موسوعة التفسير

سورةُ إبراهيمَ
الآيات (4-8)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

بِأَيَّامِ اللَّهِ: أي: نَعمائِه وبَلائِه، وقيل: بوقائعِه في الأُممِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/594)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 351)، ((لسان العرب)) لابن منظور (12/649)، ((تفسير الألوسي)) (7/178). .
يَسُومُونَكُمْ: أي: يُولونَكم ويَبغونَكم؛ مِن قَولِهم: سامَه: إذا كلَّفَه العمَلَ الشَّاقَّ، وأصلُ (سوم): يدلُّ على الذَّهابِ في ابتغاءِ الشَّيءِ [45] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 48)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 502)، ((المفردات)) للراغب (ص: 438)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 17)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 73)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 993). .
وَيَسْتَحْيُونَ: أي: يَستبقُونهنَّ أحياءً، وأصلُ (حيي): يدُلُّ على خِلافِ الموتِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/650)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/122)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 502)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 74). .
تَأَذَّنَ: أي: أعلَمَ. وهو من آذنتُك بالأمرِ: أي أعلمْتُك، وأصلُ (أذن): يدُلُّ على العِلمِ [47] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 174)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/75)، ((الغريبين)) للهروي (1/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 70). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وما أرسَلْنا مِن رسولٍ قَبلَك- أيُّها النبيُّ- إلا بلُغةِ قَومِه؛ ليوضِّحَ لهم أمرَ دينهم، فيُضِلُّ اللهُ من يشاءُ عن الهُدى، ويَهدي من يشاءُ إلى الحَقِّ، وهو العزيزُ الحكيمُ.
ولقد أرسَلْنا موسى إلى بني إسرائيلَ، وأيَّدناه بالآياتِ العظيمةِ الدَّالَّةِ على صِدقِه، وأمَرْناه أن يَدعُوَهم إلى طريقِ الحَقِّ؛ ليُخرِجَهم من الضَّلالِ إلى الهُدى، ويُذَكِّرَهم بأيامِ نعمِ اللهِ، وبأيَّامِ نِقَمِه، إنَّ في هذا التذكيرِ لَدَلالاتٍ لكلِّ صبَّارٍ شكورٍ.
واذكُرْ- أيُّها الرَّسولُ- لقَومِك قصَّةَ موسى حين قال لبني إسرائيلَ: اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم حين أنجاكم مِن فِرعونَ وأتباعِه، يُذيقُونَكم أشَدَّ العذابِ، ويُذبِّحونَ أبناءَكم الذُّكورَ، ويَستَبْقونَ نساءَكم للخِدمةِ والامتهانِ، وفي ذلكم اختبارٌ لكم مِن رَبِّكم عظيمٌ. وقال لهم موسى: اذكُروا حين أعلَمَ رَبُّكم إعلامًا مُؤكَّدًا: لئِنْ شَكَرتُموه على نِعَمِه لَيزيدَنَّكم مِن النَّعَمِ، ولئن كَفَرتُم نِعمةَ اللهِ فإنَّ عِقابَه لِمَن كفَرَ به شديدٌ. وقال لهم: إنْ تَكفُروا بنِعَمِ اللهِ أنتم وجميعُ أهلِ الأرض، فإنَّ الله لَغنيٌّ حميدٌ.

تفسير الآيات:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في أوَّلِ السورةِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] كان هذا إنعامًا على الرَّسولِ، مِن حيثُ إنَّه فَوَّضَ إليه هذا المنصِبَ العظيمَ، وإنعامًا أيضًا على الخَلقِ، مِن حيثُ إنَّه أرسل إليهم مَن خَلَّصَهم مِن ظُلماتِ الكُفرِ وأرشَدَهم إلى نورِ الإيمان، فذكَرَ في هذه الآيةِ ما يجري مجرى تكميلِ النِّعمةِ والإحسانِ في الوَجهينِ؛ أمَّا بالنِّسبةِ إلى الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- فلِأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّ سائِرَ الأنبياءِ كانوا مَبعوثينَ إلى قَومِهم خاصَّةً، وأمَّا أنت- يا محمَّدُ- فمَبعوثٌ إلى عامَّةِ الخَلقِ، فكان هذا الإنعامُ في حَقِّك أفضَلَ وأكمَلَ. وأمَّا بالنِّسبةِ إلى عامَّةِ الخَلقِ، فهو أنَّه- تعالى- ذكَرَ أنَّه ما بعثَ رَسولًا إلى قومٍ إلَّا بلسانِ أولئك القومِ، فإنَّه متى كان الأمرُ كذلك، كان فَهمُهم لأسرارِ تلك الشَّريعةِ ووقوفُهم على حقائِقِها أسهَلَ، وعن الغَلَطِ والخطأِ أبعَدَ [48] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/62). .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.
أي: وما أرسَلْنا رسُولًا إلى أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا بلُغةِ قَومِه الَّذين أرسَلْناه إليهم؛ ليُفهِمَهم ويُوضِّحَ لهم أمرَ دينِهم [49] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/592)، ((تفسير القرطبي)) (9/340)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421). .
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .
أي: فبعدَ البَيانِ وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم يضِلُّ اللهُ من يشاءُ إضلالَه، فيخذُلُه عن اتِّباعِ الحَقِّ، ويُوَفِّقُ مَن يشاءُ هدايتَه إلى الحَقِّ، فالتَّوفيقُ والخِذلانُ بيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/592)، ((تفسير ابن كثير)) (4/477)، ((تفسير الشوكاني)) (3/113).  .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: وهو العزيزُ الذي لا يُغْلَبُ على مشيئتِه، فما شاءَ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، ومِن ذلك مشيئتُه بالإضلالِ أو الهدايةِ، وانفرادُه بهما، وهو الحكيمُ الذي يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائقِ به، ومِن حِكمتِه أنَّه لا يضَعُ هِدايتَه ولا إضلالَه إلَّا بالمحَلِّ اللائقِ به، فيُضِلُّ من يستحِقُّ الإضلالَ، ويهدي مَن هو أهلٌ لذلك [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/592)، ((تفسير ابن كثير)) (4/477)، ((تفسير العليمي)) (3/505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421).    .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه إنَّما أرسلَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ؛ ليُخرِجَهم مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وذكَرَ كَمالَ إنعامِه عليه وعلى قومِه في ذلك الإرسالِ، وفي تلك البَعثةِ- أتبَعَ ذلك بشَرحِ بَعثةِ سائرِ الأنبياءِ إلى أقوامِهم وكيفيَّةِ مُعاملةِ أقوامِهم معهم؛ تصبيرًا للرَّسولِ- عليه السَّلامُ- على أذَى قومِه، وإرشادًا له إلى كيفيَّةِ مُكالمتِهم ومُعاملتِهم، فذكَرَ تعالى- على العادةِ المألوفةِ- قصَصَ بعضِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، فبدأ بذكرِ قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ [52] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/64). .
