موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (187-188)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

غريب الكلمات:

بِمَفَازَةٍ: أَيْ: بمَنجاةٍ، أو بمَوضِعِ الفوْز، ومِنْه يُقال: فازَ فُلانٌ، أَيْ: نجا، والفوز: الظَّفَرُ بالخيرِ مع حُصولِ السَّلامة، وأصلُه: النَّجاة [5674] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117)، ((مقاييس اللُّغة)) لابن فارس (4/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 161، 647)، ((التِّبيان)) لابن الهائم (ص: 134). .

مشكل الإعراب:

قوله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ:
قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ: وكذلك قوله: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: قُرِئ بتاءِ الخِطاب فيهما، وبياءِ الغَيبةِ فيهما، وبياءِ الغَيبةِ في الأوَّلِ وتاءِ الخِطابِ في الثَّاني، ولكلِّ قِراءةٍ توجيهُها الإعرابيُّ:
فعَلى قِراءة لَا تَحْسَبَنَّ وفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء؛ فالفِعلانِ مضافانِ إلى المخاطَب، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الفاعِلُ. والَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعولٌ أوَّلُ لـوَلَا تَحْسَبَنَّ، وحُذِف المفعولُ الثَّاني؛ لدَلالةِ ما بعدَه عليه- وهو بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، الذي هو المفعولُ الثاني لـفَلَا تَحسَبَنَّهُمْ، وقيل: إنَّ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ هو المفعولُ الثاني لـوَلَا تَحْسَبَنَّ الأوَّلِ على تَقديرِ التَّقديمِ، فيكونُ المفعولُ الثاني لـ(تَحْسَب) الثاني محذوفًا لدَلالةِ الأوَّلِ عليه تقديرُه: لا تَحسبَنَّ- يا محمَّدُ- الذين يَفرحون بما أَتَوْا بمفازةٍ من العذاب، فلا تَحسبنَّهم بمفازةٍ من العذابِ، ثم حُذِف الثاني. وفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: تأكيدٌ لـوَلَا تَحْسَبَنَّ بالتاءِ أيضًا، أو بَدلٌ جاءَ مشوبًا بمعنى التأكيدِ؛ لاتِّفاقِ الفاعلين والمفعولين، والفاءُ صِلةٌ لا تمنَعُ من البَدلِ.
وعلى قِراءة (لَا يَحْسَبَنَّ) و(فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ) بالياء؛ فـالَّذِينَ فاعلٌ، ومَفْعولَا (وَلَا يَحْسَبَن) محذوفانِ؛ اكتفاءً بمفعولي (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ)؛ لأنَّ الفاعلَ فيهما واحدٌ، فالفِعلُ الثاني تكريرٌ للأوَّل؛ (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ): تأكيدٌ لـ(لَا يَحْسَبَن)، أو بدلٌ جاءَ مشوبًا بمعنى التأكيد، ولَمَّا تعدَّى (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ) إلى مَفعولَينِ استُغني بذلك عن تَعدِّي (وَلَا يَحْسَبَن)؛ لأنَّ الثاني بدلٌ منه، فاستُغني بتعدِّيه عن تَعدِّي الأوَّل، والتقدير: لا يَحسبَنَّ الفارِحونَ أنفسَهم فائزين؛ فلا يَحسبنَّهم فائِزين.
وأمَّا على قِراءة الأوَّل (وَلَا يَحْسَبَنَّ) بالياء، والثاني (فَلَا تَحْسَبَنَّ) بالتاء؛ فالإعرابُ كما مرَّ في كلِّ فِعلٍ بحسَبِه، إلَّا أنَّه لا يَحْسُن في الثاني التأكيدُ أو البَدلُ؛ لاختلافِ فاعليهما، ولكن يكونُ مفعولَا الأوَّل حُذِفَا؛ لدلالةِ مفعولَيِ الثاني عليهما، وفي الآيةِ توجيهاتٌ أخرى [5675] يُنظر في إعرابِ هذه الآية وتوجيهِها: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/182- 183)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/319)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/525- 530). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُذكِّر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى عليه وسلَّم؛ حين أخذ سبحانَه عهْدًا مُؤكَّدًا مِن أهْل الكتاب: بأنْ يقوموا بتبيين ما في كُتُبهم للنَّاس ولا يُخفون شيئًا ممَّا فيه؛ فنَقضوا ذلك العهد ولم يعملوا به، ومن ذلك أنْ كتموا صِفَة مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّتِي في كتُبهم، مُستبدِلين مُقابِلَ ذلك الكتمانِ ما حصلوا عليه من مَكاسِبَ دُنيويَّة حقيرة؛ فبِئس ما صَنَعوا.
