُ؛ لاستحضارِ الصُّورِ العجيبةِ في تلك التَّصرُّفاتِ، حتَّى كأنَّ السَّامعَ يُشاهِدُ تَكوينَها، مع الدَّلالةِ على تَجدُّدِ ذلك [663] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/120، 121). .
- وذِكْرُ اختلافِ أحوالِ العِبادِ في وقْتِ نُزولِ المطَرِ، وفي وقْتِ انحِباسِه بيْن استبشارٍ وإبلاسٍ في قولِه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ: إدْماجٌ [664] تقدم تعريفه (ص: 60). للتَّذكيرِ برَحمةِ اللهِ إيَّاهم، وللاعتبارِ باختلافِ تأثُّراتِ نُفوسِهم في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، وفي ذلك إيماءٌ إلى عظيمِ تَصرُّفِ اللهِ في خِلْقةِ الإنسانِ؛ إذ جعَلَهُ قابلًا لاختلافِ الانفعالِ مع اتِّحادِ العقْلِ والقلْبِ، كما جعَلَ السَّحابَ مُختلفَ الانفعالِ مِن بسْطٍ وتقطُّعٍ مع اتِّحادِ الفِعلِ، وهو خُروجُ الودْقِ مِن خِلالِه [665] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/122). .
4- قَولُه تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
- قولُه: مِنْ قَبْلِهِ مِن بابِ التَّكريرِ والتَّوكيدِ وتَقريرِه في نُفوسِ السَّامعينَ -على قولٍ-؛ وهذا التَّأكيدُ قِيل: إنَّه قد أفادَ الإعلامَ بسُرعةِ تقلُّبِ قُلوبِ البشَرِ مِن الإبلاسِ إلى الاستبشارِ؛ فإعادةُ قولِه: مِنْ قَبْلِهِ زِيادةُ تَنْبيهٍ على الحالةِ التي كانت مِن قبْلِ نُزولِ المطَرِ. وقِيل: فيه الدَّلالةُ على أنَّ عَهْدَهم بالمطَرِ قد تطاوَلَ، فاسْتَحْكَم إبلاسُهم، فكان الاستبشارُ على قدْرِ اغتمامِهم؛ ففائدةُ إعادةِ مِنْ قَبْلِهِ أنَّ مدَّةَ ما قبْلَ نُزولِ المطَرِ مُدَّةٌ طويلةٌ، فأُشِيرَ إلى قوَّتِها بالتَّوكيدِ [666] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/485)، ((تفسير ابن عطية)) (3/342)، ((تفسير البيضاوي)) (4/209)، ((تفسير أبي حيان)) (8/399)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 444)، ((تفسير أبي السعود)) (7/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/122، 123). . وقيل: ليس مِن التكرار [667] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/278). وقد تقدَّم ذكرُ توجيهِه لذلك تحتَ تفسيرِ الآيةِ. .
- وأخَّرَ الإبلاسَ عن الاستبشارِ، وأبْرَزَه في صُورةِ الشَّرطيَّةِ؛ إرادةً للمُبالَغةِ، وتثْنيةً للتَّقريعِ؛ إذ لو أُرِيدَ الظَّاهرُ لَقِيلَ: فإذا أصابَ به القانِطينَ فَعَلوا كذا، كقولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: 28] ، ولذلك قطَعَ ما هو مُتَّصِلٌ بأصلِ الكلامِ مِن قولِه: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وعلَّقَ به نوعًا آخرَ مِن التَّوبيخِ؛ إشعارًا بتَعديدِ النِّعَمِ، وتَكريرِ تَلقِّيهم إيَّاها بالكُفْرانِ؛ ألَا ترَى كيف عقَّبَ ذلك بقولِه: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم: 52] الآيةَ [668] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/269). ؟
5- قَولُه تعالى: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- الفاءُ في قولِه: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ للدَّلالةِ على سُرعةِ ترتُّبِ النِّعَمِ المُترتِّبةِ على تَنزيلِ المَطرِ؛ مِن النَّباتِ، والأشجارِ، وأنواعِ الثِّمارِ [669] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/64). .
