موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (18-23)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ: أي: فَرُّوا وانفَضُّوا وغُلِبوا؛ يُقالُ: وَلَّاه دُبُرَه: إذا انهزَمَ، والتَّوَلِّي: الإعراضُ بعدَ الإقبالِ، وأصلُ الدُّبُرِ: آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه [272] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 887)، ((تفسير النسفي)) (3/340)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92)، ((الكليات)) للكفوي (1/28). .
سُنَّةَ اللَّهِ: السُّنَّةُ: هي الطَّريقةُ المَسلوكةُ والمِنهاجُ المتَّبَعُ، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ، واطِّرادِه في سُهولةٍ [273] يُنظر ((تفسير ابن جرير)) (19/119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 429)، ((تفسير ابن كثير)) (6/427)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 497، 498)، ((تاج العروس)) للزبيدي (31/229). .
خَلَتْ: أي: مَضَت وذَهَبت، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعَرِّي الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/637)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبشِّرًا المؤمنينَ الَّذين بايَعوا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ الحُدَيبِيَةِ: لقد رَضِيَ اللهُ عن المُؤمِنينَ حينَ بايَعوا رَسولَه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تحتَ الشَّجَرةِ في الحُدَيبِيَةِ، على أن يُقاتِلوا كُفَّارَ قُرَيشٍ ولا يَفِرُّوا، فعَلِمَ اللهُ ما في قُلوبِهم مِن الصِّدْقِ والوَفاءِ، والطَّاعةِ للهِ ورَسولِه؛ فأنزل اللهُ الطُّمَأنينةَ على قُلوبِهم، وجَزاهم اللهُ فَتْحًا يَحصُلُ لهم قَريبًا، وغنائِمَ كَثيرةً يَأخُذونَها مِن أموالِ يَهودِ خَيبَرَ جعَلَها خاصَّةً لهم دُونَ غَيرِهم، وكان اللهُ عَزيزًا غالِبًا لكُلِّ شَيءٍ، حَكيمًا يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.
وعَدَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- مَغانِمَ أُخرى كَثيرةً تأخُذونَها، فعجَّل اللهُ لكم -أيُّها المُؤمِنونَ المُبايِعونَ- غنائِمَ خَيبَرَ تأخُذونَها في وَقتٍ قَريبٍ بعدَ رُجوعِكم مِنَ الحُدَيبيَةِ، وكفَّ اللهُ أيدِيَ الكُفَّارِ عنكم؛ فلم يَنَلْكم سوءٌ منهم، ولِيَكونَ ذلك آيةً للمُؤمِنينَ وعِبرةً لهم، ولِيَهدِيَكم اللهُ طَريقًا في الدِّينِ مُستَقيمًا لا اعوِجاجَ فيه.
ووعَدَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- فَتْحَ بلادٍ أُخرى لم تَقدِروا على فَتْحِها الآنَ، قد حَفِظَها اللهُ لكم، ويُيسِّرُ لكم فَتْحَها بعدَ حينٍ، وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرًا.
ولو قاتَلَكم الَّذين كَفَروا لَفَرُّوا وانهَزَموا عنكم، ثمَّ لا يَجِدونَ وَلِيًّا يَتولَّى أمْرَهم، ولا نَصيرًا يَنصُرُهم عليكم، لو قاتَلُوكم لَخَذَلَهم اللهُ خِذْلانَه أمثالَهم مِن أهلِ الكُفرِ به، الَّذين مَضَوا في الأُمَمِ السَّابِقةِ، سَنَّ الله فيهم الهَزيمةَ والخِذلانَ سُنَّةً مُؤكَّدةً لا تتغَيَّرُ، ولن تَجِدَ -يا مُحمَّدُ- لِعادةِ اللهِ الَّتي سنَّها في خَلْقِه تَغييرًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ حالَ مَن تخَلَّف عن السَّفَرِ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ذكَرَ حالَ المُؤمِنينَ الخُلَّصِ الَّذين سافَروا معَه [275] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/491). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُخَلَّفينَ بعدَ قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] ؛ عاد إلى بَيانِ حالِ المُبايِعينَ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (17/495). .
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
أي: لقد رَضِيَ اللهُ عن المُؤمِنينَ حينَ بايَعوا رَسولَه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تحتَ الشَّجَرةِ الكائِنةِ في أرضِ الحُدَيبِيَةِ، على أن يُقاتِلوا كُفَّارَ قُرَيشٍ ولا يَفِرُّوا [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/272)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنَّا يوم الحُدَيبيَةِ ألفًا وأربَعَمِئَةٍ، فبايَعْناه وعُمَرُ آخِذٌ بيَدِه تحتَ الشَّجَرةِ، وهي سَمُرةٌ [278] السَّمُرة: شجرة الطَّلْحِ. يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هُبَيْرة (4/162)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 399). ، وقال: بايَعْناه على ألَّا نَفِرَّ، ولم نبايِعْه على المَوتِ)) [279] رواه مسلم (1856). .
وعن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لقد رأيتُني يومَ الشَّجَرةِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبايِعُ النَّاسَ، وأنا رافِعٌ غُصْنًا مِن أغصانِها عن رأسِه، ونحنُ أربَعَ عَشْرةَ مِئةً. قال: لمْ نُبايِعْه على الموتِ، ولكِنْ بايَعْناه على ألَّا نَفِرَّ )) [280] رواه مسلم (1858). .
وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: أخبَرَتْني أمُّ مُبَشِّرٍ أنَّها سَمِعَت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ عندَ حَفصةَ: ((لا يَدخُلُ النَّارَ -إن شاءَ اللهُ- مِن أصحابِ الشَّجَرةِ أحَدُ الَّذين بايَعوا تَحْتَها. قالت: بلى، يا رَسولَ اللهِ! فانتَهَرَها. فقالت حَفصةُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قد قال اللهُ عزَّ وجلَّ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72] )) [281] رواه مسلم (2496). .
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ.
