موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (15-17)

ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بَأْسٍ: أي: قُوَّةٍ وبَطشٍ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضاهاها [216] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 70، 154، 181)، ((تفسير ابن جرير)) (14/470) و(18/50)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((المفردات)) للراغب (ص: 153)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 26)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 119)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 249). .
حَرَجٌ: أي: إثمٌ ومُؤاخَذةٌ، وأصلُ (حرج): يدُلُّ على ضِيقٍ [217] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 130)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/50)، ((المفردات)) للراغب (ص: 226)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 67). .

المعنى الإجماليُّ:

يحكي اللهُ تعالى جانبًا مِن أقوالِ الَّذين تخلَّفوا عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في عامِ الحُدَيبيَةِ، ويرُدُّ عليها، فيقولُ: سيَقولُ الأعرابُ الَّذين خُلِّفوا في أهلِيهم عامَ الحُدَيبِيَةِ، إذا انطَلَقْتَ -أيُّها الرَّسولُ- وأصحابُك إلى خَيبَرَ؛ لِتَأخُذوا المغانِمَ الَّتي وعَدَكم اللهُ بأخْذِها: دَعُونا نَتَّبِعْكم إلى خَيبَرَ!
يُريدُون أن يُغَيِّروا بذَهابِهم معكم وَعْدَ اللهِ الَّذي وَعَدَه أهلَ الحُدَيبيَةِ بأنْ يَجعَلَ غنائِمَ خَيبَرَ لهم خاصَّةً.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يرُدَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: لن تَسيروا مَعَنا إلى قِتالِ أهلِ خَيبَرَ، هكذا قال اللهُ لنا مِن قَبلِ أن نَرجِعَ إليكم مِنَ الحُدَيبِيَةِ. فسيَقولُ أولئك المُخَلَّفونَ مِن الأعرابِ حينَ تَمنَعونَهم مِنَ الخُروجِ معكم إلى خَيبَرَ: إنَّما مَنعْتُمونا مِنَ الخُروجِ معكم؛ لِكَونِكم تَحسُدونَنا على مُشارَكتِكم في الغنائِمِ! فإنَّما هم قَومٌ لا يَفهَمونَ ولا يَعقِلونَ إلَّا قَليلًا!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَدعوَ هؤلاء المخلَّفينَ إلى الجهادِ، فاتحًا لهم بابَ التَّوبةِ إنِ استَجابوا، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- للأعرابِ الَّذين خُلِّفوا عن الخُروجِ معك إلى الحُدَيبِيَةِ: ستُدْعَونَ إلى قِتالِ قَومٍ ذَوي قُوَّةٍ شَديدةٍ في الحَربِ، تُقاتِلونَهم أو يَدخُلونَ في الإسلامِ مِن غَيرِ قِتالٍ، فإنْ تُطيعوا اللهَ بإجابةِ الدَّعوةِ إلى قِتالِ أولئك الكُفَّارِ، يُؤْتِكم اللهُ على الجِهادِ ثَوابًا حَسَنًا، وإنْ تَعصُوا اللهَ كما تخَلَّفتُم مِن قَبلُ عن الخُروجِ إلى الحُدَيبِيَةِ، يُعَذِّبْكم عَذابًا مُؤلِمًا.
ثمَّ يختِمُ الله سبحانَه هذه الآياتِ بذِكرِ الأعذارِ في تركِ الجهادِ، فيقولُ: ليس على الأعمَى ولا على الأعرَجِ ولا على المَريضِ إثمٌ في تخَلُّفِهم عن الجِهادِ مع المُؤمِنينَ؛ لِعُذرِهم المانِعِ لهم مِن القِتالِ.
ثمَّ يُبشِّرُ الله تعالى المؤمنينَ الصَّادِقينَ، فيقولُ: ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه يُدخِلْه اللهُ جَنَّاتٍ تجري مِن تَحتِها الأنهارُ، ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ ورَسولِه يُعَذِّبْه اللهُ عَذابًا مُؤلِمًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ -تعالى- المُخَلَّفينَ وذَمَّهم؛ ذكَرَ أنَّ مِن عقوبتِهمُ الدُّنيويَّةِ حِرمانَهم مِنَ الغنائمِ، واختِصاصَ الصَّحابةِ المؤمِنينَ بها [218] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ.
