موسوعة التفسير

سُورةُ الضُّحى
الآيات (1-11)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ

غريب الكلمات :

سَجَى: أي: سَكَن وغَطَّى بظَلامِه كُلَّ شَيءٍ، يُقالُ: سَجا اللَّيلُ: إذا ادْلَهَمَّ وسَكَن، وأصلُ (سجو): يدُلُّ على سُكونٍ وإطباقٍ .
مَا وَدَّعَكَ: أي: ما ترَكَك، وأصلُ (ودع): يدُلُّ على التَّركِ والتَّخليةِ .
وَمَا قَلَى: أي: ما أبغَضَك، والقَلْيُ والقِلَى: البُغضُ الشَّديدُ .
فَآَوَى: أي: ضَمَّك إلى عَمِّك، وكفاك المَؤُونةَ، وأصلُ (أوي) هنا: التجَمُّعُ .
عَائِلًا: أي: فَقيرًا، وأصلُ (عيل): يدُلُّ على فاقةٍ وحاجةٍ .
فَلَا تَقْهَرْ: أي: لا تَحقِرْه ولا تَقْهَرْه على مالِه؛ فتَذهَبَ بحَقِّه لضَعْفِه، والقَهْرُ: الغَلَبةُ والإذلالُ، وأصلُ (قهر): يدُلُّ على غَلَبةٍ وعُلُوٍّ .
فَلَا تَنْهَرْ: أي: لا تَزجُرْه، والنَّهرُ: الزَّجْرُ، ومُغالَظةُ القَولِ، مِثلُ أن يقولَ: إليكَ عَنِّي .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالنَّهارِ إذا انتشَرَ ضِياؤُه، وباللَّيلِ إذا سَكَن واشتدَّتْ ظُلمتُه، على أنَّه ما ترَكَ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما أبغَضَه.
ثمَّ قال اللهُ تعالى له مُبَشِّرًا: ولَثَوابُ الآخرةِ خَيرٌ لك مِن الدُّنيا وما فيها، ولَسوفَ يُعطيك ربُّك مِنَ الخَيرِ حتَّى ترضى.
ثمَّ عَدَّد اللهُ تعالى بَعْضَ نِعَمِه على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ألم يَجِدْك رَبُّك -يا محمَّدُ- يتيمًا، فيسَّرَ لك مَن يُؤويك ويَكفُلُك، ووجَدَك ضالًّا عن مَعرفةِ القُرآنِ والإيمانِ، فعَلَّمَك وهداك، ووجَدَك فَقيرًا فأغناك.
ثمَّ أمَرَ اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشُكْرِ هذه النِّعَمِ، فقال: فأمَّا اليَتيمَ فلا تُهِنْه ولا تَظْلِمْه، وأمَّا السَّائِلُ فلا تَنهَرْه وتَزجُرْه، وحَدِّثِ النَّاسَ بما أنعَمَ اللهُ به عليك.

تفسير الآيات:

وَالضُّحَى (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن جُندَبِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((اشتكى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَقُمْ ليلتَينِ أو ثلاثًا، فجاءته امرأةٌ فقالت: يا محمَّدُ، إنِّي لأرجو أن يكونَ شَيطانُك قد ترَكَك، لم أرَهُ قَرِبَك منذُ ليلتَينِ أو ثلاثٍ! فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 1 - 3] )) .
وَالضُّحَى (1).
أي: أُقسِمُ بالنَّهارِ إذا انتشَرَ ضِياؤُه .
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ إذا سَكَن بأهلِه فأظلَمَ واشتدَّتْ ظُلمتُه .
كما قال تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام: 96] .
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3).
أي: ما ترَكَك رَبُّك -يا محمَّدُ- وما أبغَضَك .
وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
في اتِّصالِ قولِه تعالَى: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى بما تَقدَّمَ وُجوهٌ؛
أحدُها: أنْ يكونَ المعْنى: أنَّ انقطاعَ الوحْيِ لا يَجوزُ أنْ يكونَ؛ لأنَّه عزْلٌ عن النُّبوَّةِ، بلْ أقْصى ما في البابِ أنْ يكونَ ذلك لأنَّه حصَلَ الاستِغناءُ عن الرِّسالةِ، وذلك أمارةُ الموتِ، فكأنَّه يُقالُ: انقِطاعُ الوحْيِ متى حصَلَ دلَّ على الموتِ، لكنَّ الموتَ خيرٌ لك؛ فإنَّ ما لَك عندَ اللهِ في الآخِرةِ خيرٌ وأفضَلُ ممَّا لك في الدُّنيا.
وثانيها: لَمَّا نَزَل: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: 3] حصَل له بهذا تَشريفٌ عَظيمٌ، فكأنَّه استَعظَمَ هذا التَّشريفَ، فقِيل له: ولَلآخِرةُ خيرٌ لك مِن الأُولى، أي: هذا التَّشريفُ وإنْ كان عظيمًا، فإنَّ ما لَك عندَ اللهِ في الآخِرةِ خيرٌ وأعظَمُ.
وثالثُها: هو أنْ يكونَ المعْنى: ولَلأحوالُ الآتيةُ خيرٌ لك مِن الماضيةِ، كأنَّه تعالَى وَعَدَه بأنَّه سيَزيدُه كلَّ يومٍ عِزًّا إلى عِزٍّ، ومَنصبًا إلى مَنصبٍ، فيقولُ: لا تَظُنَّ أنِّي قَليتُك، بلْ إنِّي أَزيدُك مَنصبًا وجَلالًا .
وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4).
أي: ولَثَوابُ الآخرةِ خَيرٌ لك مِن الدُّنيا وما فيها .
كما قال تعالى: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17] .
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى أنَّ الآخِرةَ خَيرٌ له مِن الأُولى، ولكِنَّه لم يُبَيِّنْ أنَّ ذلك التَّفاوُتَ إلى أيِّ حَدٍّ يكونُ؛ فبَيَّن بهذه الآيةِ مِقدارَ ذلك التَّفاوُتِ، وهو أنَّه يَنتهي إلى غايةِ ما يتمَنَّاه الرَّسولُ ويَرتَضيه .
وأيضًا فإنَّه تعالى كأنَّه لَمَّا قال: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى فقيل: ولِمَ قُلْتَ: إنَّ الأمرَ كذلك؟ فقال: لأنَّه يُعطيه كُلَّ ما يُريدُه، وذلك ممَّا لا تتَّسِعُ الدُّنيا له؛ فثَبَت أنَّ الآخِرةَ خَيرٌ له مِنَ الأُولى .
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5).
أي: ولَسوفَ يُعطيك ربُّك مِنَ الخَيرِ حتَّى ترضَى .
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَعَده ذلك الموعودَ الجليلَ؛ ذكَّرَه بنِعَمِه عليه في حالِ نَشأتِه .