أي: فعَلِمَ اللهُ ما في قُلوبِ الصَّحابةِ الَّذين بايَعوا النَّبيَّ تحتَ الشَّجَرةِ، مِن الصِّدْقِ والوَفاءِ، والطَّاعةِ للهِ ورَسولِه [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/277)، ((تفسير القرطبي)) (16/278)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). وممَّن اختار هذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جرير، وابن القيم، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/277)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/340). وقال ابنُ عطيَّةَ: (قَولُه تعالى: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ قال قَومٌ: معناه: مِن كراهةِ البَيعةِ على المَوتِ ونَحوِه. وهذا ضعيفٌ؛ فيه مَذمَّةٌ للصَّحابةِ. وقال الطَّبَريُّ ومُنذِرُ بنُ سعيدٍ: معناه: مِنَ الإيمانِ وصِحَّتِه، والحُبِّ في الدِّينِ، والحِرصِ عليه. وهذا قولٌ حسَنٌ، لكنَّه مَن كانت هذه حالُه فلا يَحتاجُ إلى نُزولِ ما يُسكِّنُه، [إلَّا] أنَّه يَحتمِلُ أنْ يُجازَى بالسَّكينةِ والفتحِ القريبِ والمغانمِ. وقال آخَرونَ: معناه: مِنَ الهَمِّ بالانصِرافِ عن المشركينَ، والأنَفةِ في ذلك، على نحوِ ما خاطَبَ فيه عُمَرُ وغَيرُه. وهذا تأويلٌ حسَنٌ، يَترتَّبُ معه نُزولُ السَّكينةِ، والتَّعريضُ بالفتحِ القريبِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/134). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/316). .
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ.
أي: فأنزل اللهُ الطُّمَأنينةَ على قُلوبِهم، فثَبَتوا على الدِّينِ، وازدادوا يَقينًا بالحَقِّ المُبِينِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/277)، ((تفسير القرطبي)) (16/278)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا.
أي: وجَزاهم اللهُ فَتْحًا يَحصُلُ لهم قَريبًا؛ جزاءً لهم على قِيامِهم بأمرِ اللهِ، ورِضاهم بحُكْمِه [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/278)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). قيل: المرادُ بالفَتحِ هنا: فَتحُ خَيبَرَ. وممَّن قال بهذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والواحدي، والشوكاني، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/73)، ((تفسير الثعلبي)) (9/48)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1010)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ أبي ليلى، وقَتادةُ، وعِكْرِمةُ، والشَّعْبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/278)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/524). وقيل: المرادُ به: فَتحُ مَكَّةَ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/316)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/317). قال ابنُ القَيِّم: (كان أوَّلَ الفَتحِ والمغانِمِ فَتحُ خَيبَرَ ومَغانِمُها، ثمَّ استمَرَّت الفُتوحُ والمغانِمُ إلى انقِضاءِ الدَّهرِ). ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278). وقال ابنُ كثيرٍ: (هو ما أجرى اللهُ على أيديهم مِنَ الصُّلحِ بَيْنَهم وبيْنَ أعدائِهم، وما حَصَل بذلك مِنَ الخَيرِ العامِّ المُستَمِرِّ المتَّصِلِ بفَتحِ خَيبَرَ وفَتحِ مَكَّةَ، ثمَّ فَتحِ سائِرِ البلادِ والأقاليمِ عليهم، وما حَصَل لهم مِنَ العِزِّ والنَّصرِ والرِّفعةِ في الدُّنيا والآخِرةِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/340). .
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى الفَتحَ؛ ذكَرَ بَعضَ ثَمَرتِه [285] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/317). .
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا.
أي: وأثابَهم غنائِمَ كَثيرةً يَأخُذونَها مِن أموالِ يَهودِ خَيبَرَ، وجعَلَها خاصَّةً لهم دُونَ غَيرِهم [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/279)، ((تفسير القرطبي)) (16/278)، ((سبل الهدى)) للصالحي (5/67)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60). قال ابنُ عاشور: (المغانِمُ الكثيرةُ المذكورةُ هنا هي مغانِمُ أرضِ خَيبَرَ، والأنعامُ والمتاعُ والحوائِطُ، فوُصِفَت بـ كَثِيرَةً؛ لتعَدُّدِ أنواعِها). ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). .
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالعِزَّةِ الكامِلةِ؛ فهو القاهِرُ الغالِبُ لكُلِّ شَيءٍ، ومُتَّصِفٌ بالحِكمةِ التَّامَّةِ؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/279)، ((الوسيط)) للواحدي (4/140)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/317)، ((سبل الهدى)) للصالحي (5/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال ابنُ جرير: (وكان اللهُ ذا عِزَّةٍ في انتِقامِه مِمَّن انتَقَم مِن أعدائِه). ((تفسير ابن جرير)) (21/ 279). وقال الواحدي: (حكيمًا في أمْرِه؛ حَكَم لكم بالغَنيمةِ، ولأهلِ خَيبَرَ بالسَّبْيِ والهَزيمةِ). ((التفسير الوسيط)) (4/140). وقال السعدي: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا أي: له العِزَّةُ والقُدرةُ الَّتي قهَرَ بها الأشياءَ، فلو شاء لانتصَرَ مِن الكُفَّارِ في كُلِّ وَقعةٍ تكونُ بَيْنَهم وبيْنَ المُؤمِنينَ، ولكِنَّه حَكيمٌ يَبتلي بَعضَهم ببَعضٍ، ويمتَحِنُ المؤمِنَ بالكافِرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ وعَدهم فيما سلَف بمغانمِ خَيْبَرَ- أردَف ذلك بِبَيانِ أنَّ ما آتاهم مِن الفتحِ والمَغانمِ ليس هو الثَّوابَ وحْدَه [288] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/104). .
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا.
أي: وعَدَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- مَغانِمَ أُخرى كَثيرةً، وذلك مِن سائِرِ المغانِمِ الَّتي يأخُذُها المُسلِمونَ بعدَ خَيبَرَ في الأوقاتِ الَّتي قدَّر اللهُ لهم أخْذَها فيها [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/279، 281)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/318)، ((تفسير الألوسي)) (13/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). قال ابن الجوزي: (أمَّا قولُه...: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فقال المفسِّرونَ: هي الفُتوحُ الَّتي تُفتَحُ على المُسلمينَ إلى يومِ القيامةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 133). وقال أبو حيَّان: (وهذه المغانمُ المَوعودُ بها هي المغانمُ الَّتي كانت بعدَ هذه، وتكونُ إلى يومِ القيامةِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ ومُجاهِدٌ وجمهورُ المفسِّرينَ). ((تفسير أبي حيان)) (9/ 493). .
فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ.
