موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (15-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غَريبُ الكَلِماتِ:

آَيَةٌ: أي: عَلامةٌ وحجَّةٌ ودلالةٌ، يُقالُ: آيةُ كذا؛ أي: علامَتُه، وتُطلَقُ أيضًا على العَجيبةِ .
سَيْلَ الْعَرِمِ: العَرِمُ: مِن العَرامةِ: وهي الشِّدَّةُ والكَثرةُ، يعني: السَّيلَ الغالِبَ الشَّديدَ؛ أو يكونُ العَرِمُ اسمًا للسَّيلِ الَّذي كان ينصَبُّ في السَّدِّ، وقيل: العَرِمُ: هو ما بُنِيَ ليُمسِكَ الماءَ ، وأصلُ (عرم): يدُلُّ على شِدَّةٍ وحِدَّةٍ؛ لأنَّ الماءَ إذا حُبِسَ كان له عُرامٌ مِن كَثرتِه .
أُكُلٍ: أي: ثَمَرٍ .
خَمْطٍ: أي: شَجرِ الأراكِ، ويُطلَقُ الخَمطُ على الشَّيءِ المُرِّ .
وَأَثْلٍ: الأثْلُ: شَجَرٌ عَظيمٌ يُشبِهُ الطَّرفاءَ، وأصلُ (أثل): يدُلُّ على أصلِ الشَّيءِ .
سِدْرٍ: السِّدْرُ: شَجَرُ النَّبْقِ، وهو قليلُ الغَناءِ عندَ الأكلِ .
أَحَادِيثَ: أي: أخبارًا وعِبَرًا يُتَمَثَّلُ بهم في الشَّرِّ، أو يُتحدَّثُ بهلاكِهم، ولا يُقالُ: جعلْتُه حديثًا في الخَيرِ. وأصلُ (حدث): كَوْنُ الشَّيءِ لم يَكُنْ، والحديثُ مِن هذا؛ لأنَّه كلامٌ يَحْدُثُ منه الشَّيءُ بعدَ الشَّيءِ .
وَمَزَّقْنَاهُمْ: أي: فرَّقْناهم في البلادِ كلَّ تفريقٍ، أي: غايةَ ما يكونُ مِن التَّفريقِ، وتبديدِ الشَّملِ، وقَطَّعْناهم في البلادِ كلَّ مُقَطَّعٍ، وأصلُ (مزق): يدُلُّ على تَخرُّقٍ في شَيءٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: لقد كان لأهلِ سَبَأٍ في مَسكَنِهم علامةٌ واضِحةٌ: بُستانانِ عَظيمانِ عن أيمانِهم وشَمائِلِهم، وقُلْنا لهم: كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكم، واشكُروا له على نِعَمِه، هذه بلدةٌ طَيِّبةٌ، وربُّكم ربٌّ غَفورٌ، فأعرَضوا عن طاعةِ اللهِ وشُكرِه وتَوحيدِه، فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ، فدمَّرَ بُستانَيْهم، وبَدَّلناهم بهما بُستانَينِ فيهما ثَمَرٌ خَمْطٌ، وأثْلٌ، وشَيءٌ قَليلٌ مِن السِّدرِ! ذلك الَّذي فعَلْناه بهم هو جزاءٌ لهم بسَبَبِ كُفرِهم، وما نُجازي جزاءَ العُقوبةِ إلَّا الكَفورَ.
 وكنَّا قد أنعَمْنا أيضًا على أهلِ سَبَأٍ مِن قبْلُ بأنْ جعَلْنا بيْنَهم وبيْن قُرى الشَّامِ المُبارَكةِ قُرًى مُتَّصِلةً مُتقارِبةً ظاهِرةً لا تَخفى، وجعَلْنا السَّيرَ في تلك القُرى سَيرًا يَسيرًا مُقَدَّرًا، وقُلْنا لهم: سِيروا في هذه القُرى الَّتي بيْنَكم وبيْن الشَّامِ لَياليَ وأيامًا آمِنينَ، فقالوا: ربَّنا اجعَلْ أسفارَنا بَعيدةً، وظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم نِعَمَ رَبِّهم، فجعَلْناهم أحاديثَ يتحَدَّثُ النَّاسُ بأخبارِهم وما عاقَبْناهم به، ومَضرِبًا للمَثَلِ في التَّشَتُّتِ والتفَرُّقِ، وتفَرَّقوا في نواحي الأرضِ بعدَ جَدْبِ أرضِهم! إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ لكُلِّ صَبَّار شَكورٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حالَ الشَّاكِرينَ لنِعَمِه، بذكْرِ داودَ وسُلَيمانَ؛ بيَّنَ حالَ الكافِرينَ بأنعُمِه، بحكايةِ أهلِ سَبَأٍ .
