موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (24-26)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَظْفَرَكُمْ: أي: أظْهرَكم ونَصَرَكم، وأصلُ (ظفر): يدُلُّ على القَهرِ والفَوزِ والغَلَبةِ [334] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/465، 466)، ((المفردات)) للراغب (ص: 535)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 142). .
وَالْهَدْيَ: أي: ما يُهدَى إلى البَيتِ مِن الأنعامِ؛ وسُمِّيَ هَدْيًا لأنَّ مُهْدِيَه تقَرَّبَ به إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ [335] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 139)، ((تفسير ابن جرير)) (3/359)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 286)، ((المفردات)) للراغب (ص: 839)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78). .
مَعْكُوفًا: أي: مَحبوسًا، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على حَبسٍ [336] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 413)، ((تفسير ابن جرير)) (21/292)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/108)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 360)، ((تفسير القرطبي)) (16/283)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 384)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
تَطَئُوهُمْ: أي: تَقتُلوهم وتُوقِعوا بهم، وأصلُه يدُلُّ على وَطءٍ بالقَدَمِ، واستُعمِلَ في معنى القَتلِ؛ لأنَّ مَن وَطِئَ الشَّيءَ برِجْلِه فقد استَقصى في إهلاكِه وإهانتِه [337] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/120)، ((المفردات)) للراغب (ص: 874)، ((تفسير القرطبي)) (16/285)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
مَعَرَّةٌ: أي: غُرمُ الكَفَّارةِ ومَسَبَّةُ الكُفَّارِ، وهي مَصدَرٌ مِيميٌّ مِن عَرَّه: إذا دهاه، وأصابَه بما يَكرَهُه ويَشُقُّ عليه؛ مِن ضُرٍّ أو غُرمٍ أو سُوءِ قالةٍ [338] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/34)، ((البسيط)) للواحدي (20/316)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 384)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/191). .
تَزَيَّلُوا: أي: تمَيَّزوا وتفَرَّقوا، وأصلُ (زيل): يدُلُّ على التَّبايُنِ والمُفارَقةِ [339] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/307)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 155)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/41)، ((المفردات)) للراغب (ص: 388)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 361)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
الْحَمِيَّةَ: أي: الأَنَفةَ والغَضَبَ، وأكثَرُ إطلاقِ ذلك على استِكبارٍ لا مُوجِبَ له، وأصلُها يدُلُّ على حَرارةٍ [340] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 196)، ((البسيط)) للواحدي (20/318)، ((المفردات)) للراغب (ص: 258)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 361)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 384)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/193). .

المعنى الإجماليُّ:

يمتنُّ الله تعالى على المؤمنينَ بنعمةٍ مِن نِعَمِه الَّتي أنعَمَ بها عليهم عامَ الحُدَيبيَةِ، فيقولُ: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي كَفَّ أيدِيَ المُشرِكينَ عَنْكم -أيُّها المُؤمِنونَ- وأيديَكم عنهم، وأنتم في الحُدَيبيَةِ مِن بَعدِ أن أظْهرَكم ونَصَرَكم عليهم، وكان اللهُ بما تَعمَلونَ جميعًا بَصيرًا.
ثمَّ يقولُ تعالى مخبرًا عن المشركينَ: هؤلاء المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ هم الَّذين كَفَروا بالحَقِّ، وصَدُّوكم -أيُّها المُؤمِنونَ- عن دُخولِ المَسجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيبيَةِ، ومَنَعوا الأنعامَ الَّتي أهدَيْتُموها عن الوُصولِ إلى مَحَلِّ ذَبْحِها في مَكَّةَ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن حِكمتِه في منعِ قتالِ المشركينَ، فيقولُ: ولَولا رِجالٌ ونِساءٌ مِنَ المُستَضعَفينَ الَّذين يَكتُمونَ إيمانَهم في مَكَّةَ مِمَّن لا تَعلَمونَ حالَهم؛ أن تَقتُلوهم إذا دخَلْتُم مكَّةَ فاتِحينَ، فيَنالَكم بسَبَبِ قَتْلِهم سوءٌ مِن إثمٍ أو مَغْرَمٍ أو غَمٍّ- لَأَذِنَ اللهُ لكم في فَتحِ مَكَّةَ.
مَنَعَكم اللهُ مِن قِتالِ كُفَّارِ قُرَيشٍ عامَ الحُدَيبيَةِ؛ لِيُدخِلَ في الإسلامِ مِن أهلِ مَكَّةَ مَن يَشاءُ منهم قبْلَ أن تَدخُلوها فاتِحينَ، ولو تَمَيَّزَ مَنْ آمَنَ في مكَّةَ عن الكُفَّارِ وتفَرَّقوا عنهم، لَعَذَّبْنا أولئك الكُفَّارَ بـأيديكم -أيُّها المُؤمِنونَ- عَذابًا مُؤلِمًا، حينَ وَضَع كُفَّارُ قُرَيشٍ في قُلوبِهم أنَفَةَ الجاهِليَّةِ واستِكبارَها في شُروطِ الصُّلحِ يومَ الحُدَيبيَةِ، فأنزَلَ اللهُ الطُّمَأنينةَ والصَّبرَ والثَّباتَ على رَسولِه وعلى أصحابِه المُؤمِنينَ، وألزَمَهم اللهُ كَلِمةَ التَّوحيدِ، ووفَّقَهم لالتِزامِها قَولًا وعَمَلًا، وكانوا أحقَّ بتلك الكَلِمةِ مِنَ الكُفَّارِ، وأهلًا لها دُونَهم، وكان اللهُ بكُلِّ شَيءٍ عَليمًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها تَبيينٌ لِما تَقدَّمَ مِن قَولِه تعالى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ [الفتح: 22] ، أي: هو بتَقديرِ اللهِ؛ لأنَّه كَفَّ أيديَهم عنكم بالفِرارِ، وأيديَكم عنهم بالرُّجوعِ عنهم وتَرْكِهم [341] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/81). .
