موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (12-15)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْفُلْكُ: أي: السُّفُنُ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (فلك): يدُلُّ على استِدارةٍ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيتْ فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [129] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
وَسَخَّرَ: أي: ذلَّلَ، والتَّسخيرُ: سياقةٌ إلى الغرضِ المختصِّ قهرًا، وأصلُ (سخر) هنا: يدُلُّ على استِذْلالٍ [130] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 224)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/144)، ((المفردات)) للراغب (ص: 402) .
أَيَّامَ اللَّهِ: أي: وقائِعَ اللهِ بأعدائِه، مِن قَولِهم لوقائِعِ العَرَبِ: أيَّامُ العَرَبِ. أو ثَوابَ اللهِ وعِقابَه [131] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 230)، ((تفسير ابن جرير)) (13/594)، ((تفسير الزمخشري)) (4/288). ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 351)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 983). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
يَغْفِرُوا: فِعلٌ مُضارِعٌ مَجزومٌ، وفي سَبَبِ جَزْمِه أوجُهٍ؛
أحَدُها: أنَّه واقِعٌ في جَوابِ الأمرِ قُلْ.
الثَّاني: أنَّه واقِعٌ في جوابِ شَرطٍ مُقَدَّرٍ بعدَ قُلْ، أي: إنْ تَقُلْ لهم اغْفِروا يَغْفِروا.
الثَّالِثُ: أنَّه مجزومٌ بلامِ أمرٍ مَحذوفةٍ، تقديرُه: لِيَغفِروا، فحُذِفَتْ وبَقِيَ عَمَلُها [132] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/45)، ((معانى القرآن)) للأخفش (1/82)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/95)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/661)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/104-106)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/339). .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن النِّعمِ الَّتي أنعَم بها على خَلقِه، فيقول: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي ذَلَّل لكم -أيُّها النَّاسُ- البَحرَ؛ لِتَسيرَ فيه السُّفُنُ بأمْرِه سُبحانَه، ولِتَطلُبوا مَعايشَكم وأرزاقَكم مِن خِلالِه، ولَعَلَّكم تَشكُرونَ اللهَ على نِعَمِه، وذلَّل اللهُ لكم ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ؛ لِمَنافِعِكم، وكُلُّ ذلك مِنه وَحْدَه سُبحانَه، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ واضِحاتٍ لِقَومٍ يَتفَكَّرونَ.
ثمَّ يأمُرُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَحُضَّ المؤمنينَ على التَّجاوُزِ والصَّفحِ عن المشركينَ الَّذين يُؤذونَهم حتَّى يأتيَ اللهُ بأمرِه، فيقولُ تعالى: قُلْ -يا محمَّدُ- لِلَّذِين آمَنوا يَتجاوَزوا عن أذى الكُفَّارِ الَّذين لا يَرجُونَ ثوابَ الله، ولا يَخافونَ وقائِعَه في العاصِينَ، ويَصبِروا على أذاهم؛ لِيَجزيَ اللهُ أعداءَهم بما كَسَبوه مِن آثامٍ، فيُعَذِّبَهم.
ثمَّ يُؤكِّدُ اللهُ تعالى على عدالةِ الجزاءِ، فيقولُ: مَن عَمِلَ في الدُّنيا بطاعةِ اللهِ، فنَفْعُ ذلك له، ومَن عَمِلَ بالكُفرِ والمعاصي فضَرَرُ ذلك على نَفْسِه لا على غَيرِه، ثمَّ إلى رَبِّكم تُرجَعونَ -أيُّها النَّاسُ- فيُجازيكم على أعمالِكم؛ خَيرِها وشَرِّها.

تَفسيرُ الآياتِ:

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه وتعالى صِفةَ الرُّبوبيَّةِ؛ ذكَرَ بَعضَ آثارِها وما فيها مِن آياتِه [133] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/74، 75). .
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ.
أي: اللهُ هو الَّذي ذَلَّل لكم البَحرَ -أيُّها النَّاسُ-؛ لِتَسيرَ فيه السُّفُنُ بأمْرِه وإذْنِه وتَيسيرِه [134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/78)، ((تفسير ابن كثير)) (7/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/75)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). .