ويُخاطِب اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنْ لا يَظُنَّ هو، ولا يَظُنَّ الذين يَفرحون بما فَعَلوه من أعمالٍ، ويُحبُّون أنْ يُثنِي عليهم الناسُ بما لم يَعملوه- أنَّهم سيَنجُون من عذابِ الله، بل لهم عذابٌ أليمٌ!

تفسير الآيات:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حكَى اللهُ تعالى عنِ اليَهودِ شُبَهًا طاعِنةً في نُبوَّة مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وأجاب عنه، أتْبَعه بهذه الآيةِ، وذلك؛ لأنَّه تعالى أوجَبَ في التوراةِ والإنجيلِ على أُمَّة موسى وعيسى عليهما السَّلام أنْ يَشرحوا ما في هذين الكِتابَيْن من الدَّلائلِ الدَّالَّةِ على صِحَّة دِينِه، وصِدْقِ نُبوَّته ورِسالَتِه، والمراد منه التعجُّب مِن حالهم، كأنَّه قِيل: كيفَ يَليقُ بكم إيرادُ الطَّعْنِ في نُبوَّته ودِينه مع أنَّ كُتبَكم ناطِقةٌ ودالَّةٌ على أنَّه يجبُ عليكم ذِكْرُ الدَّلائل الدَّالَّة على صِدْق نبوَّته ودِينه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/455). .
وأيضًا فإنَّه تعالى لَمَّا أوجبَ في الآيةِ المتقدِّمةِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ احتمالَ الأذى مِن أهْلِ الكتاب، وكان مِن جُملة إيذائِهم للرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّهم كانوا يَكتُمون ما في التوراةِ والإنجيلِ مِن الدَّلائل الدَّالَّة على نُبوَّته؛ فكانوا يُحرِّفونها، ويَذكُرون لها تأويلاتٍ فاسِدةً؛ فبَيَّن أنَّ هذا مِن تِلك الجُملةِ الَّتِي يجب فيها الصَّبرُ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/455). ، فقال:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
أَيْ: واذْكُر- يا مُحمَّدُ- حين عَهِد اللهُ عزَّ وجلَّ إلى اليهودِ وغيرِهم مِن أهل الكتاب عَهْدًا مؤكَّدًا: بأنْ يُبيِّنوا ما في كتُبهم للنَّاس ولا يُخفونه أبدًا، ومن ذلك صِفةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإثباتُ رِسالتِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/293)، ((تفسير ابن كثير)) (2/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/524-525). .
عنْ أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((من سُئِلَ عن علْمٍ علِمَهُ، ثُمَّ كتَمَهُ، أُلْجِمَ يَومَ القيامَةِ بلِجامٍ من نارٍ )) أخرجه الترمذيُّ (2649) واللفظ له، وأبو داود (3658)، وابن ماجه (266)، وأحمد (8514). حسَّنه الترمذيُّ في ((سننه)) (2649)، والبغوِيُّ في ((شرح السنَّة)) (1/238)، ووثَّق رُواتَه ابنُ القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/218)، وقال ابنُ حجَرٍ في ((القول المسدَّد)) (1/11): "إنْ لم يكُن في نهاية الصِحَّة لكنَّه صالحٌ للحُجَّة"، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (15/194)، وقال الألبانِيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3658): "حسَنٌ صحيح". .