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6).
أي: ألم يَجِدْك رَبُّك -يا محمَّدُ- يتيمًا، فيسَّرَ لك مَن يُؤويك ويَكفُلُك ويُرَبِّيك ؟
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7).
أي: ووجَدَك ضالًّا عن معرفةِ القُرآنِ والإيمانِ، فعَلَّمَك القُرآنَ، وهَداك إلى الإيمانِ، وعرَّفك أحكامَ الإسلامِ، وقد كنتَ غافِلًا عن ذلك وجاهِلًا به قبْلَ النُّبُوَّةِ .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ [العنكبوت: 48] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8).
أي: ووجَدَك فَقيرًا فأغناك .
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَّرَه بما أنعَمَ عليه به مِن هذه النِّعَمِ الثَّلاثِ؛ طالَبه بشُكرِها، وأداءِ حقِّها، فأوصاه بما يَفعَلُ في ثلاثٍ؛ مُقابَلةً لها، فقال مُسَبِّبًا عنه :
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9).
أي: فأمَّا اليتيمَ فلا تُهِنْه وتُذِلَّه، ولا تَظْلِمْه بأخذِ حَقِّه وإساءَةِ مُعامَلتِه .
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدأ بما كان بدايةً له؛ ثَنَّى بما هو نهايةٌ له مِن حيثُ كَونُه يصيرُ رأسَ الخَلْقِ، فيَصيرُ محَطَّ الرِّجالِ في كُلِّ سُؤالٍ مِن عِلمٍ ومالٍ؛ فقال مقَدِّمًا له اهتِمامًا به، إشارةً إلى أنَّ جَبرَ الخواطِرِ واستِئلافَ الخَلْقِ هو مِن أعظَمِ المقاصِدِ في تمامِ الدِّينِ :
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10).
أي: وأمَّا الَّذي يَسألُك شَيئًا فلا تَنهَرْه وتَزجُرْه .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((بَيْنَما نحن جُلوسٌ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ، دخَلَ رجُلٌ على جَمَلٍ، فأناخه في المسجِدِ ثمَّ عَقَلَه ، ثمَّ قال لهم: أيُّكم محمَّدٌ؟ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَّكِئٌ بيْن ظَهرانَيْهم، فقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبيضُ المتَّكِئُ. فقال له الرَّجُلُ: يا ابنَ عبدِ المطَّلِبِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قد أجَبْتُك. فقال الرَّجُلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي سائِلُك فمُشَدِّدٌ عليك في المسألةِ، فلا تَجِدْ علَيَّ في نَفْسِك، فقال: سَلْ عمَّا بدا لك، فقال: أسألُك برَبِّك ورَبِّ مَن قَبْلَك، آللهُ أرسَلَك إلى النَّاسِ كُلِّهم؟ فقال: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قال: أَنشُدُك باللهِ، آللهُ أمَرَك أن نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيلةِ؟ قال: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قال: أَنشُدُك باللهِ، آللهُ أمَرَك أن نَصومَ هذا الشَّهرَ مِنَ السَّنةِ؟ قال: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قال: أَنشُدُك باللهِ، آللهُ أمَرَك أن تأخُذَ هذه الصَّدَقةَ مِن أغنيائِنا فتَقسِمَها على فُقَرائِنا؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فقال الرَّجُلُ: آمَنْتُ بما جِئتَ به، وأنا رسولُ مَن ورائي مِن قومي، وأنا ضِمَامُ بنُ ثَعْلبةَ أخو بني سَعدِ بنِ بَكرٍ )) .
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11).
أي: وحَدِّثِ النَّاسَ بما أنعَمَ اللهُ به عليك .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ دَلالةٌ على اللُّطفِ باليَتيمِ، وبِرِّه، والإحسانِ إليه . ولا يَدخُلُ في الآيةِ القَهرُ مِن أجْلِ الاستصلاحِ، كضَربِ التَأديبِ؛ فهو مِن حُقوقِ التَّربيةِ، قال تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة: 220] .
2- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ هذا في مُقابلةِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى، فإذا كان اللهُ آواك في يُتْمِك فلا تَقْهَرِ اليتيمَ، إلَّا أنْ يكونَ قهرًا في مصلحةٍ له؛ فهذا ليس قَهرًا في الحقيقةِ وإنْ كان قَهرًا ظاهريًّا، ولكنَّ المصلحةَ عظيمةٌ لهذا اليتيمِ، فلا تَقْهَرِ اليتيمَ، بل أَكرِمِ اليتيمَ، والإحسانُ إلى اليتامى وإكرامُهم مِن أوامرِ الشَّريعةِ، ومِن حَسَناتِ الشَّريعةِ؛ لأنَّ اليتيمَ الَّذي مات أبوه قبْلَ أن يَبلُغَ مُنكَسِرُ الخاطرِ، يحتاجُ إلى جَبْرٍ، يَحتاجُ إلى مَن يُسَلِّيه، وإلى مَن يُدخِلُ عليه السُّرورَ، لا سيَّما إذا كان قد بَلَغَ سِنًّا يَعرِفُ به الأُمورَ، كالسَّابعةِ والعاشرةِ وما أشْبَهَ ذلك .
3- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ هذا في مُقابِلِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وأوَّلُ ما يَدخُلُ في السَّائلِ السَّائلُ عن الشَّريعةِ وعن العِلمِ، فلا تَنْهَرْه؛ لأنَّه إذا سألك يريدُ أنْ تُبَيِّنَ له الشَّريعةَ وَجَبَ عليك أنْ تُبَيِّنَها له؛ لقولِ اللهِ تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] فلا تَنْهَرْه، إنْ نَهَرْتَه نَفَّرْتَه، ثُمَّ إنَّك إذا نَهَرْتَه وهو يَعتقدُ أنَّك فوقَه -لأنَّه لم يأتِ يسألُ إلَّا أنَّه يَعتقدُ أنَّك فوقَه- أصابه الرُّعبُ، واختلفتْ حَواسُّه، ورُبَّما لا يَفْقَهُ ما يُلقي إليك مِن السُّؤالِ، أو لا يَفْقَهُ ما تُلقيه إليه مِن الجوابِ، وقِسْ نفْسَك أنت، لو كلَّمتَ رجُلًا أكبرَ منك منزلةً ثُمَّ نَهَرك ضاعتْ حواسُّك، ولم تستطعْ أنْ تُرَتِّبَ فِكْرَك وعَقْلَك؛ لهذا لا تَنْهَرِ السَّائلَ، ورُبَّما يَدخُلُ في ذلك أيضًا سائلُ المالِ، يعني إذا جاءك سائِلٌ يسألُك مالًا فلا تَنْهَرْه. لكنَّ هذا العُمومَ يَدخلُه التَّخصيصُ؛ إذا عرَفْتَ أنَّ السَّائلَ في العِلمِ إنَّما يريدُ التَّعَنُّتَ، وأخْذَ رأيِك وأَخْذَ رأيِ فُلانٍ وفُلانٍ حتَّى يَضربَ آراءَ العلماءِ بعضَها ببعضٍ، فهنا لك الحقُّ أنْ تَنْهَرَه، وأنْ تقولَ: يا فلانُ، اتَّقِ اللهَ، ألم تَسألْ فلانًا؟ كيف تسألُني بعدَما سألتَه؟! أتلعَبُ بدِينِ اللهِ؟! أتُريدُ إنْ أفتاك النَّاسُ بما تُحِبُّ سَكَتَّ، وإنْ أفتَوك بما لا تُحِبُّ ذهبْتَ تسألُ؟! هذا لا بأسَ أنْ تَنْهَرَه؛ لأنَّ هذا النَّهْرَ تأديبٌ له، وكذلك سائلُ المالِ؛ إذا عَلِمْتَ أنَّ الَّذي سألك المالَ غنيٌّ، فلك الحقُّ أنْ تَنْهَرَه، ولك الحقُّ أيضًا أنْ تُوَبِّخَه على سُؤالِه وهو غنيٌّ، إذَنْ هذا العمومُ السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ مخصوصٌ فيما إذا اقتضَتِ المصلحةُ أنْ يُنْهَرَ، فلا بأسَ . وكذلك لا يَدخُلُ في النَّهْرِ في قَولِه تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ نهيُ السَّائِلِ عن مُخالَفةِ آدابِ السُّؤالِ في الإسلامِ .