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ولِتَطلُبوا مَعايشَكم وأرزاقَكم الَّتي هي مِن فَضلِ الله تعالى عليكم؛ كنَقلِ البَضائِعِ، وصَيدِ الأسماكِ، وغيرِ ذلك [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/78)، ((تفسير ابن عطية)) (5/82)، ((تفسير ابن كثير)) (7/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). قال ابنُ عطية: (الابتِغاءُ مِن فَضلِ الله: هو بالتِّجارةِ في الأغلَبِ، وكذلك مقاصِدُ البَرِّ مِن حَجٍّ أو جهادٍ هي أيضًا ابتغاءُ فَضلٍ، والتَّصَيُّدُ فيه هو ابتغاءُ فَضلٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/82). .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: ولعَلَّكم تَشكُرونَ اللهَ على نِعَمِه العَظيمةِ الَّتي تَحصُلُ بتَسخيرِه لكم البَحرَ، فتُوَحِّدونَه، وتُطيعونَه فيما أمرَكَم به ونهاكم عنه [136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/78)، ((تفسير البيضاوي)) (5/106)، ((تفسير ابن كثير)) (7/265). .
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى آيةَ البَحرِ لِعَظَمتِها؛ عمَّ بمنافِعِ الخافِقَينِ؛ دَلالةً على أنَّه ما خَلَق ذلك كلَّه على عِظَمِه إلَّا لنا؛ تنبيهًا على أنَّ الأمرَ عَظيمٌ [137] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/76). .
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ.
أي: وذلَّل اللهُ لكم -أيُّها النَّاسُ- ما في السَّمَواتِ مِن شَمسٍ وقَمَرٍ، ونُجومٍ وسَحابٍ، ومَطَرٍ وهواءٍ، وغيرِ ذلك، وما في الأرضِ مِن شَجَرٍ وجِبالٍ، ومِياهٍ ودوابَّ ومَعادِنَ... وغَيرِ ذلك؛ لِمَنافِعِكم، وجميعُ ذلك مِنَ اللهِ وَحْدَه [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/78)، ((تفسير السمرقندي)) (3/277)، ((الوسيط)) للواحدي (4/96)، ((تفسير ابن عطية)) (5/82)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/167)، ((تفسير ابن كثير)) (7/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). !
كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: إنَّ في ذلك الأمرِ العَظيمِ، وهو تَسخيرُه كُلَّ شَيءٍ في الكَونِ لعِبادِه: لَدَلالاتٍ واضِحاتٍ، وعلاماتٍ باهِراتٍ على الحَقِّ لِقَومٍ يَتفَكَّرونَ فيها [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/79)، ((الوسيط)) للواحدي (4/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/337). .
قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا علَّمَ عِبادَه دَلائِلَ التَّوحيدِ والقُدرةِ والحِكمةِ؛ أتْبَعَ ذلك بتَعليمِ الأخلاقِ الفاضِلةِ، والأفعالِ الحَميدةِ [140] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/673). .
وأيضًا فمُناسَبةُ وُقوعِ هذه الآيةِ هنا أنَّ قولَه: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7] إلى قولِه: لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: 11] ، يُثيرُ غضَبَ المُسلِمينَ على المُسْتهزِئينَ بالقُرآنِ، وقد أخَذَ المُسلِمونَ يَعتزُّون بكَثرتِهم؛ فكان ما ذُكِرَ مِن استِهزاءِ المُشرِكينَ بالقُرآنِ، واستِكبارِهم عن سَماعِه، يُتوقَّعُ منْه أنْ يَبطِشَ بَعضُ المُسلِمينَ ببَعضِ المشركينَ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ بدَرَ مِن بَعضِ المسلمينَ غضَبٌ أو تَوعُّدٌ، وأنَّ اللهَ عَلِمَ ذلك مِن بَعضِهم، فأُمِروا بالعفوِ، وأنْ يَكِلوا أمرَ نَصْرِهم إلى الله تعالى [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/338، 339). .
قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- آمِرًا الَّذين آمَنوا باللهِ واتَّبَعوك أن يَعفُوا ويَتجاوَزوا عن أذى الكُفَّارِ الَّذين لا يَرجُونَ ثوابَ الله، ولا يَخافونَ وقائِعَه في العاصِينَ [142] قال ابنُ عطية: (وقَولُه: أَيَّامَ اللَّهِ قالت فِرقةٌ: مَعناه: أيَّامُ إنعامِه ونَصْرِه وتَنعيمِه في الجنَّةِ، وغَيرُ ذلك؛ فـ يَرْجُونَ على هذا هو مِن بابِه. وقال مجاهِدٌ: أيَّامُ اللهِ تعالى هي أيَّامُ نِقَمِه وعَذابِه، فـ يَرْجُونَ على هذا هي الَّتي تتنَزَّلُ مَنزِلةَ يَخافونَ، وإنَّما تنَزَّلَت مَنزِلَتَها مِن حيثُ الرَّجاءُ والخَوفُ مُتلازِمانِ، لا تَجِدُ أحَدَهما إلَّا والآخَرُ معه مُقتَرِنٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/83). ممَّن اختار أنَّ معنى لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ: لا يَخشَونَ عُقوباتِ اللهِ ووقائِعَه ونِقَمَه، مِثلَ عَذابِ الأُمَمِ الخاليةِ: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ الجوزي، وأبو حيَّان، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير ابن جرير)) (21/80)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 989)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/98)، ((تفسير أبي حيان)) (9/417)، ((تفسير القاسمي)) (8/428). قال ابن القيِّم: (الخوفُ مُستلزِمٌ للرَّجاءِ، والرَّجاءُ مُستلزِمٌ للخَوفِ؛ فكلُّ راجٍ خائفٌ، وكلُّ خائفٍ راجٍ؛ ولأجْلِ هذا حَسُنَ وُقوعُ الرَّجاءِ في مَوضِعٍ يَحسُنُ فيه وُقوعُ الخَوفِ... فكلُّ راجٍ خائفٌ مِن فَواتِ مَرْجُوِّه، والخَوفُ بلا رجاءٍ يأسٌ وقُنوطٌ). ((مدارج السالكين)) (2/51). وقال الزمخشري: (لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ: لا يَتوَقَّعونَ وقائِعَ اللهِ بأعدائِه، مِن قَولِهم لوقائِعِ العَرَبِ: أيَّامُ العَرَبِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/288). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/7). وقيل: المرادُ: لا يَطمَعونَ في نَصرِ اللهِ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/262). وقال ابنُ عاشور: (لِلَّذينَ لا تَترَقَّبُ نُفوسُهم أيَّامَ نَصرِ اللهِ، أي: نَصرِ اللهِ لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/340). وقيل: يجوزُ أن يكونَ المعنى: لا يَرجُونَ البَعثَ، أي: لا يُؤمِنونَ به. ذكره النَّحَّاسُ احتِمالًا. يُنظر: ((معاني القرآن)) (6/424). وقيل: المعنى: لا يَرجُونَ ثوابَه. ومِمَّن ذهب إلى هذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/161). وقيل: المعنى: لا يَسألونَ اللهَ نِعَمَه، أي: أنَّهم لا يَعتَرِفونَ بأنَّ النِّعَمَ مِن عندِ الله. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: السَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/138). وذهب السعدي إلى أنَّ المعنى: لا يَرجونَ ثوابَه، ولا يَخافونَ وقائِعَه في العاصِينَ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 776). ، وأنْ يَصبِروا على أذاهم، ولا يُعاقِبوهم [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/80)، ((تفسير ابن عطية)) (5/82)، ((تفسير القرطبي)) (16/161، 162)، ((تفسير ابن كثير)) (7/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/340، 341). وقد نقل ابنُ جريرٍ إجماعَ المفَسِّرينَ على أنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ بأمرِ اللهِ بقِتالِ المُشرِكينَ (على مذهبِه بعدمِ الاعتدادِ بخلافِ الواحدِ والاثنينِ)، ونَسَب ابنُ عطيَّةَ ذلك إلى الجُمهورِ، ونَسَب أيضًا إلى قَومٍ القَولَ بأنَّها مُحكَمةٌ، ولم يُسَمِّهم، وذكَرَه ابنُ الجوزي احتمالًا. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/81)، ((تفسير ابن عطية)) (5/82، 83)، ((نواسخ القرآن)) لابن الجوزي (2/574 - 577). قال الواحدي: (وأجمَعوا أنَّ هذه الآيةَ نَزَلَت قبل أن يُؤمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقِتالِ أهلِ مَكَّةَ، وأنَّها مَنسوخةٌ بآيةِ القِتالِ، إلَّا على ما رواه عَطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ فإنَّ على روايتِه نَزَلت الآيةُ بعدَ الأمرِ بالقِتالِ؛ لأنَّه ذَكَر أنَّ الآيةَ نَزَلَت بعد غَزوةِ بني المُصْطَلِقِ، والصَّحيحُ أنَّها نَزَلت قبْلَ الأمرِ بالقِتالِ. واللهُ أعلَمُ. قال قَتادةُ: نَسَخَتْها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وقال أبو صالحٍ: نَسَخَتْها أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج: 39] الآيةَ). ((البسيط)) (20/139). وقال ابنُ عطية: (والآيةُ تتضَمَّنُ الغُفرانَ عُمومًا؛ فيَنبغي أن يقالَ: إنَّ الأمورَ العِظامَ -كالقَتلِ والكُفرِ مُجاهَرةً، ونحوِ ذلك- قد نَسَخ غُفرانَه آيةُ السَّيفِ، والجِزْيةُ وما أحكَمَه الشَّرعُ لا مَحالةَ، وإنَّ الأُمورَ المُحقَّرةَ -كالجَفاءِ في القَولِ ونَحوِ ذلك- يحتَمِلُ أن تبقَى مُحكَمةً، وأن يكونَ العَفوُ عنها أقرَبَ إلى التَّقْوى). ((تفسير ابن عطية)) (5/82، 83). وقال ابنُ تيميَّة: (مَن كان مِن المؤمِنينَ بأرضٍ هو فيها مُستضعَفٌ، أو في وَقتٍ هو فيه مُستضعَفٌ: فلْيَعمَلْ بآيةِ الصَّبرِ والصَّفحِ عَمَّن يُؤذي اللهَ ورَسولَه مِن الَّذين أُوتوا الكِتابَ والمُشرِكينَ، وأمَّا أهلُ القُوَّةِ فإنَّما يَعمَلونَ بآيةِ قِتالِ أئمَّةِ الكُفرِ الَّذين يَطعنونَ في الدِّينِ، وبآيةِ قِتالِ الَّذين أُوتوا الكتابَ حتَّى يُعطُوا الجِزيةَ عن يَدٍ وهم صاغِرونَ). ((الصارم المسلول)) (ص: 221). وقال البِقاعي: (قال ابنُ بَرَّجَان: وهذه الآيةُ وشِبهُها مِنَ النَّسْيِ المذكورِ في قَولِه تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا [البقرة: 106] ، وليس بنَسخٍ، بل هو حُكمٌ يَجيءُ ويَذهَبُ بحَسَبِ القُدرةِ على الانتِصارِ، وكان يَنزِلُ مِثلُ هذا بمكَّةَ والمسلِمونَ في ضَعفٍ، ونَزَل بعدَ الهِجرةِ آيةُ الِجهادِ والأمرِ بالمعروفِ، وتُرِكَت هذه وأمثالُها مَسطورةً في القرآنِ؛ لِما عسى أن يَدورَ مِن دوائِرِ أيَّامِ اللهِ ومِن أيَّامِه؛ إدالةً لأهلِ الكُفرِ عليهم، وتَنبيهًا للمُسلِمينَ لِيُراجِعوا أمْرَهم، ويُصلِحوا ما بَيْنَهم وبيْنَ رَبِّهم). ((نظم الدرر)) (18/79). .
كما قال تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] .
وعن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه يَعفُونَ عن المُشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ كما أمَرَهم اللهُ، ويَصبِرونَ على الأذى)) [144] رواه البخاري (6207). .
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
أي: إنَّما أُمِرَ المُؤمِنونَ بالمَغفِرةِ لِلَّذِين يُؤذونَهم؛ لِيَجزيَ اللهُ أعداءَهم هؤلاء بما كَسَبوه مِن آثامٍ، فيُعَذِّبَهم [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/80)، ((الوسيط)) للواحدي (4/96، 97)، ((تفسير ابن كثير)) (7/266). ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والواحدي، وابن كثير. يُنظر: المصادر السابقة. قال الواحدي: (كأنَّه قال: لا تُكافِئوهم أنتم؛ لِنُكافِئَهم نحن). ((الوسيط)) (4/97). وقيل: المرادُ بالقَومِ هنا: المؤمِنونَ، أُمِروا بالمَغفرةِ لِيَجزيَهم اللهُ يومَ القيامةِ بما كَسَبوه في الدُّنيا؛ كالصَّبرِ على أذيَّةِ الكُفَّارِ، والإغضاءِ عنهم بكَظمِ الغَيظِ، واحتِمالِ المكروهِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير الزمخشري)) (4/288، 289)، ((تفسير أبي السعود)) (8/70، 71)، ((تفسير الشوكاني)) (5/8). وقيل: سيَجزي كُلَّ قَومٍ بما كانوا يَكسِبونَ؛ فأنتم -يا مَعشَرَ المؤمنينَ- يَجزيكم على إيمانِكم وصَفحِكم وصَبرِكم، ويَجزي أولئك المُشرِكينَ إنِ استمَرُّوا على تكذيبِهم وبَغيِهم. وهذا ظاهِرُ اختيارِ البِقاعي، وذهب إليه السعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/80، 81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا رَغَّب اللهُ سُبحانَه ورهَّب، وتقرَّر أنَّه لا بُدَّ مِن الجزاءِ؛ زاد في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ بأنَّ النَّفعَ والضُّرَّ لا يَعدوهم، فقال شارِحًا للجَزاءِ [146] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/82). :
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ.