أي: سيَقولُ الأعرابُ الَّذين خُلِّفوا في أهلِيهم، ولم يَخرُجوا مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مكَّةَ عامَ الحُدَيبِيَةِ، إذا انطَلَقْتَ -أيُّها الرَّسولُ- وأصحابُك إلى خَيبَرَ؛ لِتَأخُذوا المغانِمَ الَّتي وعَدَكم اللهُ بأخْذِها: دَعُونا نَتَّبِعْكم إلى خَيبَرَ [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/261)، ((تفسير القرطبي)) (16/270)، ((تفسير ابن كثير)) (7/337). قال ابن عاشور: (إعلامٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما سيَقولُه المُخلَّفون عن الحُدَيبيَةِ يَتعلَّقُ بتَخلُّفِهم عن الحُدَيبيَةِ وعُذْرِهم الكاذبِ، وأنَّهم سيَندَمون على تخلُّفِهم حينَ يَرَوْنَ اجتناءَ أهلِ الحُدَيبيَةِ ثَمرةَ غزوِهم، ويَتضمَّنُ تأكيدَ تَكذيبِهم في اعتِذارِهم عن التَّخلُّفِ بأنَّهم حينَ يَعلَمونَ أنَّ هُنالِكَ مغانمَ مِن قِتالٍ غيرِ شَديدٍ يَحرِصونَ على الخُروجِ، ولا تَشْغَلُهم أموالُهم ولا أهالِيهم؛ فلو كان عذرُهم حقًّا لَمَا حَرَصُوا على الخروجِ إذا توقَّعوا المغانمَ، ولَأقْبَلوا على الاشتِغالِ بأموالِهم وأهلِيهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/166، 167). !
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ.
أي: يُريدُ الأعرابُ المُخَلَّفونَ عن الحُدَيبِيَةِ أن يُغَيِّروا بذَهابِهم معكم وَعْدَ اللهِ الَّذي وَعَدَه أهلَ الحُدَيبيَةِ بأنْ يَجعَلَ غنائِمَ خَيبَرَ لهم خاصَّةً؛ عِوَضًا عن غنائِمِ قُرَيشٍ بعدَ انصِرافِهم عن مَكَّةَ على صُلحِ الحُدَيبِيَةِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/261)، ((تفسير القرطبي)) (16/271)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/307، 308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/168). قال ابنُ كثير: (أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألَّا يأذَنَ لهم في ذلك؛ مُعاقَبةً لهم مِن جِنسِ ذَنْبِهم؛ فإنَّ الله تعالى قد وَعَد أهلَ الحُدَيبِيَةِ بمغانِمِ خَيبَرَ وَحْدَهم، لا يَشرَكُهم فيها غَيرُهم مِنَ الأعرابِ المُتخَلِّفينَ، فلا يَقَعُ غيرُ ذلك شَرعًا وقَدَرًا). ((تفسير ابن كثير)) (7/337). وقال ابن جزي: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ أي: يُريدونَ أن يُبدِّلوا وعدَ الله لأهلِ الحديبيةِ، وذلك أنَّ الله وعَدهم أنْ يُعوِّضَهم مِن غنيمةِ مكةَ غنيمةَ خيبرَ وفتحَها، وأنْ يكونَ ذلك مختصًّا بهم دونَ غيرِهم، وأراد المخلَّفونَ أن يُشاركوهم في ذلك، فهذا هو ما أرادوا مِن التَّبديلِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/288). وقال ابنُ عاشورٍ: (تبديلُ كلامِ الله: مخالفةُ وحيِه مِن الأمرِ والنَّهيِ والوعْدِ كرامةً للمُجاهدينَ، وتأديبًا للمخلَّفينَ عن الخروجِ إلى الحديبيةِ. فالمرادُ بكلامِ الله: ما أوحاه إلى رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن وعدِ أهلِ الحُديبيةِ بمغانمِ خيبرَ خاصَّةً لهم، وليس المرادُ بكلامِ الله هنا القرآنَ؛ إذ لم ينزِلْ في ذلك قرآنٌ يومئذٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/168). وقال محمد رشيد رضا: (قولُه في المُخلَّفينَ مِن الأعرابِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ يعني وَعْدَه في القرآنِ فيما سَبَق في السُّورةِ). ((تفسير المنار)) (9/155). وقال مكي: (قولُه: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ والذي أرادوا أنْ يُبدِّلوا هو قولُه: لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: 15] ، فتقدَّم في علمِ الله أنَّهم لا يتَّبعونَ النبيَّ، فأرادوا أنْ يُبدلِّوا ذلك، فقالوا للنبي: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ، وقد تقدَّم مِن الله أنَّهم لا يتَّبعونَهم فأرادوا أنْ يُغيِّروا ما تقدَّم في علمِ الله، وقد كان أخبَره الله في كتابِه بقولِه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا إلى الْخَالِفِينَ [التوبة: 83] ، فكلامُ الله هنا: ما أخبَر أنَّهم لن يتَّبعوا، فأرادوا أنْ يُبدِّلوا خبرَ الله ويتَّبعوه). ((الهداية الى بلوغ النهاية)) (3/2162). وقال الزجاج: (يعني بقولِه: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قولَه عزَّ وجلَّ: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 84] ، فأرادُوا أنْ يَأْتوا بما ينقُضُ هذا، فأعلَم الله عزَّ وجلَّ أنَّهم لا يعقِلونَ، ولا يقدِرونَ على ذلك). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/23). وقال ابنُ جزي: (وقيل: كلامُ الله قولُه: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 84] وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذه الآيةَ نزَلت بعدَ رجوعِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن تَبوكَ بعدَ الحُديبيةِ بمدةٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/288). .