وأيضًا لَمَّا كانت الآياتُ السَّابقةُ مَسوقةً للرَّدِّ على من أنكَروا أنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن الله؛ أعقَبَ الرَّدَّ بالتمثيلِ بالنَّظيرِ: وهو إرسالُ موسى عليه السَّلامُ إلى قومِه بمِثلِ ما أُرسِلَ به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبمِثلِ الغايةِ التي أُرسِلَ لها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليُخرِجَ قَومَه مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/188). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا.
أي: ولقد أرسَلْنا موسى بآياتِنا العظيمةِ الدَّالَّةِ على صِدقِه، وصِحَّةِ ما جاء به [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/593)، ((تفسير القرطبي)) (9/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421).  قال أبو حيان: (الجمهورُ على تفسيرِ قَولِه: بِآيَاتِنَا أنَّها تسعُ الآياتِ التي أجراها اللهُ على يدِ موسى عليه السَّلام. وقيل: يجوزُ أن يُرادَ بها آياتُ التوراةِ، والتقديرُ: كما أرسَلْناك- يا محمَّدُ- بالقرآنِ بلِسانٍ عربيٍّ، وهو آياتُنا، كذلك أرسَلْنا موسى بالتوراةِ بلِسانِ قَومِه). ((تفسير أبي حيان)) (6/409). .
أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أي: أمَرْنا موسى قائلينَ له: ادْعُ قومَك بني إسرائيلَ إلى طريقِ الحَقِّ؛ لِيَخرُجوا مِن ظُلماتِ الكُفرِ والجَهلِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والعِلمِ والطَّاعةِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/594)، ((تفسير ابن كثير)) (4/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421).    .
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ.
أي: وذَكِّرْ- يا موسى- قومَك بني إسرائيلَ بأيامِ نعمِ اللهِ وإحسانِه، وبأيَّامِ نِقَمِه وبَطشِه وانتقامِه [56]  قال ابنُ جريرٍ: (أيَّامٌ كانت مَعلومةً عندهم، أنعَمَ اللهُ عليهم فيها نِعمًا جَليلةً، أنقَذَهم فيها مِن آلِ فِرعونَ بَعدَما كانوا فيما كانوا مِنَ العذابِ المُهينِ، وغرَّقَ عَدُوَّهم فِرعونَ وقَومَه، وأورَثَهم أرْضَهم ودِيارَهم وأموالَهم). ((تفسير ابن جرير)) (13/594). وقال ابنُ جزي: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، أي: عُقوباتِه للأُمَمِ المُتقدِّمةِ، وقِيلَ: إنْعامِه على بني إسرائيلَ، واللَّفظُ يعُمُّ النِّعمَ والنِّقَمَ). ((تفسير ابن جزي)) (1/408). وقال السِّعدي: (بنِعَمِه عليهم وإحسانِه إليهم، وبأيَّامِه في الأُمَمِ المُكذِّبينَ، ووَقائعِه بالكافرينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 422).  ؛ وذلك ليشكُروا اللهَ، ويَحذَرُوا عذابَه [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/594)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/194)، ((تفسير ابن كثير)) (4/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/189، 190).    .
عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّه بينما موسى عليه السَّلامُ في قَومِه يُذَكِّرُهم بأيَّامِ اللهِ- وأيَّامُ اللهِ: نَعماؤُه وبَلاؤُه- إذ قال ...)) الحديث [58] رواه مسلم (2380). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ .
أي: إنَّ في التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ وأيَّامِه لَدَلالاتٍ وعِبَرًا ومَواعِظَ لكُلِّ مَن كان عظيمَ الصَّبرِ على الطَّاعةِ، وعن المعصيةِ، وعلى البلاءِ والضَّرَّاءِ، عظيمَ الشُّكرِ لله على السَّرَّاءِ والنَّعماءِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/598)، ((تفسير القرطبي)) (9/342)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/327، 328)، ((تفسير أبي حيان)) (6/409)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/381-382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422). قال ابن عاشور: (واسمُ الإشارةِ في قَولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ عائِدٌ إلى ما ذُكِرَ من الإخراجِ والتَّذكيرِ؛ فالإخراجُ من الظُّلُماتِ بعدَ توغُّلِهم فيها، وانقضاءِ الأزمنةِ الطويلةِ عليها: آيةٌ مِن آياتِ قُدرةِ الله تعالى. والتذكيرُ بأيَّامِ الله يشتمِلُ على آياتِ قُدرةِ الله وعِزَّتِه، وتأييدِ من أطاعَه، وكلُّ ذلك آياتٌ كائنةٌ في الإخراجِ والتذكيرِ على اختلافِ أحوالِه). ((تفسير ابن عاشور)) (13/190). .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ أمرُ الله تعالى لموسى- عليه السَّلامُ- بالتَّذكيرِ بأيَّامِ الله؛ امتثَلَ أمرَ رَبِّه، فذكَّرَهم بما أنعَمَ تعالى عليهم مِن نَجاتِهم مِن آلِ فِرعونَ، وفي ضِمنِها تَعدادُ شَيءٍ ممَّا جرى عليهم مِن نِقماتِ اللهِ [60] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422). .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ.
أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- قولَ موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: اذكُروا بقُلوبِكم وألسِنتِكم إنعامَ اللهِ عليكم، حين أنجاكم مِن فِرعونَ وقَومِه [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/598، 599)، ((تفسير الرازي)) (19/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/191). قال البقاعي: (آلِ فِرْعَوْنَ أي: فِرعونَ نَفسِه وأتباعِه، استعمالًا للمُشتَرَكِ في معنيَيه؛ فإنَّ الآلَ [يُطلَقُ] على الشَّخصِ نَفسِه وعلى أهلِ الرجُلِ وأتباعِه وأوليائِه). ((نظم الدرر)) (10/383-384). .