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
سَبَبُ النُّزولِ [342] قال ابنُ حجر: (المشهورُ في سببِ نُزولِها ما أخرجه مسلمٌ مِن حديثِ سَلَمةَ بنِ الأكْوَعِ، ومِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ أيضًا، وأخرجه أحمدُ والنَّسائيُّ مِن حديثِ عبدِ الله بنِ مغفلٍ). ((فتح الباري)) (5/ 351). :
1- عن سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ -رَضِيَ اللهُ عنه- في قِصَّةِ صُلحِ الحُدَيبيَةِ، قال: ((قَدِمْنا الحُدَيِبيَةَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحنُ أربَعَ عَشْرةَ مِئةً... ثمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعانا للبَيعةِ في أصلِ الشَّجَرةِ... ثمَّ إنَّ المُشرِكينَ راسَلونا الصُّلحَ حتَّى مشى بَعضُنا في بَعضٍ، واصطَلَحْنا... فلمَّا اصطَلَحْنا نحنُ وأهلُ مكَّةَ، واختَلَط بَعضُنا ببَعضٍ؛ أتيتُ شَجَرةً فكَسَحْتُ شَوكَها [343] كَسَحْتُ شَوْكَها: أي قطعتُه، وكنستُ ما تحتَها منه. يُنظر: ((كشف المُشْكِل)) لابن الجوزي (2/306)، ((المفهم)) للقرطبي (3/671)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/176). فاضطجَعْتُ في أصلِها، قال: فأتاني أربعةٌ مِن المُشرِكينَ مِن أهلِ مَكَّةَ، فجَعَلوا يَقَعونَ في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبغَضْتُهم، فتحَوَّلتُ إلى شَجَرةٍ أُخرى، وعَلَّقوا سِلاحَهم واضْطَجَعوا، فبَيْنَما هم كذلك إذْ نادى مُنادٍ مِن أسفَلِ الوادي: يا لَلْمُهاجِرينَ! قُتِلَ ابنُ زُنَيْمٍ! قال: فاختَرَطتُ سَيفي [344] اخترطتُ سيفي: أي: سللتُه مِن غِمْدِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/307). ، ثمَّ شَدَدْتُ على أولئك الأربَعةِ وهم رُقودٌ، فأخَذْتُ سِلاحَهم، فجعَلْتُه ضِغْثًا [345] فجعلْتُه ضِغْثًا في يدي: الضِّغْثُ: الحُزمةُ والباقةُ مِن الشَّيءِ؛ كالبَقْلِ وما أشْبَهَه. والمعنى: جعلتُ سلاحَهم في يدي مِثلَ الضِّغْثِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/307). في يَدي. قال: ثمَّ قُلتُ: والَّذي كرَّمَ وَجْهَ مُحمَّدٍ لا يَرفَعُ أحَدٌ مِنكم رأسَه إلَّا ضَربتُ الَّذي فيه عَيْناه! قال: ثمَّ جِئتُ بهم أسوقُهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: وجاء عَمِّي عامِرٌ برَجُلٍ مِنَ العَبَلاتِ [346] العَبَلات: بطنٌ مِن بَني عبدِ شِمسٍ، نُسبوا إلى أُمٍّ لهم تُسَمَّى: عبلةَ بنتَ عبيدٍ. يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (3/671)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/176، 177). يُقالُ له: مِكْرَزٌ، يَقودُه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على فَرَسٍ مُجَفَّفٍ [347] المجفَّف مِن الخَيلِ: هو الَّذي عليه التَّجافيفُ، وهي كلُّ ما يَمنعُ وُصولَ الأذى إليه، فهو مِثلُ المُدَجَّجِ مِن الرِّجال، وهو الَّذي عليه السِّلاحُ التَّامُّ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/307). في سَبعينَ مِنَ المُشرِكينَ، فنظَرَ إليهم رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: دَعوهم يَكُنْ لهم بَدءُ الفُجورِ وثِناه [348] بَدؤه: ابتِداؤه، وثِنَاهُ: عودُه ثانيةً؛ فبَدءُ الفجورِ وثِنَاهُ، أي: أوَّلُه وآخِرُه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/307)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/225)، ((المفهم)) للقرطبي (3/671)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/177). ! فعفا عنهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنزل اللهُ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآيةَ كُلَّها)) [349] رواه مسلم (1807). .
2- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ ثمانينَ رَجُلًا مِن أهلِ مَكَّةَ هَبَطوا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن جَبَلِ التَّنعيمِ مُتسَلِّحينَ، يُريدونَ غِرَّةَ [350] أي: يَلتمِسونَ غفلتَهم؛ لِيَتمكَّنوا منهم، والغِرَّةُ: الغفلةُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/768). النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، فأخَذَهم سَلَمًا [351] فأخذهم سَلَمًا: بفتح السِّينِ واللَّامِ، أي: أسرى، والسَّلَمُ بالفتح: الأسيرُ؛ لأنَّه أسلَمَ وترَك. وضُبِط أيضًا بإسكانِ اللَّامِ مع كسرِ السِّينِ وفَتحِها، ومعناه: الصُّلحُ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) للقاضي عياض (2/ 217). ويُنظر: أيضًا: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 394)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 187). فاستَحْياهم [352] استَحْياهم: استَبْقاهم ولم يَقتُلْهم. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 308)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 359). ، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)) [353] رواه مسلم (1808). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ المُزَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحُدَيبيَةِ في أصلِ الشَّجَرةِ الَّتي قال اللهُ تعالى في القُرآنِ، وكان يقَعُ مِن أغصانِ تلك الشَّجَرةِ على ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليُّ بنُ أبي طالِبٍ وسُهَيلُ بنُ عَمرٍو بيْنَ يَدَيه. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعَليٍّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: اكتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. فأخَذَ سُهَيلُ ابنُ عَمرٍو بيَدِه، فقال: ما نَعرِفُ بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ! اكتُبْ في قَضِيَّتِنا ما نَعرِفُ. قال: اكتُبْ باسْمِك اللَّهُمَّ. فكَتَب: هذا ما صالَحَ عليه محمَّدٌ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهلَ مَكَّةَ. فأمسَكَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو بيَدِه، وقال: لقد ظلَمْناك إنْ كُنتَ رَسولَه! اكتُبْ في قَضِيَّتِنا ما نَعرِفُ. فقال: اكتُبْ هذا ما صالَحَ عليه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ. وأنا رَسولُ اللهِ! فكَتَب، فبَيْنا نحنُ كذلك إذ خرَجَ علينا ثلاثونَ شابًّا عليهم السِّلاحُ، فثاروا في وُجوهِنا، فدعا عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخَذَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بأبصارِهم، فقَدِمْنا إليهم فأخَذْناهم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل جِئتُم في عَهدِ أَحَدٍ، أو هل جَعَل لكم أَحَدٌ أمانًا؟ فقالوا: لا. فخلَّى سَبيلَهم، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الفتح: 24] )) [354] أخرجه النَّسائي في ((السنن الكبرى)) (11511)، وأحمدُ (16800) واللفظُ له. قال الهَيْثَميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/148): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5/ 351)، وصَحَّحه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27/ 355). .