أي: مَن عَمِلَ في الدُّنيا بطاعةِ اللهِ، فامتَثَل أوامِرَه، واجتَنَب نواهيَه؛ فنَفْعُ ذلك له [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/83)، ((تفسير السمعاني)) (5/138)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107). .
كما قال تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ [الروم: 44، 45].
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.
أي: ومَن عَمِلَ بالكُفرِ والمعاصي فضَرَرُ ذلك ووَبالُه على نَفْسِه، لا على غَيرِه [148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/83)، ((تفسير السمرقندي)) (3/278)، ((تفسير السمعاني)) (5/138). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23].
وقال سُبحانَه: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] .
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.
أي: ثمَّ إلى رَبِّكم تَصيرونَ -أيُّها النَّاسُ- بعدَ مَوتِكم أحياءً يومَ القيامةِ، فيُجازيكم على أعمالِكم؛ خَيرِها وشَرِّها [149] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/83، 84)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((تفسير الشوكاني)) (5/8). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ هذه آيةُ عِبرةٍ في جَرَيانِ السَّفينةِ في البَحرِ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى سَخَّر هذا المخلوقَ العَظيمَ لهذا المخلوقِ الضَّعيفِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/82). !
2- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ فيه تعليمُ الأخلاقِ الفاضِلةِ، والأفعالِ الحَميدةِ [151] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/673). .
3- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ فيه أعظَمُ تَرغيبٍ في الحَثِّ على الغُفرانِ للمُوافِقِ في الدِّينِ [152] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/79). مِن بابِ أولَى.
4- قَولُ الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا فيه أنَّ العَمَلَ الصَّالحَ يَعودُ بالنَّفعِ العَظيمِ على فاعِلِه، والعَمَلَ الرَّديءَ يَعودُ بالضَّرَرِ على فاعِلِه، وأنَّه تعالى أمَرَ بهذا، ونهَى عن ذلك؛ لحَظِّ العَبدِ، لا لِنَفعٍ يَرجِعُ إليه سُبحانَه، وهذا تَرغيبٌ منه في العَمَلِ الصَّالحِ، وزَجرٌ عن العَمَلِ الباطِلِ [153] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/674). ، فمتى عَلِمْتَ أنَّ عمَلَك لِنَفْسِك فسوف تجتهدُ في هذا [154] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 282). .
5- في قَولِه تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا إخلاصَ فيه فهو ضَرَرٌ على صاحبِه وليس له؛ لأنَّ العَمَلَ الصَّالحَ هو ما جَمَعَ بيْنَ شَرطَينِ: الإخلاصِ، والمُتابَعةِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 282). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ذَكَر سُبحانَه وتعالى الاستِدلالَ بكَيفيَّةِ جَرَيانِ الفُلكِ على وَجهِ البَحرِ، وذلك لا يَحصُلُ إلَّا بسَبَبِ تَسخيرِ ثلاثةِ أشياءَ:
أحَدُها: الرِّياحُ الَّتي تَجري على وَفقِ المرادِ.
وثانيها: خَلقُ وَجهِ الماءِ على الملاسةِ الَّتي تجري عليها الفُلكُ.
وثالثُها: خَلقُ الخَشَبةِ على وَجهٍ تبقى طافيةً على وجهِ الماءِ، ولا تغوصُ فيه.وهذه الأحوالُ الثَّلاثةُ لا يَقدِرُ عليها واحِدٌ مِن البَشَرِ؛ فلا بُدَّ مِن مُوجِدٍ قادِرٍ عليها، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى [156] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/673). .
2- في قَولِه تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ أنَّ الأصلَ في جميعِ الأعيانِ الموجودةِ -على اختِلافِ أصنافِها وتَبايُنِ أوصافِها- أن تكونَ حَلالًا مُطلقًا للآدميِّينَ، وأن تكونَ طاهِرةً لا يَحرُمُ عليهم مُلابَستُها ومُباشَرتُها ومُماسَّتُها. وَجهُ ذلك: أنَّه إذا كان ما في الأرضِ مُسَخَّرًا لنا، جاز استِمتاعُنا به [157] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/536). .