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا.
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: لن تَسيروا مَعَنا إلى خَيبَرَ [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/264)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1009)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ.
أي: هكذا قال اللهُ لنا مِن قَبلِ أن نَرجِعَ إليكم مِنَ الحُدَيبِيَةِ، وتَسألونا الخُروجَ مَعَنا إلى خَيبَرَ: إنَّ غَنيمةَ خَيبَرَ خاصَّةٌ بمَن شَهِدَ الحُدَيبِيَةَ، وأنتم تخَلَّفتُم عن الخُروجِ في ذلك الوَقتِ؛ فليس لكم إذَنْ حَقٌّ في غنائِمِ خَيبَرَ [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/264)، ((تفسير القرطبي)) (16/271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). قال ابن عاشور: (أخبَرَ اللهُ عنهم بما سيَقولونَه... وقد قالوا ذلك بعدَ نحوِ شَهرٍ ونِصفٍ! فلمَّا سَمِعَ المسلِمونَ المتأهِّبونَ للخُروجِ إلى خَيبَرَ مَقالتَهم قالوا: قد أخبَرَنا اللهُ في الحُدَيبِيَةِ بأنَّهم سيَقولونَ هذا)! ((تفسير ابن عاشور)) (26/169). .
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا.
أي: فسيَقولُ أولئك المُخَلَّفونَ مِن الأعرابِ حينَ تَمنَعونَهم مِنَ الخُروجِ معكم إلى خَيبَرَ: ليس الأمرُ كما زَعَمْتُم أنَّه قَولُ اللهِ وأمْرُه، وإنَّما مَنَعْتُمونا مِنَ الخُروجِ معكم؛ لِكَونِكم تَحسُدونَنا على مُشارَكتِكم في الغنائِمِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/265)، ((تفسير القرطبي)) (16/271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/169). !
بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: ليس الأمرُ كما زعَمَ الأعرابُ أنَّكم مَنعتُموهم مِنَ الخُروجِ معكم إلى خَيبَرَ حَسَدًا لهم، وإنَّما هم قَومٌ لا يَفهَمونَ ولا يَعقِلونَ إلَّا قَليلًا [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/265)، ((تفسير القرطبي)) (16/271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/169، 170). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا لا يَعلَمونَ إلَّا أمرَ الدُّنيا، فليس لهم فِكرٌ إلَّا فيها، ويَفطُنون لأمورِها دونَ أمورِ الدِّينِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/338)، ((تفسير القرطبي)) (16/271)، ((تفسير البيضاوي)) (5/128)، ((تفسير أبي حيان)) (9/490)، ((تفسير الشوكاني)) (5/59). وقيل: لا يَعلَمون عن اللهِ ما لَهم وعليهم مِن الدِّينِ، إلَّا قليلًا منهم، وهو مَن صدقَ اللهَ والرَّسولَ. وممَّن اختاره: ابنُ أبي زَمَنين، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/253)، ((تفسير البغوي)) (4/226)، ((تفسير الخازن)) (4/158). وقيل: لا يَفقَهونَ مِن أمرِ الدِّينِ إلَّا قَليلًا. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/265)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6950). وقال ابنُ كثير: (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: ليس الأمرُ كما زَعَموا، ولكِنْ لا فَهْمَ لهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/338). وقال ابن عاشور: (أفادَ قولُه: لَا يَفْقَهُونَ انتِفاءَ الفَهمِ عنهم؛ لأنَّ الفِعلَ في سِياقِ النَّفْيِ كالنَّكرةِ في سِياقِ النَّفيِ يَعُمُّ؛ فلذلك استَثْنى منه بقَولِه: إِلَّا قَلِيلًا، أي: إلَّا فَهمًا قليلًا، وإنَّما قلَّلَه لِكَونِ فَهمِهم مُقتصِرًا على الأُمورِ الواضحةِ مِن العاديَّاتِ، لا يَنفُذُ إلى المُهمَّاتِ ودَقائقِ المعاني، ومِن ذلك ظَنُّهم حِرمانَهم مِنَ الالتِحاقِ بجَيشِ غَزوةِ خَيبَرَ مُنبعِثًا على الحسَدِ، وقد جَرَوا في ظَنِّهم هذا على المعروفِ مِن أهلِ الأنظارِ القاصِرةِ، والنُّفوسِ الضَّئيلةِ مِن التَّوَسُّمِ في أعمالِ أهلِ الكَمالِ بمِنظارِ ما يَجِدونَ مِن دواعي أعمالِهم وأعمالِ خُلَطائِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/170). وقال ابن عاشور أيضًا: (نَفَى اللهُ عنهم الفَهمَ دونَ الإيمانِ؛ لأنَّهم كانوا مُؤمِنينَ، ولكنَّهم كانوا جاهِلينَ بشَرائعِ الإسلامِ ونُظُمِه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/170). وذلك على قولِه بأنَّهم لم يَكونوا مُنافقينَ، وقد تقدَّم ذكرُ الخلافِ في ذلك، يُنظر ما تقدَّم (ص: 68). !
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ المُخَلَّفينَ مِنَ الأعرابِ يَتخلَّفونَ عن الجهادِ في سبيلِه، ويَعتذِرونَ بغَيرِ عُذرٍ، وأنَّهم يَطلُبونَ الخروجَ معهم إذا لم يكنْ شَوكةٌ ولا قِتالٌ، بل لِمُجَرَّدِ الغَنيمةِ؛ قال تعالى مُمتحِنًا لهم [225] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 793). :
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- للأعرابِ الَّذين خُلِّفوا عن المَسيرِ معَك إلى الحُدَيبِيَةِ: ستُدْعَونَ إلى قِتالِ قَومٍ ذَوي قُوَّةٍ شَديدةٍ في الحَربِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/265-269)، ((تفسير القرطبي)) (16/272)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/510، 511)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/171). قال ابن جُزَي: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ اختُلِف في هؤلاء القَومِ على أربعةِ أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهم هَوازِنُ ومَن حارَبَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في غزوةِ خَيبَرَ. والثَّاني: أنَّهم الرُّومُ؛ إذ دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى قتالِهم في غزوةِ تَبوكَ. والثَّالثُّ: أنَّهم أهلُ الرِّدَّةِ مِن بَني حَنيفةَ وغيرِهم الَّذين قاتَلَهم أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ. والرَّابعُ: أنَّهم الفُرْسُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/288). ممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بهم: هَوازِنُ وغَطَفانُ، وذلك يومَ حُنَينٍ: سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/132). قال الخازن: (وأقوى هذه الأقوالِ قولُ مَن قال: إنَّهم هَوازِنُ وثَقيفٌ؛ لأنَّ الدَّاعيَ هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الخازن)) (4/158). واستحسَنَ ابنُ عطيَّةَ هذا القولَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/132).  وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المُرادَ بهم الرُّومُ: كعبٌ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/226)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/132). واستحسَنَ هذا القولَ أيضًا ابنُ عطيَّة. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/132). قال ابن جُزَي: (ويَتقوَّى الأوَّلُ والثَّاني [أي أنَّ المرادَ هَوازِنُ والرُّومُ] بأنَّ ذلك ظهَرَ في حياةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن جزي)) (2/288). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بَنو حَنيفةَ (أتْباعُ مُسَيْلِمةَ الكذَّابِ): مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، ونسَبَه الواحديُّ لأكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/72)، ((تفسير الزمخشري)) (4/338)، ((الوسيط)) للواحدي (4/138). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بهم بَنو حَنيفةَ، يومَ اليَمامةِ: الزُّهْريُّ، وابنُ السَّائبِ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/226)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/132). وقال ابن عاشور: (والقَومُ أُولو البأسِ الشَّديدِ يتعيَّنُ أنَّهم قومٌ مِن العربِ؛ لأنَّ قولَه تعالى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ يُشعِرُ بأنَّ القِتالَ لا يُرفَعُ عنهم إلَّا إذا أسلَموا، وإنَّما يكونُ هذا حُكمًا في قتالِ مُشرِكي العربِ؛ إذ لا تُقبَلُ منهم الجِزيةُ. فيَجوزُ أن يكونَ المرادُ: هَوازِنَ وثَقِيفَ، وهذا مَرْويٌّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةَ وقَتادةَ، وذلك غزوةُ حُنَينٍ، وهي بعدَ غزوةِ خَيبرَ، وأمَّا فتحُ مكَّةَ فلم يكُنْ فيه قِتالٌ. وعن الزُّهْريِّ ومُقاتِلٍ: أنَّهم أهلُ الرِّدَّةِ؛ لأنَّهم مِن قبائلِ العربِ المعروفةِ بالبأسِ، وكان ذلك صدرَ خلافةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/171). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بهم فارِسُ: ابنُ عبَّاسٍ، وعَطاءُ بنُ أبي رباحٍ، وعَطاءٌ الخُراسانيُّ، وابنُ أبي ليلى، وابنُ جُرَيْجٍ في آخَرينَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/226)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/131، 132). وقال السعدي: (وهؤلاء القَومُ فارِسُ والرُّومُ، ومَن نحا نحوَهم وأشْبَهَهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 793). وقال ابن كثير: (وعن مجاهِدٍ: هم رجالٌ أُولو بأسٍ شديدٍ. ولم يُعَيِّنْ فِرقةً، وبه يقولُ ابنُ جُرَيجٍ، وهو اختيارُ ابنِ جريرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/338). قال ابن جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه أخبَر عن هؤلاء المُخَلَّفينَ مِن الأعرابِ أنَّهم سيُدْعَونَ إلى قتالِ قَومٍ أُولي بأسٍ في القتالِ، ونَجدةٍ في الحروبِ، ولم يُوضَعْ لنا الدَّليلُ مِن خبَرٍ ولا عقلٍ على أنَّ المَعْنيَّ بذلك هَوازِنُ، ولا بَنو حَنيفةَ، ولا فارِسُ، ولا الرُّومُ، ولا أعْيانٌ بأعْيانِهم، وجائزٌ أن يكونَ عُنِيَ بذلك بعضُ هذه الأجناسِ، وجائزٌ أن يكونَ عُنِيَ بهم غيرُهم، ولا قولَ فيه أصَحُّ مِن أن يُقالَ كما قال اللهُ جلَّ ثناؤُه: إنَّهم سيُدْعَونَ إلى قَومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ). ((تفسير ابن جرير)) (21/269). وقال أبو حيَّان: (إنَّ هذه الأقوالَ تمثيلاتٌ مِن قائلِيها، لا أنَّ المَعْنيَّ بذلك ما ذكَروا، بل أخبر بذلك مُبهَمًا دَلالةً على قوَّةِ الإسلامِ وانتِشارِ دعوتِه، وكذا وقَعَ حُسْنُ إسلامِ تلك الطَّوائفِ، وقاتَلوا أهلَ الرِّدَّةِ زمانَ أبي بكرٍ، وكانوا في فتوحِ البلادِ أيَّامَ عُمَرَ وأيَّامَ غيرِه مِن الخُلَفاءِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/490). وقال ابن كثير: (وسواءٌ كان هؤلاء هم هَوازِنَ، أو أصحابَ مُسَيْلِمةَ، أو الرُّومَ، فقد وقَع ذلك). ((البداية والنهاية)) (9/116). .
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ.