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي كَفَّ أيديَ المُشرِكينَ عنكم -أيُّها المُؤمِنونَ- وأيديَكم عنهم، وأنتم في الحُدَيبيَةِ مِن بَعدِ أن أظْهرَكم ونَصَرَكم عليهم [355] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/288)، ((تفسير ابن عطية)) (5/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال الواحدي: (المعنى: أنَّ اللهَ تعالى يَذكُرُ مِنَّتَه بحَجْزِه بيْنَ الفريقَينِ حتَّى لم يَقتَتِلا، وحتَّى اتَّفَق بيْنَهم الصُّلحُ الَّذي كان أعظَمَ مِن الفَتحِ، وسَلِمَ للرَّجُلِ مَن بَيْنَه وبيْنَه قَرابةٌ، ومَن هو مُؤمِنٌ مِن أهلِ مكَّةَ؛ أن يُصابَ. وهذا قَولُ عامَّةِ المُفَسِّرينَ). ((البسيط)) (20/312). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/342). قال السَّمْعاني: (قَولُه: بِبَطْنِ مَكَّةَ يعني: الحُدَيبيَةَ، وإنَّما سَمَّاها بَطْنَ مكَّةَ؛ لِقُربِها مِن مكَّةَ). ((تفسير السمعاني)) (5/204). وقال ابنُ عاشور: (الحُدَيبيَةُ قَريبةٌ مِن مكَّةَ، وهي مِنَ الحِلِّ، وبَعضُ أرضِها مِنَ الحَرَمِ، وهي على الطَّريقِ بيْنَ مكَّةَ وجُدَّةَ، وهي إلى مكَّةَ أقرَبُ، وتُعرَفُ اليومَ باسمِ الشُّمَيسِي). ((تفسير ابن عاشور)) (26/185). وقال القرطبي: (بِبَطْنِ مَكَّةَ فيه قَولانِ؛ أحدُهما: يريدُ به مكَّةَ. الثَّاني: الحُدَيبيَة؛ لأنَّ بعضَها مُضافٌ إلى الحَرَمِ). ((تفسير القرطبي)) (16/ 282). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: 11] .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ يَعْمَلُونَ على مَعنى الغَيْبةِ، أي: كانَ الله بما عمِل الكفَّارُ مِن كفرِهم وصدِّهم عن المسجدِ بصيرًا [356] قرأ بها أبو عَمرٍو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجوزي (2/375). ويُنظر لمعنَى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 674). .
2- قِراءةُ تَعْمَلُونَ على معنى الخِطابِ، أي: أنتم وهم [357] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجوزي (2/375). ويُنظر لمعنَى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 674). .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
أي: وكان اللهُ بما تَعمَلونَ -أيُّها المُؤمِنونَ والمُشرِكونَ- بَصيرًا؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم [358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/292)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/325)، ((تفسير الشوكاني)) (5/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
 أنَّ اللهَ تعالى ذَكَر الأُمورَ المُهَيِّجةَ على قِتالِ المُشرِكينَ، وهي كُفرُهم باللهِ ورَسولِه، وصَدُّهم رَسولَ اللهِ ومَن معَه مِنَ المُؤمِنينَ أن يأتُوا للبَيتِ الحَرامِ زائِرينَ مُعَظِّمينَ له بالحَجِّ والعُمرةِ [359] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
وأيضًا لَمَّا كان ما مضَى مِن وَصْفِ الكُفَّارِ على وَجهٍ يَشملُ غَيرَهم مِن جَميعِ الكُفَّارِ؛ عَيَّنَهم مُبَيِّنًا لِسَبَبِ كَفِّهم عنهم، مع استِحقاقِهم في ذلك الوَقتِ للبَوارِ والنَّكالِ والدَّمارِ، فقال [360] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/326). :
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: هؤلاء المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ هم الَّذين كَفَروا بالحَقِّ، وصَدُّوكم -أيُّها المُؤمِنونَ- عن دُخولِ المَسجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيبيَةِ [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/292)، ((تفسير القرطبي)) (16/283)، ((تفسير ابن كثير)) (7/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((خرَجْنا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعتَمِرينَ، فحالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ دونَ البَيتِ، فنَحَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُدْنَه، وحَلَق رَأْسَه )) [362] رواه البخاريُّ (1812) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1230). .
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
أي: وهم مَن مَنَع الهدْيَ عن الوُصولِ إلى مَحَلِّ ذَبْحِها في مَكَّةَ [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/292)، ((تفسير القرطبي)) (16/283، 284)، ((تفسير ابن كثير)) (7/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). قال ابن عاشور: (الهَدْيُ: ما يُهدَى إلى الكَعبةِ مِنَ الأنعامِ... ومعنى صَدِّهم الهَدْيَ: أنَّهم صَدُّوا أهلَ الهَدْيِ عن الوُصولِ إلى المَنحَرِ...، وليس المرادُ: أنَّهم صَدُّوا الهدايا مُباشَرةً؛ لأنَّه لم يُنقَلْ أنَّ المُسلِمينَ عَرَضوا على المُشرِكينَ تَخليةَ مَن يَذهَبُ بهَداياهم إلى مكَّةَ لِتُنحَرَ بها). ((تفسير ابن عاشور)) (26/187، 188). .
وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: ولَولا رِجالٌ ونِساءٌ مِنَ المُستَضعَفينَ الَّذين يَكتُمونَ إيمانَهم في مَكَّةَ، مِمَّن لا تَعلَمونَ بشَأنِهم؛ أن تَقتُلوهم إذا دخَلْتُم مكَّةَ فاتِحينَ، فيَنالَكم بسَبَبِ قَتْلِهم سوءٌ مِن إثمٍ أو مَغْرَمٍ أو غَمٍّ أو مَلامةٍ- لَأَذِنَ اللهُ لكم في فَتحِ مكَّةَ [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/305، 306)، ((الوسيط)) للواحدي (4/143)، ((تفسير ابن عطية)) (5/136)، ((تفسير القرطبي)) (16/285، 286)، ((تفسير ابن كثير)) (7/344)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/189-191). .
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: مَنَعَكم اللهُ مِن قِتالِ كُفَّارِ قُرَيشٍ عامَ الحُدَيبيَةِ؛ لِيُدخِلَ اللهُ في الإسلامِ مِن أهلِ مكَّةَ مَن يَشاءُ منهم قبْلَ أنْ تَدخُلوها فاتِحينَ [365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794). .
لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: لو تَمَيَّزَ مَنْ آمَنَ في مكَّةَ عن كُفَّارِها وتفَرَّقوا عنهم، لَعَذَّبْنا أولئك الكُفَّارَ بأيديكم -أيُّها المُؤمِنونَ- عَذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا في الدُّنيا بالقَتلِ أو غَيرِه، فلا يَلحَقُ أولئك المؤمِنينَ في مكَّةَ ضَرَرٌ أو مَكروهٌ مِن قِبَلِكم [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/306)، ((الوسيط)) للواحدي (4/143)، ((تفسير القرطبي)) (16/286)، ((تفسير ابن كثير)) (7/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/192). .