- والمُرادُ بالأمْرِ بالنَّظرِ التَّنبيهُ على عِظَمِ قُدرتِه تعالى وسَعَةِ رَحمتِه، مع ما فيه مِن التَّمهيدِ لِمَا يَعقُبُه مِنْ أمْرِ البعثِ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/65). .
- وفي قوله: فَانْظُرْ جاء الخِطابُ بالنَّظرِ لغَيرِ مُعيَّنٍ؛ ليَعُمَّ كلَّ مَن يتأتَّى منه النَّظرُ [671] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/123). .
- قولُه: كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا يُحْيِي حِكايةُ حالٍ ماضيةٍ؛ بدَليلِ قولِه: فَانْظُرْ؛ لأنَّ الأمْرَ بالنَّظرِ مَسبوقٌ بوُجودِ المَنظورِ إليه، وإنَّما عُدِلَ إلى المُضارعِ؛ لإحضارِ تِلك الحالةِ العجيبةِ الشَّأْنِ في مُشاهَدةِ السَّامعِ، وهي اخضرارُ الأرضِ بآثارِ رَحمةِ اللهِ بعدَ جَفافِها [672] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/266). .
- وعبَّرَ عن الجَفافِ بالموتِ؛ لأنَّ قِوامَ الحياةِ الرُّطوبةُ، وعُبِّرَ عن ضِدِّه بالإحياءِ [673] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/123). .
- وجُملةُ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى استِئنافٌ، وهو إدْماجٌ؛ أدْمَجَ دليلَ البعثِ عقِبَ الاعتبارِ بإحياءِ الأرضِ بعدَ مَوتِها. وحرْفُ التَّوكيدِ يُفِيدُ مع تَقريرِ الخبرِ زِيادةَ معنَى فاءِ التَّسبُّبِ [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/123، 124). .
- واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ عائدٌ إلى اسمِ اللهِ تعالى بما أُجْرِيَ عليه مِن الإخبارِ بإحياءِ الأرضِ بعدَ مَوتِها؛ لِيُفِيدَ اسمُ الإشارةِ معنَى أنَّه جديرٌ بما يَرِدُ بعْدَه مِن الخبَرِ عن المُشارِ إليه، وعُدِلَ عن الموصولِ إلى الإشارةِ؛ للإيجازِ، ولِمَا في الإشارةِ مِن التَّعظيمِ [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/124). .
- قولُه: إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى لَمَّا كان وعْدُ اللهِ مَقطوعَ الحُصولِ، جِيءَ في التَّنزيلِ لَمُحْيِي اسمًا مع اللَّامِ خبرًا لـ (إنَّ)، واسْمُه اسمُ الإشارةِ، وذُيِّلَت بقولِه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [676] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/267). .
- وقولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْييلٌ؛ فإنَّه يعُمُّ جميعَ الأشياءِ، والبعثُ مِن جُملتِها؛ إذ ليس هو إلَّا إيجادَ خَلْقٍ، وهو مَقدورٌ للهِ تعالى، كما أنشَأَ الخلْقَ أوَّلَ مرَّةٍ، والشَّبَهُ تامٌّ؛ لأنَّ إحياءَ الأرضِ إيجادُ أمثالِ ما كان عليها مِن النَّباتِ، فكذلك إحياءُ الموتَى إيجادُ أمثالِهم [677] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/65)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/124). .