أي: فعجَّل اللهُ لكم -أيُّها المُؤمِنونَ المُبايِعونَ رَسولَه تحتَ الشَّجَرةِ- غنائِمَ خَيبَرَ تأخُذونَها في وَقتٍ قَريبٍ بعدَ رُجوعِكم مِنَ الحُدَيبيَةِ، وستَحصُلُ لكم غنائِمُ كَثيرةٌ بَعدَها [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/280، 281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). قال ابن عاشور: (كان قريبًا مِن يَومِ البَيعةِ بنَحوِ شَهرٍ ونِصفٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). .
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
أي: وكفَّ اللهُ أيدِيَ الكُفَّارِ عنكم؛ فلم يَنَلْكم سوءٌ منهم [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/281، 282)، ((الوسيط)) للواحدي (4/140)، ((تفسير ابن عطية)) (5/135)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341)، ((سبل الهدى)) للصالحي (5/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). قال الماوَرْدي: (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فيه ثلاثةُ أقاويلَ: أحدُها: اليهودُ؛ كفَّ أيديَهم عن المدينةِ عندَ خُروجِهم إلى الحُدَيبيَةِ. الثَّاني: قُرَيشٌ؛ كفَّ أيديَهم عن المدينةِ عندَ خُروجِهم إلى الحُدَيبيَةِ. الثَّالثُ: أَسَدٌ وغَطَفانُ الحَليفانِ عليهم عُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ ومالكُ بنُ عَوفٍ؛ جاؤُوا لِيَنصُروا أهلَ خَيبَرَ، فألقى اللهُ في قُلوبِهم الرُّعبَ فانهزَموا). ((تفسير الماوردي)) (5/317). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/282)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/26)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1011)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 682). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/282)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/133). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: السمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والقرطبي، وابنُ جُزَي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/317)، ((تفسير الثعلبي)) (9/48)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6957)، ((تفسير القرطبي)) (16/278)، ((تفسير ابن جزي)) (2/289)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالب، وابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (1/397)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/525). وممَّن اختار القولَ الثَّالثَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنين، والبغويُّ، والزمخشري، والنسفي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/74)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/255)، ((تفسير البغوي)) (4/229)، ((تفسير الزمخشري)) (4/340)، ((تفسير النسفي)) (3/339)، ((تفسير الخازن)) (4/161). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/525). قال ابن القيِّم في قولِه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ: (قيل: أيديَ أهلِ مَكَّةَ أن يُقاتِلوهم. وقيل: أيدِيَ اليَهودِ حينَ هَمُّوا بأن يَغتالوا مَن بالمدينةِ بعدَ خُروجِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَن معه مِنَ الصَّحابةِ منها. وقيل: هم أهلُ خَيبَرَ وحُلفاؤُهم الَّذين أرادوا نَصْرَهم مِن أَسَدٍ وغَطَفانَ. والصَّحيحُ تَناوُلُ الآيةِ للجَميعِ). ((زاد المعاد)) (3/278). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال ابنُ عاشور: (امتِنانٌ عليهم بنِعمةٍ غفَلوا عنها حينَ حَزِنوا لوُقوعِ صُلحِ الحُدَيبِيَةِ، وهي نِعمةُ السِّلمِ، أي: كَفَّ أيديَ المُشرِكينَ عنهم؛ فإنَّهم لو واجَهوهم يومَ الحُدَيبيَةِ بالقِتالِ دونَ المراجَعةِ في سَبَبِ قُدومِهم لَرَجَع المُسلِمونَ بعدَ القِتالِ مُتعَبينَ، ولَمَا تهَيَّأَ لهم فَتحُ خَيبَرَ، وأنَّهم لو اقتَتَلوا مع أهلِ مكَّةَ لَدُحِضَ في ذلك مُؤمِنونَ ومُؤمِناتٌ كانوا في مكَّةَ، كما أشار إليه قَولُه تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ... [الفتح: 25] الآيةَ. فالمرادُ بـ النَّاسِ: أهلُ مَكَّةَ؛ جَرْيًا على مُصطَلَحِ القُرآنِ في إطلاقِ هذا اللَّفظِ غالِبًا). ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). .
وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: ولِيَكونَ ذلك آيةً للمُؤمِنينَ وعِبرةً لهم [292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/283)، ((تفسير القرطبي)) (16/279)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال الشوكاني: (وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّامُ يجوزُ أن تتعَلَّق بفِعلٍ مَحذوفٍ يُقَدَّرُ بَعْدَه، أي: فَعَل ما فَعَل مِنَ التَّعجيلِ والكَفِّ؛ لِتَكونَ آيةً، أو على عِلَّةٍ مَحذوفةٍ تَقديرُها: وَعَد فعَجَّلَ وكَفَّ؛ لِتَنتَفِعوا بذلك، ولِتَكونَ آيةً. وقيل: إنَّ الواوَ مَزيدةٌ، واللَّامَ لِتَعليلِ ما قَبْلَه، أي: وكَفَّ لِتَكونَ، والمعنى: ذلك الكَفُّ آيةٌ يُعلَمُ بها صِدقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ ما يَعِدُكم به). ((تفسير الشوكاني)) (5/61)، ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/341). قيل: المرادُ: ولِيَكونَ كَفُّهم عن المؤمِنينَ آيةً لهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والنسفي، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/283)، ((تفسير النسفي)) (3/340)، ((تفسير ابن جزي)) (2/289). ويُنظر أيضًا: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/283). قال ابنُ كثير: (أي: يَعتَبِرونَ بذلك؛ فإنَّ اللهَ حافِظُهم وناصِرُهم على سائِرِ الأعداءِ مع قِلَّةِ عَدَدِهم، ولِيَعلَموا بصَنيعِ اللهِ هذا بهم أنَّه العَليمُ بعواقِبِ الأُمورِ، وأنَّ الخِيَرةَ فيما يَختارُه لِعِبادِه المُؤمِنينَ وإنْ كَرِهوه في الظَّاهِرِ، كما قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216] ). ((تفسير ابن كثير)) (7/341). وقيل: المعنى: ولِتَكونَ الغَنيمةُ آيةً للمُؤمِنينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مكِّي، والواحدي، والخازن، والسعدي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6959)، ((الوسيط)) للواحدي (4/140)، ((تفسير الخازن)) (4/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال السعدي: (وَلِتَكُونَ هذه الغَنيمةُ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَستَدِلُّونَ بها على خَبَرِ اللهِ الصَّادِقِ، ووعَدِه الحَقِّ، وثوابِه للمُؤمِنينَ، وأنَّ الَّذي قَدَّرَها سيُقَدِّرُ غَيرَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 794). وقيل المعنى: ولِتَكونَ هزيمتُهم وسلامتُكم آيةً للمؤمنينَ. وممَّن اختاره: الثعلبي، والبغوي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/48)، ((تفسير البغوي)) (4/229)، ((تفسير القرطبي)) (16/279).  .