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26).
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ.
أي: إذ [367] قال الشوكاني: (والظَّرفُ في قولِه: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا منصوبٌ بفعلٍ مُقدَّرٍ، أي: اذكُرْ وَقْتَ جَعْلِ الَّذينَ كفروا في قلوبِهم الحمِيَّةَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/64). وقيل: العامِلُ في إِذْ قَولُه تعالى: لَعَذَّبْنَا، أي: لَعَذَّبْناهم إذْ جَعَلوا هذا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/309)، ((تفسير الثعلبي)) (9/62)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6967)، ((تفسير ابن عطية)) (5/138)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/136)، ((تفسير القرطبي)) (16/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/329). وقال ابن عاشور: (ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بفِعلِ «صَدُّوكُمْ» [الفتح: 25] ، أي: صَدُّوكم صدًّا لا عُذْرَ لهم فيه، ولا داعيَ إليه إلَّا حَمِيَّةُ الجاهليَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/193). وَضَع كُفَّارُ قُرَيشٍ في قُلوبِهم أنَفَةَ الجاهِليَّةِ واستِكبارَها وأخلاقَها الشَّنيعةَ، فأبَوا أن يُكتَبَ في كِتابِ الصُّلحِ يومَ الحُدَيبيَةِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وأن يُكتَبَ فيه: محمَّدٌ رَسولُ اللهِ، ومَنَعوا المؤمِنينَ القادِمينَ للعُمرةِ مِن دُخولِ مَكَّةَ [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/307، 309)، ((تفسير القرطبي)) (16/288)، ((تفسير ابن كثير)) (7/345)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/329، 330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/193). .
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ قُرَيشًا صالَحوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيهم سُهَيلُ بنُ عَمرٍو، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعَليٍّ: اكتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. قال سُهَيلٌ: أمَّا باسمِ اللهِ فما نَدري ما بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ! ولكِنِ اكتُبْ ما نَعرِفُ: باسْمِك اللَّهُمَّ. فقال: اكتُبْ مِن مُحمَّدٍ رَسولِ اللهِ. قالوا: لو عَلِمْنا أنَّك رَسولُ اللهِ لَاتَّبَعْناك، ولكِنِ اكتُبِ اسْمَك واسْمَ أبيك. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اكتُبْ: مِن مُحمَّدِ بنِ عبدِاللهِ. فاشتَرَطوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ مَن جاءَ مِنْكم لم نَرُدَّه عليكم، ومَن جاءَكم مِنَّا ردَدْتُموه علينا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، أنكتُبُ هذا؟! قال: نَعَمْ؛ إنَّه مَن ذَهَب مِنَّا إليهم فأبعَدَه اللهُ! ومَن جاءنا منهم سيَجعَلُ اللهُ له فَرَجًا ومَخْرَجًا)) [369] رواه مسلم (1784). .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: فلمَّا فَعَل المُشرِكونَ ما فَعَلوا مِن ذلك، أنزَلَ اللهُ الطُّمَأنينةَ والرِّضا والصَّبرَ والثَّباتَ على رَسولِه، وعلى أصحابِه المُؤمِنينَ [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/309)، ((تفسير القرطبي)) (16/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 794)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/194). قال ابن عاشور: (وتفريعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ على إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُؤذِنُ بأنَّ المؤمنينَ وَدُّوا أنْ يُقاتِلوا المشرِكينَ، وأنْ يَدخُلوا مكَّةَ للعُمرةِ عَنوةً؛ غَضَبًا مِن صَدِّهم عنها، ولكنَّ اللهَ أنزَلَ عليهم السَّكينةَ... فعصَمَهم مِن مُقابَلةِ الحَمِيَّةِ بالغضَبِ والانتقامِ، فقابَلوا الحَمِيَّةَ بالتَّعقُّلِ والتَّثبُّتِ؛ فكان في ذلك خَيرٌ كثيرٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/194). .
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى.
أي: وألزَم اللهُ رَسولَه وأصحابَه المُؤمِنينَ كَلِمةَ لا إلهَ إلَّا اللهُ، الَّتي يَتَّقونَ بها سَخَطَه وعَذابَه، فَوفَّقَهم لالتِزامِها قَولًا وعَمَلًا، والقيامِ بأداءِ حُقوقِها، فلا يَنفَكُّونَ عنها أبَدًا [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/309)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/195، 196)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/397). قال ابن جُزَي: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى قال الجمهورُ: هي: لا إلهَ إلَّا اللهُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/291). وعزاه الواحديُّ لجماعةِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/320). وقال الرَّسْعَني: (وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وقَتادةَ، والضَّحَّاكِ، والسُّدِّيِّ في آخَرينَ). ((تفسير الرسعني)) (7/314). .
وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا.
أي: وكانوا أحقَّ بتلك الكَلِمةِ مِنَ الَّذين كَفَروا، وهم أهلُها مِن دُونِهم [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/314)، ((تفسير القرطبي)) (16/289)، ((تفسير ابن كثير)) (7/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/197). .
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى متَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالعِلمِ التَّامِّ بكُلِّ شَيءٍ؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه، ومِن ذلك عِلْمُه بمَن يَستَحِقُّ فَضْلَه وإنعامَه [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/315)، ((تفسير ابن كثير)) (7/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال اللهُ تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في الإشارةِ إلى بَيانِ سِرٍّ مِن أسرارِ مَنْعِ اللهِ تعالى لهم مِنَ التَّسليطِ عليهم: حَثٌّ للعَبدِ على ألَّا يَتَّهِمَ اللهَ في قَضائِه؛ فرُبَّما عَسَّر عليه أمرًا يَظهَرُ له أنَّ السَّعادةَ كانت فيه، وفي باطِنِه سُمٌّ قاتِلٌ! فيَكونُ منْعُ اللهِ له منه رَحمةً في الباطِنِ، وإن كان نِقمةً في الظَّاهِرِ! فالزَمِ التَّسليمَ مع الاجتِهادِ في الخَيرِ، والحِرصِ عليه، والنَّدَمِ على فَواتِه، وإيَّاك والاعتِراضَ [374] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/329). !