6- قَولُه تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ سِيقَت هذه الجُملةُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الكُفرانَ مَطْبوعٌ في نُفوسِهم، بحيث يُعاوِدُهم بأدْنى سبَبٍ؛ فهمْ إذا أصابَتْهم النِّعمةُ اسْتَبْشروا ولم يَشكُروا، وإذا أصابَتْهم البأْساءُ أسْرَعوا إلى الكُفرانِ؛ فصوَّرَ لِكُفْرِهم أعجَبَ صُورةٍ؛ وهي إظهارُهم إيَّاهُ بحِدْثانِ ما كانوا مُسْتبشرينَ منه؛ إذ يكونُ الزَّرعُ أخضَرَ، والأملُ في الارتزاقِ منه قريبًا، فيُصِيبُه إعصارٌ، فيَحترِقُ، فيَضِجُّون مِن ذلك، وتكونُ حالُهم حالةَ مَن يَكفُرُ باللهِ، وتَجْري على أقوالِهم عباراتُ السَّخَطِ والقُنوطِ [678] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/124، 125). ؛ فهذه الآيةُ ناعيةٌ على الكفَّارِ بقِلَّةِ تَثبُّتِهم وعدَمِ تَدبُّرِهم، وسُرعةِ تَزَلْزُلِهم؛ لِعدَمِ تفكُّرِهم وسُوءِ رأْيِهم؛ فإنَّ النَّظرَ السَّوِيَّ يَقْتضي أنْ يَتوكَّلوا على اللهِ، ويَلْتجِئوا إليه بالاستغفارِ إذا احتَبَسَ القَطْرُ عنهم، ولا يَيْئَسوا مِن رَحمتِه، وأنْ يُبادِروا إلى الشُّكرِ والاستدامةِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برَحمتِه، ولم يُفرِطُوا في الاستبشارِ، وأنْ يَصبِروا على بلائِه إذا ضرَبَ زُروعَهم بالاصفِرارِ، ولا يَكْفُروا نِعَمَه [679] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/485، 486)، ((تفسير البيضاوي)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/65). .
- والفاءُ في فَرَأَوْهُ فَصيحةٌ، واللَّامُ في قولِه تعالى: لَظَلُّوا لامُ جوابِ القسَمِ سادٍّ مَسدَّ الجوابينِ، أي: وباللهِ لَئِنْ أرسَلْنا رِيحًا حارَّةً أو باردةً، فضَرَبتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ، فرأَوَه مُصفرًّا لِيَظَلُّنَّ... [680] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/65). .
- و(المُصفَرُّ): اسمُ فاعلٍ مُقتضٍ الوصفَ بمعناهُ في الحالِ، أي: فرأَوهُ يَصِيرُ أصفَرَ، فالتَّعبيرُ بـ مُصْفَرًّا؛ لتَصويرِ حِدْثانِ الاصفرارِ عليه دونَ أنْ يُقالَ: فرأَوهُ أصفَرَ [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/125). .
- والإتيانُ بفِعلِ التَّصييرِ لَظَلُّوا، مع الإخبارِ عنه بالفِعلِ المُضارعِ يَكْفُرُونَ؛ لِتَصويرِ مُبادرتِهم إلى الكفْرِ، ثمَّ استمرارِهم عليه، واعْلَمْ أنَّ الإتيانَ بالأفعالِ الثَّلاثةِ ماضيةٌ؛ لأنَّ وُقوعَها في سِياقِ الشَّرطِ يُمحِّضُها للاستقبالِ، فأُوثِرَت صِيغَةُ المُضِيِّ؛ لأنَّها أخفُّ [682] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/125). .
وقيل: عبَّرَ بالماضي مَوضِعَ المُستقبَلِ نحوَ: (لَيظلَلْنَ واللهِ)؛ تأكيدًا لتحقيقِه [683] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/123). .
- فإنْ قِيل: مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُوضَعَ مَوضِعَ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (لم يَحْمَدوا)، ومَوضِعَ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (لَضَجُّوا وجَزِعوا).
فالجوابُ: إنَّما عدَلَ في الأوَّلِ؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ الفرَحَ المُفرِطَ بطَرٌ وأشَرٌ، وليس ذلك مِن شأْنِ الشَّاكرِ الحامِدِ، بلْ مِن دَيْدَنِ الكافرِ، وأشعَرَ بالثَّاني أنَّ فُقدانَ الصَّبرِ عندَ نُزولِ البلاءِ دَليلٌ على عدَمِ الرِّضا بالقضاءِ، وهو إخراجٌ لِرِبْقةِ العُبوديَّةِ [684] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/269). .