وأيضًا جَرَّ خبَرُ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ إلى ذِكرِ سَبأٍ؛ لِمَا بيْنَ مُلكِ سُليمانَ وبيْن مَملكةِ سَبأٍ مِن الاتِّصالِ؛ بسَببِ قِصَّةِ «بِلْقيسَ»، ولأنَّ في حالِ أهلِ سَبأٍ مُضادَّةً لأحوالِ داودَ وسُليمانَ؛ إذ كان هذانِ مَثلًا في إسباغِ النِّعمةِ على الشَّاكرينَ، وكان أولئك مَثَلًا لِسَلبِ النِّعمةِ عن الكافرينَ .
وأيضًا لَمَّا فَرَغ التَّمثيلُ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ رجَعَ التَّمثيلُ للمُشرِكينَ -أي: لحالِهم- بسبَأٍ، وما كان مِن هلاكِهم بالكُفرِ والعُتُوِّ .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ.
أي: لقد كان لأهلِ سَبَأٍ في مَسكَنِهم علامةٌ بَيِّنةٌ .
جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ.
أي: تلك الآيةُ هي جنَّتانِ عَظيمتانِ عن أيمانِهم وشمائِلِهم .
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ.
أي: وقُلْنا لهم : كُلوا مِمَّا رزَقَكم ربُّكم، واعمَلوا لله تعالى وَحْدَه وأطيعوه؛ شُكرًا له على ما أنعَمَ به عليكم .
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بشُكرِه؛ بيَّن ما يوجِبُ الشُّكرَ المأمورَ به .
وأيضًا لَمَّا بيَّن حالَهم في مساكنِهم وبساتينِهم وأكْلِهم؛ أتمَّ بيانَ النِّعمةِ ، فقال:
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
أي: هذه بَلدةٌ طَيِّبةٌ ، والمُنعِمُ بها رَبٌّ غَفورٌ يَستُرُ الذُّنوبَ، ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بها .
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما كان مِن جانِبِه تعالى مِن الإحسانِ إليهم؛ ذكَرَ ما كان مِن جانِبِهم في مُقابَلتِه .
فَأَعْرَضُوا.
أي: فأعرَضَ أهلُ سَبَأٍ عن توحيدِ اللهِ وطاعتِه وشُكرِه، فعَبَدوا غيرَه، وعَصَوا أمْرَه، وخالَفوا رسُلَه .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.
أي: فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ ، فدمَّرَ جَنَّتَيهم .
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.
أي: وجعَلْنا لهم مكانَ الجنَّتينِ اللَّتَينِ كانت فيهما الثِّمارُ النَّضيجةُ، والمناظِرُ الحَسَنةُ البَهيجةُ: جنَّتينِ فيهما ثَمَرٌ خَمْطٌ وأثْلٌ، وشَيءٌ قَليلٌ مِن السِّدْرِ .
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17).
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا.
أي: ذلك الَّذي فعَلْناه بأولئك القَومِ هو جزاءٌ مِنَّا لهم؛ بسَبَبِ كُفرِهم .
وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
أي: وما نُجازي ذلك الجَزاءَ -جزاءَ العقوبةِ- إلَّا شَديدَ الكُفرِ لنِعَمِ اللهِ .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تَكمِلةُ القِصَّةِ بذِكرِ نِعمةٍ بعدَ نِعمةٍ؛ فإنَّ ما تقدَّمَ: لنِعمةِ الرَّخاءِ والبَهجةِ، وطِيبِ الإقامةِ، وما هنا: لنِعمةِ الأمنِ، وتيسيرِ الأسفارِ، وعُمرانِ بلادِهم .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً.
أي: وكُنَّا قد أنعَمْنا أيضًا على أهلِ سَبَأٍ مِن قَبْلُ بأنْ جعَلْنا بيْنَهم وبيْن قُرى الشَّامِ المُبارَكةِ قُرًى مُتَّصِلةً مُتقارِبةً، وهي بيِّنةٌ لا تخفَى؛ لِظُهورِها، فلا يحتاجونَ في طريقِهم لحَملِ زادٍ .
وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ.
أي: وجعَلْنا السَّيرَ في تلك القُرى سَيْرًا مُقَدَّرًا .
سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ.