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
أي: ولِيَهدِيَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- طَريقًا في الدِّينِ مُستَقيمًا لا اعوِجاجَ فيه؛ بسَبَبِ انقِيادِكم لأمْرِه، وقيامِكم بطاعتِه، ومُوافَقتِكم لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/283)، ((تفسير القرطبي)) (16/279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال ابنُ عاشور: (قولُه: وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا عَطْفٌ على وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وهو حِكمةٌ أُخرى، أي: لِيَزولَ بذلك ما خامَرَكم مِن الكآبةِ والحُزنِ؛ فتَتجرَّدَ نُفوسُكم لإدراكِ الخَيرِ المَحضِ الَّذي في أمْرِ الصُّلحِ، وإحالتِكم على الوَعدِ؛ فتُوقِنوا أنَّ ذلك هو الحقُّ، فتَزدادوا يَقينًا). ((تفسير ابن عاشور)) (26/179). .
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا سَرَّهم سُبحانَه بما بَشَّرَهم به مِن كَونِ القَضيَّةِ فَتحًا، ومِن غنائِمِ خَيبَرَ؛ أتْبَعَ ذلك البِشارةَ، دالًّا على أنَّه لا مَطمَعَ لهم في حَوْزِه ولا عِلاجِه لولا مَعونتُه [294] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/319، 320). .
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا.
أي: ووعَدَكم اللهُ -أيُّها المُؤمِنونَ- فَتْحَ بلادٍ أُخرى لم تَقدِروا على فَتْحِها الآنَ، قد حَفِظَها اللهُ لكم، وأعَدَّها لكم، ومَنَعَها عن غَيرِكم، فيُيَسِّرُ لكم فَتْحَها بعدَ حينٍ [295] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/141)، ((تفسير القرطبي)) (16/279)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/278، 279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). ممَّن قال بأنَّ المرادَ بقوله: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا: فَتحُ مَكَّةَ: ابنُ جريرٍ، والسمرقنديُّ، وابنُ عطيَّةَ، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/286)، ((تفسير السمرقندي)) (3/318)، ((تفسير ابن عطية)) (5/135)، ((تفسير ابن جزي)) (2/289). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/286)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: فارِسُ والرُّومُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/74)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1011). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (5/203). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ -في روايةٍ-، وابنُ أبي ليلى، والحسَنُ البصريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/284)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341). وقيل: هي مغانمُ هَوازِنَ في غزوةِ حُنَينٍ. وممَّن اختاره: الزمخشري، والنسفي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/341)، ((تفسير النسفي)) (3/340). وقال ابنُ كثير: (قال مجاهِدٌ: هي كلُّ فتحٍ وغنيمةٍ إلى يومِ القيامةِ. وقال أبو داودَ الطَّيالسيُّ: حدَّثَنا شُعْبةُ، عن سِمَاكٍ الحَنَفيِّ، عن ابنِ عبَّاسٍ: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا قال: هذه الفُتوحُ الَّتي تُفتَحُ إلى اليَومِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/341). وقال ابن عاشور: (الآيةُ أشارت إلى ثلاثةِ أنواعٍ مِن المغانمِ: نوعٌ مِن مَغانمَ مَوعودةٍ لهم قريبةِ الحُصولِ، وهي مَغانمُ خَيبَرَ؛ ونوعٌ هو مَغانمُ مَرجوَّةٌ كثيرةٌ غيرُ مُعيَّنٍ وَقتُ حُصولِها، ومنها مَغانمُ يومِ حُنَينٍ وما بعْدَه مِن الغزَواتِ؛ ونوعٌ هو مَغانمُ عظيمةٌ لا يَخطُرُ ببالِهم نَوالُها قد أعدَّها اللهُ للمُسلِمينَ، ولعلَّها مغانمُ بلادِ الرُّومِ وبلادِ الفُرسِ وبلادِ البَربرِ، وفي الآيةِ إيماءٌ إلى أنَّ هذا النَّوعَ الأخيرَ لا يَنالُه جَميعُ المخاطَبينَ؛ لأنَّه لم يأْتِ في ذِكرِه بضَميرِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/181). قال الواحديُّ: (أحاطَ اللهُ لكم بها، وجعَلَها لكم، وحَوَاها لكم. قال الفَرَّاءُ: أحاط اللهُ بها لكم حتَّى يَفتَحَها عليكم. ومعنَى الإحاطةِ على هذا القولِ: الحِفظُ، كأنَّه قال: حَفِظَها لكم، ومَنَعَها عن غَيرِكم حتَّى تَفتَحوها فتأخُذوها. وقال ابنُ عبَّاسٍ: عَلِمَ أنَّها ستَكونُ لكم. وهو قولُ مُقاتِلٍ، واختيارُ الزَّجَّاجِ، قال: أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا قد عَلِمَها اللهُ، وقال: وهو ما يَغْنَمُ المسلمونَ إلى أن لا يقاتلَهم أحدٌ. وهذا معنَى قولِ مُجاهِدٍ في تفسيرِ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا؛ لأنَّه قال: هي ما فتَحوا حتَّى اليَومِ. ومعنَى الإحاطةِ في هذا القَولِ: العِلمُ). ((البسيط)) (20/309). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/ 67). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإحاطةِ العِلمُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/74)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/26)، ((تفسير السمرقندي)) (3/318). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإحاطةِ: حِفظُها وإعدادُها لكم: البغويُّ، والقرطبي، والخازن. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/235)، ((تفسير القرطبي)) (16/279)، ((تفسير الخازن)) (4/164). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] .
وقال سُبحانَه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالقُدرةِ التَّامَّةِ على كُلِّ شَيءٍ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ أرادَه [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/286)، ((تفسير السمرقندي)) (3/318)، ((الوسيط)) للواحدي (4/141)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/320)، ((تفسير الشوكاني)) (5/61). .