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ.
أي: يُذيقُكم آلُ فِرعونَ عذابًا سيِّئًا شَديدًا [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/599)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422).        .   
وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ .
أي: ويُذَبِّحونَ أبناءَكم الذُّكورَ المَولودين [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/599)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479)، ((تفسير أبي السعود)) (5/34).        .
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ.
أي: ويَترُكونَ إناثَكم [64] قال الماورديُّ: (وأمَّا اسمُ النِّساءِ؛ فقد قِيلَ: إنَّه يَنطلِقُ على الصِّغارِ والكِبارِ، وقِيلَ: بلْ يَنطلِقُ على الكِبارِ، وإنَّما سُمِّيَ الصِّغارُ نِساءً على معنَى: أنَّهنَّ يَبْقَينَ حتَّى يَصِرنَ نِساءً). ((تفسير الماوردي)) (1/118). وقال أبو حيان: (المعنى: يَتْرُكون بَناتِكم أحياءً للخِدمةِ، أو يُفتِّشونَ أرحامَ نِسائِكم... وقد قِيلَ: إنَّ الاستحياءَ هنا مِنَ «الحياءِ» الَّذي هو ضِدُّ القَحَةِ، ومعناهُ: أنَّهم يأتونَ النِّساءَ مِنَ الأعمالِ بما يَلْحَقُهم منه الحياءُ... واستحياءُ النِّساءِ على القولِ الأوَّلِ ليس بعذابٍ، لكنَّه يقَعُ العذابُ بسبَبِه؛ مِن جِهَةِ إبْقائِهنَّ خَدمًا، وإذاقَتِهنَّ حَسرةَ ذَبْحِ الأبناءِ، إنْ أُرِيدَ بالنِّساءِ الكِبارُ، أو ذَبْحِ الإخوةِ، إنْ أُرِيدَ الأطفالُ، وتَعلُّقِ العارِ بهنَّ؛ إذ يَبْقَيْنَ نِساءً بلا رجالٍ، فيَصرِنْ مُفترَشاتٍ لِأعدائِهنَّ). ((تفسير أبي حيان)) (1/314). وقال الشِّنقيطيُّ: (أمَّا استحياءُ البناتِ، وهو قولُه: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ؛ فأين وَجْهُ كَونِ هذا مِن سُوءِ العذابِ، مع أنَّ بقاءَ البَعضِ قد يَظهَرُ للنَّاظرِ أنَّه أحسَنُ مِن تَذبيحِ الكلِّ؟ الجَوابُ عن هذا: أنَّ استحياءَهم للنِّساءِ استحياءٌ هو مِن جُملةِ العذابِ؛ لأنَّهم يَسْتَحْيونَهم لِيُعَمِّلُوهم في الأعمالِ الشَّاقَّةِ، ولِيَفْعَلوا بهم ما لا يَلِيقُ مِنَ العارِ والشَّنارِ، وبَقاءُ البِنْتِ- وهي عَورةٌ- تحتَ يَدِ عدُوٍّ لا يُشفِقُ عليها، يَفعَلُ بها ما لا يَلِيقُ، ويُكلِّفُها ما لا تُطِيقُ؛ هذا مِن سُوءِ العذابِ بلا شَكٍّ، وقد قال جَلَّ وعلَا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء: 9]، والعرَبُ كانوا ربَّما قَتَلوا بَناتِهم؛ شَفقةً وخَوفًا عليهم ممَّا يُلاقُونَه ممَّا لا يَلِيقُ بَعدَ مَوتِ الآباءِ، وهو كَثيرٌ في شِعْرِهم). ((العذب النمير)) (1/72). دونَ قَتلٍ؛ مِن أجلِ جعلِهم خدمًا وأرقَّاء [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/599)، ((تفسير الماوردي)) (1/118)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422).
وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
أي: وفي عذابِ آلِ فِرعونَ لكم اختبارٌ مِن اللهِ لكم عظيمٌ، وفي إنجائِنا لكم مِنهم نِعمةٌ مِن اللهِ عَظيمةٌ [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/600)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 422).    قال ابنُ كثيرٍ: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، أي: نِعمةٌ عَظيمةٌ منه عليكم في ذلك، أنتم عاجِزونَ عنِ القيامِ بشُكْرِها. وقِيلَ: وفيما كان يَصنَعُه بكم قَومُ فِرعونَ مِن تلك الأفاعيلِ، بَلَاءٌ، أي: اختبارٌ عَظيمٌ. ويَحْتمِلُ أنْ يكونَ المُرادُ هذا وهذا- واللهُ أعلمُ- كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168] ). ((تفسير ابن كثير)) (4/479). .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَّرَهم بنعمةِ الأمنِ، رغَّبَهم فيما يزيدُها، ورهَّبَهم ممَّا يُزيلُها، فقال [67] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/384). :
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.
أي: واذكُروا حين أعلَمَكم ربُّكم: لَئِن شَكَرتُم اللهَ على نِعَمِه بطاعتِه في أمرِه ونَهيِه، ليزيدَنَّـكم من النِّعَمِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/600، 601)، ((تفسير القرطبي)) (9/343)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479).     قال القرطبي: (قيل: هو مِن قولِ موسى لقومِه. وقيل: هو من قولِ الله، أي: واذكُرْ- يا محمَّدُ- إذ قال ربُّك كذا). ((تفسير القرطبي)) (9/343). قال ابنُ كثير: (ويحتملُ أن يكونَ المعنى: وإذ أقسمَ رَبُّكم وآلى بعزَّتِه وجلالِه وكبريائِه، كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: 167] ). ((تفسير ابن كثير)) (4/479). .