أي: وقُلْنا لأهلِ سَبَأٍ: سِيروا في هذه القُرى الظَّاهِرةِ الَّتي بيْنَكم وبيْنَ الشَّامِ لَياليَ وأيَّامًا آمِنينَ فيها مِن جَميعِ آفاتِ السَّفَرِ .
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انقضى الخبَرُ عن الأوصافِ الَّتي تَستدعي غايةَ الشُّكرِ؛ لِما فيها مِن الألطافِ- دَلَّ على بَطَرِهم للنِّعمةِ بها، بأنَّهم جعَلوها سببًا للتَّضَجُّرِ والمَلالِ .
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.
أي: فقالوا: يا رَبَّنا اجعَلْ أسفارَنا بَعيدةً، فيَكونَ بيْنَنا وبيْنَ الشَّامِ فَلَواتٌ !
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
أي: وظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم باللهِ وبنِعمتِه .
فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.
أي: فجعَلْناهم أحاديثَ يتحدَّثُ النَّاسُ بأخبارِهم وشأنِ ما جرى لهم مِنَ العُقوبةِ والهلاكِ، ويَضرِبونَ بهم المَثَلَ في التَّشَتُّتِ والتَّفَرُّقِ .
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.
أي: وقَطَّعْناهم في الأرضِ، فتفَرَّقوا في نواحٍ كثيرةٍ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
أي: إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ بَيِّنةً لكُلِّ عَظيمِ الصَّبرِ، عَظيمِ الشُّكرِ لله تعالى .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ إلى آخِرِ الآياتِ: آيةٌ للمُعتبِرين مِن أهلِ المعاصي؛ فإنَّ فيها تحذيرًا لهم مِن أنْ تَزولَ نعمةُ اللهِ تعالى عليهم؛ بسَبَبِ معاصيهم، وآيةٌ للطائعينَ حيثُ يَعتبِرونَ بها بأنَّهم ما داموا على طاعةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ نعمةَ اللهِ سُبحانَه وتعالى تُدَرُّ عليهم .
2- قَولُ الله تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ يدُلُّ على أنَّ الإجحافَ في إيفاءِ النِّعمةِ حَقَّها مِن الشُّكرِ: يُعَرِّضُ بها للزَّوالِ، وانقلابِ الأحوالِ .
3- قَولُ الله تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ في انعكاسِ حالِهم مِنَ الرَّفاهةِ إلى الشَّظَفِ آيةٌ على تقلُّبِ الأحوالِ، وتغيُّرِ العالَمِ؛ وآيةٌ على صِفاتِ الأفعالِ لله تعالى؛ مِن خَلْقٍ ورَزْقٍ، وإحياءٍ وإماتةٍ، وفي ذلك آيةٌ مِن عدَمِ الاطمِئنانِ لدَوامِ حالٍ في الخَيرِ والشَّرِّ .
4- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ في الآيةِ دَلالةٌ واضِحةٌ على أنَّ تأمينَ الطَّريقِ، وتيسيرَ المواصَلاتِ، وتقريبَ البُلدانِ؛ لتيسيرِ تبادُلِ المنافِعِ، واجتلابِ الأرزاقِ مِن هنا ومن هناك: نِعمةٌ إلهيَّةٌ، ومَقصدٌ شَرعيٌّ يُحِبُّه اللهُ لِمَن يحِبُّ أن يَرحمَه مِن عبادِه؛ من أجْلِ ذلك كان حَقًّا على وُلاةِ أمورِ الأمَّةِ أن يَسعَوا جُهدَهم في تأمينِ البلادِ، وحِراسةِ السُّبُلِ، وتيسيرِ الأسفارِ، وتقريرِ الأمنِ في سائرِ نواحي البِلادِ؛ جليلِها وصغيرِها، بمُختَلِفِ الوسائِلِ، وكان ذلك مِن أهَمِّ ما تُنفَقُ فيه أموالُ المُسلِمينَ، وما يَبذُلُ فيه أهلُ الخَيرِ من المُوسِرينَ أموالَهم؛ عَونًا على ذلك .
5- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فيه أنَّ بَطَرَهم لتلك النِّعمةِ حتَّى ملُّوها ودَعَوا بإزالتِها -على أحدِ الأقوالِ-: دليلٌ على أنَّ الإنسانَ ما دام حيًّا فهو في نِعمةٍ يجِبُ عليه شُكرُها كائنةً ما كانت، وإن كان يراها بليَّةً؛ لأنَّه لِما طُبِعَ عليه مِن القَلَقِ كثيرًا ما يرى النِّعمَ نِقَمًا، واللَّذَّةَ ألَمًا !