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قَدَّم سُبحانَه أنَّه كَفَّ أيديَ النَّاسِ عنكم أجمَعينَ؛ ذَكَر حُكْمَهم لو وقَعَ قِتالٌ [297] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/321). .
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ.
أي: ولو قاتَلَكم الَّذين كَفَروا باللهِ لَانهَزَموا عنكم، وفَرُّوا منكم [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/287)، ((الوسيط)) للواحدي (4/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال ابن القيِّم: (فإنْ قيلَ: فقد قاتَلوهم يومَ أُحُدٍ وانتَصَروا عليهم ولم يُوَلُّوا الأدبارَ؟! قيل: هذا وَعدٌ مُعَلَّقٌ بشَرطٍ مَذكورٍ في غيرِ هذا الموضِعِ، وهو الصَّبرُ والتَّقْوى، وفات هذا الشَّرطُ يومَ أُحُدٍ بفَشَلِهم المُنافي للصَّبرِ، وتَنازُعِهم وعِصيانِهم المُنافي للتَّقوى؛ فصَرفَهم عن عَدُوِّهم، ولم يَحصُلِ الوَعدُ؛ لانتِفاءِ شَرْطِه). ((زاد المعاد)) (3/279). .
ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
أي: ثمَّ لا يَجِدونَ وَلِيًّا يَتولَّى أمْرَهم ويَحفَظُهم ويَرعاهم، ولا نَصيرًا يَنصُرُهم ويُعينُهم عليكم؛ فهم مَخذولونَ مَغلوبون [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23).
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.
أي: طريقةَ الله وعادتَه المعهودةَ الَّتي أجراها في السَّابِقينَ، بنصْرِ المؤمنينَ -مِن الرُّسلِ وأتْباعِهم- وهزيمةِ الكافرينَ، وإزهاقِ الباطلِ، وإظهارِ الحقِّ المبينِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/287)، ((تفسير القرطبي)) (16/280)، ((تفسير ابن كثير)) (7/341)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/321). قال الرَّسْعَني: (سُنَّةَ اللَّهِ منصوبٌ على المصدرِ، أي: سَنَّ اللهُ غَلَبةَ رسولِه والمؤمِنينَ سُنَّةً). ((تفسير الرسعني)) (7/310). وقال الشوكاني: (وانتِصابُ سُنَّةَ على المَصدريَّةِ بفِعلٍ مَحذُوفٍ، أيْ: بَيَّنَ اللهُ سُنَّةَ اللهِ. أو هو مَصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ المُتقدِّمةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/61). .
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.
أي: ولن تَجِدَ -يا مُحمَّدُ- لِعادةِ اللهِ الَّتي سنَّها في خَلْقِه تَغييرًا [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/288)، ((سبل الهدى)) للصالحي (5/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/183). .
كما قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 77] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا هذه بِشارةٌ مِن اللهِ لعِبادِه المُؤمِنينَ بنَصرِهم على أعدائِهم الكافِرينَ، وأنَّهم لو قابَلوهم وقاتَلوهم فهم مَخذولونَ مَغلوبونَ، وهذه سُنَّةُ اللهِ في الأُمَمِ السَّابِقةِ؛ أنَّ جُندَ اللهِ هم الغالِبونَ [302] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فيه أنَّ عادةَ اللهِ تعالى أنَّه يَنصُرُ المؤمِنينَ على الكافِرينَ إذا كانتْ نِيَّةُ المؤمنينَ نصْرَ دِينِ اللهِ، أي: إنَّ اللهَ ضمِنَ النَّصرَ للمؤمنينَ بأنْ تكونَ عاقبةُ حُروبِهم نَصرًا، وإنْ كانوا قد يُغْلَبون في بَعضِ المواقعِ، وإنَّما يكونُ كَمالُ النَّصرِ على حسَبِ ضَرورةِ المؤمنينَ، وعلى حسَبِ الإيمانِ والتَّقْوى؛ ولذلك كان هذا الوعدُ غالبًا للرَّسولِ ومَن معَه، فيكونُ النَّصرُ تامًّا في حالةِ الخطرِ، كما كان يومَ بدْرٍ، ويكونُ سِجالًا في حالةِ السَّعةِ، كما في وَقعةِ أُحُدٍ، ويكونُ لِمَن بعْدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن جُيوشِ المسلِمينَ على حسَبِ تَمسُّكِهم بوَصايا الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/182، 183). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أنَّ القُرآنَ الكريمَ يَشهَدُ برِضا اللهِ عنِ الصَّحابةِ، وثَنائِه عليهم [304] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/404). .
2- عدالةُ الصَّحابةِ ثابِتةٌ مَعلومةٌ بتعديلِ اللهِ لهم، وإخبارِه عن طَهارتِهم، واختيارِه لهم في نَصِّ القرآنِ؛ فمِن ذلك قَولُه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وقَولُه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] ، وقَولُه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وقَولُه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] ، وقَولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وقَولُه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8، 9]، في آياتٍ يَكْثُرُ إيرادُها، ويطولُ تَعْدادُها، وجميعُ ذلك يَقتَضي القَطعَ بتَعديلِهم، ولا يَحتاجُ أحَدٌ منهم مع تعديلِ اللهِ له إلى تعديلِ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ! على أنَّه لو لم يَرِدْ مِنَ اللهِ ورَسولِه فيهم شَيءٌ مِمَّا ذكَرْناه لَأوجَبَت الحالُ الَّتي كانوا عليها مِنَ الهِجْرةِ والجِهادِ، ونُصرةِ الإسلامِ، وبَذْلِ المُهَجِ والأموالِ، والمُناصَحةِ في الدِّينِ، وقُوَّةِ الإيمانِ واليَقينِ- القَطْعَ على عدالتِهم، والاعتِقادَ لِنَزاهتِهم، وأنَّهم أفضَلُ مِن جَميعِ المُعَدَّلِينَ والمُزَكَّيْنَ الَّذين يَجيئونَ مِن بَعْدِهم، هذا مَذهَبُ كافَّةِ العُلَماءِ، ومَن يُعْتَدُّ بقولِه مِن الفقهاءِ [305] يُنظر: ((الكفاية في علم الرواية)) للخطيب البغدادي (ص: 46). قال ابنُ حَجَرٍ: (اتَّفَق أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ الجَميعَ عُدولٌ، ولم يُخالِفْ في ذلك إلَّا شُذوذٌ مِنَ المُبتَدِعةِ). ((الإصابة في تمييز الصحابة)) (1/162). .
