موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (15-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غَريبُ الكَلِماتِ:

آَيَةٌ: أي: عَلامةٌ وحجَّةٌ ودلالةٌ، يُقالُ: آيةُ كذا؛ أي: علامَتُه، وتُطلَقُ أيضًا على العَجيبةِ [275] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 212)، ((تفسير ابن جرير)) (1/104، 592) و(19/432)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/47)، ((المفردات)) للراغب (ص: 102)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 71). قال الشنقيطيُّ: (والآيةُ في القرآنِ تُطلَق إطلاقَينِ: تُطلَقُ الآيةُ على الآيةِ الكَونيَّةِ القدَريَّةِ، وهي مِن الآيةِ بمعنى: العلامةِ، وهي ما نصَبه اللهُ جلَّ وعلا مِن آياتِه، جاعلًا لها علاماتٍ على كمالِ قُدرتِه، وأنَّه الرَّبُّ وحْدَه، المعبودُ وحْدَه،... الإطلاقُ الثَّاني: تُطلَق الآيةُ في القرآنِ على الآيةِ الشَّرعيَّةِ الدِّينيَّةِ؛ كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ). ((العذب النمير)) (4/362). .
سَيْلَ الْعَرِمِ: العَرِمُ: مِن العَرامةِ: وهي الشِّدَّةُ والكَثرةُ، يعني: السَّيلَ الغالِبَ الشَّديدَ؛ أو يكونُ العَرِمُ اسمًا للسَّيلِ الَّذي كان ينصَبُّ في السَّدِّ، وقيل: العَرِمُ: هو ما بُنِيَ ليُمسِكَ الماءَ [276] والمعنى على ذلك: أرسَلْنا السَّيلَ الَّذي كان مخزونًا في السَّدِّ. ، وأصلُ (عرم): يدُلُّ على شِدَّةٍ وحِدَّةٍ؛ لأنَّ الماءَ إذا حُبِسَ كان له عُرامٌ مِن كَثرتِه [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/249)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/292)، ((تفسير القرطبي)) (14/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/478)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/169). .
أُكُلٍ: أي: ثَمَرٍ [278] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/122)، ((المفردات)) للراغب (ص: 80)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 343). .
خَمْطٍ: أي: شَجرِ الأراكِ، ويُطلَقُ الخَمطُ على الشَّيءِ المُرِّ [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/255)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/220)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/171). .
وَأَثْلٍ: الأثْلُ: شَجَرٌ عَظيمٌ يُشبِهُ الطَّرفاءَ، وأصلُ (أثل): يدُلُّ على أصلِ الشَّيءِ [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/58)، ((المفردات)) للراغب (ص: 63)، ((تفسير القرطبي)) (14/287)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/171). .
سِدْرٍ: السِّدْرُ: شَجَرُ النَّبْقِ، وهو قليلُ الغَناءِ عندَ الأكلِ [281] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 282)، ((المفردات)) للراغب (ص: 403)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 405). .
أَحَادِيثَ: أي: أخبارًا وعِبَرًا يُتَمَثَّلُ بهم في الشَّرِّ، أو يُتحدَّثُ بهلاكِهم، ولا يُقالُ: جعلْتُه حديثًا في الخَيرِ. وأصلُ (حدث): كَوْنُ الشَّيءِ لم يَكُنْ، والحديثُ مِن هذا؛ لأنَّه كلامٌ يَحْدُثُ منه الشَّيءُ بعدَ الشَّيءِ [282] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 297)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 70)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 223)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 242). .
وَمَزَّقْنَاهُمْ: أي: فرَّقْناهم في البلادِ كلَّ تفريقٍ، أي: غايةَ ما يكونُ مِن التَّفريقِ، وتبديدِ الشَّملِ، وقَطَّعْناهم في البلادِ كلَّ مُقَطَّعٍ، وأصلُ (مزق): يدُلُّ على تَخرُّقٍ في شَيءٍ [283] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 356)، ((تفسير ابن جرير)) (19/266)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/318)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/1748)، ((تفسير البغوي)) (3/678)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 268). قال ابنُ قُتَيْبةَ: (ولذلك قالت العربُ للقَومِ إذا أخَذوا في وُجوهٍ مُختلِفةٍ: تفرَّقوا أيْدِيَ سَبَا، «وأيدي» بمعنى: مذاهِبَ وطُرقٍ). ((غريب القرآن)) (ص: 356). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: لقد كان لأهلِ سَبَأٍ في مَسكَنِهم علامةٌ واضِحةٌ: بُستانانِ عَظيمانِ عن أيمانِهم وشَمائِلِهم، وقُلْنا لهم: كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكم، واشكُروا له على نِعَمِه، هذه بلدةٌ طَيِّبةٌ، وربُّكم ربٌّ غَفورٌ، فأعرَضوا عن طاعةِ اللهِ وشُكرِه وتَوحيدِه، فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ، فدمَّرَ بُستانَيْهم، وبَدَّلناهم بهما بُستانَينِ فيهما ثَمَرٌ خَمْطٌ، وأثْلٌ، وشَيءٌ قَليلٌ مِن السِّدرِ! ذلك الَّذي فعَلْناه بهم هو جزاءٌ لهم بسَبَبِ كُفرِهم، وما نُجازي جزاءَ العُقوبةِ إلَّا الكَفورَ.
 وكنَّا قد أنعَمْنا أيضًا على أهلِ سَبَأٍ مِن قبْلُ بأنْ جعَلْنا بيْنَهم وبيْن قُرى الشَّامِ المُبارَكةِ قُرًى مُتَّصِلةً مُتقارِبةً ظاهِرةً لا تَخفى، وجعَلْنا السَّيرَ في تلك القُرى سَيرًا يَسيرًا مُقَدَّرًا، وقُلْنا لهم: سِيروا في هذه القُرى الَّتي بيْنَكم وبيْن الشَّامِ لَياليَ وأيامًا آمِنينَ، فقالوا: ربَّنا اجعَلْ أسفارَنا بَعيدةً، وظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم نِعَمَ رَبِّهم، فجعَلْناهم أحاديثَ يتحَدَّثُ النَّاسُ بأخبارِهم وما عاقَبْناهم به، ومَضرِبًا للمَثَلِ في التَّشَتُّتِ والتفَرُّقِ، وتفَرَّقوا في نواحي الأرضِ بعدَ جَدْبِ أرضِهم! إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ لكُلِّ صَبَّار شَكورٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حالَ الشَّاكِرينَ لنِعَمِه، بذكْرِ داودَ وسُلَيمانَ؛ بيَّنَ حالَ الكافِرينَ بأنعُمِه، بحكايةِ أهلِ سَبَأٍ [284] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/200). .