أي: تُقاتِلونَ هؤلاءِ الَّذين تُدْعَوْنَ إلى قتالِهم، فلا يَزالُ القتالُ مُستمِرًّا عليهم، أو يَدْخُلونَ في دينِكم مِن غَيرِ حربٍ ولا قِتالٍ، فيكونُ أحدُ الأمْرَينِ: إمَّا المُقاتَلةُ، وإمَّا الإسلامُ، لا ثالثَ لهما [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/269)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((تفسير الألوسي)) (13/258)، ((تفسير القاسمي)) (8/496). قال القرطبي: (قولُه تعالى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ هذا حُكمُ مَن لا تُؤخَذُ منهم الجِزيةُ... أي: يكونُ أحَدُ الأمْرَينِ؛ إمَّا المقاتَلةُ، وإمَّا الإسلامُ). ((تفسير القرطبي)) (16/273). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/338)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/135). وقال السعدي: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي: إمَّا هذا وإمَّا هذا، وهذا هو الأمرُ الواقِعُ؛ فإنَّهم في حالِ قِتالِهم ومُقاتَلتِهم لأولئك الأقوامِ، إذْ كانت شِدَّتُهم وبأسُهم معهم، فإنَّهم في تلك الحالِ لا يَقبَلونَ أن يَبذُلوا الجِزيةَ، بل إمَّا أن يَدخُلوا في الإسلامِ، وإمَّا أن يُقاتِلوا على ما هم عليه، فلمَّا أثخَنَهم المُسلِمونَ وضَعُفوا وذَلُّوا، ذهَب بأسُهم؛ فصاروا إمَّا أن يُسلِموا، وإمَّا أن يَبذُلوا الجِزْيةَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 793). ويُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/321). وقال البيضاوي: (معنى يُسْلِمُونَ يَنقادُونَ؛ لِيَتناوَلَ تقَبُّلَهم الجِزْيةَ). ((تفسير البيضاوي)) (5/129). .
فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا.
أي: فإنْ تُطيعوا اللهَ -أيُّها الأعرابُ- بإجابةِ الدَّعوةِ إلى قِتالِ الكُفَّارِ الأشِدَّاءِ، يُؤْتِكم اللهُ على الجِهادِ ثَوابًا حَسَنًا: الغَنيمةَ في الدُّنيا، والجنَّةَ في الآخِرةِ [228] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/73)، ((تفسير ابن جرير)) (21/269، 270)، ((تفسير السمرقندي)) (3/316)، ((الوسيط)) للواحدي (4/138)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالأجرِ الحَسَنِ: الجنَّةُ: ابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/269)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/ 6953)، ((الوسيط)) للواحدي (4/138)، ((تفسير السمعاني)) (5/199)، ((تفسير البغوي)) (4/226)، ((تفسير الخازن)) (4/159). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: الغَنيمةُ والنَّصرُ في الدُّنيا، والجنَّةُ في الآخِرةِ: القرطبيُّ، والبيضاوي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/273)، ((تفسير البيضاوي)) (5/129)، ((تفسير أبي السعود)) (8/109)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60)، ((تفسير القاسمي)) (8/496). .
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: وإنْ تَعصُوا اللهَ فتُعْرِضوا عن القِتالِ كما تخَلَّفتُم مِن قَبلُ عن الخُروجِ إلى الحُدَيبِيَةِ، يُعَذِّبْكم اللهُ عَذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا [229] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/73)، ((تفسير ابن جرير)) (21/270)، ((تفسير القرطبي)) (16/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339). .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَوعَّدَ اللهُ تعالى المُتخلِّفينَ [230] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/313). ؛ بيَّنَ مَن يَجوزُ له التَّخلُّفُ وتَركُ الجِهادِ، وما بِسَببِه يَجوزُ تَركُ الجِهادِ [231] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/78). .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ.
أي: ليس على الأعمى إثمٌ في تخَلُّفِه عن الجِهادِ مع المُؤمِنينَ؛ لِعُذرِه بالعَمى المانِعِ له مِن القِتالِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/270)، ((تفسير القرطبي)) (16/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ.
أي: وليس على الأعرَجِ إثمٌ في تخَلُّفِه عن الجِهادِ معَ المُؤمِنينَ؛ لِعُذرِه بالعَرَجِ المانِعِ له مِن القِتالِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/270)، ((تفسير القرطبي)) (16/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ.