7- قَولُه تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
- قولُه: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الفاءُ للتَّرتيبِ على قولِه: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [الروم: 51] المُفِيدِ أنَّ الكفْرَ غالبُ أحوالِهم؛ لأنَّهم بيْن كُفْرٍ باللهِ وبيْن إعراضٍ عن شُكْرِه. أو الفاءُ فَصيحةٌ تَدلُّ على كلامٍ مُقدَّرٍ، أي: إنْ كَبُرَ عليك إعراضُهم، وساءَكَ استِرسالُهم على الكُفْرِ؛ فإنَّهم كالمَوتى، وإنَّك لا تُسمِعُ المَوتى. وهذا مَعذِرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونِداءٌ على أنَّه بذَلَ الجهْدَ في التَّبليغِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/125، 126). .
- وتقْييدُ الحُكْمِ المَذكورِ بقولِه: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛ لِبَيانِ كَمالِ سُوءِ حالِ الكَفَرةِ، والتَّنبيهِ على أنَّهم جامِعُون لِخَصْلتَيِ السُّوءِ: نُبُوِّ أسْماعِهم عن الحقِّ، وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ، ولو كانَ فيهم إحداهُما لَكفاهُم ذلك، فكيفَ وقدْ جمَعُوهما؟! فإنَّ الأصمَّ المُقبِلَ إلى المُتكلِّمِ ربَّما يَفطُنُ مِن أوضاعِه وحرَكاتِه لشَيءٍ مِن كلامِه وإنْ لم يَسْمَعْهُ أصلًا، وأمَّا إذا كانَ مُعرِضًا عنه، فلا يَكادُ يَفهَمُ منه شيئًا [686] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/65). .
8- قَولُه تعالى: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
- ومِن المُناسَبةِ الحَسنةِ في قولِه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ وقولِه: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ: أنَّ تَعدادَ التَّشابيهِ في هذه الآياتِ مَنظورٌ فيه إلى اختلافِ أحوالِ طوائفِ المُشرِكين، فكان لكلِّ فريقٍ تَشبيهٌ: فمنْهم مَن غلَبَ عليهم التَّوغُّلُ في الشِّركِ، فلا يُصدِّقون بما يُخالِفُه، ولا يَتأثَّرون بالقرآنِ، والدَّعوةِ إلى الحقِّ، فهؤلاء بمَنزلةِ الأمواتِ؛ أشباحٌ بلا إدراكٍ، وهؤلاء همْ دَهْماؤهم وأغلَبُهم، ولذلك ابتُدِئَ بهم. ومِنهم مَن يُعرِضُ عن استماعِ القرآنِ، وهم الذين يَقولون: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، ويقولون: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] ، وهؤلاء همْ ساداتُهم ومُدبِّرو أمْرِهم؛ يَخافون إنْ أصْغَوا إلى القرآنِ أنْ يَملِكَ مَشاعِرَهم؛ فلذلك يَتباعَدون عن سَماعِه؛ ولهذا قُيِّدَ الذي شُبِّهوا به بوقْتِ تَولِّيهم مُدْبِرين إعراضًا عن الدَّعوةِ؛ فهو تَشبيهُ تَمثيلٍ. ومنهم مَن سَلَكوا مَسلَكَ ساداتِهم، واقْتَفَوا خُطاهم، فانحرَفَتْ أفْهامُهم عن الصَّوابِ، فهمْ يسْمَعون القرآنَ، ولا يَسْتطيعون العمَلَ به، وهؤلاء همُ الذين اعْتادُوا مُتابَعةَ أهوائِهم، وهمُ الذين قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، ويَحصُلُ مِن جميعِ ذلك تشْبيهُ جَماعتِهم بجماعةٍ تَجمَعُ أمواتًا وصُمًّا وعُمْيًا، فليس هذا مَن تَعدُّدِ التشبيهِ لِمُشبَّهٍ واحدٍ، كالذي في قولِه تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [687] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/126). [البقرة: 19] .