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
أي: ولئنْ كَفَرتُم نعمةَ اللهِ عليكم فلم تشكُروه عليها بطاعتِه في أمرِه ونهيِه؛ فإنَّ عِقابَه لِمَن كفَرَ به شديدٌ، فيُصيبُكم منه ما يسلُبُ تلك النِّعَمَ، ويُحِلُّ بكم النِّقمَ [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/602)، ((تفسير القرطبي)) (9/343)، ((تفسير ابن كثير)) (4/479)، ((تفسير القاسمي)) (6/301)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/194). قال الثعالبي: (والكُفْرُ هنا: يحتملُ أن يكون على بابِه، ويحتملُ أنْ يكون كفرَ النِّعَمِ). ((تفسير الثعالبي)) (3/375). .
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا بيَّنَ أنَّ الاشتغالَ بالشُّكرِ يُوجِبُ تزايُدَ الخَيراتِ في الدُّنيا وفي الآخرةِ، والاشتغالَ بكُفرانِ النِّعَمِ يُوجِبُ العذابَ الشديدَ، وحصولَ الآفاتِ في الدُّنيا والآخرةِ [70] وذلك على القولِ بأنَّ قائلَ هذه الجملةِ هو موسَى عليه السلامُ. - بيَّنَ بعدَه أنَّ منافِعَ الشُّكرِ ومضارَّ الكُفرانِ لا تعودُ إلَّا إلى صاحِبِ الشُّكرِ وصاحِبِ الكُفرانِ، أمَّا المعبودُ والمشكورُ فإنَّه مُتعالٍ عن أن ينتفِعَ بالشُّكرِ أو يَستضِرَّ بالكُفرانِ [71] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/67). .
وأيضًا لَمَّا كان مَن حَثَّ على شيءٍ وأثابَ عليه، أو نهى عنه وعاقبَ على فعلِه، يكونُ لغَرضٍ له؛ بيَّنَ أنَّ اللهَ سبحانَه مُتعالٍ عن أن يَلحَقَه ضَرٌّ أو نفعٌ، وأنَّ ضَرَّ ذلك ونَفْعَه خاصٌّ بالعبدِ، فقال تعالى حاكِيًا عنه [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي: (10/385). :
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)  .
أي: وقال موسى لقَومِه: إن تكفُروا بنِعَمِ اللهِ أنتم وجميعُ مَن في الأرضِ، فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن جميعِ خَلقِه، وعن شُكرِهم له، محمودٌ قد اسْتَوْجَب الحمدَ لِذاتِه لكثرةِ إنعامِه، وإنْ لم تَشْكُروه [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/603)، ((تفسير ابن كثير)) (4/480)، ((تفسير الشوكاني)) (3/115). وهو حميدٌ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه [74]  يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 422). .
كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] .
وقال سُبحانه: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6] .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هَدَيتُه، فاستهدُوني أهْدِكم، يا عبادي كُلُّكم جائِعٌ إلَّا مَن أطعَمتُه، فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلَّا مَن كسَوتُه، فاسْتَكْسُوني أكْسُكم، يا عبادي إنَّكم تُخطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا، فاستغفِروني أغفِرْ لكم، يا عبادي إنَّكم لن تَبلُغوا ضُرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتَنفَعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرِكَم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أتقى قلبِ رَجُلٍ واحدٍ منكم؛ ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أفجَرِ قَلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقص ذلك مِن مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسألتَه، ما نقَصَ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يَنقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البحرَ) ) [75] رواه مسلم (2577). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ في هذا دليلٌ على مشروعيةِ الوَعظِ المُرَقِّقِ للقُلوبِ، المُقَوِّي لليقينِ [76] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/88). .
2- قال الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ مَعرِفةُ هذه الأيَّامِ تُوجِبُ للعبدِ استبصارَ العِبَرِ، وبحَسَب مَعرفتِه بها تكونُ عِبرَتُه وعِظَتُه؛ قال الله تعالى لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [77] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/447). [يوسف: 111] .
3- قال الله تعالى لموسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وهي تتناولُ أيَّامَ نِعَمِه وأيَّامَ نِقَمِه؛ ليشكُروا ويَعتَبِروا؛ ولهذا قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فإنَّ ذِكرَ النِّعَمِ يدعو إلى الشُّكرِ، وذِكْرَ النِّقَمِ يقتضي الصَّبرَ على فِعلِ المأمورِ- وإن كَرِهَتْه النَّفسُ- وعن المحظورِ، وإن أحَبَّتْه النَّفسُ؛ لئلَّا يُصيبَه ما أصاب غيرَه مِن النِّقمةِ [78] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/194). .
4- قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إذا اعتبَرَ العبدُ الدِّينَ كُلَّه، رآه يرجِعُ بجُملتِه إلى الصَّبرِ والشُّكرِ [79] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/165). .
5- قولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فيه تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ يجِبُ ألَّا يخلوَ زَمانه عن أحدِ هذينِ الأمرينِ، فإن جرى الوقتُ على ما يلائِمُ طَبعَه ويوافِقُ إرادتَه، كان مشغولًا بالشُّكرِ، وإن جرى بما لا يلائِمُ طَبعَه، كان مشغولًا بالصَّبرِ [80] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/65). .
6- قولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ في صيغةِ المُبالغةِ إشارةٌ إلى أنَّ عادتَه تعالى جَرَت بأنَّه إنما ينصُرُ أولياءَه بعد طولِ الامتحانِ بعظيمِ البلاءِ؛ ليتبيَّنَ الصَّادِقُ مِن الكاذبِ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يوسف: 110] ، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 1، 2]؛ وذلك أنَّه لا شيءَ أشَقُّ على النُّفوسِ مِن مُفارقةِ المألوفِ، لا سيَّما إن كان دِينًا، ولا سيَّما إن كان قد درجَ عليه الأسلافُ، فلا يقومُ بالدُّعاءِ إلى الدِّينِ إلَّا من بلغَ الذِّروةَ في الصَّبرِ [81] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/382). .
7- قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الآيةُ نَصٌّ في أنَّ الشُّكرَ سبَبُ المزيدِ [82] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/343). ، فالشكرُ معه المزيدُ أبدًا، فمتَى لم تَرَ حالَك في مزيدٍ، فاسْتقْبِلِ الشُّكرَ [83] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/236). .