3- في قَولِه تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ أنَّ مَن عمِلَ عمَلًا بِدْعِيًّا فعَمَلُه عليه لا له؛ لأنَّه لا يَدخُلُ في العملِ الصَّالحِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 282). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ مَسوقٌ للاعتِبارِ بتسخيرِ البَحرِ على عَظَمتِه والسُّفنِ الجاريةِ فيه لمخلوقٍ هو أضألُ شيءٍ بالنِّسبةِ لهما؛ للانتِقالِ مِن التَّذكيرِ بما خلَقَ اللهُ مِن العوالِمِ وتَصاريفِ أحْوالِها مِن حيثُ إنَّها دَلالاتٌ على الوَحدانيَّةِ، إلى التَّذكيرِ بما سخَّرَ اللهُ للنَّاسِ مِن المَخْلوقاتِ وتَصاريفِها مِن حيثُ كانتْ مَنافعَ للنَّاسِ تَقْتضي أنْ يَشْكُروا مُقدِّرَها، فجَحَدوا بها؛ إذ تَوجَّهوا بالعِبادةِ إلى غَيرِ المُنعِمِ عليهم؛ ولذلك عُلِّقَ بفِعْلَيْ (سخَّر) في المَوضعَينِ مَجرورٌ بلامِ العِلَّةِ بقولِه: لَكُمُ، على أنَّ هذه التَّصاريفَ آياتٌ أيضًا مِثلُ اخْتِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وما أنْزَلَ اللهُ مِن السَّماءِ مِن ماءٍ، وتَصْريفِ الرِّياحِ، ولكنْ لُوحِظَ هنا ما فيها مِن النِّعَمِ كما لُوحِظَ هنالك ما فيها مِن الدَّلالةِ، والفَطِنُ يَستخلِصُ مِن المَقامينِ كِلا الأمْرينِ على ما يُشْبِهُ الاحْتِباكَ [159] تقدَّم تعريفه (ص: 46). ، ومُناسَبةُ هذا الانتِقالِ واضحةٌ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/335، 336)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/147). .
- قولُه: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ اسمُ الجَلالةِ مُسنَدٌ إليه، والمَوصولُ مُسنَدٌ، وتَعريفُ الجُزأينِ مُفِيدٌ للحصْرِ، وهو قَصْرُ قلْبٍ [161] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). بتَنزيلِ المُشرِكينَ مَنزِلةَ مَن يَحسَبُ أنَّ تَسخيرَ البحْرِ وتَسخيرَ ما في السَّمواتِ والأرضِ إنْعامٌ مِن شُركائِهم؛ فكان هذا القصْرُ إبْطالًا لهذا الزَّعْمِ الَّذي اقْتضاهُ هذا التَّنزيلُ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/336). .
- وقولُه: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بدَلُ اشْتِمالٍ مِن لَكُمُ؛ لأنَّ في قَولِه: لَكُمُ إجمالًا أُرِيدَ تَفْصيلُه؛ فتَعريفُ الفُلْكِ تَعريفُ الجِنسِ، وليس جَرْيُ الفُلكِ في البَحرِ بنِعمةٍ على النَّاسِ إلَّا باعْتِبارِ أنَّهم يُجْرونَها للسَّفرِ في البَحرِ. وعُطِفَ عليه وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ باعتبارِ ما فيه مِن عُمومِ الاشتِمالِ؛ فحصَلَ مِن مَجموعِ ذلك أنَّ تَسْخيرَ البحْرِ لِجَرْيِ الفُلكِ فيه للسَّفرِ؛ لِقَضاءِ مُختلِفِ الحاجاتِ، حتَّى التَّنزُّهِ وزِيارةِ الأهْلِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/336). .
2- قولُه تعالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- قولُه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ اقْتَضاهُ الاهتِمامُ أوَّلًا، ثمَّ التَّعميمُ ثانيًا، ومَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ عامٌّ مَخصوصٌ بما تَحصُلُ للنَّاسِ فائدةٌ مِن وُجودِه؛ كالشَّمسِ للضِّياءِ، والمطَرِ للشَّرابِ، أو مِن بَعضِ أحوالِه؛ كالكواكبِ للاهتِداءِ بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبحْرِ، والشَّجرِ لِلاستِظلالِ، والأنعامِ للرَّكوبِ والحرْثِ ونحْوِ ذلك [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/337). .