4- قَولُه تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ أي: لا يَصدُرْ منك إلى السَّائِلِ كلامٌ يَقتضي رَدَّه عن مطلوبِه بنَهْرٍ وشَراسةِ خُلُقٍ، بل أعْطِه ما تيسَّرَ عندَك، أو رُدَّه بمعروفٍ وإحسانٍ، وهذا يدخُلُ فيه السَّائِلُ للمالِ، والسَّائِلُ للعِلمِ؛ ولهذا كان المعلِّمُ مأمورًا بحُسنِ الخُلُقِ مع المتعَلِّمِ، ومُباشرتِه بالإكرامِ والتَّحَنُّنِ عليه؛ فإنَّ في ذلك مَعونةً له على مَقصَدِه، وإكرامًا لِمَن كان يَسعى في نَفعِ العِبادِ والبِلادِ .
5- يُستفادُ مِنَ النَّهيِ عن القَهْرِ والنَّهْرِ في قَولِه تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ النَّهيُ عمَّا هو أشَدُّ منهما في الأذى؛ كالشَّتمِ، والضَّربِ، والاستيلاءِ على المالِ، وتَرْكِه مُحتاجًا .
6- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ هذا يَشملُ النِّعَمَ الدِّينيَّةَ والدُّنيويَّةَ. فَحَدِّثْ أي: أثْنِ على اللهِ بها، وخَصِّصْها بالذِّكرِ إن كان هناك مَصلَحةٌ، وإلَّا فحَدِّثْ بنِعَمِ اللهِ على الإطلاقِ؛ فإنَّ التَّحَدُّثَ بنِعمةِ اللهِ داعٍ لشُكْرِها، ومُوجِبٌ لتحبيبِ القُلوبِ إلى مَن أنعَمَ بها؛ فإنَّ القُلوبَ مجبولةٌ على محبَّةِ المحسِنِ .
7- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أنَّ التَّحَدُّثَ بنِعمةِ اللهِ على وَجهِ إظهارِ نِعمةِ اللهِ على العَبدِ، مع التَّواضُعِ؛ أنَّ هذا لا بأسَ به ، خِلافًا للتَّحَدُّثِ بالنِّعمةِ افتِخارًا بها على الخَلْقِ؛ لأنَّك إذا فعلْتَ ذلك افتخارًا على الخَلْقِ كان هذا مذمومًا، أمَّا إذا ذَكَرْتَ نعمةَ اللهِ عليك تَحَدُّثًا بالنِّعَمِ، وشُكرًا للمُنْعِمِ؛ فهذا ممَّا أَمَرَ اللهُ به .
8- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ سُؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْن هذه الآيةِ وبيْن قولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ؟
الجوابُ: أنَّ قولَه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ معناه: أنْ يَتَحَدَّثَ الإنسانُ بما أنْعَمَ اللهُ عليه، لا أنْ يُزَكِّيَ نفْسَه على رَبِّه، وبيْنَهما فَرْقٌ: إنسانٌ يقولُ: إنَّه صلَّى، زَكَّى، صام، حَجَّ، يريدُ أنْ يُدِلَّ بعَمَلِه على ربِّه، ويُزكِّي نفْسَه على اللهِ، هذا هو الممنوعُ، لكنْ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فيقولُ: الحَمدُ للهِ، هداني بعدَ أنْ كنتُ كذا وكذا؛ فهذا لا بأسَ به .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى إقسامُه سُبحانَه على إنعامِه على رَسولِه وإكرامِه له وإعطائِه ما يُرضيه، وذلك متضَمِّنٌ لتصديقِه له، فهو قَسَمٌ على صِحَّةِ نُبُوَّتِه وعلى جزائِه في الآخرةِ، فهو قَسَمٌ على النُّبُوَّةِ والمَعادِ، وأقسَمَ بآيتَينِ عَظيمتَينِ مِن آياتِه دالَّتَينِ على رُبوبيَّتِه وحِكمتِه ورحمتِه، وهما اللَّيلُ والنَّهارُ، فتأمَّلْ مُطابَقةَ هذا القَسَمِ -وهو نورُ الضُّحى الَّذي يوافي بعدَ ظلامِ اللَّيلِ- للمُقْسَمِ عليه -وهو نورُ الوَحيِ الَّذي وافاه بعدَ احتباسِه عنه، حتى قال أعداؤه: وَدَّعَ محمَّدًا ربُّه-، فأَقْسَمَ بضَوءِ النَّهارِ بعدَ ظُلمةِ اللَّيلِ على ضَوءِ الوَحيِ ونُورِه بعدَ ظُلمةِ احتباسِه واحتجابِه، وأيضًا فإنَّ فالِقَ ظُلمةِ اللَّيلِ عن ضوءِ النَّهارِ هو الَّذي فَلَقَ ظُلمةَ الجَهلِ والشِّركِ بنُورِ الوَحيِ والنُّبُوَّةِ؛ فهذان للحِسِّ، وهذان للعَقلِ، وأيضًا فإنَّ الَّذي اقتضَتْ رحمتُه ألَّا يَترُكَ عِبادَه في ظُلمةِ اللَّيلِ سَرْمدًا بل هداهم بضَوءِ النَّهارِ إلى مَصالِحِهم ومَعايشِهم: لا يَليقُ به أنْ يَترُكَهم في ظُلمةِ الجَهلِ والغَيِّ، بل يَهديهم بنورِ الوَحيِ والنُّبُوَّةِ إلى مَصالحِ دُنياهم وآخِرتِهم؛ فتأمَّلْ حُسْنَ ارتباطِ المُقْسَمِ به بالمُقْسَمِ عليه، وتأمَّلْ هذه الجزالةَ والرَّونَقَ الَّذي على هذه الألفاظِ، والجلالةَ الَّتي على معانيها .