وأيضًا جَرَّ خبَرُ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ إلى ذِكرِ سَبأٍ؛ لِمَا بيْنَ مُلكِ سُليمانَ وبيْن مَملكةِ سَبأٍ مِن الاتِّصالِ؛ بسَببِ قِصَّةِ «بِلْقيسَ»، ولأنَّ في حالِ أهلِ سَبأٍ مُضادَّةً لأحوالِ داودَ وسُليمانَ؛ إذ كان هذانِ مَثلًا في إسباغِ النِّعمةِ على الشَّاكرينَ، وكان أولئك مَثَلًا لِسَلبِ النِّعمةِ عن الكافرينَ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/165). .
وأيضًا لَمَّا فَرَغ التَّمثيلُ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ رجَعَ التَّمثيلُ للمُشرِكينَ -أي: لحالِهم- بسبَأٍ، وما كان مِن هلاكِهم بالكُفرِ والعُتُوِّ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/165). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/413). .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ.
أي: لقد كان لأهلِ سَبَأٍ في مَسكَنِهم علامةٌ بَيِّنةٌ [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/244)، ((تفسير الزمخشري)) (3/575)، ((تفسير القرطبي)) (14/283)، ((تفسير ابن كثير)) (6/504، 505)، ((تفسير الشوكاني)) (4/367)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). وسبأٌ قبيلةٌ معروفةٌ في اليمَنِ، سمِّيت باسمِ جدٍّ لهم مِن العربِ، ومسكنُهم بلدةٌ يُقالُ لها: «مَأْرِبُ»، وكانت بِلْقيسُ منهم. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/504)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 126). وذكَر السَّمْعانيُّ أنَّ أكثرَ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّ (سَبَأ) اسمُ رجُلٍ، ونُسِبت القبيلةُ إليه. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/324). قال الماوَرْدي: (وفي الآيةِ الَّتي لِسَبأٍ في مساكنِهم قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّه لم يكُنْ في قريتِهم بَعوضةٌ قَطُّ، ولا ذُبابةٌ، ولا بُرْغُوثٌ، ولا حيَّةٌ، ولا عقربٌ، وإنَّ الرَّكْبَ لَيَأْتون في ثيابِهم القُمَّلُ والدَّوابُّ فتموتُ تلك الدَّوابُّ. قاله عبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدٍ. الثَّاني: أنَّ الآيةَ هي الجنَّتانِ كانت المرأةُ تمشي فيهما وعلى رأسِها مِكتَلٌ فيَمتلئُ، وما مسَّتْه بيَدِها. قاله قَتادةُ). ((تفسير الماوردي)) (4/443). وقيل: لم يجعَلِ اللهُ تعالى الجنَّتَينِ في أنفُسِهما آيةً، وإنَّما جَعَل قِصَّتَهما وتخريبَهما وإبدالَهم عنهما بخَمْطٍ وأثْلٍ؛ بسببِ إعراضِهم عن شكر اللهِ- آيةً وعِبرةً لهم؛ لِيَعتَبروا ويتَّعِظوا فلا يَعودوا إلى ما كانوا عليه مِن الكُفرِ وغَمْطِ النِّعَمِ. ويجوزُ أن تجعَلَهما آيةً، أى: علامةً دالَّةً على اللهِ، وعلى قُدرتِه، وإحسانِه ووُجوبِ شُكرِه. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/575). .
جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ.
أي: تلك الآيةُ هي جنَّتانِ عَظيمتانِ [288] قيل: المرادُ أنَّهما بُستانانِ كانا بيْنَ جبلَينِ عن يمينِ مَن أتاهما وشِمالِه. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/247)، ((تفسير ابن كثير)) (6/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/247). وقيل: لم يُرِدْ بُستانينِ اثنينِ فحَسْبُ، وإنَّما أراد جماعتينِ مِن البَساتينِ: جماعةً عن يمينِ بلدِهم، وأُخرَى عن شِمالِها، وكُلُّ واحدةٍ مِن الجماعتَينِ في تَقارُبِها وتَضامِّها كأنَّها جنَّةٌ واحدةٌ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: البِقاعي، والعُلَيمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/477)، ((تفسير العليمي)) (5/414)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 128). وقال الرَّسْعَنيُّ عن هذا القولِ: (هو قولُ عامَّةِ المفسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (6/229). عن أيمانِهم وشمائِلِهم [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/247)، ((تفسير ابن كثير)) (6/507)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 128). .
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ.
أي: وقُلْنا لهم [290] قال القرطبي: (أي: قيلَ لهم: كُلوا، ولم يكُنْ ثَمَّ أمرٌ، ولكِنَّهم تمكَّنوا مِن تلك النِّعَمِ. وقيل: قالت الرُّسُلُ لهم: قد أباح اللهُ تعالى لكم ذلك، أي: أباح لكم هذه النِّعَمَ؛ فاشكروه بالطَّاعةِ). ((تفسير القرطبي)) (14/284). : كُلوا مِمَّا رزَقَكم ربُّكم، واعمَلوا لله تعالى وَحْدَه وأطيعوه؛ شُكرًا له على ما أنعَمَ به عليكم [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/248)، ((تفسير السمعاني)) (4/325)، ((تفسير القرطبي)) (14/284). .
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بشُكرِه؛ بيَّن ما يوجِبُ الشُّكرَ المأمورَ به [292] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/138). .
وأيضًا لَمَّا بيَّن حالَهم في مساكنِهم وبساتينِهم وأكْلِهم؛ أتمَّ بيانَ النِّعمةِ [293] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/200). ، فقال:
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
أي: هذه بَلدةٌ طَيِّبةٌ [294] قال ابنُ عطية: (طَيِّبَةٌ: معناه: كريمةُ التُّربةِ، حَسَنةُ الهواءِ، رَغدةٌ مِن النِّعَمِ، سليمةٌ مِن الهَوامِّ والمضارِّ. هذه عباراتُ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/413، 414). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 132). ، والمُنعِمُ بها رَبٌّ غَفورٌ يَستُرُ الذُّنوبَ، ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بها [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/248)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/248)، ((تفسير السمعاني)) (4/325)، ((تفسير القرطبي)) (14/284)، ((تفسير ابن كثير)) (6/507)، ((تفسير أبي السعود)) (7/127). .
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما كان مِن جانِبِه تعالى مِن الإحسانِ إليهم؛ ذكَرَ ما كان مِن جانِبِهم في مُقابَلتِه [296] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/534). .
فَأَعْرَضُوا.
أي: فأعرَضَ أهلُ سَبَأٍ عن توحيدِ اللهِ وطاعتِه وشُكرِه، فعَبَدوا غيرَه، وعَصَوا أمْرَه، وخالَفوا رسُلَه [297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/249)، ((تفسير القرطبي)) (14/285)، ((تفسير ابن كثير)) (6/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.