8- لا شَكَّ أنَّ النِّعَمَ تستوجِبُ مِنَّا الشُّكرَ؛ لأنَّنا إذا شَكَرْنا اللهَ عزَّ وجَلَّ فقد قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] فبيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه بالشُّكرِ يزيدُ النِّعَم، أمَّا إذا قُوبِلَت بالكُفرِ فإنَّ اللهَ تعالى سيعذِّبُ هؤلاء الذين أنعَمَ الله عليهم، فبَدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا [84] يُنظر: ((اللقاء الشَّهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 2). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- مَن بَلَغَه القرآنُ بلغةٍ لا يفهَمْ منها شيئًا؛ فإنه لا تقومُ عليه الحُجَّةُ؛ لقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وقولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 102). [الزخرف: 3] .
2- قولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إن قيلَ: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما بُعِثَ للعَرَبِ خاصَّةً، فكيف الجمعُ بين هذه الآيةِ وبين الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على عمومِ رِسالتِه؟
والجوابُ عن ذلك:
أنَّ الله تعالى قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ولم يقُلْ: (وما أرسَلْنا مِن رسولٍ إلَّا إلى قومِه) [86] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/54-55). ، فلا تعارضَ بينهما.
وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بلسانِ قَومِه، وهم العرَبُ، ونزولُه بلِسانِهم مع التَّرجمةِ لباقي الألسُنِ كافٍ لحُصولِ الغَرَض بذلك، ولأنَّه أبعَدُ عن التَّحريفِ والتَّبديلِ، وأسلَمُ مِن التَّنازُعِ والاختلافِ [87] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:292). . فالله عزَّ وجلَّ لم يرسِلْه إلَّا بلسانِ قَومِه الذين خاطَبهم أوَّلًا، ليبيِّنَ لقَومِه، فإذا بيَّنَ لقَومِه ما أراده حصل بذلك المقصودُ لهم ولغيرِهم؛ فإنَّ قومَه الذين بلَّغَ إليهم أوَّلًا يمكِنُهم أن يبَلِّغوا عنه اللَّفظَ، ويُمكِنُهم أن ينقُلوا عنه المعنى لِمَن لا يعرِفُ اللُّغةَ، ويُمكِنُ لغَيرِهم أن يتعَلَّمَ منهم لسانَه، فيعرف مرادَه، فالحُجَّةُ تقومُ على الخَلقِ ويحصُلُ لهم الهُدى بمن ينقُل عن الرَّسولِ: تارةً المعنى، وتارةً اللَّفظ؛ ولهذا يجوزُ نقلُ حديثِه بالمعنى، والقرآنُ يجوزُ تَرجمةُ معانيه لِمَن لا يعرِفُ العربيَّةَ، باتِّفاقِ العُلَماءِ [88] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/54-55). .
3- قولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ يُستدَلُّ به على أنَّ عُلومَ العربيَّةِ المُوصِلةَ إلى تبيينِ كلامِه تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أمورٌ مَطلوبةٌ مَحبوبةٌ لله؛ لأنَّه لا يتِمُّ مَعرِفةُ ما أُنزِلَ على رسولِه إلَّا بها، إلَّا إذا كان النَّاسُ بحالةٍ لا يحتاجونَ إليها، وذلك إذا تمَرَّنوا على العربيَّة، ونشأ عليها صغيرُهم وصارت طبيعةً لهم، فحينئذٍ قد كُفُوا المُؤنةَ، وصَلَحوا لأن يتلَقَّوا عن اللهِ وعن رَسولِه ابتداءً، كما تلقَّى عنهم الصَّحابةُ رَضِيَ الله عنهم [89] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:421). .
4- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لا حُجَّةَ للعَجَمِ وغيرِهم في هذه الآيةِ؛ لأنَّ كُلَّ مَن تُرجِمَ له ما جاء به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ترجمةً يفهَمُها؛ لَزِمَته الحُجَّةُ، وقد قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والذي نفسي بيَدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ؛ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمَّ لم يؤمِنْ بالذي أُرسِلْتُ به- إلَّا كان مِن أصحابِ النَّارِ )) [90] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/340). والحديثُ أخرجه مسلم (153) مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه. .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أنَّه لا بدَّ أن يكونَ الرسولُ مبيِّنًا لقومِه ما أُرسِل به، ويتفرع على هذه الفائدة أهميَّةُ التَّرجمةِ، وأنَّ على المُسلِمينَ أن يُترجِموا الشَّريعةَ إلى لغةِ مَن يُخاطِبونَهم بها حتى تتِمَّ الحُجَّةُ؛ فمَن أراد أن يذهَبَ إلى قومٍ يدعوهم إلى اللهِ، لا بُدَّ أن يتعَلَّمَ لُغتَهم حتى يتمكَّنَ مِن دَعوتِهم، أو يصطَحِبَ شَخصًا يُترجِمُ له يكونُ عالِمًا باللُّغَتَينِ: الأصليَّةِ والفرعيَّةِ، ويكونُ له إلمامٌ بموضوعِ ما يُترجِمُه، فإذا كان يريدُ أن يُترجِمَ كلامًا في التوحيدِ لا بد أن يكونَ عنده إلمامٌ بذلك؛ لئلَّا يُفهِمَ الأمرَ على خلافِه [91] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/317). !
6- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وحَّدَ اللِّسانَ، وإن أضافه إلى القَومِ؛ لأنَّ المرادَ اللُّغةُ، فهي اسمُ جِنسٍ يقَعُ على القليلِ والكثيرِ [92] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/340). ، واللسانُ يُطلقُ على «القَولِ» كثيرًا في اللُّغةِ العربيَّةِ، فقولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ أي: بلُغتِهم [93] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/274). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أنَّ الرُّسُلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ يُبَيِّنونَ للنَّاسِ بَيانًا تامًّا لا يُحتاجُ معه إلى إيضاحٍ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/484). ، فالرُّسُلُ هي التي تُبَيِّنُ، والله هو الذي يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويهدي مَن يشاءُ بعِزَّتِه وحِكمتِه، قال تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [95] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/66). .
8- قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، استُدِلَّ به على أنَّه لا يُشتَرَطُ أن تكونَ خطبةُ الجمعةِ بالعربيَّةِ، بل تكونُ بلُغةِ القَومِ الذين يخطبُ فيهم؛ فالخُطبتانِ ليستا ممَّا يُتعَبَّدُ بألفاظِهما [96] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/59)، وهو مذهبُ الحنفيةِ، أما الجمهورُ فعلى خلافِ ذلك، ويُنظر: ((مختصر فقه الصلاة)) إعداد القسم العلمي بالدُّرر السَّنية (ص: 657). .