2- في قَولِه تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ونُزولِه بسَبَبِ واقِعةِ إبطاءِ جِبريلَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَلالةٌ على أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ؛ إذ لو كان مِن عندِه لَما امتَنَع !
3- في قَولِه تعالى: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى اللَّامُ في «الآخرةِ» و «الأُولى» لامُ الجنسِ، أي: كلُّ آجِلٍ أمْرُه هو خيرٌ مِن عاجِلِه في هذه الدُّنيا وفي الأُخرى -على قولٍ-، واللَّامُ في قولِه: لَكَ لامُ الاختِصاصِ، أي: خيرٌ مُختصٌّ بك، وهو شامِلٌ لكلِّ ما لَه تَعلُّقٌ بنفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذاتِه، وفي دِينِه، وفي أُمَّتِه، فهذا وَعدٌ مِن اللهِ تعالى بأنْ يَنشُرَ دِينَ الإسلامِ، وأنْ يُمكِّنَ أُمَّتَه مِن الخَيراتِ الَّتي يَأمُلُها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم .
4- في قَولِه تعالى: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى أنَّ الدُّنيا مهما طالتْ فهي قليلةٌ، ولا تُنْسَبُ للآخِرةِ .
5- قال تعالى: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ولَمْ يَقُلْ: خيرٌ على الإطلاقِ! وإنَّما المعنى: خيرٌ لك ولِمَن آمَنَ بك .
6- قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقد اغتَرَّ بعضُهم بفَهمٍ فاسدٍ فيه، واتَّكلوا عليه، فقالوا: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَرضى أنْ يكونَ في النَّارِ أحدٌ مِن أُمَّتِه، وهذا مِن أقبَحِ الجَهْلِ، وأبيَنِ الكَذِبِ عليه؛ فإنَّه يَرضى بما يَرضى به ربُّه عَزَّ وجَلَّ، واللهُ تعالى يُرضيه تَعذيبُ الظَّلَمةِ والفَسَقةِ والخَوَنةِ والمصِرِّينَ على الكبائرِ، فحاشا رَسولَه أنْ يَرضى بما لا يَرضى به ربُّه تبارك وتعالى !
7- سُورةُ الضُّحى توالى فيها قَسَمانِ، وجَوابانِ مُثبَتانِ، وجوابانِ نافيانِ؛ فالقَسَمانِ: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، والجوابانِ النَّافيانِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، والجوابانِ المثبَتانِ: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى .
8- قال اللهُ تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ذَكَر سُبحانَه نِعَمَه على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ مِن إيوائِه بَعْدَ يُتْمِه، وهِدايتِه بعْدَ الضَّلالةِ، وإغنائِه بعدَ الفَقْرِ، فكان مُحتاجًا إلى مَن يُؤْويه ويَهْديه ويُغْنيه، فآواه رَبُّه وهَداه وأغناه؛ فأمَرَه سُبحانَه أن يُقابِلَ هذه النِّعَمَ الثَّلاثَ بما يَليقُ بها مِنَ الشُّكرِ ، فكما عَدَّد اللهُ عليه هذه النِّعَمَ الثَّلاثَ وصَّاه بثلاثِ وصايا، في كُلِّ نِعمةٍ وَصِيَّةٌ مُناسِبةٌ لها؛ فبإزاءِ قَولِه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى قَولُه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وبإزاءِ قَولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى قَولُه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، هذا على قولِ مَن قال: إنَّ السَّائِلَ هنا هو السَّائِلُ عن العِلمِ والدِّينِ، وليس بسائلِ المالِ، وبإزاءِ قَولِه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى قَولُه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، ومَن قال: إنَّ السَّائِلَ هو سائِلُ المالِ المحتاجُ جعَلَها بإزاءِ قَولِه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، وجَعَل قَولَه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بإزاءِ قَولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى .
9- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى جاء التَّعبيرُ -واللهُ أعلمُ- بـ فَآَوَى لسَبَبٍ لفظيٍّ، وسببٍ معنويٍّ؛ أمَّا السَّبَبُ اللَّفظيُّ فمِن أجْلِ أن تتوافقَ رُؤوسُ الآياتِ مِن أوَّلِ السُّورةِ، وأمَّا السَّبَبُ المعنويُّ فإنَّه لو كان التَّعبيرُ «فآواك» اختصَّ الإيواءُ به صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، والأمرُ أوسعُ مِن ذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالى آواه وآوى به؛ آوى به المؤمِنينَ، فنَصَرَهم وأيَّدَهم، ودَفَعَ عنهم، بل دافعَ عنهم سُبحانَه وتعالى.
وقال: فَآَوَى ولم يأتِ التَّعبيرُ «فهَدَاك»؛ لِيَكونَ هذا أشملَ وأوسعَ؛ فهو قد هَدَاه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهَدَى اللهُ به، فهو هادٍ مَهدِيٌّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
 وقال: فَأَغْنَى أي: أغناك وأغنى بك، قال اللهُ تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [الفتح: 20] . وما أكثَرَ ما غَنِمَ المُسلِمونَ مِنَ الكُفَّارِ تحتَ ظِلالِ السُّيُوفِ، غنائِمَ عظيمةً كثيرةً كُلُّها بسَبَبِ هذا الرَّسولِ الكريمِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ اهتَدَوا بهَدْيِه، واتَّبَعوا سُنَّتَه، فنَصَرَهم اللهُ تعالى به، وغَنِموا مِن مَشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها !
10- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى إلى آخِرِ السِّياقِ سؤالٌ: كيف يَحسُنُ مِنَ الجَوَادِ أن يَمُنَّ بنِعَمِه، فيَقولَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى؟! والَّذي يؤكِّدُ هذا السُّؤالَ: أنَّ اللهَ تعالى حكى عن فِرعَونَ أنَّه قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء: 18] في مَعرِضِ الذَّمِّ لفِرعَونَ، فما كان مذمومًا مِن فِرعَونَ كيف يحسُنُ مِنَ اللهِ؟!