أي: فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ [298] قال ابن عاشور: (و الْعَرِمِ يجوزُ أنْ يكونَ وصفًا مِن العَرامةِ، وهي الشِّدَّةُ والكثرةُ، فتكون إضافةُ «السَّيلِ» إلى العَرِمِ مِن إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ. ويجوزُ أن يكونَ الْعَرِمِ اسمًا للسَّيلِ الَّذي كان ينصَبُّ في السَّدِّ، فتكون الإضافةُ مِن إضافةِ المسمَّى إلى الاسمِ، أي: السَّيلُ العَرِمُ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/169). ممَّن ذهب في الجملةِ إلى القولِ الأوَّلِ، وأنَّه مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ، مِن العَرامةِ، وهي الشِّدَّةُ والقوَّةُ: البِقاعي، والألوسي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/478)، ((تفسير الألوسي)) (11/300). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/251، 252). وقيل: العَرِم: اسمٌ للوادي. وممَّن اختار ذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/529)، ((تفسير السمرقندي)) (3/85). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (6/507). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وعطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/251)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/690). وقيل: هو المُسَنَّاةُ أو السِّكْرُ الذي يَحبِسُ ماءَ السَّدِّ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/249)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 881). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عَمرُو بنُ شُرَحْبِيلَ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/690). قال القرطبي: (المُسَنَّاةُ هي الَّتي يُسَمِّيها أهلُ مِصرَ الجِسرَ؛ فكانوا يفتَحونَها إذا شاؤوا، فإذا رُوِيَت جنَّتاهم سَدُّوها). ((تفسير القرطبي)) (14/286). وقيل: العَرِمُ: ماءٌ أحمَرُ أرسَلَه اللهُ في السَّدِّ، فشَقَّه وهدَمَه، وحفَرَ الواديَ، فارتفعَتَا عن الجَنْبَينِ، وغاب عنهما الماءُ فيَبِسَتا، ولم يكُنِ الماءُ الأحمرُ مِن السَّدِّ، ولكِنْ كان عذابًا أرسله اللهُ عليهم مِن حيثُ شاء. وممَّن قال بهذا المعنى: مجاهِدٌ في روايةٍ. يُنظر: ((صحيح البخاري)) (6/121). ، فدمَّرَ جَنَّتَيهم [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/249)، ((تفسير القرطبي)) (14/285، 286)، ((تفسير ابن كثير)) (6/507، 508)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 133، 134). .
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.
أي: وجعَلْنا لهم مكانَ الجنَّتينِ اللَّتَينِ كانت فيهما الثِّمارُ النَّضيجةُ، والمناظِرُ الحَسَنةُ البَهيجةُ: جنَّتينِ فيهما ثَمَرٌ خَمْطٌ [300] قيل: المرادُ بالخَمطِ: الأراكُ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابنُ كثير، ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/255)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/495). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسنُ، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وعطاءٌ الخُراسانيُّ، وعِكْرِمةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/255)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508). وأثْلٌ، وشَيءٌ قَليلٌ مِن السِّدْرِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/255، 257)، ((تفسير القرطبي)) (14/286، 287)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508)، ((تفسير الشوكاني)) (4/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). قال الزمخشري: (والأثْلُ والسِّدْرُ: معطوفانِ على أُكُلٍ، لا على خَمْطٍ؛ لأنَّ الأثْلَ لا أُكُلَ له). ((تفسير الزمخشري)) (3/576). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/245)، ((تفسير أبي السعود)) (7/128). .
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17).
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا.
أي: ذلك الَّذي فعَلْناه بأولئك القَومِ هو جزاءٌ مِنَّا لهم؛ بسَبَبِ كُفرِهم [302] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/258)، ((تفسير القرطبي)) (14/288)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 138). .
وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
أي: وما نُجازي ذلك الجَزاءَ -جزاءَ العقوبةِ- إلَّا شَديدَ الكُفرِ لنِعَمِ اللهِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/258، 259)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/173). قال الرسعني: (والمعنى: وهل نُجازي مِثلَ هذا الجزاءِ [الفظيع]، أو: وهل يُجازى بكُلِّ عَمَلِه إلَّا الكفورُ؛ فإنَّ المؤمِنَ يكفَّرُ عنه ذنوبُه أو مُعظمُها بطاعتِه، والكافر يُجازى بجميعِ سيِّئاتِه). ((تفسير الرسعني)) (6/234). .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تَكمِلةُ القِصَّةِ بذِكرِ نِعمةٍ بعدَ نِعمةٍ؛ فإنَّ ما تقدَّمَ: لنِعمةِ الرَّخاءِ والبَهجةِ، وطِيبِ الإقامةِ، وما هنا: لنِعمةِ الأمنِ، وتيسيرِ الأسفارِ، وعُمرانِ بلادِهم [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/174). .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً.
أي: وكُنَّا قد أنعَمْنا أيضًا على أهلِ سَبَأٍ مِن قَبْلُ بأنْ جعَلْنا بيْنَهم وبيْن قُرى الشَّامِ المُبارَكةِ [305] قال ابنُ عطيةَ: (القُرَى التي بُورِك فيها هي بلادُ الشَّامِ بإجماعٍ مِن المفسرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/415). قُرًى مُتَّصِلةً مُتقارِبةً، وهي بيِّنةٌ لا تخفَى؛ لِظُهورِها، فلا يحتاجونَ في طريقِهم لحَملِ زادٍ [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/260، 261)، ((الهداية)) لمكي (9/5914)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/32)، ((تفسير ابن كثير)) (6/508، 509)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/485)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/174، 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 141). قال السمعاني: (ومعنى القُرى الظَّاهرةِ أي: المتَّصِلةِ، وقيل: ظاهِرة يعني: [للرَّائي]، على معنى أنَّهم كانوا إذا نزَلوا بقريةٍ رَأَوْا قريةً أُخرَى). ((تفسير السمعاني)) (4/328). وقال ابنُ عاشور: (ووَصفُ ظَاهِرَةً أنَّها مُتقارِبةٌ؛ بحيث يظهرُ بعضُها لبعضٍ ويَتراءى بعضُها مِن بعضٍ. وقيل: الظَّاهِرةُ: الَّتي تظهرُ للسَّائرِ مِن بُعدٍ، بأن كانت القُرى مَبنيَّةً على الآكامِ والظِّرابِ يُشاهِدُها المسافِرُ فلا يَضِلُّ طريقَها. وقال ابُن عطيَّةَ: «الَّذي يَظهرُ لي أنَّ معنى ظَاهِرَةً أنَّها خارجةٌ عن المدُنِ، فهي في ظواهِرِ المدُنِ»، ومنه قولُهم: نزَلْنا بظاهِرِ المدينةِ الفُلانيَّةِ، أي: خارجًا عنها. فقولُه: ظَاهِرَةً كتَسميةِ النَّاسِ إيَّاها بالباديةِ وبالضَّاحيةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/175). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/416). .
وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ.