9- تعلُّمُ غيرِ العربيَّةِ من اللغات ليس حرامًا، بل قد يكونُ واجبًا إذا توقَّفَت دعوةُ غيرِ العربيِّ على تعلُّمِ لُغتِه، فيصير تعلُّمُ لغتِه فرضَ كفايةٍ؛ لأنَّه لا بدَّ من تبليغِهم دينَ اللهِ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [97] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 3). .
10- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دَلالةٌ على أنَّ الهُدى والضَّلالَ إنَّما يكونُ بعدَ البَيانِ [98] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/579). .
11- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وقال لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، فكلُّ ما بَيَّنَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَن ربِّه سُبحانَه بَيَّنَه بأمرِه وإذنِه [99] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/186). .
12- اللهُ سُبحانَه يُرسِلُ الرُّسُلَ مِن جِنسِ المُرسَلِ إليهم؛ لأنَّه أتمُّ لحُصولِ المقصودِ بالرِّسالةِ؛ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [100] يُنظر: ((تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء)) لابن تيمية (1/234). .
13- الاستدلالُ بالقُرآنِ إنَّما يكونُ بحَملِه على لُغةِ العَربِ التي أُنزِلَ بها، بل قد نزل بلُغةِ قُرَيشٍ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 195] فليس لأحدٍ أن يَحمِلَ ألفاظَ القُرآنِ على غيرِ ذلك، مِن عُرفٍ عامٍّ، واصطلاحٍ خاصٍّ، بل لا يحمِله إلَّا على تلك اللُّغةِ [101] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (3/192). .
14- قولُ الله تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فيه رَدٌّ على القَدَريَّةِ [102] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:158). .
15-  أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه إنَّما يَنتفِعُ بآياتِهِ ويَتَّعِظُ بها الصَّبَّارُ الشَّكورُ، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال تعالى في (لُقمانَ): أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ، وقال في قِصَّةِ (سبَأٍ): فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] ، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32، 33]؛ فهذه أربَعةُ مَواضِعَ في القُرآنِ تدُلُّ على أنَّ آياتِ الرَّبِّ إنَّما يَنتفِعُ بها أهْلُ الصَّبرِ والشُّكرِ [103] يُنظر: ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم (ص: 74). .
16- الإيمانُ نِصفانِ: نِصفٌ صَبرٌ، ونِصفٌ شُكرٌ؛ قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَرَ فكان خَيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خَيرًا له )) [104] رواه مسلم (2999). ، فمنازِلُ الإيمانِ كُلُّها بين الصبرِ والشُّكرِ [105] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 265). .
17- قولُ الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا كان المرادُ بالتَّذكيرِ بالأيَّامِ زيادةَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أشار إلى أنَّ مَقامَ الترهيبِ هنا أهَمُّ- للحَثِّ على تَركِهم الضَّلالَ- بتَركِ عادتِه في الترفُّقِ، بمثلِ ما في البقرةِ والمائدةِ مِن الاستعطافِ بعاطفةِ الرَّحِم بقَولِه: يَا قَوْمِ، فأسقَطَها هنا؛ إشارةً إلى أنَّ المقامَ يقتضي الإبلاغَ في الإيجازِ في التَّذكيرِ؛ للخَوفِ مِن مُعاجَلتِهم بالعذابِ [106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/383). .
18- حيثُ ذُكِرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ «آلُ فُلانٍ»، كان «فلانٌ» داخِلًا فيهم، كقَولِه تعالى: إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فالرجلُ حيثُ أُضيف إلى آلِه دخَل فيه هو [107] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية  (1/213)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 204). .
19- قَولُ الله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عبَّرَ بالنِّعمةِ عن الإنعامِ؛ حَثًّا على الاستدلالِ بالأثَرِ على المؤَثِّر [108] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/383). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ فيه قَصْرٌ بـ (ما... إلَّا)، وإذا كانت صِيغَةُ القصْرِ مُستعملَةً في ظاهرِها، ومُسلَّطَةً على مُتعلِّقَي الفعْلِ المقصورِ، كان قصرًا إضافيًّا لِقلْبِ اعتقادِ المُخاطَبينَ؛ فيتعيَّنُ أنْ يكونَ ردًّا على فريقٍ مِن المُشركينَ قالوا: هلَّا أُنْزِلَ القُرآنُ بِلُغةِ العَجَمِ؟ وإذا كانت صِيغَةُ القصْرِ جاريةً على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ، ولم يكُنْ ردًّا لمقالةِ بعضِ المُشركينَ، يكُون تَنزيلًا للمُشركينَ مَنزلةَ مَن ليسوا بعربٍ؛ لعدَمِ تأثُّرِهم بآياتِ القُرآنِ، وقولُه: إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ إدماجٌ في الاستثناءِ المُتسلِّطِ عليه القصْرُ، أو يكونُ مُتعلِّقًا بفعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقدَّمًا عليه [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/185). .
- والعُدولُ إلى صِيغَةِ الاستقبالِ فَيُضِلُّ وَيَهْدِي؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ حسَبَ تَجدُّدِ البَيانِ مِن الرُّسلِ المُتعاقبةِ عليهم السَّلامُ [110] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/32). .
- وأيضًا في قولِه: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْتفاتٌ بإسنادِ الفِعلينِ إلى الاسمِ الجَليلِ المُنْطوي على الصِّفاتِ؛ لِتفخيمِ شأنِهما، وتَرشيحِ مناطِ كلٍّ منهما [111] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/35). .
- وتقديمُ الإضلالِ على الهدايةِ؛ لأنَّه متقَدِّمٌ عليها، إذ هو إبقاءٌ على الأصلِ، والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكُنْ [112] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/113)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي السعود)) (5/32). ، أو للمُبالَغةِ في بيانِ أنْ لا تأثيرَ للتَّبْيينِ والتَّذكيرِ مِن قِبَلِ الرُّسلِ، وأنَّ مَدارَ الأمْرِ إنَّما هو مشيئتُه تعالى بإيهامِ أنْ ترتُّبَ الضَّلالةِ على ذلك أسرَعُ مِن ترتُّبِ الاهتِداءِ [113] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/32). .
2- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فيه الْتِفاتٌ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ بإضافةِ الأيَّامِ إلى الاسمِ الجليلِ؛ للإيذانِ بِفَخامةِ شأْنِها، والإشعارِ بعدَمِ اختِصاصِ ما فيها مِن المُعاملَةِ بالمخاطَبِ وقومِه- كما تُوهِمُه الإضافةُ إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ- أي: عِظْهُم بالتَّرغيبِ التَّرهيبِ، والوعْدِ والوعيدِ [114] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/33). .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ تأكيدُ الإخبارِ عن إرسالِ موسى عليه السَّلامُ بِلامِ القَسَمِ، وحرْفِ التَّحقيقِ (لَقَدْ)؛ لِتنزيلِ المُنْكرينَ رِسالةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنزلةَ مَن يُنْكِرُ رسالةَ موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّ حالَهم في التَّكذيبِ برسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقْتَضي ذلك التَّنزيلَ؛ لأنَّ ما جاز على المِثلِ يجوزُ على المُماثِلِ، على أنَّ منهم مَن قال: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ، والباءُ في بِآيَاتِنَا للمُصاحَبةِ، أي: إرسالًا مُصاحِبًا للآياتِ الدَّالةِ على صِدْقِه في رِسالتِه، كما أُرْسِلَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصاحِبًا لآيةِ القُرآنِ الدَّالِّ على أنَّه مِن عندِ اللهِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/189). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ صَبَّارٍ شَكُورٍ صِفَتَا مُبالَغةٍ، وهما مُشعرَتانِ بأنَّ أيَّامَ اللهِ المُرادُ بهما: بَلاؤُه ونَعْماؤه، أي: صبَّارٍ على بلائِه، شَكورٍ لِنَعمائِه؛ فإذا سمِعَ بما أنزَلَ اللهُ مِن البلاءِ على الأُمَمِ، أو بما أفاض عليهم مِن النِّعَمِ، تَنبَّهَ على ما يجِبُ عليه مِن الصَّبرِ إذا أصابه بلاءٌ، ومِن الشُّكرِ إذا أصابَتْه نَعماءُ [116] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/410). .
- وخُصَّ الصَّبَّارُ والشَّكورُ؛ لأنَّهما هما اللَّذانِ يَنتفِعانِ بالتَّذكيرِ والتَّنبيهِ ويتَّعظانِ به، فصارت كأنَّها ليست آياتٍ إلَّا لهما، كما في قَولِه تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، وقَولِه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، وقيل: لا يَبعُدُ أن يُقالَ: الانتفاعُ بهذا النَّوعِ مِن التذكيرِ لا يُمكِنُ حُصولُه إلَّا لِمَن كان صابِرًا أو شاكِرًا، أمَّا الذي لا يكونُ كذلك، فلم ينتفِعْ بهذه الآياتِ، وقيل: أراد لكلِّ مُؤمنٍ ناظِرٍ لنفْسِه؛ لأنَّ الصَّبرَ والشُّكرَ مِن سجايا أهلِ الإيمانِ، وعبَّرَ عنه بذلك؛ تَنبيهًا على أنَّ الصَّبرَ والشُّكرَ عنوانُ المُؤمنِ [117] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/65)، ((تفسير البيضاوي)) (3/193)، ((تفسير أبي حيان)) (6/410). ، وقيل: لَمَّا كانت الآياتُ مُختلفةً؛ بعضُها آياتُ مَوعِظةٍ وزَجرٍ، وبَعضُها آياتُ مِنَّةٍ وترغيبٍ- جُعِلَت متعلِّقةً بـ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ؛ إذ الصبرُ مناسِبٌ للزَّجرِ؛ لأنَّ التخويفَ يبعَثُ النَّفسَ على تحمُّلِ مُعاكَسةِ هواها؛ خيفةَ الوقوعِ في سُوءِ العاقبةِ، والإنعامَ يبعَثُ النَّفسَ على الشُّكرِ، فكان ذِكرُ الصِّفَتينِ تَوزيعًا لِما أجمَلَه ذِكرُ أيَّامِ اللهِ، مِن أيامِ بُؤسٍ وأيَّامِ نَعيمٍ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/190-191). .
- وقُدِّمَ الصَّبَّارُ على الشَّكُورِ؛ لكونِ الشُّكرِ عاقبةَ الصَّبرِ [119]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/5). .
- واسمُ الإشارةِ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ عائدٌ إلى ما ذُكِرَ مِن الإخراجِ والتَّذكيرِ، وهي آياتٌ كائنةٌ في الإخراجِ والتَّذكيرِ على اختِلافِ أحوالِه، وقد أحاط بمعنى هذا الشُّمولِ حرْفُ الظَّرفيَّةِ مِن قولِه: فِي ذَلِكَ؛ لأنَّ الظَّرفيَّةَ تجمَعُ أشياءَ مُختلفةً يحتَويها الظَّرفُ؛ ولذلك كان لِحرْفِ الظَّرفيَّةِ هنا موقِعٌ بليغٌ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/190). .
3- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
- قولُه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ الإفعالِ أَنْجَاكُمْ دُونَ صِيغةِ التَّفعيلِ نَجَّيْنَاكُمْ الذي اقتَضاه سِياقُ سورةِ البَقرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا قد طالَ صَبرُهم جدًّا بما طالَ مِن بَلائِهم مِن فِرعونَ على وَجهٍ لا يُمكِنُ في العادةِ خَلاصُهم منه، وإنْ أمكنَ على بُعدٍ لم يَكُنْ إلَّا في أزمنةٍ طِوالٍ جدًّا بتَعبٍ شَديدٍ؛ أشارَ بصِيغةِ الإفعالِ أَنْجَاكُمْ إلى إسراعِه بخَلاصِهم بالنِّسبةِ إليه لو جرَى على مُقتضَى العادةِ جزاءً لهم على طُولِ صَبرِهم [121] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/383). . إضافةً إلى تَذكيرِهم بنِعمةِ اللهِ في نَجاتِهم، والتَّذكيرُ بِنعمةِ اللهِ في (أنْجَى) أبلَغُ مِن (نَجَّى)؛ لِمَا فيه مِن الإسراعِ في النَّجاةِ، وإنْ كان كلٌّ منهما مِن جَليلِ النِّعمِ. وقِيلَ: استعمَلَ أَنْجَاكُمْ؛ لِمَا زادَ على ما في البقرةِ مِنَ العَذابِ؛ فإنَّه فَسَّرَ سُوءَ العَذابِ بقولِه: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة: 49] ، في حينِ عَطَفَ تَذبيحَ الأبناءِ على سُوءِ العذابِ في آيةِ إبراهيمَ، فجعَلَ تَذْبيحَ الأبناءِ أمْرًا آخَرَ غيرَ سُوءِ العذابِ؛ فلمَّا زاد في العذابِ اقْتَضى ذلك الإسراعَ في الإنجاءِ [122] يُنظر: ((بلاغة الكلمة في التعبير القرآني)) للسامرائي (ص: 71). .