الجوابُ: أنَّ ذلك يَحسُنُ إذا قَصَد بذلك أن يقوِّيَ قَلْبَه، ويَعِدَه بدَوامِ النِّعمةِ، وبهذا يظهَرُ الفَرقُ بيْن هذا الامتنانِ وبيْن امتنانِ فِرعَونَ؛ لأنَّ امتنانَ فِرعَونَ مُحبِطٌ؛ لأنَّ الغَرَضَ: «فما بالُك لا تَخدُمُني؟!»، وامتنانَ اللهِ بزيادةِ نِعَمِه، كأنَّه يقولُ: «ما لَك تَقطَعُ عنِّي رجاءَك؟! ألَسْتُ شَرَعْتُ في تربيتِك؟ أتَظُنُّني تاركًا لِما صَنعْتُ؟! بل لا بدَّ أن أتمِّمَ عليك وعلى أمَّتِك النِّعمةَ»، كما قال: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة: 150] ، أمَا عَلِمْتَ أنَّ الحامِلَ الَّتي تُسقِطُ الولَدَ قبْلَ التَّمامِ مَعيبةٌ تُرَدُّ؟! ولو أسقَطَت أو الرَّجُلُ أسقَطَ عنها بعِلاجٍ تجِبُ الغُرَّةُ وتَستَحِقُّ الذَّمَّ؟! فكيف يَحسُنُ ذلك مِنَ الحيِّ القُّيومِ؟! فما أعظَمَ الفَرقَ بيْن مانٍّ هو اللهُ، وبيْن مانٍّ هو فِرعَونُ !
وأيضًا فإنَّ المِنَّةَ مِنَ المخلوقِ عَيبٌ ونَقْصٌ وأذًى، وأمَّا مِنَّةُ الخالِقِ فليست كذلك، وقد قال اللهُ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ... [الحجرات: 17] .
11- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى إشارةٌ إلى أنَّ الإيواءَ والهُدى والغِنى مِنَ اللهِ؛ لإسنادِها هنا للهِ تعالى، ولكِنْ في السِّياقِ لطيفةٌ دقيقةٌ، وهي: في مَعرِضِ التَّقريرِ يأتي بكافِ الخِطابِ: «ألمْ يَجِدْك يتيمًا، ألم يجِدْك ضالًّا، ألم يِجْدك عائلًا»؟! لتأكيدِ التَّقريرِ، ولم يُسنِدِ اليُتمَ ولا الإضلالَ ولا الفَقْرَ للهِ، مع أنَّ كُلَّه مِن اللهِ، فهو الَّذي أوقع عليه اليُتمَ، وهو سُبحانَه الَّذي منه كُلُّ ما وَجَده عليه؛ وذلك لِما فيه من إيلامٍ له صلَّى الله عليه وسلَّم .
12- قَولُه تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى هذه الآيةُ الكريمةُ يُوهِمُ ظاهِرُها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان ضالًّا قبل الوَحيِ، مع أنَّ قَولَه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] يدُلُّ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فُطِرَ على هذا الدِّينِ الحنيفِ، ومعلومٌ أنَّه لم يُهَوِّدْه أبَواه ولم يُنَصِّراه، ولم يُمَجِّساه، بل لم يَزَلْ باقيًا على الفِطرةِ حتَّى بَعَثه اللهُ رَسولًا، ويدُلُّ لذلك ما ثَبَت مِن أنَّ أوَّلَ نُزولِ الوَحيِ كان وهو يتعبَّدُ في غارِ حِراءٍ، فذلك التَّعبُّدُ قبْلَ نُزولِ الوَحيِ دليلٌ على البقاءِ على الفِطرةِ.
الجوابُ: أنَّ معنى قَولِه: ضَالًّا فَهَدَى أي: غافِلًا عمَّا تَعلَمُه الآنَ مِنَ الشَّرائِعِ وأسرارِ عُلومِ الدِّينِ الَّتي لا تُعلَمُ بالفِطرةِ ولا بالعَقلِ، وإنَّما تُعلَمُ بالوَحْيِ؛ فهَداك إلى ذلك بما أوحى إليك، فمعنى الضَّلالِ على هذا القَولِ: الذَّهابُ عن العِلمِ، ومنه بهذا المعنى قَولُه تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282] ، ويدُلُّ لهذا قَولُه تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [الشورى: 52] ؛ لأنَّ المرادَ بالإيمانِ شَرائِعُ دينِ الإسلامِ .
13- النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يأكُلُ الصَّدَقةَ؛ لأنَّها أوساخُ النَّاسِ، ولأنَّ أَخْذَ الصَّدَقةِ مَنزِلةُ ضَعَةٍ، والأنبياءُ مُنَزَّهون عن ذلك؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان كما وَصَفَه اللهُ تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، والصَّدَقةُ لا تَحِلُّ للأغنياءِ، وهذا بخِلافِ الهَديَّةِ؛ فإنَّ العادةَ جاريةٌ بالإثابةِ عليها .
14- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ اختيارُ قَولِه: فَحَدِّثْ على قولِه: «فخَبِّرْ»؛ لِيَكونَ ذلك حديثًا عِندَه لا يَنساه، ويُعيدُه مرَّةً بعدَ أُخرى .
15- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ سُؤالٌ: ما الحِكمةُ في أنْ أخَّرَ اللهُ تعالى حَقَّ نَفْسِه عن حقِّ اليتيمِ والعائِلِ؟
الجوابُ: فيه وُجوهٌ:
أحَدُها: كأنَّه يقولُ: أنا غَنيٌّ، وهما مُحتاجانِ، وتقديمُ حَقِّ المُحتاجِ أَولى.
ثانيها: أنَّه وَضَع في حَظِّهما الفِعلَ، ورَضِيَ لنَفْسِه بالقَولِ.
ثالثُها: أنَّ المقصودَ مِن جميعِ الطَّاعاتِ استِغراقُ القَلْبِ في ذِكرِ اللهِ تعالى؛ فجَعَل خاتِمةَ هذه الطَّاعاتِ تحَدُّثَ القَلْبِ واللِّسانِ بنِعَمِ اللهِ تعالى؛ حتَّى يكونَ خَتْمُ الطَّاعاتِ على ذِكرِ اللهِ .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
- القسَمُ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى لتَأكيدِ الخبَرِ ردًّا على زَعْمِ المشرِكينَ أنَّ الوحْيَ انقطَعَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ رَأَوْه لم يَقُمِ اللَّيلَ بالقُرآنِ بِضعَ لَيالٍ؛ فالتَّأكيدُ مُنصَبٌّ على التَّعريضِ المُعرَّضِ به لإبطالِ دَعْوى المشرِكين، فالتَّأكيدُ تَعريضٌ بالمشرِكينَ، وأمَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا يَتردَّدُ في وُقوعِ ما يُخبِرُه اللهُ بوُقوعِه .