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
أَيْ: فكانتِ النتيجةُ أنَّهم نقَضوا هذا العهْدَ، وترَكوا العملَ به، ككِتمانِهم صِفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الناس يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/293، 294، 298)، ((تفسير ابن كثير)) (2/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/525). .
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أَيْ: أرادُوا مُقابِلَ نقْضِهم عَهدَ الله تعالى بكِتمانهم ما في كتُبهم- الحصولَ على حُظوظٍ دُنيويَّةٍ خسيسةٍ مِن مَناصِبَ أو أموالٍ، أو غيرِ ذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6 /294، 299)، ((تفسير ابن كثير)) (2/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/525). .
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
أَيْ: فبِئستِ الصفْقَةُ صَفْقتُهم، وما أخْسرَها مِن تجارةٍ! لأنَّهم اختاروا الدَّنيءَ الخَسيسَ، وترَكوا العاليَ النَّفيس يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6 /294، 299)، ((تفسير ابن كثير)) (2/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/526-527). .   
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188).
سببُ النُّزول:
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رجالًا مِن المنافقين على عَهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كان إذا خرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عنه، وفَرِحُوا بمقعدِهم خِلافَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعتَذَرُوا إليه وحَلَفُوا، وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدوا بما لم يَفْعَلوا، فنزَلَتْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا الآيةُ )) رواه البخاريُّ (4567)، ومُسلِم (2777). .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذه الآيةُ مِن جملةِ ما دخَلَ تحتَ قولِه: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا، فبَيَّن تعالى أنَّ مِن جُملةِ أنواعِ هذا الأذَى أنَّهم يَفرحون بما أَتَوْا به من أنواعِ الخُبْث والتلبيسِ على ضَعَفةِ المسلمين، ويُحبُّون أنْ يُحمَدوا بأنَّهم أهْلُ البِرِّ والتقوى والصِّدْق والدِّيانة وغير ذلك، ولا شكَّ أنَّ الإنسانَ يَتأذَّى بمشاهدةِ مِثل هذه الأحوالِ؛ فأمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالمصابرةِ عليها يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/456). ، فقال تعالى:
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قِراءتان:
1- قراءة (تَحْسَبَنَّ) بالخِطابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَعْله الفاعِل، والَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعولًا قرأ بها الكوفيُّون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 204). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الكشف)) لمكِيّ (1/368)، ((تفسير أبي حيان)) لأبي حيَّان (8/67). .
2- قراءة (يَحْسَبَنَّ) بجَعْل الفاعل: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 204). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الكشف)) لمكِيّ (1/368)، ((تفسير أبي حيان)) لأبي حيَّان (8/67). .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
أَيْ: لا تظُنَّنَّ- يا مُحمَّدُ- ولا يَظُنَّنَّ الَّذين يَفرحون بما فعَلوه من أقوالٍ وأفعالٍ باطِلة: ككِتْمان العِلم لمَن سألهم كاليهود، والتخلُّف عن الغزْو في سبيل الله تعالى كالمنافقين، وكأعمال المتزيِّنين للنَّاس المُرائين لهم بما لم يَشرَعْه الله ورسولُه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/307)، ((تفسير ابن كثير)) (2/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/529). .
عن ثابتِ بنِ الضحَّاك رضِي اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ومَن ادَّعى دعَوى كاذبةً؛ لِيتكثَّرَ بها لم يَزدْه اللهُ إلا قِلَّةً )) رواه مُسلِم (110). .
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
أَيْ: وهم مع ذلك يُحبُّون أنْ يُثني الناسُ عليهم بالخَيرِ، على طاعاتٍ للهِ تعالى لم يَقوموا بها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/529-530). .
فجمَعوا بذلك بين فِعْلِ الشَّرِّ والفرَحِ بذلك، ومحبَّةِ حمْدِ النَّاسِ لهم على الخيرِ الذي لم يَفعلوه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 160). .