2- قال الله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ الغَضَبُ والحَميَّةُ تحمِلُ المَرءَ على فِعلِ ما يَضُرُّه، وتَرْكِ ما يَنفَعُه، وهذا مِن الجَهلِ الَّذي هو عَمَلٌ بخِلافِ العِلمِ حتَّى يُقدِمَ المَرءُ على فِعلِ ما يَعلَمُ أنَّه يَضُرُّه، وتَرْكِ ما يَعلَمُ أنَّه يَنفَعُه؛ لِما في نَفْسِه مِن البُغضِ والمُعاداةِ لأشخاصٍ وأفعالٍ، وهو في هذه الحالِ ليس عديمَ العِلمِ والتَّصديقِ بالكُلِّيَّةِ، لكِنَّه لِما في نَفْسِه مِن بُغضٍ وحَسَدٍ غَلَب مُوجبُ ذلك لِمُوجبِ العِلمِ؛ فدَلَّ على ضَعفِ العِلمِ لِعَدَمِ مُوجبِه ومُقتَضاه، ولكِنَّ ذلك المُوجبَ والنَّتيجةَ لا تُوجَدُ عنه وَحْدَه، بل عنه وعمَّا في النَّفْسِ مِن حُبِّ ما يَنفَعُها، وبُغضِ ما يَضُرُّها، فإذا حَصَل لها مَرَضٌ ففَسَدت به أحبَّت ما يَضُرُّها، وأبغَضَت ما يَنفَعُها، فتَصيرُ النَّفْسُ كالمريضِ الَّذي يَتناوَلُ ما يَضُرُّه لِشَهوةِ نَفْسِه له، مع عِلْمِه أنَّه يَضُرُّه [375] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/540). !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فيه دَليلٌ على أنَّ مَحَلَّ ذَبْحِ الهَدْيِ: الحَرَمُ [376] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 240). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ أنَّ الإنسانَ يَنتَفِعُ بعَمَلِ غَيرِه؛ فقد رَفَعَ اللهُ تعالى العَذابَ عن بَعضِ النَّاسِ بسَبَبِ بَعضٍ، وذلك انتِفاعٌ بعَمَلِ الغَيرِ [377] يُنظر: ((جامع المسائل لابن تيمية- المجموعة الخامسة)) (ص: 205). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فيه أنَّ اللهَ تعالى قد يَدفَعُ عن الكافِرِ مِن أجْلِ المُؤمِنِ [378] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/329). .
4- قال عزَّ وجَلَّ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَولُه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ تفضيلٌ للصَّحابةِ، وإخبارٌ عن صِفتِهم الكريمةِ مِنَ العِفَّةِ عن المَعصيةِ، والعِصمةِ عن التَّعَدِّي، حتَّى إنَّهم لو أصابوا مِن أولئك أحدًا لَكان من غيرِ قَصدٍ، وهذا كما وَصَفَت النَّملةُ جُندَ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ في قَولِها: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [379] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 138). [النمل: 18] .
5- قال الله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في هذه الآيةِ تنبيهٌ على مُراعاةِ الكافرِ في حُرمةِ المؤمنِ إذا لم تُمكِنْ إذايةُ الكافرِ إلَّا بإذايةِ المؤمِنِ [380] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 138). ، وفيها دَلالةٌ على ما قاله الشَّافِعيُّ ومالِكٌ: إنَّه لا تُحرَقُ سَفينةُ الكُفَّارِ إذا كان فيها أُسارى المُسلِمينَ، وكذلك في إحراقِ الحُصونِ إذا كان فيها أُسارى المُسلِمينَ [381] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/379). . وكذلك لو تَتَرَّسَ كافِرٌ بمُسلِمٍ لم يَجُزْ رَمْيُه، وإنْ فَعَل ذلك فاعِلٌ فأتلَفَ أحَدًا مِنَ المُسلِمينَ فعَليه الدِّيَةُ والكَفَّارةُ، فإنْ لم يَعلَموا فلا دِيَةَ ولا كَفَّارةَ؛ وذلك أنَّهم إذا عَلِموا فليس لهم أن يَرمُوا، فإذا فَعَلوه صاروا قَتَلةً خَطأً، والدِّيةُ على عواقِلِهم، فإن لم يَعلَموا فلَهم أن يَرمُوا، وإذا أُبيحوا الفِعلَ لم يَجُزْ أن يَبقى عليهم فيها تَبِعَةٌ ومَسئوليةٌ [382] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/287). .
6- قال الله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا لَمَّا كانت حَمِيَّةُ الجاهِليَّةِ تُوجِبُ مِن الأقوالِ والأعمالِ ما يُناسِبُها، جَعَل اللهُ في قُلوبِ أوليائِه سَكينةً تُقابِلُ حَمِيَّةَ الجاهِليَّةِ، وفي ألسِنَتِهم كَلِمةَ التَّقْوى مُقابَلةً لِما تُوجِبُه حَمِيَّةُ الجاهِليَّةِ مِن كَلِمةِ الفُجورِ؛ فكان حَظُّ المؤمِنينَ السَّكينةَ في قُلوبِهم، وكَلِمةَ التَّقْوى على ألسِنَتِهم، وحَظُّ أعدائِهم حَمِيَّةَ الجاهِليَّةِ في قُلوبِهم، وكَلِمةَ الفُجورِ والعُدوانِ على ألسِنَتِهم؛ فكانت هذه السَّكينةُ وهذه الكَلِمةُ جُندًا مِن جُندِ اللهِ أيَّدَ بها اللهُ رَسولَه والمُؤمِنينَ في مُقابَلةِ جُندِ الشَّيطانِ الَّذي في قُلوبِ أوليائِه وألسِنَتِهم [383] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/155). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى أُضيفَت (الكَلِمةُ) إلى (التَّقوى)؛ لأنَّها سَبَبُ التَّقْوى وأساسُها [384] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/497). ؛ فإنَّهم يتَّقونَ بها غضَبَ الله وعذابَه [385] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/316). .
8- لَفظُ «كلمة» حيثُ وُجِد في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ بل وفي كلامِ العربِ -نَظْمِه ونَثْرِه- إنَّما يُرادُ به المفيدُ الَّتي تُسمِّيها النُّحاةُ: «جملةً تامَّةً»، وذلك كقولِه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [386] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 84). ، وهي لا إلهَ إلَّا اللهُ.
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا هذا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّ أهلَ الحُدَيبيَةِ الَّذين أُلزِموا هذه الكَلِمةَ ماتوا كُلُّهم على الإسلامِ [387] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/331، 332). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا فيه سُؤالٌ: ما فائِدةُ قَولِه: وَأَهْلَهَا بعدَ قَولِه: أَحَقَّ بِهَا؟
الجوابُ: الضَّميرُ في بِهَا لِكَلِمةِ التوحيد، وفي (أَهْلَهَا) للتَّقْوى؛ فلا تَكرارَ [388] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 525). .
11- إنْ قيل: ما مِن أحدٍ إلَّا وهو حَقيقٌ بقَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فما معنَى قَولِه تعالى: وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا؟
الجوابُ: هو إشعارٌ بأنَّ اللهَ تعالى اصْطَفاهم لدِينِه، وأخلَصَهم لمعرفتِه، وأهَّلَهم لتَوحيدِه؛ فكانوا أحَقَّ بها لِمَوضِعِ اصْطِفاءِ اللهِ تعالى إيَّاهم، حيث جعَلَهم مِن أهلِ السَّعادةِ [389] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/316). .
12- قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الآيةِ لَطائفُ مَعنويَّةٌ؛ وهو أنَّه تعالَى أبانَ غايةَ البَونِ بيْنَ الكافرِ والمؤمنِ، بايَنَ بيْنَ الفاعِلَينِ؛ إذ فاعلُ جَعَلَ هو الكُفارُ، وفاعلُ (أَنْزَلَ) هو اللهُ تعالى، وبيْنَ المفعولَينِ؛ إذ تلك حَمِيَّةٌ، وهذه سَكينةٌ، وبيْنَ الإضافتَينِ؛ أضافَ الحَمِيَّةَ إلى الجاهليَّةِ، وأضافَ السَّكينةَ إلى اللهِ تعالَى، وبيْنَ الفِعلِ (جعَلَ وأنزَلَ)؛ فالحَمِيَّةُ مَجعولةٌ في الحالِ في العرَضِ الَّذي لا يَبْقَى، والسَّكينةُ كالمحفوظةِ في خِزانةِ الرَّحمةِ فأنزَلَها. والحميَّةُ قبيحةٌ مذمومةٌ في نفسِها، وازدادَتْ قُبحًا بالإضافةِ إلى الجاهليَّةِ، والسَّكينةُ حسنةٌ في نفسِها، وازدادَتْ حُسنًا بإضافتِها إلى الله تعالى. والعَطفُ في فَأَنْزَلَ بالفاءِ لا بالواوِ يدُلُّ على المُقابَلةِ، تقولُ: أكرَمَني زَيدٌ فأكرَمْتُه، فدلَّتْ على المُجازاةِ للمُقابَلةِ، وكذلك جَعَلَ فَأَنْزَلَ. ولَمَّا كان الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الَّذي أجابَ أوَّلًا إلى الصُّلحِ، وكان المؤمِنونَ عازِمينَ على القِتالِ وألَّا يَرجِعوا إلى أهلِهم إلَّا بعْدَ فتْحِ مكَّةَ أو النَّحْرِ في المَنحَرِ، وأبَوْا إلَّا أنْ يَكتُبوا: محمَّدٌ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وباسمِ اللهِ؛ قال تعالَى: عَلَى رَسُولِهِ. ولَمَّا سكَنَ هو صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للصُّلْحِ سكَنَ المؤمِنونَ، فقال: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ولَمَّا كان المؤمِنونَ عندَ اللهِ تعالى أُلزِموا تلك الكلِمةَ قال تعالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [390] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/84)، ((تفسير أبي حيان)) (9/498)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/195)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/250). [الحجرات: 13] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
- قَولُه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا عطْفٌ على جُملةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الفتح: 20] ، وهذا كفٌّ غيرُ الكَفِّ المُرادِ مِن قَولِه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على الخَبَرِ الفِعليِّ لإفادةِ التَّخصيصِ، أي: القَصرِ، أي: لم يَكُفَّهم عنكم، ولا كَفَّكم عنهم إلَّا اللهُ تعالى، لا أنتُم ولا همْ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/183، 184). .
- وضَمائرُ الغَيبةِ في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ راجِعةٌ لِلَّذِينَ كَفَروا في قَولِه: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الفتح: 22] ، ووَجْهُ عَودِه إليه مع أنَّ الَّذين كفَّ اللهُ أيدِيَهم فريقٌ غيرُ الفريقِ الَّذي في قَولِه: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ هو أنَّ عُرْفَ كَلامِ العرَبِ جارٍ على أنَّ ما يَصدُرُ مِن بَعضِ القومِ يُنسَبُ إلى القومِ بدونِ تَمْييزٍ [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/184). .
- وقيل: أَظْفَرَكُمْ مُظهِرًا لكم عليهم؛ فتعديةُ الفعلِ بـ (على) لِتضَمُّنِه ما يتعدَّى به، وهو الإظهارُ والاعلاءُ، أي: جعلَكم ذَوي غلَبةٍ تامَّةٍ. وقيل: عُدِّي بـ (على)؛ لِتَضْمينِه معنَى أيَّدَكم [393] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/ 264)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 186). ويُنظر أيضًا: ((أمالي ابن الشجري)) (1/ 225). . وقيل: فِعلُ (ظَفِرَ) يَتعَّدى بالباءِ، كما يَتعدَّى بـ (على)، يقال: ظَفِرْتُ بفُلانٍ، وظَفِرْتُ عليه [394] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 135). ويُنظر أيضًا: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 730). .
- وقولُه: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا تَذييلٌ لِما قبْلَه [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/186). .
- قَولُه: تَعْمَلُونَ قُرِئَ بتاءِ الخِطابِ، وقُرِئَ بياءِ الغَيبةِ [396] يُنظر ما تقدَّم في القِراءات ذات الأثَرِ في التَّفسيرِ. ، أي: عليمًا بما يَعمَلونَ مِنِ انحدارِهم على غِرَّةٍ منكم، طامِعينَ أنْ يَتمكَّنوا مِن أنْ يَغلِبوكم، وفي كِلْتا القِراءتَينِ اكتِفاءٌ [397] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/ 118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/ 48). ، أي: كان اللهُ بما تَعمَلون ويَعمَلون بصيرًا، أو بما يَعمَلون وتَعمَلون بَصيرًا؛ لأنَّ قولَه: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يُفيدُ عمَلًا لِكُلِّ فريقٍ، أي: عَلِمَ نِيَّاتِكم، فكَفَّها لحِكمةِ استِبقاءِ قُوَّتِكم، وحُسْنِ سُمعَتِكم بيْنَ قَبائلِ العَربِ، وألَّا يجِدَ المشركون ذَريعةً إلى التَّظلُّمِ منكم بالباطلِ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/186). .
- قَولُه: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا على قِراءةِ يَعْمَلُونَ بالياءِ؛ ففيه تَهديدٌ للكُفَّارِ [399] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/495). .