- وإنَّما خُصَّ وقْتُ الضُّحى هنا بالقَسَمِ؛ لأنَّ النَّهارَ يَقْوَى فيه ؛ فمُناسَبةُ القسَمِ بالضُّحى واللَّيلِ: أنَّ الضُّحى وقْتُ انبِثاقِ نُورِ الشَّمسِ، فهو إيماءٌ إلى تَمثيلِ نُزولِ الوحْيِ وحُصولِ الاهتِداءِ به، وأنَّ اللَّيلَ وقْتُ قِيامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُرآنِ، وهو الوقتُ الَّذي كان يَسمَعُ فيه المشركون قِراءتَه مِن بُيوتِهم القَريبةِ مِن بَيتِه أو مِن المسجِدِ الحرامِ؛ ولذلك قُيِّدَ اللَّيلُ بظَرْفِ إِذَا سَجَى، فلعلَّ ذلك وقْتُ قِيامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال تعالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 2-3] .
- وتَقديمُ اللَّيْلِ في السُّورةِ المُتقدِّمةِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [اللَّيل: 1-2] باعتبارِ الأصلِ، وتَقديمُ النَّهارِ هاهنا وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى باعتِبارِ الشَّرفِ .
وقيل: الحِكمةُ في أنَّه تعالَى في السُّورةِ الماضيةِ قدَّمَ ذِكرَ اللَّيلِ، وفي هذه السُّورةِ أخَّرَه: أنَّ باللَّيلِ والنَّهارِ يَنتظِمُ مَصالحُ المكلَّفينَ، واللَّيلُ له فَضيلةُ السَّبقِ؛ لقولِه: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وللنَّهارِ فَضيلةُ النُّورِ -بلِ اللَّيلُ كالدُّنيا، والنَّهارُ كالآخرةِ-، فلمَّا كان لكلِّ واحدٍ فَضيلةٌ لَيستْ للآخَرِ؛ لا جَرَم قُدِّمَ هذا على ذاك تارةً، وذاك على هذا أُخرى، ونَظيرُه أنَّه تعالَى قدَّمَ السُّجودَ على الرُّكوعِ في قولِه: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] ، ثمَّ قدَّمَ الرُّكوعَ على السُّجودِ في قولِه: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج: 77] . وقيل غيرُ ذلك .
2- قولُه تعالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
- قولُه: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ نفْيٌ لأنْ يكونَ اللهُ قَطَعَ عنه الوحْيَ، وقد عُطِفَ عليه وَمَا قَلَى للإتيانِ على إبطالِ مَقالتَي المشرِكينَ؛ إذ قال بَعضُهم: ودَّعَه ربُّه، وقال بَعضُهم: قَلَاهُ ربُّه، يُريدون التَّهكُّمَ .
- والتَّوديعُ مُبالَغةٌ في الوَدْعِ؛ لأنَّ مَن وَدَعَك مُفارِقًا فقدْ بالَغَ في تَرْكِك .
- وحُذِفَ مَفعولُ قَلَى؛ لدَلالةِ وَدَّعَكَ عليه، كقولِه تعالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب: 35] ، وهو إيجازٌ لَفظيٌّ؛ لظُهورِ المحذوفِ، ومِثلُه قولُه: فَآَوَى فَهَدَى فَأَغْنَى، ومُراعاةً للفواصلِ .
- وقال: مَا وَدَّعَكَ [ضحى: 3] بكافِ الخِطابِ؛ لأنَّ التَّوديعَ يكونُ لِمَنْ تُحِبُّ ولِمَنْ تَكْرَهُ، أمَّا في القِلَى فلمْ يقُلْ: قَلاك؛ لأنَّ القِلَى لا يكونُ إلَّا لِمَنْ تَكْرَهُ .
- وقدْ نزَلَتْ رَدًّا على المشرِكين قولَهم: إنَّ محمَّدًا وَدَّعَهُ ربُّهُ وقَلَاهُ، وتَبْشيرًا له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالكَرامةِ الحاصِلةِ والمُترَقَّبةِ، كما يُشعِرُ به إيرادُ اسمِ الرَّبِّ المُنبئِ عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكَمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ .
3- قولُه تعالَى: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى عطْفٌ على جُملةِ وَالضُّحَى [الضحى: 1] ، فهو كَلامٌ مُبتدَأٌ به، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُمَلِ الابتدائيَّةِ، وليستْ مَعطوفةً على جُملةِ جَوابِ القسَمِ، بلْ هي ابتدائيَّةٌ، لَمَّا كان في ضِمنِ نفْيِ التَّوديعِ والقِلَى: أنَّ اللهَ مُواصِلُك بالوحْيِ إليك، وأنَّك حَبيبُ اللهِ، ولا تَرى كَرامةً أعظَمَ مِن ذلك، ولا نِعمةً أجَلَّ منه؛ أخْبَرَه أنَّ حالَه في الآخرةِ أعظَمُ مِن ذلك وأجَلُّ، وهو السَّبقُ والتَّقدُّمُ على جَميعِ أنبياءِ اللهِ ورُسلِه، وشَهادةُ أُمَّتِه على سائرِ الأُمَمِ، ورفْعُ دَرَجاتِ المؤمنينَ وإعلاءُ مَراتبِهم بشَفاعتِه، وغيرُ ذلك مِن الكَراماتِ السَّنِيَّةِ .
- وما في تَعريفِ (الآخِرةِ) و(الأُولى) مِن التَّعميمِ يَجعَلُ معْنى هذه الجُملةِ في معْنى التَّذييلِ الشَّاملِ لاستِمرارِ الوحْيِ، وغيرِ ذلك مِن الخيرِ .
- والآخِرةُ: مُؤنَّثُ الآخِرِ، والأُولى: مُؤنَّثُ الأوَّلُ، وغَلَبَ لَفظُ الآخرةِ في اصطلاحِ القُرآنِ الكريمِ على الحياةِ الآخِرةِ وعلى الدَّارِ الآخِرةِ، كما غَلَبَ لَفظُ الأُولى على حَياةِ النَّاسِ الَّتي قبْلَ انخِرامِ هذا العالَمِ؛ فيَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ هنا مِن كِلا اللَّفظينِ كِلا مَعنيَيه، فيُفيدُ أنَّ الحياةَ الآخرةَ خيرٌ له مِن هذه الحياةِ العاجِلةِ؛ تَبشيرًا له بالخَيراتِ الأبديَّةِ، ويُفيدُ أنَّ حالاتِه تَجْري على الانتقالِ مِن حالةٍ إلى أحسَنَ منها، فيكونَ تَأنيثُ الوَصفَينِ جاريًا على حالَتَيِ التَّغليبِ وحالَتَي التَّوصيفِ، ويكونَ التَّأنيثُ في هذا المعْنى الثَّاني لمُراعاةِ معْنى الحالةِ، ويُومِئُ ذلك إلى أنَّ عَودةَ نُزولِ الوحْيِ عليه هذه المرَّةَ خيرٌ مِن العَودةِ الَّتي سَبَقَت، أي: تَكفَّلَ اللهُ بألَّا يَنقطِعَ عنه نُزولُ الوحْيِ مِن بعْدُ؛ فاللَّامُ في (الآخرة) و(الأُولى) لامُ الجنسِ، أي: كلُّ آجِلِ أمْرِه هو خيرٌ مِن عاجِلِه في هذه الدُّنيا وفي الأُخرى .