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أشار بصيغةِ المُبالَغةِ إلى أنَّ مَن ليس في طَبعِه الصَّبرُ، فاتَه الشُّكرُ .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ جمعَ بيْنَ (صبَّارٍ) و(شكورٍ) في الوَصفِ؛ لإفادةِ أنَّ واجِبَ المؤمِنِ التَّخلُّقُ بالخُلُقَينِ، وهما: الصَّبرُ على المكارهِ، والشُّكرُ على النِّعَمِ؛ فالصَّبَّارُ يَعتبِرُ مِن تلك الأحوالِ، فيَعلَمُ أنَّ الصَّبرَ على المَكارهِ خيرٌ مِن الجَزعِ، ويَرتكِبُ أخَفَّ الضَّررَينِ، ولا يَستخِفُّه الجَزَعُ فيُلْقي بنَفْسِه إلى الأخطارِ، ولا يَنظُرُ في العواقبِ! والشَّكورُ يَعتبِرُ بما أُعطِيَ مِن النِّعمِ، فيَزدادُ شُكرًا للهِ تعالى، ولا يَبطَرُ النِّعمةَ ولا يَطْغى فيُعاقَبَ بسَلْبِها كما سُلِبَت عنهم، ومِن وراءِ ذلك أنْ يَحرِمَهم اللهُ التَّوفيقَ، وأنْ يَقذِفَ بهم الخِذْلانُ في بُنَيَّاتِ الطَّريقِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ مادَّةُ الشُّكرِ تتعدَّى إلى النِّعمةِ تارةً، وإلى المُنعِمِ أُخرى؛ فإن عُدِّيَت إلى النِّعمةِ تعَدَّت إليها بنَفْسِها دونَ حَرفِ الجَرِّ، كقَولِه تعالى: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19] ، وإنْ عُدِّيَت إلى المُنعِمِ تعَدَّت إليه بحَرفِ الجَرِّ الَّذي هو اللَّامُ، كقولك: نحمَدُ اللهَ ونَشكُرُ له، ولم تأتِ في القُرآنِ مُعدَّاةً إلَّا باللَّامِ، كما في الآيةِ هنا، وقَولِه: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] ، وقَولِه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] ، وقَولِه: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] ، وقَولِه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] ... إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ، وهذه هي اللَّغةُ الفُصحى، وتعديتُها للمَفعولِ بدونِ اللَّامِ لُغةٌ لا لَحنٌ .
2- في قَولِه تعالى: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ عُقوبةُ المُعرِضينَ بما تَقْتضيه حكمةُ اللهِ سُبحانه وتعالى، وقد قال اللهُ سُبحانَه وتعالى في آيةٍ أُخرَى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ، فالعُقوباتُ دائمًا تكونُ مِن جنسِ العمَلِ؛ فهؤلاء لَمَّا بَطِروا نعمةَ اللهِ تعالى وكفَروا به -بسبب هذه الجَنَّاتِ- أُبدِلوا بجنَّاتٍ سيِّئةٍ بالنِّسبةِ لِمَا نُعِّموا به مِن قَبلُ .
3- قال الله عز وجل: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ في قَولِه تعالى: بِمَا كَفَرُوا دَليلٌ على أنَّ اللهَ لا يُجازي أحدًا بعُقوبةٍ إلَّا بفِعلِه .
4- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ يدُلُّ على خُصوصِ الجزاءِ بالمُبالِغينَ في الكُفرِ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على عُمومِ الجزاءِ، كقَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: 7] ؟
الجوابُ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى ما نُجازي هذا الجَزاءَ الشَّديدَ المُستأصِلَ إلَّا المبالِغَ في الكُفرانِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ ما يُفعَلُ بغيرِ الكافِرِ مِن الجزاءِ ليس عِقابًا في الحقيقةِ؛ لأنَّه تطهيرٌ وتَمحيصٌ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه لا يُجازَى بجميعِ الأعمالِ مع المناقَشةِ التَّامَّةِ إلَّا الكافِرُ، ويدُلُّ لهذا قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نُوقِشَ الحِسابَ فقد هَلَك ))، فلمَّا سألَتْه عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها عن قَولِه تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8] ، قال لها: ((ذلكِ العَرضُ)) .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ فيه سُؤالٌ: هذا مِنَ النِّعَمِ، واللهُ تعالى قد شَرَع في بيانِ تبديلِ نِعَمِهم بقَولِه: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ، فكيف عاد مرَّةً أُخرى إلى بيانِ النِّعمةِ بعدَ النِّقمةِ؟
الجوابُ: أنَّه ذكَرَ حالَ نَفْسِ بلَدِهم، وبيَّن تبديلَ ذلك بالخَمْطِ والأثْلِ، ثمَّ ذكَرَ حالَ خارجِ بلَدِهم، وذكَرَ عِمارتَها بكَثرةِ القُرى، ثمَّ ذكرَ تبديلَه ذلك بالمفاوِزِ والبَيادي والبَراري، بقَولِهم: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا، وقد فعَلَ ذلك .
6- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ أنَّ الطُّرُقَ إذا كانت بيْنَ قرًى متجاوِرةٍ فهي آمَنُ، وأقرَبُ إلى السَّلامةِ .
7- في قَولِه تعالى: وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ أنَّ تقديرَ السَّيرِ أنشَطُ للمسافرِ وأسهلُ له؛ لأنَّه إذا كان بيْنَ القرَى تبايُنٌ بعيدٌ تَعِبَ المسافرُ ومَلَّ، لكنْ إذا صار يَقطَعُها مرحلةً مرحلةً؛ صار ذلك أنشَطَ له وأهْوَنَ عليه، ومِن هذا تجزئةُ القرآنِ ومسائلِ العِلمِ والكتبِ المُصَنَّفةِ حتَّى يقطعَها الإنسانُ مرحلةً مرحلةً؛ فيكونَ ذلك أسهَلَ عليه، ورُبَّما نأخُذُ منه فائدةً لِمَن أراد حِفْظَ القرآنِ أنْ يَتَحَفَّظَه شيئًا فشيئًا .
8- في قَولِه تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ أنَّ الأمنَ في الأوطانِ مِن أكبَرِ النِّعَمِ .
9- إنَّما غلَّبت العربُ اللياليَ على الأيامِ في التاريخِ، فقيل: كتبت لخمسٍ بقينَ. وأنت في اليومِ؛ لأنَّ ليلةَ الشَّهرِ سبَقت يومَه، ولم يلِدْها وولَدتْه، ولأنَّ الأهِلَّةَ للَّيالي دونَ الأيامِ، وفيها دخولُ الشَّهرِ؛ ولذلك ما ذكَرهما الله تعالى إلَّا وقدَّم اللياليَ على الأيامِ؛ قال تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ، وقال تعالى: سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة: 7] ، وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [فاطر: 13] ، والعربُ تستعمِلُ الليلَ في الأشياءِ التي يشارِكُها فيها النَّهارُ دونَ النَّهارِ، وإن كانت لا تتِمُّ إلَّا به؛ قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] .
10- في قَولِه تعالى: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ دَلالةٌ على أنَّ ظُلمَ النَّفسِ يكونُ بالكُفرِ والشِّركِ ؛ فقد قال الله تعالى قبْلَ ذلك: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ: 17] .
11- الإيمانُ نِصفانِ: نِصفٌ صَبْرٌ، ونِصفٌ شُكرٌ؛ قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
- قولُه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ بَيانٌ لِأخبارِ بَعضِ الكافرينَ بنِعَمِ اللهِ تعالى إثْرَ بَيانِ أحوالِ الشَّاكرينَ لها . والتَّأكيدُ بلامِ القَسَمِ وحَرفِ التَّحقيقِ لَقَدْ؛ لِتَنزيلِ المُخاطَبينَ بالتَّعريضِ بهذه القِصَّةِ مَنزِلةَ مَن يَتردَّدُ في ذلك؛ لِعَدَمِ اتِّعاظِهم بحالِ قَومٍ مِن أهْلِ بِلادِهم .
- وفي قولِه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَحَّدَ لَفظَ (الآيةِ) مع أنَّ الجَنَّتينِ آيتانِ؛ لِتَماثُلِهما في الدَّلالةِ، واتِّحادِ جِهَتِهما، كقولِه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .
- وفي قولِه: جَنَّتَانِ تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: في مَساكنِهم شَبيهُ جنَّتينِ في أنَّه مُغترَسُ أشجارٍ ذاتِ ثَمرٍ مُتَّصِلٍ بَعضُها ببَعضٍ، مِثلُ ما يُعرَفُ مِن حالِ الجنَّاتِ. وتَثنيةُ جنَّتينِ باعتبارِ أنَّ ما على يَمينِ السَّائرِ كَجَنَّةٍ، وما على يَسارِه كجنَّةٍ. وقيل: كان لكلِّ رجُلٍ منهم في مَسكنِه -أي: دارِه- جنَّتانِ: جنَّةٌ عن يَمينِ المَسكنِ، وجنَّةٌ عن شِمالِه، فيَكونُ معنى التَّركيبِ على التَّوزيعِ، أي: لكلِّ مَسكنٍ جنَّتانِ، وهذا مُناسبٌ لقولِه: فِي مَسْكَنِهِمْ دونَ أنْ يقولَ: في بِلادِهم، أو دِيارِهم. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ أنَّ مَدينتَهم -وهي مَأرِبُ- كانت مَحفوفةً على يَمينِها وشِمالِها بغابةٍ مِن الجنَّاتِ يَصطافُّون فيها ويَستثمِرونها، وهذا يُناسِبُ قولَه بعْدُ: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] ؛ لأنَّ ظاهرَه أنَّ المُبدَلَ به جنَّتانِ اثنتانِ، إلَّا أنْ تَجعَلَه على التَّوزيعِ مِن مُقابَلةِ المُتعدِّدِ بالمُتعدِّدِ. وفي جَعلِ جَنَّتَيْنِ في نَظمِ الكلامِ بَدلًا عن (آية) كِنايةٌ عن طِيبِ تُربةِ بِلادِهم .
- قولُه: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ؛ حِكايةً لِمَا قِيلَ لهم على لِسانِ نبيِّهم؛ تَكْميلًا للنِّعمةِ، وتَذكيرًا لِحُقوقِها. أو لِمَا نطَقَ به لِسانُ الحالِ. أو بَيانٌ لِكَونِهم أحِقَّاءَ بأنْ يُقالَ لهم ذلك .
- جُملةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مُستأنَفةٌ للدَّلالةِ على مُوجِبِ الشُّكرِ .
- وتَنكيرُ بَلْدَةٌ للتَّعظيمِ، وعُدِلَ عن إضافةِ (بَلْدة) إلى ضَميرِهم؛ لِتَكونَ الجُملةُ خَفيفةً على اللِّسانِ، فتكونَ بمَنزلةِ المَثلِ. وتَنكيرُ (رَبٌّ) للتَّعظيمِ، والعُدولُ عن إضافةِ (ربّ) لِضَميرِ المُخاطَبينَ إلى تَنكيرِ (ربّ)، وتَقديرِ لامِ الاختِصاصِ؛ لِقَصدِ تَشريفِهم بهذا الاختصاصِ، ولِتَكونَ الجُملةُ على وِزانِ الَّتي قبْلَها؛ طَلبًا للتَّخفيفِ، ولِتَحصُلَ المُزاوَجةُ بيْن الفِقْرتينِ، فتَسِيرَا مَسِيرَ المَثَلِ .
2- قَولُه تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ
- قولُه فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ... تَفريعٌ على قولِه: وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ: 15] ، وقَعَ اعتِراضًا بيْنَ أجزاءِ القِصَّةِ الَّتي بَقِيَّتُها قولُه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ... [سبأ: 18] إلخ، وهو اعتِراضٌ بالفاءِ، والإعراضُ يَقْتضي سَبْقَ دَعوةِ رَسولٍ أو نَبيٍّ، والمعنى: أعْرَضوا عن الاستِجابةِ لدَعوةِ التَّوحيدِ بالعَودِ إلى عِبادةِ الشَّمْسِ بعْدَ أنْ أقْلَعُوا في زَمنِ سُليمانَ عليه السَّلامُ وبِلقيسَ .
- و(الإرسالُ) في قولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ: الإطلاقُ، وهو ضِدُّ الحبْسِ، وتَعديتُه بحَرْفِ (على) يُؤذِنُ بأنَّه إرسالُ نِقمةٍ؛ فإنَّ سَيلَ العَرِمِ كان مَحبوسًا بالسَّدِّ في مَأْرِبَ، فكانوا يُرسِلون منه بمِقدارِ ما يَسقُون جَنَّاتِهم. و(التَّبديلُ) في قولِه: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ تَعويضُ شَيءٍ بآخَرَ؛ فالمعنى: أعطَيْناهم أشجارَ خَمْطٍ وأثْلٍ وسِدْرٍ عِوَضًا عن جنَّتَيهم، أي: صارتْ بِلادُهم قاحلةً ليس فيها إلَّا شَجرُ العِضاهِ والباديةِ، وفيما بيْنَ هذينِ الحالينِ أحوالٌ عظيمةٌ انتابَتْهم، فقاسَوُا العطَشَ وفِقْدانَ الثِّمارِ حتَّى اضْطُرُّوا إلى مُفارَقةِ تلك الدِّيارِ؛ فلمَّا كانتْ هذه النِّهايةُ دالَّةً على تلك الأحوالِ، طُوِيَ ذِكرُ ما قبْلَها، واقتُصِرَ على وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ... .