2- قَولُه تعالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
- قَولُه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ استِئنافٌ انتقلَ به مِن مَقامِ الثَّناءِ على المؤمنينَ الَّذين بايَعوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما اكتَسَبوا بتلك البَيعةِ مِن رِضا اللهِ تعالَى، وجَزائِه ثَوابَ الآخِرةِ، وخَيرَ الدُّنيا عاجِلَه وآجِلَه، وضَمانِ النَّصْرِ لهم في قِتالِ المشرِكين، وما هيَّأَ لهم مِن أسبابِ النَّصْرِ؛ إلى تَعييرِ المشرِكين بهذه المَذمَّةِ الَّتي أتَوْا بها بالصَّدِّ عن المسجِدِ الحرامِ، وصَدِّ الهَدْيِ عن أنْ يُبلَغَ به إلى أهلِه؛ فإنَّها سُبَّةٌ لهم بيْنَ العرَبِ، وهم أَوْلى النَّاسِ بالحَفاوةِ بمَن يَعتَمِرونَ، وضميرُ الغَيبةِ هُمُ المُفتتَحُ به عائدٌ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قولِه: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ [الفتح: 22] الآيةَ. والمقصودُ بالافتتاحِ بضَميرِهم هنا: استِرعاءُ السَّمْعِ لِمَا يَرِدُ بعدَه مِن الخَبرِ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/187). .
- وذِكرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إدماجٌ [401] الإدماجُ: أن يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضَينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجَتِ المُبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ تعالى بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للنِّداءِ عليهم بوصْفِ الكُفرِ، ولهذا الإدماجِ نُكتةٌ أيضًا، وهي أنَّ وصْفَ الَّذين كفَروا بمَنْزلةِ الجِنسِ فصارَ الموصولُ في قُوَّةِ المُعرَّفِ بلامِ الجِنسِ؛ فتُفِيدُ جُملةُ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قصْرَ جِنسِ الكُفرِ على هذا الضَّميرِ؛ لِقَصْدِ المُبالَغةِ؛ لكَمالِهم في الكُفرِ بصَدِّهم المُعتمِرينَ عن المَسجدِ الحرامِ، وصَدِّ الهَديِ عن أنْ يَبلُغَ مَحِلَّه [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/187). .
- وفائدةُ ذِكرِ هذا الحالِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ التَّشنيعُ على الَّذين كفَروا في صَدِّهم المُسلِمينَ عن البَيتِ بأنَّهم صَدُّوا الهَدايا أنْ تَبلُغَ مَحِلَّها؛ إذ اضْطُرَّ المسلمونَ أنْ يَنحَروا هَداياهم في الحُدَيْبيَةِ؛ فقد عطَّلوا بفِعلِهم ذلك شَعيرةً مِن شَعائرِ اللهِ؛ ففي ذِكرِ الحالِ تَصويرٌ لهيئةِ الهَدايا وهي مَحبوسةٌ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/188). .
- قَولُه: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أتْبَعَ النَّعيَ على المشركينَ سُوءَ فِعلِهم مِن الكُفْرِ، والصَّدِّ عن المَسجدِ الحرامِ، وتَعطيلِ شعائرِ اللهِ؛ وَعْدَه المسلمينَ بفتْحٍ قريبٍ ومَغانِمَ كثيرةٍ، بما يَدفَعُ غُرورَ المشركين بقوَّتِهم، ويُسَكِّنُ تَطلُّعَ المسلِمينَ لتَعْجيلِ الفتْحِ؛ فبيَّنَ أنَّ اللهَ كفَّ أيديَ المسلِمينَ عن المشركين معَ ما قرَّره آنِفًا مِن قولِه: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الفتح: 22] أنَّه إنَّما لم يأمُرِ المسلِمينَ بقِتالِ عَدوِّهم لَمَّا صَدُّوهم عن البيتِ؛ لأنَّه أرادَ رحمةَ جَمْعٍ مِن المؤمنينَ والمؤمناتِ كانوا في خِلالِ أهلِ الشِّركِ لا يَعلَمونَهم، وعصَمَ المسلِمينَ مِن الوُقوعِ في مَصائبَ مِن جرَّاءِ إتلافِ إخوانِهم؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، أو على جُملةِ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الفتح: 24] ، وأيًّا ما كان فهي كَلامٌ مُعترِضٌ بيْنَ جُملةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلخ، وبيْنَ جُملةِ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ [الفتح: 26] ، ونَظْمُ هذه الآيةِ بَديعٌ في أُسلوبَيِ الإطنابِ والإيجازِ، والتَّفنُّنِ في الانتقالِ ورَشاقةِ كَلِماتِه [404] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/188، 189). .
- وإجْراءُ الوصْفِ على رِجالٍ ونِساءٍ بالإيمانِ في قَولِه: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مُشيرٌ إلى أنَّ وُجودَهم المانعَ مِن حُصولِ مَضمونِ الجَوابِ، هو الوجودُ الموصوفُ بإيمانِ أصحابِه، ولكنَّ الامتِناعَ ليس مُعلَّقًا على وُجودِ الإيمانِ، بل على وُجودِ ذَواتِ المؤمنينَ والمؤمناتِ بيْنَهم [405] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/189). .
- ووَجْهُ عَطْفِ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ -مع أنَّ وُجودَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ كافٍ في ربْطِ امتِناعِ الجوابِ بالشَّرطِ، ومع التَّمكُّنِ مِن أنْ يقولَ: ولولا المؤمِنونَ؛ فإنَّ جَمْعَ المذكَّرِ في اصطلاحِ القرآنِ يَتناولُ النِّساءَ غالبًا- أنَّ تَخصيصَ النِّساءِ بالذِّكرِ أنسَبُ بمعنَى انتفاءِ المَعرَّةِ بقَتْلِهنَّ، وبمعنى تَعلُّقِ رَحمةِ اللهِ بهنَّ [406] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/189). . ولأنَّ الموضِعَ مَوضِعُ وَهْمِ اختِصاصِ الرِّجالِ بالحُكمِ، فقال: والنِّساءُ المُؤمِناتُ أيضًا؛ لأنَّ تَخريبَ بُيُوتِهنَّ، ويُتْمَ أولادِهنَّ بسَبَبِ رِجالِهنَّ: وَطأةٌ شَديدةٌ، ولأنَّ في مَحَلِّ الشَّفَقةِ تُعَدُّ المواضِعُ لِتَرقيقِ القَلبِ، يُقالُ لِمَن يُعَذِّبُ شَخصًا: لا تُعَذِّبْه وارحَمْ ذُلَّه وفَقْرَه وضَعْفَه، وأولادَه وصِغارَه وأهلَه الضُّعَفاءَ العاجِزينَ! فكذلك هاهنا قال: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ؛ لِتَرقيقِ قُلوبِ المُؤمِناتِ، ورِضاهم بما جَرى مِنَ الكَفِّ بعدَ الظَّفَرِ [407] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/83، 84). .
- والباءُ في بِغَيْرِ عِلْمٍ للمُلابَسةِ، أي: مُلابِسينَ لانتِفاءِ العِلمِ [408] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/191). .
- قَولُه: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لِيُدْخِلَ مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ دلَّ عليه المعنى، أي: كان انتِفاءُ التَّسليطِ على أهلِ مكَّةَ، وانتفاءُ العذابِ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وهذا المَحذوفُ هو مَفهومٌ مِن جَوابِ (لو) [409] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/497). .