4- قولُه تعالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى عطْفٌ على جُملةِ القسَمِ كلِّها، وحرْفُ الاستقبالِ لإفادةِ أنَّ هذا العطاءَ الموعودَ به مُستمِرٌّ لا يَنقطِعُ .
- واللَّامُ في وَلَسَوْفَ للابتداءِ، دَخَلتِ الخبرَ لتَأكيدِ مَضمونِ الجُملةِ، والمُبتدأُ مَحذوفٌ، تَقديرُه: ولَأنتَ سَوفَ يُعطيكَ... إلخ، لا للقسَمِ؛ لأنَّها لا تَدخُلُ على المضارعِ إلَّا معَ النُّونِ المؤكِّدةِ، وجمْعُها معَ (سوفَ)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإعطاءَ كائنٌ لا مَحالةَ وإنْ تَراخَى لحِكمةٍ .
- وفي قولِه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ حذْفٌ؛ فقدْ حُذِفَ مَفعولُ يُعْطِيكَ الثَّاني تَهويلًا لأمْرِه، واستِعظامًا لشَأنِه، وأنَّ هذه المُعطَياتِ أجَلُّ مِن أنْ تُذكَرَ، وأكبَرُ مِن أنْ تُدرَجَ، أي: الشَّيءُ الكثيرُ؛ مِن تَوارُدِ الوحْيِ عليك بما فيه إرشادٌ لك ولقَومِك، ومِن ظُهورِ دِينِك، وعُلوِّ كَلمتِك، وإسعادِ قَومِك بما تَشرَعُ لهم، وإعلائِك وإعلائِهم على الأُمَمِ في الدُّنيا والآخرةِ ؛ فقولُه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وَعدٌ شاملٌ لِما أعطاهُ في الدُّنيا مِن الفَوْزِ والظَّفَرِ بأعدائِه يومَ بدْرٍ ويومَ فتْحِ مكَّةَ وغيرِها، ودُخولِ النَّاسِ في الدِّينِ أفواجًا، وما فَتَحَ على الخُلفاءِ الرَّاشدينَ ومَن بعْدَهم مِن أقْطارِ الأرضِ شَرْقًا وغَرْبًا، ولِما ادَّخَرَ له مِن الثَّوابِ الَّذي لا يَعلَمُ كُنْهَه إلَّا اللهُ . فحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لكَلمةِ يُعْطِيكَ؛ ليَعُمَّ كلَّ ما يَرْجوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خَيرٍ لنفْسِه ولأُمَّتِه، فكان مُفادُ هذه الجُملةِ تَعميمَ العطاءِ، كما أفادَتِ الجُملةُ قبْلَها تَعميمَ الأزمنةِ .
- وجِيءَ بفاءِ التَّعقيبِ في فَتَرْضَى؛ لإفادةِ كَونِ العَطاءِ عاجِلَ النَّفعِ بحيث يَحصُلُ به رِضا المُعطَى عندَ العطاءِ، فلا يَترقَّبُ أنْ يَحصُلَ نفْعُه بعْدَ تَربُّصٍ .
- وتَعريفُ رَبُّكَ بالإضافةِ دونَ اسمِ اللهِ العَلَمِ؛ لِما يُؤذِنُ به لَفظُ (ربّ) مِن الرَّأفةِ واللُّطفِ، وللتَّوسُّلِ إلى إضافتِه إلى ضَميرِ المخاطَبِ؛ لِما في ذلك مِن الإشعارِ بعِنايتِه برَسولِه، وتَشريفِه بإضافةِ (ربّ) إلى ضَميرِه .
5- قولُه تعالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى استِئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ الدَّليلِ على تَحقُّقِ الوعْدِ، أي: هو وَعْدٌ جارٍ على سَننِ ما سَبَقَ مِن عِنايةِ اللهِ بكَ مِن مَبدأِ نَشأتِك ولُطفِه في الشَّدائدِ باطِّرادٍ، بحيث لا يَحتمِلُ أنْ يكونَ ذلك مِن قَبيلِ الصُّدَفِ؛ لأنَّ شَأنَ الصُّدَفِ ألَّا تَتكرَّرَ؛ فقد عُلِمَ أنَّ اطِّرادَ ذلك مُرادٌ للهِ تعالَى، والمقصودُ مِن هذا إيقاعُ اليَقينِ في قُلوبِ المشرِكين بأنَّ ما وَعَدَه اللهُ به مُحقَّقُ الوُقوعِ، قياسًا على ما ذَكَّرَه به مِن مُلازَمةِ لُطْفِه به فيما مَضى -وهم لا يَجهَلون ذلك- عَسى أنْ يُقلِعوا عن العِنادِ، ويُسرِعوا إلى الإيمانِ، وإلَّا فإنَّ ذلك مَساءةٌ تَبْقى في نُفوسِهم، وأشباحُ رُعبٍ تُخالِجُ خَواطِرَهم، ويَحصُلُ مع هذا المقصودِ امتنانٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَقويةٌ لاطمئنانِ نفْسِه بوَعْدِ اللهِ تعالَى إيَّاهُ .
- والهَمزةُ لإنكارِ النَّفيِ، وتَقريرِ المَنفيِّ على أبلَغِ وَجْهٍ، كأنَّه قيلَ: قد وَجَدَك... إلخ .
- وحُذِفَت مَفاعيلُ فَآَوَى، فَهَدَى، فَأَغْنَى؛ للعِلمِ بها مِن ضَمائرِ الخِطابِ قبْلَها؛ إذ يُعلَمُ أنَّه ضَميرُ المُخاطَبِ، وهو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحذْفُها إيجازٌ، وفيه رِعايةٌ على الفواصلِ .
6- قولُه تعالَى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
- قولُه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ الفاءُ الأُولى فَصيحةٌ؛ تُفصِحُ عن مُقدَّرٍ، و(أمَّا) تُفيدُ شَرطًا مُقدَّرًا، تَقديرُه: مهْما يكُنْ مِن شَيءٍ، فكان مُفادُها مُشعِرًا بشَرْطٍ آخَرَ مُقدَّرٍ هو الَّذي اجتُلِبَت مِن أجْلِه فاءُ الفَصيحةِ، وتَقديرُ نظْمِ الكلامِ: إذ كنتَ تَعلَمُ ذلك وأقرَرْتَ به، فعليكَ بشُكرِ ربِّك، وبيَّن له الشُّكرَ بقولِه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ... إلخ، وقد جُعِلَ الشُّكرُ هنا مُناسِبًا للنِّعمةِ المشكورِ عليها، وإنَّما اعتُبِرَ تَقديرُ: إذا أرَدْتَ الشُّكرَ؛ لأنَّ شُكرَ النِّعمةِ تَنساقُ إليه النُّفوسُ بدافعِ المُروءةِ في عُرفِ النَّاسِ. وصُدِّرَ الكلامُ بـ (أمَّا) التَّفصيليَّةِ؛ لأنَّه تَفصيلٌ لمُجمَلِ الشُّكرِ على النِّعمةِ، ولَمَّا كانت (أمَّا) بمعْنى: (ومهْما يكُنْ شَيءٌ)، قُرِنَ جَوابُها بالفاءِ .