- وإطلاقُ اسمِ جَنَّتَيْنِ على هذه المَنابتِ مُشاكَلةٌ للتَّهكُّمِ؛ لأنَّها صارتْ قاحلةً ليس فيها إلَّا شَجرُ العِضاهِ والباديةِ .
- قَولُه: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ السِّدرُ: أكثَرُ الأشجارِ ظِلًّا وأنفَعُها؛ لأنَّه يُغسَلُ بوَرقِه مع الماءِ فيُنظِّفُ، وفيه رائحةٌ حَسنةٌ؛ ولذلك وُصِفَ هنا بالقليلِ؛ لإفادةِ أنَّ مُعظَمَ شَجرِهم لا فائدةَ منه، وزِيدَ تَقليلُه قِلَّةً بذِكرِ كَلمةِ (شَيءٍ) المُؤْذِنةِ في ذاتِها بالقِلَّةِ .
3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ
- قولُه: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16] ؛ فهو مِن تَمامِ الاعتراضِ، واسمُ الإشارةِ مِن البَيانِ بطَريقِ الإشارةِ، أي: جَزَيْناهم الجزاءَ المُشارَ إليه، وهو ما تَقدَّمَ مِن التَّبديلِ بجَنَّتَيهم جنَّتينِ أُخريَينِ. وتَقديمُه على عامِلِه؛ للاهتِمامِ بشِدَّةِ ذلك الجزاءِ وتَعظيمِه ، وأنَّه مما يُهتَمُّ غايةَ الاهتمامِ بتعرُّفِه .
- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ رُتبتهِ في الفَظاعةِ .
- وأيضًا قولُه: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ... تَذييلٌ، وهو قِسْمانِ؛ الأوَّلُ: ما جَرى مَجرى المَثلِ، والثَّاني: ما لم يَخرُجْ مَخرَجَ المَثلِ؛ وهو أنْ تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ مُتوقِّفةً على الأُولى في إفادةِ المُرادِ، أي: وهلْ يُجازى ذلك الجزاءَ المَخصوصَ؟! ومَضمونُ الجُملةِ الأُولى أنَّ آلَ سَبأٍ جَزاهم اللهُ تعالى بكُفرِهم، ومَضمونُ الثَّانيةِ أنَّ ذلك العِقابَ المخصوصَ لا يقَعُ إلَّا للكَفورِ، وفَرْقٌ بيْنَ قولِنا: جَزيتُه بسَببِ كذا، وبيْنَ قَولِنا: ولا يُجزى ذلك الجزاءَ إلَّا مَن كان بذلك السَّببِ، ولِتَغايُرِهما يصِحُّ أنْ يُجعَلَ الثَّاني عِلَّةً للأوَّلِ، ولكنَّ اختلافَ مَفهومِهما لا يُنافي تأْكيدَ أحدِهما بالآخَرِ؛ لِلُزومِ معنًى .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ إنكاريٌّ في مَعنى النَّفيِ .
4- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ حِكايةٌ لِمَا أُوتوا مِن النِّعَمِ الباديةِ في مَسايرِهم ومَتاجِرِهم، وما فَعَلوا بها مِن الكُفرانِ، وما حاقَ بهم بسَببِ ذلك؛ تَكملةً لِقِصَّةِ سَبأٍ بذِكرِ نِعمةٍ بعْدَ نِعمةٍ، وبَيانٌ لِعاقبتِهم، وإنَّما لم يُذكَرِ الكلُّ معًا؛ لِمَا في التَّثنيةِ والتَّكريرِ مِن زِيادةِ تَنبيهٍ وتَذكيرٍ .
- ومعنى ظَاهِرَةً أنَّها خارجةٌ عن المُدُنِ -على قولٍ-؛ فهي في ظَواهرِ المُدنِ، ومنه قولُهم: نَزَلْنا بظاهرِ المدينةِ الفُلانيَّةِ، أي: خارِجًا عنها؛ فقولُه: ظَاهِرَةً كتَسميةِ النَّاسِ إيَّاها بالباديةِ وبالضَّاحيةِ، فيكونُ في قولِه: ظَاهِرَةً على ذلك كِنايةٌ عن وَفرةِ المُدنِ، حتَّى إنَّ القُرى كلَّها ظاهرةٌ منها .