- وقولُه: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ تَعليلٌ للكَفِّ عن قِتالِ المؤمنينَ غَيرِ المعروفينَ المُقيمين وسَطَ الكفَّارِ [410] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/344)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/191). .
- ومَنْ يَشَاءُ يعُمُّ كلَّ مَن أرادَ اللهَ مِن هذه الحالةِ رَحمتَه في الدُّنيا والآخِرةِ، أو فيهما معًا، وعبَّرَ بقولِه: مَنْ يَشَاءُ؛ لِمَا فيه مِن شُمولِ أصنافٍ كثيرةٍ، ولِمَا فيه مِن الإيجازِ، ولِمَا فيه مِن الإشارةِ إلى الحِكمةِ الَّتي اقتَضَتْ مَشيئةُ اللهِ رحمةَ أولئك [411] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/344)، ((تفسير البيضاوي)) (5/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/191). .
- قَولُه: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بَيانٌ لجُملةِ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ إلى آخِرِها، أي: لولا وُجودُ رجالٍ مؤمنينَ... إلخ، مُندمِجينَ في جَماعةِ المشركينَ غيرِ مُفترِقينَ؛ لو افتَرَقوا لَعذَّبْنا الكافرينَ منهم [412] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/192). .
- والتَّزيُّلُ: مُطاوِعُ زيَّلَه؛ إذا أبعَدَه عن مكانٍ، وزيَّلَهم، أي: أبْعَدَ بَعضَهم عن بعضٍ، أي: فرَّقَهم، وهو هنا بمَعنى التَّفرُّقِ والتَّميُّزِ مِن غَيرِ مُراعاةِ مُطاوَعةٍ لفِعلِ فاعلٍ؛ لأنَّ أفعالَ المُطاوَعةِ كثيرًا ما تُطلَقُ لإرادةِ المُبالَغةِ؛ لدَلالةِ زِيادةِ المَبْنى على زِيادةِ المَعنى، والمعنى: لو تفرَّقَ المؤمنونَ والمؤمناتُ عن أهلِ الشِّرْكِ لَسَلَّطْنا المسلمينَ على المُشركين فعذَّبوا الَّذين كفَروا عَذابَ السَّيفِ؛ فإسنادُ التَّعذيبِ إلى اللهِ تعالى لأنَّه يَأمُرُ به، ويُقدِّرُ النَّصرَ للمُسلِمينَ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/192). .
- وعُدِلَ عن ضَميرِ الغَيبةِ إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ في قَولِه: لَعَذَّبْنَا على طَريقةِ الالتِفاتِ [414] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/192). .
- و(مِن) في قَولِه: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ للتَّبعيضِ، أي: لَعذَّبْنا الَّذين كَفَروا مِن ذلك الجَمْعِ المُتفرِّقِ المتميِّزِ مُؤمِنُهم عن كافرِهم، أي: حينَ يَصيرُ الجمْعُ مُشركين خُلَّصًا وحْدَهم [415] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/192). .
3- قَولُه تعالَى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
- قَولُه: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ... ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بفِعلِ (صَدُّوكُمْ) [الفتح: 25] -وذلك على قولٍ-؛ فكان تَعليقُ هذا الظَّرْفِ بفِعلِ وَصَدُّوكُمْ مُشعِرًا بتَعليلِ الصَّدِّ، بكَونِه حَمِيَّةَ الجاهليَّةِ؛ ليُفيدَ أنَّ الحَمِيَّةَ مُتمكِّنةٌ منهم، تَظهَرُ منها آثارُها، فمنها الصَّدُّ عن المسجِدِ الحرامِ [416] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/193). .
- وجُملةُ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ عطْفُ بَيانٍ للحَميَّةِ، قُصِدَ مِن إجمالِه ثمَّ تَفصيلِه تَقريرُ مَدْلولِه وتأْكيدُه ما يَحصُلُ لو قال: إذ جعَلَ الَّذين كَفَروا في قُلوبِهم حَميَّةَ الجاهليَّةِ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/194). .
- وإضافةُ الحَمِيَّةِ إلى الجاهليَّةِ؛ لقَصْدِ تَحقيرِها وتَشنيعِها؛ فإنَّها مِن خُلُقِ أهلِ الجاهليَّةِ؛ فإنَّ ذلك انتِسابُ ذمٍّ في اصطلاحِ القُرآنِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/194). ، والحَمِيَّةُ في نفْسِها صِفةٌ مَذمومةٌ، وبالإضافةِ إلى الجاهليَّةِ تَزدادُ قُبحًا [419] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/84). .
- وإضافةُ السَّكينةِ إلى ضَميرِ اللهِ تعالَى إضافةُ تَشريفٍ؛ لأنَّ السَّكينةَ مِن الأخلاقِ الفاضلةِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/194). ، فهي في نفْسِها وإنْ كانت حسَنةً، لكنَّ الإضافةَ إلى اللهِ فيها مِنَ الحُسنِ ما لا يَبقى معه لِحُسْنٍ اعتِبارٌ [421] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/84). .
- والآيةُ مِنَ الاحتِباكِ [422] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذكَرَ حَمِيَّةَ الجاهليَّةِ أوَّلًا دليلًا على ضِدِّها ثانيًا، وكَلِمةَ التَّقْوى ثانيًا دليلًا على ضِدِّها أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذكَرَ مَجْمَعَ الشَّرِّ أوَّلًا؛ تَرهيبًا منه، ومَجمَعَ الخَيرِ ثانيًا؛ تَرغيبًا فيه [423] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/332). .
- قَولُه: وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا جِيءَ بفِعلِ (كانوا)؛ لدَلالتِها على أنَّ هذه الأحقِّيَّةَ راسخةٌ فيهم، حاصِلةٌ في الزَّمنِ الماضي، أي: في قَدَرِ اللهِ تعالَى، والمعنى: أنَّ نُفوسَ المؤمنينَ كانتْ مُتهيِّئةً لِقَبولِ كَلمةِ التَّقوى والتزامِها بما أرشَدَها اللهُ إليه. والمُفضَّلُ عليه مُقدَّرٌ دلَّ عليه ما تقدَّمَ، أي: أحَقَّ بها مِن الَّذين كفَروا؛ لأنَّ اللهَ قدَّرَ لهم الاستِعدادَ للإيمانِ دونَ الَّذين أصَرُّوا على الكُفرِ [424] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/197). .
- وقولُه: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا تَذْييلٌ، وسَبَق في عِلْمِ اللهِ ذلك في عُمومِ ما أحاطَ به عِلْمُ اللهِ مِن الأشياءِ مَجرَى تَكوِينِه على نَحوِ عِلْمِه [425] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/197). .