- والْيَتِيمَ مَفعولٌ لفِعلِ فَلَا تَقْهَرْ، وقُدِّمَ؛ للاهتِمامِ بشَأنِه، وكذلك تَقديمُ السَّائِلَ وبِنِعْمَةِ رَبِّكَ على فِعلَيهما .
- وقد قُوبِلَت النِّعَمُ الثَّلاثُ المُتفرِّعُ عليها هذا التَّفصيلُ بثَلاثةِ أعمالٍ تُقابِلُها، فيَجوزُ أنْ يكونَ هذا التَّفصيلُ على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المُرتَّبِ ؛ فقولُه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ مُقابِلٌ لقولِه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى [الضحى: 6] ، أي: فكَما آواكَ ربُّك وحَفِظَك مِن عَوارضِ النَّقصِ المُعتادِ لليُتْمِ، فكنْ أنت مُكرِمًا للأيتامِ رَفيقًا بهم، فجُمِعَ ذلك في النَّهيِ عن قَهْرِه؛ لأنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يَقهَرون الأيتامَ.
 وقولُه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ مُقابلُ قولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ؛ لأنَّ الضَّلالَ يَستدعي السُّؤالَ عن الطَّريقِ، فالضَّالُّ مُعتبَرٌ مِن صِنْفِ السَّائلينَ، والسَّائلُ عن الطَّريقِ قد يَتعرَّضُ لحَماقةِ المسؤولِ، فجَعَلَ اللهُ الشُّكرَ عن هِدايتِه إلى طَريقِ الخيرِ أنْ يُوسِّعَ بالَهُ للسَّائلينَ، فلا يَختَصُّ السَّائلُ بسائلِ العَطاءِ، بلْ يَشملُ كلَّ سائلٍ، وأعظَمُ تَصرُّفاتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإرشادِ المُسترشِدينَ، والتَّعريفُ في السَّائلِ تَعريفُ الجِنسِ، فيَعُمُّ كلَّ سائلٍ، أي: عمَّا يُسأَلُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مِثلِه.
وقولُه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقابلُ قولِه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 8] ؛ فإنَّ الإغناءَ نِعمةٌ، فأمَرَه اللهُ أنْ يُظهِرَ نِعمةَ اللهِ عليه بالحديثِ عنها، وإعلانِ شُكْرِها، وليس المرادُ بـ (نِعْمَةِ رَبِّكَ) نِعمةً خاصَّةً، وإنَّما أُريدَ الجِنسُ، فيُفيدُ عُمومًا في المَقامِ الخَطابيِّ، أي: حدِّث ما أنعَمَ اللهُ به عليك مِن النِّعَمِ، فحَصَلَ في ذلك الأمرِ شُكرُ نِعمةِ الإغناءِ، وحَصَلَ الأمرُ بشُكرِ جَميعِ النِّعَمِ لتكونَ الجُملةُ تَذييلًا جامعًا.
وإمَّا أنْ يكونَ هذا التَّفصيلُ على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ غيرِ المُرتَّبِ: إنْ فُسِّرَ السَّائلُ في قولِه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ بسائلٍ مَعروفٍ، كان مُقابلَ قولِه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 8] ، وقولُه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقابِلَ قولِه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ، وكان المرادُ بنِعمةِ ربِّه نِعمةَ الهِدايةِ إلى الدِّينِ الحقِّ .
- وفي قولِه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ كُرِّر (أمَّا) ثلاثَ مَرَّاتٍ؛ لوُقوعِها في مُقابَلةِ ثلاثِ آياتٍ مُناسِباتٍ لها؛ وهي: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، فقال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ واذكُرْ يُتْمَك، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ واذكُر فقْرَك وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الَّتي هي النُّبوَّةُ أو الإسلامُ، فَحَدِّثْ واذكُرْ ضَلالَك .
- وفي قولِه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالالتزامِ، أو لُزومُ ما لا يَلزَمُ -ويُقالُ له أيضًا الإعناتُ - فقدْ لُزِمَت الهاءُ قبْلَ الرَّاءِ، وفي هاتَينِ الفاصلتَينِ مع الالتزامِ تَنكيتٌ عَجيبٌ؛ فإنَّه لا يَجوزُ التَّبديلُ في القَرينتَينِ، ولا تَأتي كلُّ واحدةٍ مكانَ الأُخرى؛ لأنَّ النُّكتةَ في تَرجيحِ مَجيئِهما على ما جاءَتَا عليه: أنَّ اليتيمَ مَأمورٌ بأدَبِه، وأقلُّ ما يُؤدَّبُ به الانتهارُ، فلا يَجوزُ أنْ يُنْهى عن انتهارِه، وإنَّما الَّذي يُنْهى عنه قَهْرُه وغَلبتُه؛ لانكسارِه باليُتْمِ وعدَمِ ناصرِه، فمِن هاهنا تَرجَّحَ مَجيءُ كلِّ قَرينةٍ على ما جاءت عليه، ولم يَجُزِ التَّبديلُ .
- قيل: لَمَّا تَقدَّمَ ذِكرُ الامتنانِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ الثَّلاثةِ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، أمَرَه بثَلاثةٍ: فذكَرَ اليتيمَ أوَّلًا، وهي البدايةُ، ثمَّ ذَكَرَ السَّائلَ ثانيًا، وهو العائلُ، وكان أشرَفُ ما امتنَّ به عليه هي الهدايةَ، فتَرقَّى مِن هذينِ إلى الأشرفِ، وجَعَلَه مَقطعَ السُّورةِ، وإنَّما وُسِّطَ ذلك عندَ ذِكرِ الثَّلاثةِ؛ لأنَّه بعْدَ اليُتمِ هو زَمانُ التَّكليفِ، وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعصومٌ مِن اقترافِ ما لا يُرْضي اللهَ عزَّ وجلَّ في القولِ والفعلِ والعقيدةِ، فكان ذِكرُ الامتنانِ بذلك على حسَبِ الواقعِ بعْدَ اليُتمِ وحالةِ التَّكليفِ، وفي الآخِرِ تَرقَّى إلى الأشرفِ، فهُما مَقصدانِ في الخِطابِ .