- قولُه: جَمِيعًا مِنْهُ تَنْوينُ (جميعًا) تَنوينُ عِوَضٍ عَن المُضافِ إليه، أي: جَميعَ ذلك. و(مِن) ابتدائيَّةٌ، أي: جميعَ ذلك مِن عندِ اللهِ، ليس لِغَيرِه فيه أدْنَى شَرِكةٍ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/337). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: إنَّ في ذلك المذكورِ مِن تَسْخيرِ البَحرِ، وتَسخيرِ ما في السَّمواتِ والأرضِ؛ دَلائلَ على تَفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ؛ فهي وإنْ كانتْ مِنَنًا يَحِقُّ أنْ يَشْكُرَها النَّاسُ، فإنَّها أيضًا دَلائلُ إذا تَفكَّرَ فيها المُنعَمُ عَليهم اهْتَدَوا بها، فحصَلَت لهمْ منها مُلائماتٌ جُسمانيَّةٌ ومَعارِفُ نَفْسانيَّةٌ، وبهذا الاعْتِبارِ كانتْ في عِدادِ الآياتِ المذكورةِ قبْلَها مِن قولِه: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، وإنَّما أُخِّرَت عنها؛ لأنَّها ذُكِرَت في مَعرِضِ الامتِنانِ بأنَّها نِعَمٌ، ثمَّ عُقِّبَت بالتَّنبيهِ على أنَّها أيضًا دَلائلُ على تَفرُّدِ اللهِ بالخلْقِ. وأُوثِرَ التَّفكُّرُ بالذِّكرِ في آخِرِ صِفاتِ المُستَدِلِّينَ بالآياتِ؛ لأنَّ الفِكرَ هو مَنبَعُ الإيمانِ والإيقانِ والعِلمِ المُتقدِّمةِ في قولِه: لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] ، آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/337، 338). [الجاثية: 5] .
3- قولُه تعالَى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
- قولُه: يَغْفِرُوا -على أحدِ الأقوالِ- مَجزومٌ في جَوابِ (قُل) [167] ويُنظر ما تقدم في مُشكِل الإعرابِ. ، وحُذِفَ المَقولُ؛ لأنَّ الجوابَ دالٌّ عليه، والمعنى: قُلْ لهم: اغْفِروا يَغْفِروا، أي: يَعْفوا ويَصْفَحوا، وهذا ثِقةٌ بالمُؤمِنينَ أنَّهم إذا قال لهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ امْتَثَلوا [168] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/288)، ((تفسير البيضاوي)) (5/106)، ((تفسير أبي السعود)) (8/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/339). .
- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الرَّجاءُ هنا إمَّا على معناه الحقيقيِّ أو بمعنى الخَوفِ [169] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/7). ، وعُبِّر في مَوضعِ الخَوفِ بالرَّجاءِ؛ لِما فيه مِن الاستِجلابِ والتَّرغيبِ والتَّأليفِ والاستِعطافِ [170] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/78). .
- قولُه: لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ على الوَجهِ بأنَّ المعنى: لِلَّذِين لا تَترقَّبُ نُفوسُهم أيَّامَ نصْرِ اللهِ، أي: نصْرِ اللهِ لهم، فتَكونُ أُجْرِيَت عليهمْ هنا هذه الصِّلةُ؛ إمَّا لأنَّهم لا يَتوكَّلون على اللهِ ولا يَسْتنصِرونه، بلْ تَوَجُّهُهم إلى الأصنامِ، وإمَّا لأنَّهم لا يَخطُرُ بِبالِهم إلَّا أنَّهم مَنْصورونَ بحَوْلِهم وقُوَّتِهم، فلا يَخطُرُ بِبالِهم سُؤالُ نَصْرِ اللهِ أو رَجاؤُه، وهم مَعْروفون بهذه الصِّلةِ بيْنَ المُسلِمينَ. وأُوثِرَ تَعريفُهم بهذه الصِّلةِ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ؛ لِيَكونَ في ذلك تَعريضٌ بأنَّ اللهَ يَنصُرُ الَّذين يَرْجُون أيَّامَ نَصْرِه، وهمُ المُؤمِنون، والغرَضُ مِن هذا التَّعريضِ الإيماءُ بالمَوصولِ إلى وَجْهِ أمْرِ المُؤمِنينَ أنْ يَغْفِروا للمُشرِكينَ ويَصْفَحوا عن أذَى المُشرِكين، ولا يَتكلَّفوا الانْتِصارَ لِأنفُسِهم؛ لأنَّ اللهَ ضَمِنَ لهم النَّصرَ. وعلى وجْهِ أنَّه: قد يُطلَقُ أيَّامُ اللهِ في القُرآنِ على الأيَّامِ الَّتي حصَلَ فيها فضْلُه ونِعمتُه على قَومٍ، فمعنى لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ على هذا التَّأويلِ: أنَّهم في شُغلٍ عن تَرقُّبِ نِعَمِ اللهِ بما همْ فيه مِن إسنادِ فِعلِ الخَيرِ إلى أصْنامِهم بانْكِبابِهم على عِبادةِ الأصنامِ دُونَ عِبادةِ اللهِ، ويأْتي في هذا الوجْهِ مِن التَّعريضِ والتَّحريضِ مِثلُ ما ذُكِرَ في الوجْهِ الأوَّلِ؛ لأنَّ المُؤمِنينَ همُ الَّذين يَرْجُون نِعمةَ اللهِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/340، 341). .