أي: وجعَلْنا السَّيرَ في تلك القُرى سَيْرًا مُقَدَّرًا [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/263)، ((تفسير القرطبي)) (14/289، 290)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). قيل: المرادُ: أنَّ أبعادَ تلك القُرى والمسافاتِ بيْنَها: على تقديرٍ وتعادُلٍ؛ بحيث يَقيلُ الغادي في قريةٍ، ويَبيتُ الرَّائحُ في قريةٍ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/289، 290)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 141، 142). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/263)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/496). قال ابن عثيمين: (ولا شكَّ أنَّ تقديرَ السَّيرِ على هذا الوَجهِ أنَّه مِن نعمةِ الله على النَّاسِ؛ فإنَّ الخطوطَ الطَّويلةَ الَّتي ليست بها مُدُنٌ، تكونُ في الغالبِ طُرقًا مُهلِكةً مُخيفةً، لكِنْ إذا كانت متواصِلةً صارت أيسَرَ للسَّالكِ، وأشدَّ طُمأنينةً، بل وأقرَبَ للسَّيرِ؛ لأنَّك إذا مَشَيت مِن قريةٍ إلى أخرى تُحِسُّ أنَّك قطعْتَ مَرحلةً). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 141، 142). .
سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ.
أي: وقُلْنا لأهلِ سَبَأٍ: سِيروا في هذه القُرى الظَّاهِرةِ الَّتي بيْنَكم وبيْنَ الشَّامِ لَياليَ وأيَّامًا آمِنينَ فيها مِن جَميعِ آفاتِ السَّفَرِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/263)، ((تفسير الماتريدي)) (8/438)، ((تفسير ابن عطية)) (4/416)، ((تفسير القرطبي)) (14/290)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/176). .
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انقضى الخبَرُ عن الأوصافِ الَّتي تَستدعي غايةَ الشُّكرِ؛ لِما فيها مِن الألطافِ- دَلَّ على بَطَرِهم للنِّعمةِ بها، بأنَّهم جعَلوها سببًا للتَّضَجُّرِ والمَلالِ [309] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/486). .
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.
أي: فقالوا: يا رَبَّنا اجعَلْ أسفارَنا بَعيدةً، فيَكونَ بيْنَنا وبيْنَ الشَّامِ فَلَواتٌ [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/265)، ((تفسير القرطبي)) (14/290)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/177). قال ابن عاشور: (المعنى: باعِدْ بينَ السَّفَرِ والسَّفَرِ مِن أسفارِنا، ومعنى ذلك: إبعادُ المراحلِ؛ لأنَّ كلَّ مرحلةٍ تُعتبَرُ سَفَرًا، أي: باعِدْ بينَ مراحِلِ أسفارِنا). ((تفسير ابن عاشور)) (22/177). وذكر الماوَرْديُّ في هذه الآيةِ ثلاثةَ تأويلاتٍ: (أحدُها: أنَّهم قالوا ذلك؛ لأنَّهم مَلُّوا النِّعَمَ كما ملَّ بنو اسرائيل المَنَّ والسَّلْوى. قاله الحسَنُ. الثَّاني: أنَّهم قالوا: لو كانت ثمارُنا أبعَدَ مِمَّا هي كانت أشهى في النُّفوسِ وأحلى. قاله ابن عيسى. وهو قريبٌ مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه بطَرٌ، فصار نوعًا مِن المَللِ. الثَّالثُ: معناه: زِدْ في عمارتِنا حتَّى تبعُدَ فيه أسفارُنا. حكاه النَّقَّاشُ. وهذا القولُ منهم طلبًا للزِّيادةِ والكثرةِ). ((تفسير الماوردي)) (4/445). وممَّن قال بنحوِ القولِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/265)، ((تفسير القرطبي)) (14/290)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 142). وذهب ابن عاشور إلى أنَّ الأظهرَ أن يكونَ هذا القولُ قالوه جوابًا عن مَواعظِ أنبيائِهم والصَّالحينَ منهم حين يَنهَوْنَهم عن الشِّركِ، فهُم يَعِظونهم بأنَّ الله أنعَمَ عليهم بتلك الرَّفاهيةِ، وهم يُجيبونَ بهذا القَولِ؛ إفحامًا لدُعاةِ الخَيرِ منهم، على نحوِ قولِ كُفَّارِ قُرَيشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32]! يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/176). !
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
أي: وظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم باللهِ وبنِعمتِه [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/266)، ((تفسير القرطبي)) (14/291)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677). .
فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.
أي: فجعَلْناهم أحاديثَ يتحدَّثُ النَّاسُ بأخبارِهم وشأنِ ما جرى لهم مِنَ العُقوبةِ والهلاكِ، ويَضرِبونَ بهم المَثَلَ في التَّشَتُّتِ والتَّفَرُّقِ [312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/266)، ((تفسير القرطبي)) (14/291)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/177، 178). .
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.
أي: وقَطَّعْناهم في الأرضِ، فتفَرَّقوا في نواحٍ كثيرةٍ [313] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/266)، ((تفسير القرطبي)) (14/291)، ((تفسير ابن كثير)) (6/509)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/178، 179). قال ابن عاشور: (وأشارَتِ الآيةُ إلى التَّفَرُّقِ الشَّهيرِ الَّذي أُصيبَتْ به قبيلةُ سَبَأٍ إذْ حَمَلهم خرابُ السَّدِّ وقُحولةُ الأرضِ إلى مُفارقةِ تلك الأوطانِ مُفارَقَةً وَتَفْريقًا ضَرَبتْ به العربُ المَثَلَ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/178). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
أي: إنَّ في ذلك [314] قيل: اسمُ الإشارةِ يعودُ إلى تمزيقِهم كُلَّ مُمَزَّقٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/268)، ((تفسير ابن كثير)) (6/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 678). وقيل: المرادُ: قِصَّةُ سَبَأٍ على وجهِ العُمومِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/180، 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 145). لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ بَيِّنةً لكُلِّ عَظيمِ الصَّبرِ، عَظيمِ الشُّكرِ لله تعالى [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/268)، ((تفسير القرطبي)) (14/291)، ((تفسير ابن كثير)) (6/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 678)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/180، 181). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ إلى آخِرِ الآياتِ: آيةٌ للمُعتبِرين مِن أهلِ المعاصي؛ فإنَّ فيها تحذيرًا لهم مِن أنْ تَزولَ نعمةُ اللهِ تعالى عليهم؛ بسَبَبِ معاصيهم، وآيةٌ للطائعينَ حيثُ يَعتبِرونَ بها بأنَّهم ما داموا على طاعةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ نعمةَ اللهِ سُبحانَه وتعالى تُدَرُّ عليهم [316] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 131). .
2- قَولُ الله تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ يدُلُّ على أنَّ الإجحافَ في إيفاءِ النِّعمةِ حَقَّها مِن الشُّكرِ: يُعَرِّضُ بها للزَّوالِ، وانقلابِ الأحوالِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/181). .
3- قَولُ الله تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ في انعكاسِ حالِهم مِنَ الرَّفاهةِ إلى الشَّظَفِ آيةٌ على تقلُّبِ الأحوالِ، وتغيُّرِ العالَمِ؛ وآيةٌ على صِفاتِ الأفعالِ لله تعالى؛ مِن خَلْقٍ ورَزْقٍ، وإحياءٍ وإماتةٍ، وفي ذلك آيةٌ مِن عدَمِ الاطمِئنانِ لدَوامِ حالٍ في الخَيرِ والشَّرِّ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/180). .
4- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ في الآيةِ دَلالةٌ واضِحةٌ على أنَّ تأمينَ الطَّريقِ، وتيسيرَ المواصَلاتِ، وتقريبَ البُلدانِ؛ لتيسيرِ تبادُلِ المنافِعِ، واجتلابِ الأرزاقِ مِن هنا ومن هناك: نِعمةٌ إلهيَّةٌ، ومَقصدٌ شَرعيٌّ يُحِبُّه اللهُ لِمَن يحِبُّ أن يَرحمَه مِن عبادِه؛ من أجْلِ ذلك كان حَقًّا على وُلاةِ أمورِ الأمَّةِ أن يَسعَوا جُهدَهم في تأمينِ البلادِ، وحِراسةِ السُّبُلِ، وتيسيرِ الأسفارِ، وتقريرِ الأمنِ في سائرِ نواحي البِلادِ؛ جليلِها وصغيرِها، بمُختَلِفِ الوسائِلِ، وكان ذلك مِن أهَمِّ ما تُنفَقُ فيه أموالُ المُسلِمينَ، وما يَبذُلُ فيه أهلُ الخَيرِ من المُوسِرينَ أموالَهم؛ عَونًا على ذلك [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/181). .
5- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فيه أنَّ بَطَرَهم لتلك النِّعمةِ حتَّى ملُّوها ودَعَوا بإزالتِها -على أحدِ الأقوالِ-: دليلٌ على أنَّ الإنسانَ ما دام حيًّا فهو في نِعمةٍ يجِبُ عليه شُكرُها كائنةً ما كانت، وإن كان يراها بليَّةً؛ لأنَّه لِما طُبِعَ عليه مِن القَلَقِ كثيرًا ما يرى النِّعمَ نِقَمًا، واللَّذَّةَ ألَمًا [320] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/488). !
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أشار بصيغةِ المُبالَغةِ إلى أنَّ مَن ليس في طَبعِه الصَّبرُ، فاتَه الشُّكرُ [321] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/489). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ جمعَ بيْنَ (صبَّارٍ) و(شكورٍ) في الوَصفِ؛ لإفادةِ أنَّ واجِبَ المؤمِنِ التَّخلُّقُ بالخُلُقَينِ، وهما: الصَّبرُ على المكارهِ، والشُّكرُ على النِّعَمِ؛ فالصَّبَّارُ يَعتبِرُ مِن تلك الأحوالِ، فيَعلَمُ أنَّ الصَّبرَ على المَكارهِ خيرٌ مِن الجَزعِ، ويَرتكِبُ أخَفَّ الضَّررَينِ، ولا يَستخِفُّه الجَزَعُ فيُلْقي بنَفْسِه إلى الأخطارِ، ولا يَنظُرُ في العواقبِ! والشَّكورُ يَعتبِرُ بما أُعطِيَ مِن النِّعمِ، فيَزدادُ شُكرًا للهِ تعالى، ولا يَبطَرُ النِّعمةَ ولا يَطْغى فيُعاقَبَ بسَلْبِها كما سُلِبَت عنهم، ومِن وراءِ ذلك أنْ يَحرِمَهم اللهُ التَّوفيقَ، وأنْ يَقذِفَ بهم الخِذْلانُ في بُنَيَّاتِ الطَّريقِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/180، 181). وبُنَيَّاتُ الطَّريقِ هي الطُّرُقُ الصِّغارُ تَتَشَعَّبُ مِن الجادَّةِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 40). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ مادَّةُ الشُّكرِ تتعدَّى إلى النِّعمةِ تارةً، وإلى المُنعِمِ أُخرى؛ فإن عُدِّيَت إلى النِّعمةِ تعَدَّت إليها بنَفْسِها دونَ حَرفِ الجَرِّ، كقَولِه تعالى: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19] ، وإنْ عُدِّيَت إلى المُنعِمِ تعَدَّت إليه بحَرفِ الجَرِّ الَّذي هو اللَّامُ، كقولك: نحمَدُ اللهَ ونَشكُرُ له، ولم تأتِ في القُرآنِ مُعدَّاةً إلَّا باللَّامِ، كما في الآيةِ هنا، وقَولِه: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] ، وقَولِه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] ، وقَولِه: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] ، وقَولِه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] ... إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ، وهذه هي اللَّغةُ الفُصحى، وتعديتُها للمَفعولِ بدونِ اللَّامِ لُغةٌ لا لَحنٌ [323] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/535). .
2- في قَولِه تعالى: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ عُقوبةُ المُعرِضينَ بما تَقْتضيه حكمةُ اللهِ سُبحانه وتعالى، وقد قال اللهُ سُبحانَه وتعالى في آيةٍ أُخرَى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ، فالعُقوباتُ دائمًا تكونُ مِن جنسِ العمَلِ؛ فهؤلاء لَمَّا بَطِروا نعمةَ اللهِ تعالى وكفَروا به -بسبب هذه الجَنَّاتِ- أُبدِلوا بجنَّاتٍ سيِّئةٍ بالنِّسبةِ لِمَا نُعِّموا به مِن قَبلُ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 135). .
3- قال الله عز وجل: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ في قَولِه تعالى: بِمَا كَفَرُوا دَليلٌ على أنَّ اللهَ لا يُجازي أحدًا بعُقوبةٍ إلَّا بفِعلِه [325] يُنظر: (تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 139). .
4- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ يدُلُّ على خُصوصِ الجزاءِ بالمُبالِغينَ في الكُفرِ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على عُمومِ الجزاءِ، كقَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: 7] ؟
الجوابُ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى ما نُجازي هذا الجَزاءَ الشَّديدَ المُستأصِلَ إلَّا المبالِغَ في الكُفرانِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ ما يُفعَلُ بغيرِ الكافِرِ مِن الجزاءِ ليس عِقابًا في الحقيقةِ؛ لأنَّه تطهيرٌ وتَمحيصٌ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه لا يُجازَى بجميعِ الأعمالِ مع المناقَشةِ التَّامَّةِ إلَّا الكافِرُ، ويدُلُّ لهذا قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نُوقِشَ الحِسابَ فقد هَلَك ))، فلمَّا سألَتْه عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها عن قَولِه تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8] ، قال لها: ((ذلكِ العَرضُ)) [326] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 190). ويُنظر أيضًا: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/293). والحديث أخرجه البخاري (103)، ومسلم (2876). قال ابن عاشور: (والمعنى: ما يُجازى ذلك الجزاءَ إلَّا الكَفورُ؛ لأنَّ ذلك الجزاءَ عَظيمٌ في نوعِه... فلا يُتوهَّمُ أنَّ هذا يقتضي أنَّ غيرَ الكَفورِ لا يُجازى على فِعلِه، ولا أنَّ الثَّوابَ لا يُسمَّى جزاءً، ولا أنَّ العاصيَ المؤمِنَ لا يُجازى على معصيتِه؛ لأنَّ تلك التَّوهُّماتِ كُلَّها مُندَفِعةٌ بما في اسمِ الإشارةِ مِن بيانِ نوعِ الجزاءِ؛ فإنَّ الاستئصالَ ونحوَه لا يجري على المؤمنينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/173، 174). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ فيه سُؤالٌ: هذا مِنَ النِّعَمِ، واللهُ تعالى قد شَرَع في بيانِ تبديلِ نِعَمِهم بقَولِه: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ، فكيف عاد مرَّةً أُخرى إلى بيانِ النِّعمةِ بعدَ النِّقمةِ؟
الجوابُ: أنَّه ذكَرَ حالَ نَفْسِ بلَدِهم، وبيَّن تبديلَ ذلك بالخَمْطِ والأثْلِ، ثمَّ ذكَرَ حالَ خارجِ بلَدِهم، وذكَرَ عِمارتَها بكَثرةِ القُرى، ثمَّ ذكرَ تبديلَه ذلك بالمفاوِزِ والبَيادي والبَراري، بقَولِهم: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا، وقد فعَلَ ذلك [327] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/201). .
6- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ أنَّ الطُّرُقَ إذا كانت بيْنَ قرًى متجاوِرةٍ فهي آمَنُ، وأقرَبُ إلى السَّلامةِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 143). .
7- في قَولِه تعالى: وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ أنَّ تقديرَ السَّيرِ أنشَطُ للمسافرِ وأسهلُ له؛ لأنَّه إذا كان بيْنَ القرَى تبايُنٌ بعيدٌ تَعِبَ المسافرُ ومَلَّ، لكنْ إذا صار يَقطَعُها مرحلةً مرحلةً؛ صار ذلك أنشَطَ له وأهْوَنَ عليه، ومِن هذا تجزئةُ القرآنِ ومسائلِ العِلمِ والكتبِ المُصَنَّفةِ حتَّى يقطعَها الإنسانُ مرحلةً مرحلةً؛ فيكونَ ذلك أسهَلَ عليه، ورُبَّما نأخُذُ منه فائدةً لِمَن أراد حِفْظَ القرآنِ أنْ يَتَحَفَّظَه شيئًا فشيئًا [329] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 143). .
8- في قَولِه تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ أنَّ الأمنَ في الأوطانِ مِن أكبَرِ النِّعَمِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 143). .
9- إنَّما غلَّبت العربُ اللياليَ على الأيامِ في التاريخِ، فقيل: كتبت لخمسٍ بقينَ. وأنت في اليومِ؛ لأنَّ ليلةَ الشَّهرِ سبَقت يومَه، ولم يلِدْها وولَدتْه، ولأنَّ الأهِلَّةَ للَّيالي دونَ الأيامِ، وفيها دخولُ الشَّهرِ؛ ولذلك ما ذكَرهما الله تعالى إلَّا وقدَّم اللياليَ على الأيامِ؛ قال تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ، وقال تعالى: سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة: 7] ، وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [فاطر: 13] ، والعربُ تستعمِلُ الليلَ في الأشياءِ التي يشارِكُها فيها النَّهارُ دونَ النَّهارِ، وإن كانت لا تتِمُّ إلَّا به؛ قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [331] يُنظر: ((الأزمنة والأمكنة)) للمرزوقي (ص: 469)، وفيه وجهٌ آخرُ مذكورٌ (ص: 114). [الأعراف: 142] .
10- في قَولِه تعالى: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ دَلالةٌ على أنَّ ظُلمَ النَّفسِ يكونُ بالكُفرِ والشِّركِ [332] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 197). ؛ فقد قال الله تعالى قبْلَ ذلك: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ: 17] .
11- الإيمانُ نِصفانِ: نِصفٌ صَبْرٌ، ونِصفٌ شُكرٌ؛ قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [333] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 265). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
- قولُه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ بَيانٌ لِأخبارِ بَعضِ الكافرينَ بنِعَمِ اللهِ تعالى إثْرَ بَيانِ أحوالِ الشَّاكرينَ لها [334] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/127). . والتَّأكيدُ بلامِ القَسَمِ وحَرفِ التَّحقيقِ لَقَدْ؛ لِتَنزيلِ المُخاطَبينَ بالتَّعريضِ بهذه القِصَّةِ مَنزِلةَ مَن يَتردَّدُ في ذلك؛ لِعَدَمِ اتِّعاظِهم بحالِ قَومٍ مِن أهْلِ بِلادِهم [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/166). .
- وفي قولِه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَحَّدَ لَفظَ (الآيةِ) مع أنَّ الجَنَّتينِ آيتانِ؛ لِتَماثُلِهما في الدَّلالةِ، واتِّحادِ جِهَتِهما، كقولِه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [336] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 465، 466). [المؤمنون: 50] .
- وفي قولِه: جَنَّتَانِ تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: في مَساكنِهم شَبيهُ جنَّتينِ في أنَّه مُغترَسُ أشجارٍ ذاتِ ثَمرٍ مُتَّصِلٍ بَعضُها ببَعضٍ، مِثلُ ما يُعرَفُ مِن حالِ الجنَّاتِ. وتَثنيةُ جنَّتينِ باعتبارِ أنَّ ما على يَمينِ السَّائرِ كَجَنَّةٍ، وما على يَسارِه كجنَّةٍ. وقيل: كان لكلِّ رجُلٍ منهم في مَسكنِه -أي: دارِه- جنَّتانِ: جنَّةٌ عن يَمينِ المَسكنِ، وجنَّةٌ عن شِمالِه، فيَكونُ معنى التَّركيبِ على التَّوزيعِ، أي: لكلِّ مَسكنٍ جنَّتانِ، وهذا مُناسبٌ لقولِه: فِي مَسْكَنِهِمْ دونَ أنْ يقولَ: في بِلادِهم، أو دِيارِهم. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ أنَّ مَدينتَهم -وهي مَأرِبُ- كانت مَحفوفةً على يَمينِها وشِمالِها بغابةٍ مِن الجنَّاتِ يَصطافُّون فيها ويَستثمِرونها، وهذا يُناسِبُ قولَه بعْدُ: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] ؛ لأنَّ ظاهرَه أنَّ المُبدَلَ به جنَّتانِ اثنتانِ، إلَّا أنْ تَجعَلَه على التَّوزيعِ مِن مُقابَلةِ المُتعدِّدِ بالمُتعدِّدِ. وفي جَعلِ جَنَّتَيْنِ في نَظمِ الكلامِ بَدلًا عن (آية) كِنايةٌ عن طِيبِ تُربةِ بِلادِهم [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/166، 167). .