3- قولُه تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا إشارةٌ إلى أنَّ ما أتاهم مِنَ الفَتحِ والمغانِمِ ليس هو كُلَّ الثَّوابِ، بل الجَزاءُ قُدَّامَهم، وإنَّما هي لعاجِلةٍ عَجَّلَ بها [306] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/80). .
4- في قَولِه تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا دَليلٌ على أنَّ اللهَ جلَّ جَلالُه قد يُثِيبُ المؤمِنَ رِزقًا في الدُّنيا على العَمَلِ الصَّالحِ، ولا يَحُطُّ ذلك مِن دَرَجةِ فَضلِه، ويَجعَلُ ذلك مِن أطيَبِ وُجوهِه! ألَا ترى أنَّ الغنائِمَ أطيَبُ وُجوهِ الكَسْبِ [307] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/161). ؟!
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا هذا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّه لم يَزِغْ أحَدٌ مِن المُخاطَبينَ بهذه الآيةِ، وهم أهلُ الحُدَيبيَةِ، وكأنَّه -واللهُ أعلَمُ- لذلك لم يَقُلْ: «ويَهدِيَهم» بالغَيبِ، على ما اقتَضاه السِّياقُ؛ لئَلَّا يَعُمَّ غَيْرَهم ممَّن يُظهِرُ صِدقَه في الإيمانِ ثمَّ يَزيغُ، ولذا أكثَرُ تفاصيلِ هذه السُّورةِ مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّه وقَعَ الإخبارُ به قبْلَ وُقوعِه [308] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/319). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أخبَرَ تعالى أنَّ سُنَّةَ اللهِ الَّتي لا تَبديلَ لها نَصرُ المُؤمِنينَ على الكافِرين، والإيمانُ المُستَلزِمُ لذلك يَتضَمَّنُ طاعةَ اللهِ ورَسولِه، فإذا نَقَصَ الإيمانُ بالمعاصي كان الأمرُ بحَسَبِه، كما جرى يومَ أُحُدٍ، وحيثُ ظهَر الكفَّارُ فإنَّما ذاك لِذُنوبِ المسلمينَ الَّتي أوجَبتْ نقْصَ إيمانِهم، ثمَّ إذا تابوا بتكميلِ إيمانِهم نصَرهم الله [309] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/419، 450). !
7- في قَولِه تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا دَليلٌ على أنَّ هذا مِن مُقتَضى حِكمتِه تعالى؛ وأنَّه يَقضي في الأُمورِ المُتماثِلةِ بقَضاءٍ مُتماثِلٍ، لا بقَضاءٍ مُخالِفٍ، فإذا كان قد نَصَرَ المؤمِنينَ لأنَّهم مُؤمِنونَ كان هذا مُوجِبًا لنَصْرِهم حيثُ وُجِدَ هذا الوَصفُ، بخِلافِ ما إذا عَصَوا ونَقَصوا إيمانَهم كيومِ أُحُدٍ؛ فإنَّ الذَّنْبَ كان لهم؛ ولهذا قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، فعَمَّ كلَّ سُنَّةٍ له، وهو يَعُمُّ سُنَّتَه في خَلْقِه وأمْرِه في الطَّبيعيَّاتِ والدِّينيَّاتِ [310] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/54). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا هو عَودٌ إلى تَفصيلِ ما جازَى اللهُ به أصحابَ بَيعةِ الرِّضوانِ المُتقدِّمِ إجمالُه في قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/173)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/243). [الفتح: 10] .
- قَولُه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ في قَولِه: عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ إيذانٌ بأنَّ مَن لم يُبايِعْ ممَّن خرَجَ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس حينَئذٍ بمُؤمنٍ، وهو تَعريضٌ بالجَدِّ بنِ قَيسٍ؛ إذ كان يومَئذٍ مُنافِقًا، ثمَّ حسُنَ إسلامُه [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/173). ويُنظر أيضًا: ((صحيح مسلم)) (1856). .
- وإِذْ يُبَايِعُونَكَ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ رَضِيَ، وفي تعليقِ هذا الظَّرْفِ بفِعلِ الرِّضا ما يُفهِمُ أنَّ الرِّضا مُسبَّبٌ عن مَفادِ ذلك الظَّرفِ الخاصِّ بما أُضيفَ هو إليه، مع ما يُعطيه تَوقيتُ الرِّضا بالظَّرْفِ المذكورِ مِن تَعجيلِ حُصولِ الرِّضا بحِدْثانِ ذلك الوقتِ. ومع ما في جَعْلِ الجُملةِ المُضافِ إليها الظَّرْفُ فِعليَّةً مُضارعيَّةً يُبَايِعُونَكَ من حُصولِ الرِّضا قبْلَ انقِضاءِ الفِعلِ، بلْ في حالِ تَجدُّدِه؛ فالمُضارعُ في قَولِه: يُبَايِعُونَكَ مُستعمَلٌ في الزَّمانِ الماضي لاستِحضارِ صُورةِ حالةِ المُبايَعةِ الجليلةِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/173، 174). .
- وذكَرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ لاستِحضارِ تلك الصُّورةِ تنْويهًا بالمكانِ؛ فإنَّ لِذِكرِ مَواضِعِ الحوادثِ وأزمانِها مَعانيَ تَزيدُ السَّامعَ تَصوُّرًا، ولِمَا في تلك الحَوادثِ مِن ذِكرَى، مِثلُ مَواقعِ الحُروبِ والحَوادثِ، ومَواقِعِ المَصائِبِ وأيَّامِها [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/175). .
- قَولُه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مُتعلِّقٌ بقَولِه: إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، كما يقولُ القائلُ: فَرِحتُ أمسِ إذْ كَلَّمتُ زَيدًا فقام إلَيَّ، أو إذْ دخلْتُ عليه فأَكرَمَني؛ فيَكونُ الفرحُ بعدَ الإكرامِ ترتيبًا. كذلك هاهنا، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدقِ؛ إشارةً إلى أنَّ الرِّضا لم يكنْ عندَ المُبايَعةِ فحسْبُ، بل عندَ المُبايَعةِ الَّتي كان معها عِلمُ اللهِ بصِدقِهم [315] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/79). .