- قولُه: لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ تَعْليلٌ للأمْرِ بالمَغْفرةِ، أي: لِيَغْفِروا ويَصْفحوا عن أذَى المُشرِكين، فلا يَنتصِروا لِأنفُسِهم؛ لِيَجْزِيَهم اللهُ على إيمانِهم، وعلى ما أُوذوا في سَبيلِه؛ فإنَّ الانتصارَ للنَّفْسِ تَوفيةٌ للحقِّ، وماذا عَساهم يَبْلُغونَ مِن شِفاءِ أنفُسِهم بالتَّصدِّي للانتقامِ مِن المُشرِكين على قِلَّتِهم، وكَثرةِ أولئك؟! فإذا تَوكَّلوا على نَصْرِ ربِّهم، كان نَصْرُه لهم أتَمَّ، وأقْطَعَ لِشَوكةِ المُشرِكين [172] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/288)، ((تفسير البيضاوي)) (5/106)، ((تفسير أبي السعود)) (8/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/341)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/149). .
- قولُه: لِيَجْزِيَ على قراءة لِنَجْزِيَ -بِنُونِ العَظَمةِ [173] قرأَها بالنُّونِ: ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ. وقرأَها الباقونَ بالياءِ. وقرأَها أبو جعفرٍ بضمِّ الياءِ، وفتْحِ الزَّايِ. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 660)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/372). - فيَكونُ على الالتِفاتِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/342). .
- وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (لِيَجْزِيَهم بما كانوا يَكسِبون)؛ فعُدِلَ إلى الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِيَكونَ لَفظُ قَوْمًا مُشعِرًا بأنَّهم لَيسوا بمَضْيَعةٍ عِندَ اللهِ؛ فإنَّ لَفظَ (قَوم) مُشعِرٌ بفَريقٍ له قِوامُه وعِزَّتُه. وتَنكيرُ قَوْمًا للتَّعْظيمِ، وهذا مدحٌ وثَناءٌ عليهم. وقيل: القومُ هم الكافِرون؛ فيكونُ التَّنكيرُ للتحقيرِ. وقيل: الأظهرُ أنَّ قَوْمًا مُرادٌ به الإبهامُ، وتَنوينُه للتَّنكيرِ فقط، والمعنى: لِيَجزيَ اللهُ كلَّ قومٍ بما كانوا يَكسِبونَ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ بما يُناسِبُ كسْبَهم؛ فيَكونُ وعيدًا للمُشركينَ المُعْتَدِينَ على المُؤمِنينَ، ووعْدًا للمؤمنِينَ المأمورينَ بالصَّفحِ والتَّجاوُزِ عن أذَى المشركينَ، وهذا وجْهُ عدَمِ تَعليقِ الجزاءِ بضَميرِ الموقنينَ؛ لأنَّه أُريدَ العمومُ؛ فليس ثَمَّةَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ على هذا الوَجهِ، ويُؤيِّدُ هذا قولُه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [الجاثية: 15] ، وهذا كالتَّفصيلِ للإجمالِ الَّذي في قولِه: لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ؛ ولذلك فُصِلتِ الجُملةُ ولم تُعطَفْ على سابقتِها [175] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/288)، ((تفسير البيضاوي)) (5/106)، ((تفسير أبي حيان)) (9/418)، ((تفسير أبي السعود)) (8/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/341، 342)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/149). .
4- قولُه تعالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لِبَيانِ كَيفيَّةِ الجزاءِ [176] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/18)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/148). .