- قولُه: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ فيه تَقديمُ اللَّيالي على الأيَّامِ؛ للاهتمامِ بها في مَقامِ الامتِنانِ؛ لأنَّ المسافرينَ أحوَجُ إلى الأمْنِ في اللَّيلِ منْهم إليه في النَّهارِ؛ لأنَّ اللَّيلَ تَعترِضُهم فيه القُطَّاعُ والسِّباعُ ؛ فقدَّمَ ما هو أدلُّ على الأمْنِ وأعدَلُ للسَّيرِ في البلادِ الحارَّةِ بقولِه: لَيَالِيَ، وأشارَ إلى كَثرةِ الظِّلالِ والرُّطوبةِ والاعتدالِ الَّذي يُمكِنُ معه السَّيرُ في جَميعِ النَّهارِ بقولِه: وَأَيَّامًا، أي: في أيِّ وَقتٍ شِئتُم .
- وفي تَنكيرِ لَيَالِيَ وَأَيَّامًا إلْماعٌ إلى قِصَرِ أسفارِهم؛ فقد كانتْ قَصيرةً؛ لأنَّهم يَرتَعون في بُحْبُوحةٍ مِن العَيشِ، ورَغَدٍ منه، لا يَحتاجُون إلى مُواصَلةِ الكَدِّ، وتَجشُّمِ عَناءِ الأسفارِ للحُصولِ على ما يُرفِّهُ عَيْشَهم .
5- قَولُه تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
- الفاءُ في: فَقَالُوا رَبَّنَا لِتَعقيبِ قَولِهم هذا إثْرَ إتمامِ النِّعمةِ عليهم باقترابِ المُدُنِ، وتَيسيرِ الأسفارِ، فلمَّا تمَّتِ النِّعمةُ بَطِروها، فحلَّتْ بهم أسبابُ سَلْبِها عنهم .
- قولُه: وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ التَّمزيقُ: تَقطيعُ الثَّوبِ قِطَعًا، وهو هنا تَشبيهٌ لِتَفريقِ جامعةِ القومِ شَذَرَ مَذَرَ بتَمزيقِ الثَّوبِ قِطَعًا . وفي عِبارةِ التَّمزيقِ الخاصِّ بتَفريقِ المُتَّصلِ وخَرْقِه، مِن تَهويلِ الأمْرِ والدَّلالةِ على شِدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ؛ ما لا يَخْفى، أي: مَزَّقناهم تَمزيقًا لا غايةَ وراءَهُ بحيثُ يُضرَبُ به الأمثالُ في كلِّ فُرقةٍ ليس بعْدَها وِصالٌ .
- وجاء نظْمُ الكلامِ في قوله: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ ؛ فالمُسَبَّبُ على الكُفرِ هو استِئصالُهم، وهو مَدلولُ قولِه: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، والمُسبَّبُ على كُفرانِ نِعمةِ تَقارُبِ البلادِ هو تَمزيقُهم كلَّ مُمزَّقٍ، أي: تَفريقُهم .
- وفِعلُ الجَعلِ يَقْتضي تَغييرًا، ولَمَّا عُلِّقَ بذَواتِهم انقَلَبَت مِن ذواتٍ مُشاهَدةٍ إلى كَونِها أخبارًا مَسموعةً، والمعنى: أنَّهم هَلَكوا وتَحدَّثَ النَّاسُ بهم. أو أُرِيدَ: فجعَلْناهم أحاديثَ اعتبارٍ ومَوعظةٍ، أي: فأصَبْناهم بأمْرٍ غَريبٍ مِن شأْنِه أنْ يَتحَدَّثَ به النَّاسُ؛ فيكونُ أَحَادِيثَ مَوصوفًا بصِفَةٍ مُقدَّرةٍ دلَّ عليها السِّياقُ .
- وجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تَذييلٌ، وافتِتاحُها بأداةِ التَّوكيدِ؛ للاهتِمامِ بالخبَرِ، ويَظهَرُ أنَّ هذا التَّذييلَ تَنْهيةٌ للقِصَّةِ، وأنَّ ما بعْدَ هذه الجُملةِ مُتعلِّقٌ بالغرَضِ الأوَّلِ المُتعلِّقِ بأقوالِ المشركينَ، والمُنتقَلِ منه إلى العِبرةِ بداودَ وسُليمانَ، والمُمثَّلِ لحالِ المُشركينَ فيه بحالِ أهْلِ سَبأٍ. وجمَعَ (الآياتِ)؛ لأنَّ في تلك القصَّةِ عِدَّةَ آياتٍ وعِبَرٍ .
- وتَخصيصُ الصَّبَّارِ الشَّكورِ بذلك؛ لأنَّهم المُنتفِعون بها ، فآياتُ الرَّبِّ إنَّما يَنتفِعُ بها أهلُ الصَّبرِ والشُّكرِ .