وقيل: الفاءُ في قَولِه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ليستْ للتَّعقيبِ؛ لأنَّ عِلْمَ اللهِ بما في قُلوبِهم ليس عقِبَ رِضاهُ عنهم، ولا عقِبَ وُقوعِ بَيعتِهم؛ فتَعيَّنَ أنْ تكونَ فاءً فَصيحةً تُفصِحُ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ بعْدَها، والتَّقديرُ: فلمَّا بايَعُوك عَلِمَ ما في قُلوبِهم مِن الكآبةِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-. ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ لتَفريعِ الإخبار بأنَّ اللهَ علِمَ ما في قُلوبِهم بعدَ الإخبارِ برِضا اللهِ عنهم؛ لِمَا في الإخبارِ بعِلمِه ما في قُلوبِهم مِن إظهارِ عِنايتِه بهم.
ويجوزُ أنْ يكونَ المقصودُ مِن التَّفريعِ قولَه: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، ويكونَ قَولُه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ تَوطئةً له على وَجْهِ الاعتراضِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/175). .
- قَولُه: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، أي: فتَرتَّبَ على عِلْمِه ما في قُلوبِهم إنزالُه السَّكينةَ عليهم، أي: على قُلوبِهم؛ فعُبِّرَ بضَميرِهم عِوَضًا عن ضَميرِ قُلوبِهم؛ لأنَّ قُلوبَهم هي نُفوسُهم [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). .
- وفي قَولِه: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وُصِفَت المَغانمُ بأنَّها كثيرةٌ؛ لتَعدُّدِ أنواعِها [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). . وفائدةُ وَصْفِ المَغانمِ بجُملةِ يَأْخُذُونَهَا: تَحقيقُ حُصولِ فائدةِ هذا الوَعدِ لجَميعِ أهلِ البَيعةِ قبْلَ أنْ يقَعَ بالفِعلِ؛ ففيهِ زِيادةُ تَحقيقٍ لِكَونِ الفتحِ قريبًا، وبشارةٌ لهم بأنَّهم لا يَهلِكُ منهم أحدٌ قبْلَ رُؤيةِ هذا الفتحِ [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا مُعترِضةٌ، وهي مُفيدةٌ تذييلًا لجُملةِ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا؛ لأنَّ تَيسيرَ الفتْحِ لهم وما حصَلَ لهم فيه مِن المغانمِ الكثيرةِ مِن أثَرِ عِزَّةِ اللهِ الَّتي لا يَتعاصَى عليها شيءٌ صَعبٌ، ومِن أثَرِ حِكمتِه في تَرتيبِ المُسبَّباتِ على أسبابِها في حالةٍ لَيظُنُّ الرَّائي أنَّها لا تُيَسَّرُ فيها أمثالُها [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/176). .
2- قَولُه تعالَى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا كَلامٌ مُستأنَفٌ على طَريقِ الالْتِفاتِ، وهو استِئنافٌ بَيانيٌّ نشَأَ عن قولِه: وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا [الفتح: 18، 19]؛ إذ عُلِمَ أنَّه فتْحُ خَيبَرَ، فحُقَّ لهم ولِغَيرِهم أنْ يَخطُرَ ببالِهم أنْ يَترقَّبوا مَغانِمَ أخرى؛ فكان هذا الكَلامُ جوابًا لهم، أي: لَكم مَغانمُ أُخرى لا يُحرَمُ منها مَن تخلَّفوا عن الحُدَيْبيَةِ، وهي المَغانمُ الَّتي حصَلَتْ في الفتوحِ المُستقبَلةِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/176، 177)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/244). .
- ووَصْفُ (مَغَانِمَ) بجُملةِ (تَأْخُذُونَهَا)؛ لتَحقيقِ الوعْدِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). .
- وقولُه: فَعَجَّلَ مُستعمَلٌ في الزَّمنِ المُستقبَلِ؛ تَنبيهًا على تَحقيقِ وُقوعِه، أي: سيُعجِّلُ لكم هذه، وإنَّما جعَلَ نَوالَهم غنائِمَ خَيبرَ تَعجيلًا؛ لقُربِ حُصولِه مِن وقتِ الوعدِ به [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/177). .
- قَولُه: وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا الظَّاهرُ أنَّ الواوَ عاطفةٌ، وأنَّ ما بعدَ الواوِ عِلَّةٌ كما تَقْتضي لامُ (كيْ)؛ فتعيَّنَ أنَّه تَعليلٌ لشَيءٍ ممَّا ذُكِرَ قَبْلَه في اللَّفظِ، أو عَطْفٌ على تَعليلٍ سبَقَه؛ فيجوزُ أنْ يكونَ مَعطوفًا على بَعضِ التَّعليلاتِ المُتقدِّمةِ مِن قولِه: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، أو مِن قولِه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [الفتح: 5] ، وما بيْنَهما اعتراضًا، وهو وإنْ طالَ فقَدِ اقتضَتْه التَّنقُّلاتُ المُتناسِباتُ، والمعنى: أنَّ اللهَ أنزَلَ السَّكينةَ في قلوبِ المؤمنينَ لِمَصالحَ لهم؛ منها: ازديادُ إيمانِهم، واستِحقاقُهم الجنَّةَ، وتَكفيرُ سيِّئاتِهم، واستِحقاقُ المنافِقينَ والمشرِكينَ العَذابَ، ولِتَكونَ السَّكينةُ آيةً للمؤمنين، أي: عِبرةً لهم واستِدلالًا على لُطفِ اللهِ بهم، وعلى أنَّ وعْدَه لا تأْويلَ فيه.