- قولُه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَيُذَبِّحُونَ، وفي سُورةِ (البقرةِ) قال: يُذَبِّحُونَ [البقرة: 49] ، وفي (الأعرافِ) قال: يُقَتِّلُونَ [الأعراف: 141] ؛ فهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مع الواوِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ التَّذبيحَ حيثُ طُرِحَ الواوُ جُعِلَ تَفسيرًا للعَذابِ وبَيانًا له، وحيث أُثْبِتَ جُعِلَ التَّذبيحُ- لأنَّه أَوْفى على جنْسِ العَذابِ، وزادَ عليه زِيادةً ظاهرةً- كأنَّه جِنْسٌ آخَرُ؛ فحُذِفتِ الواوُ في سُورةِ البَقرةِ؛ لأنَّ قولَه: يُذَبِّحُونَ تَفسيرٌ لقولِه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وفي التَفسيرِ لا يَحسُنُ ذِكرُ الواوِ، كما تقولُ: جاءني القومُ زيدٌ وعمرٌو، إذا أردتَ تَفسيرَ القومِ، وأمَّا دخولُ الواوِ هنا في هذِه السُّورةِ؛ فلأنَّ آلَ فِرعونَ كانوا يُعذِّبونهم بأنواعٍ مِن العذابِ غيرِ التذبيحِ وبالتذبيحِ أيضًا؛ فقوله: وَيُذَبِّحُونَ نوعٌ آخَرُ مِن العذابِ [123] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/540، 541)، ((تفسير أبي حيان)) (6/410)، ((تفسير الخازن)) (3/29). .
4- قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
- قولُه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، أي: آذَنَ إيذانًا بليغًا لا تَبقَى معه شائبةٌ؛ فـ تَأَذَّنَ بمعنى آذَنَ، كـ (توعَّدَ وأوعَدَ)، غيرَ أنَّه أبلَغُ؛ لأنَّ في صِيغَةِ (تفعَّل) زيادةَ معنًى على صِيغَةِ (أفْعَل)، ولِمَا في التَّفعُّلِ مِن معنى المُبالَغةِ، والتَّكلُّفِ المُحمولِ في حقِّه سبحانه على غايَتِه الَّتي هي الكمالُ [124] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/541)، ((تفسير البيضاوي)) (3/193)، ((تفسير أبي السعود)) (5/34)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/193). .
- قولُه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، وكأنَّه راعَى ظاهِرَ المُقابَلةِ في قولِه: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وجاء التَّركيبُ على ما عُهِدَ في القُرآنِ؛ مِن أنَّه إذا ذُكِرَ الخيرُ أُسْنِدَ إليه تعالى، وإذا ذُكِرَ العَذابُ بعدَه عُدِلَ عن نسبَتِه إليه، فقال: لَأَزِيدَنَّكُمْ؛ فنسَبَ الزِّيادةَ إليه، وقال: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، ولم يأتِ التَّركيبُ: (لَأُعذِّبَنَّكم)، وخرَجَ في لَأَزِيدَنَّكُمْ بالمفعولِ، وهنا لم يُذْكَرْ، وإنْ كان المعنى عليه، أي: إنَّ عذابي لكم لَشديدٌ؛ فمِن عادَةِ الكِرامِ التَّصريحُ بالوعْدِ، والتَّعريضُ بالوعيدِ، فما الظَّنُّ بأكرَمِ الأكرمينَ؟ ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ تعليلًا للجوابِ المحذوفِ، أي: لَأُعذِّبَنَّكم، فاستغنَى بـ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ عن (لأُعذِّبنَّكم عذابًا شديدًا)؛ لكونِه أعمَّ وأوجزَ، ولكونِ إفادةِ الوعيدِ بضربٍ مِن التعريضِ أوْقَعَ في النَّفْسِ [125] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/193)، ((تفسير أبي حيان))6/411)، ((تفسير أبي السعود)) (5/35)، ((تفسير الشربيني)) (2/170)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/194). .
5- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
- قولُه: وَقَالَ مُوسَى... فيه إعادةُ فعْلِ القَولِ في عطْفِ بعضِ كلامِ موسى عليه السَّلامُ على بعضٍ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ هذا ممَّا تأذَّنَ به الرَّبُّ، وإنَّما هو تنبيهٌ على كلامِ اللهِ، وفي إعادةِ فعْلِ القولِ اهتمامٌ بهذه الجُملةِ وتَنويهٌ بها؛ حتَّى تبرُزَ مُستقلِّةً، وحتَّى يُصْغِيَ إليها السَّامعونَ للقُرآنِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/194). .
- وحُذِفَ جوابُ إِنْ تَكْفُرُوا؛ لدَلالةِ المعنى عليه، والتَّقديرُ: فإنَّما ضرَرُ كُفْرِكم لاحقٌ بكم، واللهُ تعالى مُتَّصفٌ بالغِنى المُطلَقِ والحمدِ، سواءٌ كفَروا أم شَكَروا، وفي خِطابِه لهم تَحقيرٌ لشأْنِهم، وتعظيمٌ للهِ تعالى، وكذلك في ذِكْرِ هاتينِ الصِّفتَينِ [127] يُنظر: ((تفسير أبي حيان))6/411). .
- وقولُه: جَمِيعًا تأْكيدٌ لـ مَنْ فِي الْأَرْضِ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/195). .