عنْ عَلْقمةَ بنِ وقَّاصٍ ((أنَّ مَرْوانَ، قال: اذْهَبْ يا رافعُ- لبوَّابِه- إلى ابنِ عَبَّاسٍ فقُلْ: لَئِنْ كانَ كلُّ امْرِئٍ منَّا فَرِحَ بِما أَتَى وأَحبَّ أنْ يُحْمَدَ بما لم يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أجمعونَ! فقال ابنُ عَبَّاسٍ: ما لكُم ولهذه الآيةِ؟ إِنَّما أُنزِلَتْ هذه الآيةُ في أهلِ الكِتابِ، ثُمَّ تَلَا ابنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] هذه الآيةَ، وتَلَا ابنُ عَبَّاسٍ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: «سَأَلَهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شَيءٍ فكَتَموه إيَّاهُ، وأَخْبَروه بِغَيرِه، فخَرَجوا قدْ أَرَوْه أنْ قدْ أَخْبَروه بما سَأَلَهُمْ عنه واسْتَحْمَدوا بذلكَ إليه، وفَرِحوا بِما أَتَوْا مِنْ كِتْمانِهم إيَّاه ما سَأَلَهُمْ عنه )) رواه البُخارِي (4568)، ومُسلِم (2778) واللفظ له. .
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ قِراءتان:
1- قراءة (يَحْسَبُنَّهُمْ) بجَعْل الفِعلِ للذين يَفرَحون بما أَتوا ويُحبُّون أنْ يُحمدوا بما لم يَفعلوا، أَيْ: فلا يَحْسَبون أنفسَهم بمفازةٍ من العذابِ قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 205). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجَّة القراءات)) لابن زنجلة (ص:187)، ((الكشْف)) لمكي (1/371). .
2- قِراءة (تَحْسَبَنَّهُمْ) بجَعْل الفِعل خِطابًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 205). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجَّة القراءات)) لابن زنجلة (ص:187)، ((الكشْف)) لمكي (1/371). .
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
أَيْ: لا تَظُنَّهم- يا مُحمَّدُ- ولا يظُنَّ أولئك القومُ أنفسَهم أنَّهم في سَلامةٍ ونجاةٍ من عذابِ الله تعالى يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/530). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أَيْ: إنَّهم قد استحقُّوا عذابًا مُؤلِمًا سيَصيرون إليه يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/531). .

الفوائد التربوية:

1- في قولِه تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ وجوبُ بيانِ العِلمِ على أهلِ العِلم، ولمْ يَذكرِ اللهُ عزَّ وجلَّ الوسيلةَ التي يَحصُل بها البيان؛ فتكونُ على هذا مُطلقَةً راجعةً إلى ما تَقتضيه الحالُ، قد يكون البيانُ بالقولِ، وقد يكونُ بالكتابةِ، وقد يكونُ في المجالسِ العامَّة، وقد يكونُ في المجالسِ الخاصَّة، على حسْبِ الحال؛ لأنَّ اللهَ أطلقَ البيانَ ولم يُفصِّل ولم يُعيِّن يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/527). .
2- يَنبغي قرْنُ النَّفي بالإثباتِ في الأمور المهِمَّة؛ لِيتحقَّقَ الكمالُ؛ لقوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ  وَلاَ تَكْتُمُونَهُ، ووجْه ذلك: أنَّ البيانَ عدمُ الكتمان، لكن لَمَّا قال: وَلاَ تَكْتُمُونَهُ أكَّد البيانَ بأنْ يكونَ كامِلًا ليسَ فيه أيُّ نوعِ كِتمانٍ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/528). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- لما قال تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قال بعده: وَلاَ تَكْتُمُونَهُ مع أنَّ البيان ضدُّ الكتمان؛ قيل: لأنَّ المعنى: لَتبيِّنُنَّه بيانًا لا كِتمانَ فيه بأيِّ وجهٍ من الوجوه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/524). ، أو يكون المرادُ مِن البيان ذِكْرَ تلك الآيات الدَّالَّة على نُبوَّة محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من التوراة والإنجيل، والمرادُ مِن النهي عن الكِتمان أنْ لا يُلقُوا فيها التأويلاتِ الفاسِدةَ والشُبهات المعطلة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/456). .