- قولُه: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ؛ حِكايةً لِمَا قِيلَ لهم على لِسانِ نبيِّهم؛ تَكْميلًا للنِّعمةِ، وتَذكيرًا لِحُقوقِها. أو لِمَا نطَقَ به لِسانُ الحالِ. أو بَيانٌ لِكَونِهم أحِقَّاءَ بأنْ يُقالَ لهم ذلك [338] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/575)، ((تفسير البيضاوي)) (4/244)، ((تفسير أبي حيان)) (8/534)، ((تفسير أبي السعود)) (7/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/167). .
- جُملةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مُستأنَفةٌ للدَّلالةِ على مُوجِبِ الشُّكرِ [339] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/244)، ((تفسير أبي السعود)) (7/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/168). .
- وتَنكيرُ بَلْدَةٌ للتَّعظيمِ، وعُدِلَ عن إضافةِ (بَلْدة) إلى ضَميرِهم؛ لِتَكونَ الجُملةُ خَفيفةً على اللِّسانِ، فتكونَ بمَنزلةِ المَثلِ. وتَنكيرُ (رَبٌّ) للتَّعظيمِ، والعُدولُ عن إضافةِ (ربّ) لِضَميرِ المُخاطَبينَ إلى تَنكيرِ (ربّ)، وتَقديرِ لامِ الاختِصاصِ؛ لِقَصدِ تَشريفِهم بهذا الاختصاصِ، ولِتَكونَ الجُملةُ على وِزانِ الَّتي قبْلَها؛ طَلبًا للتَّخفيفِ، ولِتَحصُلَ المُزاوَجةُ بيْن الفِقْرتينِ، فتَسِيرَا مَسِيرَ المَثَلِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/168). .
2- قَولُه تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ
- قولُه فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ... تَفريعٌ على قولِه: وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ: 15] ، وقَعَ اعتِراضًا بيْنَ أجزاءِ القِصَّةِ الَّتي بَقِيَّتُها قولُه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ... [سبأ: 18] إلخ، وهو اعتِراضٌ بالفاءِ، والإعراضُ يَقْتضي سَبْقَ دَعوةِ رَسولٍ أو نَبيٍّ، والمعنى: أعْرَضوا عن الاستِجابةِ لدَعوةِ التَّوحيدِ بالعَودِ إلى عِبادةِ الشَّمْسِ بعْدَ أنْ أقْلَعُوا في زَمنِ سُليمانَ عليه السَّلامُ وبِلقيسَ [341] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/534، 535)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/168). .
- و(الإرسالُ) في قولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ: الإطلاقُ، وهو ضِدُّ الحبْسِ، وتَعديتُه بحَرْفِ (على) يُؤذِنُ بأنَّه إرسالُ نِقمةٍ؛ فإنَّ سَيلَ العَرِمِ كان مَحبوسًا بالسَّدِّ في مَأْرِبَ، فكانوا يُرسِلون منه بمِقدارِ ما يَسقُون جَنَّاتِهم. و(التَّبديلُ) في قولِه: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ تَعويضُ شَيءٍ بآخَرَ؛ فالمعنى: أعطَيْناهم أشجارَ خَمْطٍ وأثْلٍ وسِدْرٍ عِوَضًا عن جنَّتَيهم، أي: صارتْ بِلادُهم قاحلةً ليس فيها إلَّا شَجرُ العِضاهِ [342] العِضاهُ: كلُّ شجرٍ يَعْظُمُ وله شوكٌ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 211). والباديةِ، وفيما بيْنَ هذينِ الحالينِ أحوالٌ عظيمةٌ انتابَتْهم، فقاسَوُا العطَشَ وفِقْدانَ الثِّمارِ حتَّى اضْطُرُّوا إلى مُفارَقةِ تلك الدِّيارِ؛ فلمَّا كانتْ هذه النِّهايةُ دالَّةً على تلك الأحوالِ، طُوِيَ ذِكرُ ما قبْلَها، واقتُصِرَ على وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ... [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/169، 171). .
- وإطلاقُ اسمِ جَنَّتَيْنِ على هذه المَنابتِ مُشاكَلةٌ للتَّهكُّمِ؛ لأنَّها صارتْ قاحلةً ليس فيها إلَّا شَجرُ العِضاهِ والباديةِ [344] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/576)، ((تفسير البيضاوي)) (4/245)، ((تفسير أبي حيان)) (8/536)، ((تفسير أبي السعود)) (7/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/171، 172)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/84). .
- قَولُه: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ السِّدرُ: أكثَرُ الأشجارِ ظِلًّا وأنفَعُها؛ لأنَّه يُغسَلُ بوَرقِه مع الماءِ فيُنظِّفُ، وفيه رائحةٌ حَسنةٌ؛ ولذلك وُصِفَ هنا بالقليلِ؛ لإفادةِ أنَّ مُعظَمَ شَجرِهم لا فائدةَ منه، وزِيدَ تَقليلُه قِلَّةً بذِكرِ كَلمةِ (شَيءٍ) المُؤْذِنةِ في ذاتِها بالقِلَّةِ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/171، 172). .
3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ
- قولُه: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16] ؛ فهو مِن تَمامِ الاعتراضِ، واسمُ الإشارةِ مِن البَيانِ بطَريقِ الإشارةِ، أي: جَزَيْناهم الجزاءَ المُشارَ إليه، وهو ما تَقدَّمَ مِن التَّبديلِ بجَنَّتَيهم جنَّتينِ أُخريَينِ. وتَقديمُه على عامِلِه؛ للاهتِمامِ بشِدَّةِ ذلك الجزاءِ وتَعظيمِه [346] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/173). ، وأنَّه مما يُهتَمُّ غايةَ الاهتمامِ بتعرُّفِه [347] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/483). .
- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ رُتبتهِ في الفَظاعةِ [348] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/128). .
- وأيضًا قولُه: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ... تَذييلٌ، وهو قِسْمانِ؛ الأوَّلُ: ما جَرى مَجرى المَثلِ، والثَّاني: ما لم يَخرُجْ مَخرَجَ المَثلِ؛ وهو أنْ تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ مُتوقِّفةً على الأُولى في إفادةِ المُرادِ، أي: وهلْ يُجازى ذلك الجزاءَ المَخصوصَ؟! ومَضمونُ الجُملةِ الأُولى أنَّ آلَ سَبأٍ جَزاهم اللهُ تعالى بكُفرِهم، ومَضمونُ الثَّانيةِ أنَّ ذلك العِقابَ المخصوصَ لا يقَعُ إلَّا للكَفورِ، وفَرْقٌ بيْنَ قولِنا: جَزيتُه بسَببِ كذا، وبيْنَ قَولِنا: ولا يُجزى ذلك الجزاءَ إلَّا مَن كان بذلك السَّببِ، ولِتَغايُرِهما يصِحُّ أنْ يُجعَلَ الثَّاني عِلَّةً للأوَّلِ، ولكنَّ اختلافَ مَفهومِهما لا يُنافي تأْكيدَ أحدِهما بالآخَرِ؛ لِلُزومِ معنًى [349] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/84، 85). .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ إنكاريٌّ في مَعنى النَّفيِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/173). .
4- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ حِكايةٌ لِمَا أُوتوا مِن النِّعَمِ الباديةِ في مَسايرِهم ومَتاجِرِهم، وما فَعَلوا بها مِن الكُفرانِ، وما حاقَ بهم بسَببِ ذلك؛ تَكملةً لِقِصَّةِ سَبأٍ بذِكرِ نِعمةٍ بعْدَ نِعمةٍ، وبَيانٌ لِعاقبتِهم، وإنَّما لم يُذكَرِ الكلُّ معًا؛ لِمَا في التَّثنيةِ والتَّكريرِ مِن زِيادةِ تَنبيهٍ وتَذكيرٍ [351] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/174). .
- ومعنى ظَاهِرَةً أنَّها خارجةٌ عن المُدُنِ -على قولٍ-؛ فهي في ظَواهرِ المُدنِ، ومنه قولُهم: نَزَلْنا بظاهرِ المدينةِ الفُلانيَّةِ، أي: خارِجًا عنها؛ فقولُه: ظَاهِرَةً كتَسميةِ النَّاسِ إيَّاها بالباديةِ وبالضَّاحيةِ، فيكونُ في قولِه: ظَاهِرَةً على ذلك كِنايةٌ عن وَفرةِ المُدنِ، حتَّى إنَّ القُرى كلَّها ظاهرةٌ منها [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/175). .
- قولُه: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ فيه تَقديمُ اللَّيالي على الأيَّامِ؛ للاهتمامِ بها في مَقامِ الامتِنانِ؛ لأنَّ المسافرينَ أحوَجُ إلى الأمْنِ في اللَّيلِ منْهم إليه في النَّهارِ؛ لأنَّ اللَّيلَ تَعترِضُهم فيه القُطَّاعُ والسِّباعُ [353] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/538)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/176). ؛ فقدَّمَ ما هو أدلُّ على الأمْنِ وأعدَلُ للسَّيرِ في البلادِ الحارَّةِ بقولِه: لَيَالِيَ، وأشارَ إلى كَثرةِ الظِّلالِ والرُّطوبةِ والاعتدالِ الَّذي يُمكِنُ معه السَّيرُ في جَميعِ النَّهارِ بقولِه: وَأَيَّامًا، أي: في أيِّ وَقتٍ شِئتُم [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/486). .
- وفي تَنكيرِ لَيَالِيَ وَأَيَّامًا إلْماعٌ إلى قِصَرِ أسفارِهم؛ فقد كانتْ قَصيرةً؛ لأنَّهم يَرتَعون في بُحْبُوحةٍ مِن العَيشِ، ورَغَدٍ منه، لا يَحتاجُون إلى مُواصَلةِ الكَدِّ، وتَجشُّمِ عَناءِ الأسفارِ للحُصولِ على ما يُرفِّهُ عَيْشَهم [355] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/84). .
5- قَولُه تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
- الفاءُ في: فَقَالُوا رَبَّنَا لِتَعقيبِ قَولِهم هذا إثْرَ إتمامِ النِّعمةِ عليهم باقترابِ المُدُنِ، وتَيسيرِ الأسفارِ، فلمَّا تمَّتِ النِّعمةُ بَطِروها، فحلَّتْ بهم أسبابُ سَلْبِها عنهم [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/176). .
- قولُه: وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ التَّمزيقُ: تَقطيعُ الثَّوبِ قِطَعًا، وهو هنا تَشبيهٌ لِتَفريقِ جامعةِ القومِ شَذَرَ مَذَرَ بتَمزيقِ الثَّوبِ قِطَعًا [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/178). . وفي عِبارةِ التَّمزيقِ الخاصِّ بتَفريقِ المُتَّصلِ وخَرْقِه، مِن تَهويلِ الأمْرِ والدَّلالةِ على شِدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ؛ ما لا يَخْفى، أي: مَزَّقناهم تَمزيقًا لا غايةَ وراءَهُ بحيثُ يُضرَبُ به الأمثالُ في كلِّ فُرقةٍ ليس بعْدَها وِصالٌ [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/129). .
- وجاء نظْمُ الكلامِ في قوله: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ [359] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو أن يُذكَرَ شيئانِ أو أشياءُ؛ إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتملُ على متعدِّدٍ- ثم يُذكرَ أشياءُ على عدَد ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِنَ المتقدِّمِ، ويُفوَّض إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُ يُشار به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ؛ مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كما في قولِه تعالى هنا: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس»-: هو أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعْدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّب؛ فجُملةُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى ومتعلِّقةٌ بها، وجملةُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ ومُتعلِّقةٌ بها، وجملةُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403 - 406). ؛ فالمُسَبَّبُ على الكُفرِ هو استِئصالُهم، وهو مَدلولُ قولِه: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، والمُسبَّبُ على كُفرانِ نِعمةِ تَقارُبِ البلادِ هو تَمزيقُهم كلَّ مُمزَّقٍ، أي: تَفريقُهم [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/177). .
- وفِعلُ الجَعلِ يَقْتضي تَغييرًا، ولَمَّا عُلِّقَ بذَواتِهم انقَلَبَت مِن ذواتٍ مُشاهَدةٍ إلى كَونِها أخبارًا مَسموعةً، والمعنى: أنَّهم هَلَكوا وتَحدَّثَ النَّاسُ بهم. أو أُرِيدَ: فجعَلْناهم أحاديثَ اعتبارٍ ومَوعظةٍ، أي: فأصَبْناهم بأمْرٍ غَريبٍ مِن شأْنِه أنْ يَتحَدَّثَ به النَّاسُ؛ فيكونُ أَحَادِيثَ مَوصوفًا بصِفَةٍ مُقدَّرةٍ دلَّ عليها السِّياقُ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/178). .
- وجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تَذييلٌ، وافتِتاحُها بأداةِ التَّوكيدِ؛ للاهتِمامِ بالخبَرِ، ويَظهَرُ أنَّ هذا التَّذييلَ تَنْهيةٌ للقِصَّةِ، وأنَّ ما بعْدَ هذه الجُملةِ مُتعلِّقٌ بالغرَضِ الأوَّلِ المُتعلِّقِ بأقوالِ المشركينَ، والمُنتقَلِ منه إلى العِبرةِ بداودَ وسُليمانَ، والمُمثَّلِ لحالِ المُشركينَ فيه بحالِ أهْلِ سَبأٍ. وجمَعَ (الآياتِ)؛ لأنَّ في تلك القصَّةِ عِدَّةَ آياتٍ وعِبَرٍ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/180، 181). .
- وتَخصيصُ الصَّبَّارِ الشَّكورِ بذلك؛ لأنَّهم المُنتفِعون بها [363] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/130). ، فآياتُ الرَّبِّ إنَّما يَنتفِعُ بها أهلُ الصَّبرِ والشُّكرِ [364] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 75). .