ويجوزُ أنْ يكونَ مَعطوفًا على تَعليلٍ مَحذوفٍ يُثارُ مِن الكلامِ السَّابقِ؛ حُذِفَ لِتذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهَبٍ مُمكنٍ في تَقديرِه؛ تَوفيرًا للمعنى، والتَّقديرُ: فعجَّلَ لكم هذه لِغاياتٍ وحِكَمٍ، ولِتَكونَ آيةً؛ فهو مِن ذِكرِ الخاصِّ بعْدَ العامِّ المُقدَّرِ. فالتَّقديرُ مَثَلًا: لِيَحصُلَ التَّعجيلُ لكم بنفْعٍ عِوَضًا عمَّا تَرقَّبتُموه مِن مَنافعِ قِتالِ المشركينَ، ولِتَكونَ هذه المغانمُ آيةً للمؤمنينَ منكم ومَن يَعرِفون بها أنَّهم مِن اللهِ بمَكانِ عِنايتِه، وأنَّه مُوفٍ لهم ما وَعَدَهم، وضامنٌ لهم نصْرَهم الموعودَ، كما ضمِنَ لهم المغانمَ القريبةَ والنَّصْرَ القريبَ. وتلك الآيةُ تَزيدُ المؤمنينَ قُوَّةَ إيمانٍ. وضَميرُ وَلِتَكُونَ على هذه راجِعٌ إلى قَولِه: هَذِهِ، على أنَّها المُعلَّلةُ. ويجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ للخِصالِ الَّتي دلَّ عليها مَجموعُ قَولِه: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ؛ فيَكونَ مَعنى قولِه: وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِغاياتٍ جَمَّةٍ؛ منها: ما ذُكِرَ آنِفًا، ومنها: سلامةُ المسلمينَ في وقْتٍ هم أحوَجُ فيه إلى استِبقاءِ قُوَّتِهم منهم إلى قِتالِ المشركينَ ادِّخارًا للمُستقبَلِ، أو تكونَ جُملةُ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُعترِضةً، والواوُ اعتراضيَّةً غيرَ عاطفةٍ، وضَميرُ (لِتَكُونَ) عائدًا إلى المرَّةِ مِن فِعلِ (كفَّ)، أي: الكَفَّةِ [324] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/340)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/178، 179). .
3- قَولُه تعالَى: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا هذا مِن عطْفِ الجُملةِ على الجُملةِ؛ فقولُه: (أُخْرَى) مَبتدأٌ مَوصوفٌ بجُملةِ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا، والخبرُ قولُه: قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا، ومَجموعُ الجُملةِ عَطفٌ على جُملةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً [الفتح: 20] ؛ فلفظُ (أُخرى) صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه مَغَانِم الَّذي في الجُملةِ قبْلَها، أي: هي نَوعٌ آخَرُ مِن المغانمِ صَعبةُ المَنالِ، ومعنى المغانمِ يَقتضي غانِمِينَ؛ فَعُلِمَ أنَّها لهم، أي: غيرَ الَّتي وعَدَهم اللهُ بها، أي: هذه لم يَعِدْهم اللهُ بها، وليستْ وَأُخْرَى عطْفًا على قَولِه: هَذِهِ [الفتح: 20] عطفَ المُفردِ على المفْردِ؛ إذ ليس المرادُ غَنيمةً واحدةً، بل غنائمَ كثيرةً [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/180). .
- قَولُه: قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا معنَى الإحاطةِ فيها إيماءٌ إلى أنَّها كالشَّيءِ المُحاطِ به مِن جَوانبِه، فلا يَفوتُهم مكانُه، جُعِلَت كالمَخبوءِ لهم؛ ولذلك ذُيِّلَ بقولِه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا؛ إذ هو أمْرٌ مُقرَّرٌ في عِلمِهم [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/180). .
4- قَولُه تعالَى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا هذا عطْفٌ على قَولِه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الفتح: 20] ، على أنَّ بَعضَه مُتعلِّقٌ بالمَعطوفِ عليه، وبعضَه مَعطوفٌ على المعطوفِ عليه، فما بيْنَهما ليس مِن الاعتِراضِ، والمَقصودُ مِن هذا العَطْفِ التَّنبيهُ على أنَّ كَفَّ أيدَيِ النَّاسِ عنهم نِعمةٌ على المُسلِمينَ، باستِبْقاءِ قُوَّتِهم وعُدَّتِهم ونَشاطِهم، وليس الكفُّ لدَفعِ غَلَبةِ المشركينَ إيَّاهم؛ لأنَّ اللهَ قدَّرَ للمُسلِمينَ عاقِبةَ النَّصرِ، فلو قاتَلَهم الَّذين كَفَروا لَهزَمَهم المُسلِمونَ ولم يَجِدوا نصيرًا، أي: لم يَنتصِروا بجَمْعِهم ولا بمَن يُعينُهم [327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/181). .
- والمُرادُ بالَّذين كَفَروا في قَولِه: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ما أُريدَ بالنَّاسِ في قَولِه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ الإتيانَ بضَميرِ النَّاسِ بأنْ يُقالَ: (وَلَو قَاتَلُوكُم)؛ فعُدِلَ عنه إلى الاسمِ الظَّاهرِ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن الإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو أنَّ الكُفرَ هو سببُ تَوليةِ الأدبارِ في قِتالِهم للمُسلِمينَ؛ تمْهيدًا لقَولِه: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/181). .
- و(الأَدبارَ) منْصوبٌ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لِـ (ولَّوْا)، ومَفعولُه الأولُ مَحذوفٌ؛ لِدَلالةِ ضَميرِ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا عليه، والتَّقديرُ: لَوَلَّوكُم الأدبارَ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/182). .
- قَولُه: ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا حرْفُ (ثمَّ) هنا للتَّراخي الرُّتَبيِّ؛ فإنَّ عدَمَ وِجْدانِ الوليِّ والنَّصيرِ أشَدُّ على المنْهزمِ مِنِ انهزامِه؛ لأنَّه حِينَ يَنهزِمُ قد يكونُ له أملٌ بأنْ يَستنصِرَ مَن يُنجِدُه، فيَكُرُّ به على الَّذين هزَموه، فإذا لم يَجِدْ وَليًّا ولا نَصيرًا تحقَّقَ أنَّه غيرُ مُنتصِرٍ، وأصلُ الكلامِ: لَولَّوُا الأدبارَ وما وجَدوا وليًّا ولا نَصيرًا [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/182). .
5- قَولُه تعالَى: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا
- قَولُه: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ انتصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ نِيابةً عن المفعولِ المُطلَقِ الآتي بدَلًا مِن فِعلِه؛ لإفادةِ مَعنى تأْكيدِ الفِعلِ المَحذوفِ، والمعنى: سنَّ اللهُ ذلك سُنَّةً [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/182، 183). .
- وفائدةُ هذا الوصْفِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ الدَّلالةُ على اطِّرادِ سُنَّةِ اللهِ وثَباتِها [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/183). .
- ولَمَّا وصَفَ تلك السُّنَّةَ بأنَّها راسِخةٌ فيما مَضَى؛ أعقَبَ ذلك بوَصْفِها بالتَّحقُّقِ في المُستقبَلِ؛ تعْميمًا للأزمِنةِ بقولِه: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/183). .