2- الذمُّ القبيح لأهْلِ الكتابِ اليهود والنصارى؛ لِقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ وذلك أنَّه يُلاحَظ شدَّةُ القذْفِ في قوله: نَبَذُوه، ثمَّ شِدَّةُ الاستكبار في قوله: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/528). .
3- دلَّ مفهومُ قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا على أنَّ مَن أحبَّ أنْ يُحمَدَ ويُثنى عليه بما فعَلَه من الخيرِ واتِّباع الحقِّ، إذا لمْ يكُن قصدُه بذلك الرِّياءَ والسُّمْعَةَ- أنَّه غيرُ مذمومٍ، بل هذا من الأمورِ التي جازَى بها اللهُ تعالى خَواصَّ خَلْقِه، وسألوها مِنه، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلام: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وقال: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحْسِنِينَ، وقد قال عِبَاد الرَّحْمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 161). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلًا: كلامٌ مُستَأنَف سِيقَ؛ لِبيان بعض أذياتهم، وهو كِتْمانُهم ما في كِتابِهم من شواهدِ نُبوَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها [5702] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/124). .
- وفيه: التفاتٌ؛ فقَد انتقلَ من الغَيْبةِ في قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ... إلى الخِطابِ في قوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ، ثمَّ عاد إلى الغيْبةِ في قولِه تعالى: فَنَبَذُوُه، والفائدةُ مِن ذلك: زيادةُ التَّسجيلِ المباشِرِ عليهم [5703] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/128)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 600). .
- وفيه تأكيدُ إيجابِ بيانِ الكتابِ واجتنابِ كِتمانه؛ حيثُ قال: وَلَا تَكْتُمُونَهُ، ولم يقل: (ولا تَكتموه)، ولَم يُؤكِّد بالنون؛ لكونِه مَنفيًّا؛ أو لأنَّه اكتفَى بالتأكيدِ بالنونِ في الأوَّل؛ ولأنَّ هذا الفِعلَ نفسَه تأكيدٌ له [5704] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/450)، ((تفسير أبي السعود)) (2/124). .
- قوله: فَنَبَذُوهُ فيه: العطْف بالفاءِ الدَّالَّةِ على التعقيبِ؛ للإشارةِ إلى مُسارَعتِهم إلى ذلك، ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ مُستعمَلةً في لازِم التعقيب، وهو شِدَّةُ المسارَعَة لذلك عند اقتضاءِ الحال إيَّاه، والاهتمامُ به، وصرْفُ الفكرة فيه [5705] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/191- 192). .
- قوله: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلًا فيه نهايةُ الجَزالة، والدَّلالةُ على كمالِ فَظاعة حالِهم وغاية قُبْحها، بإيثارِهم الدنيءَ الحقيرَ على الشَّريفِ الخَطير، وتَعكيسِهم بجعلهم المقصِدَ الأصلِيَّ وسيلةً والوسيلةَ مَقصِدًا؛ حيثُ صوَّر هذه المعاملةَ بعقْدِ المعاوَضَة لا سيَّما بالاشتراءِ المؤذِن بالرَّغبةِ في المأخوذ، والإعراضِ عن المعطَى، والتعبيرِ عن المُشترَى الذي هو العُمْدةُ في العَقْد، والمقصودُ بالمعامَلة بالثَّمنِ الذي شأْنُه أنْ يكونَ وسيلةً إليه، وجعْلِ الكتابِ الذي حقُّه أنْ يَتنافسَ فيه المتنافِسون مَصحوبًا بالباءِ الدَّاخِلة على الآلاتِ والوسائلِ [5706] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/125). .
2- قوله: لَا تَحْسَبَنَّ، فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: فيه تَكرار الفعل (حسب)، وهو يُفيد التَّأكيد [5707] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/53)، ((تفسير أبي حيان)) (3/486)، ((تفسير أبي السعود)) (2/126). .