أي: وليس على المَريضِ بأمراضٍ أُخرى إثمٌ في تخَلُّفِه عن الجِهادِ معَ المُؤمِنينَ؛ لِعُذرِه بالمَرَضِ المانِعِ له مِن القِتالِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/270)، ((تفسير القرطبي)) (16/273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). قال ابن كثير: (ذَكَر الأعذارَ في تَرْكِ الجِهادِ؛ فمِنها لازِمٌ، كالعَمَى والعَرَجِ المُستَمِرِّ، وعارِضٌ، كالمَرَضِ الَّذي يَطرَأُ أيَّامًا ثمَّ يَزولُ، فهو في حالِ مَرَضِه مُلحَقٌ بذَوي الأعذارِ اللَّازمةِ حتَّى يَبرَأَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/339). .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه يُدخِلْه اللهُ في الآخِرةِ جَنَّاتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/271)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6953)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ ورَسولِه يُعَذِّبْه اللهُ عَذابًا مُوجِعًا مُؤلِمًا [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/271)، ((تفسير الشوكاني)) (5/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 793). قيل: المرادُ بالعذابِ الأليمِ: عَذابُ جَهنَّمَ يومَ القيامةِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، ومكِّي، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/271)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6954)، ((تفسير الخازن)) (4/159). وقيل: هو في الدُّنيا بالمذَلَّةِ، وفي الآخِرةِ بالنَّارِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ كثير، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/339)، ((تفسير القاسمي)) (8/497). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا هذا منتهَى عِلمِهم في هذا الموضِعِ، ولو فَهِموا رُشْدَهم لَعَلِموا أنَّ حِرمانَهم بسَبَبِ عِصيانِهم، وأنَّ المعاصِيَ لها عُقوباتٌ دُنيويَّةٌ ودِينيَّةٌ؛ ولهذا قال: بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [237] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
2- لفظُ «التَّولِّي» بمعنَى التَّولِّي عن الطَّاعةِ مذكورٌ في مواضِعَ مِن القرآنِ، كقَولِه تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وذمُّ مَن تولَّى في غيرِ موضعٍ مِن القرآنِ دَليلٌ على وُجوبِ طاعةِ اللهِ ورَسولِه، وأنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي وُجوبَ الطَّاعةِ، وذمَّ المتوَلِّي عن الطَّاعةِ [238] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 52). .
3- قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا، فالسَّعادةُ كُلُّها في طاعةِ اللهِ، والشَّقاوةُ في مَعصِيتِه ومُخالفتِه [239] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ قولُه: نَتَّبِعْكُمْ حِكايةٌ لِمَقالَتِهم، وهو يَقْتضي أنَّهم قالوا هذه الكَلِمةَ استِنزالًا لإجابةِ طَلَبِهم، بأنْ أظهَروا أنَّهم يَخرُجون إلى غزْوِ خَيبَرَ كالأتْباعِ، أي: أنَّهم راضُونَ بأن يَكونوا في مُؤَخَّرةِ الجَيشِ، فيَكونَ حَظُّهم في مَغانِمِه ضَعيفًا [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/168). !
2- في قَولِه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ إثباتُ أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ [241] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/434). .
3- في قَولِه تعالى: كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ إثباتُ القَولِ للهِ تعالى [242] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/435). .
4- قال الله تعالى: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا على صيغةِ النَّفيِ بدَلًا عن قَولِه: (لا تتَّبِعونا) على صيغةِ النَّهيِ، وفيه مَعنًى لَطيفٌ، وهو: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنَى على إخبارِ اللهِ تعالى عنهم النَّفيَ؛ لِوُثوقِه وقَطْعِه بصِدْقِه، فجَزَم وقال: لَنْ تَتَّبِعُونَا، يعني: لو أَذِنتُكم ولو أردتُم واختَرتُم، لا يَتِمُّ لكم ذلك؛ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى [243] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/76). .
وفيه وَجهٌ آخَرُ: أنَّه ساقَه مَساقَ النَّفيِ، وإن كان المرادُ به النَّهيَ؛ لأنَّه مع كَونِه آكَدَ يكونُ عَلَمًا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ، وهو أزجَرُ وأدَلُّ على الاستِهانةِ [244] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/308). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا يدُلُّ على فَضيلةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ الدَّاعِينَ لجِهادِ أهلِ البَأسِ مِن النَّاسِ، وأنَّه تَجِبُ طاعتُهم في ذلك [245] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 793). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في هذه البِشارةِ فُرصةٌ لهم لِيَستَدرِكوا ما جَنَوه مِن التَّخَلُّفِ عن الحُدَيبِيَةِ، وكُلُّ ذلك دالٌّ على أنَّهم لم يَنسَلِخوا عن الإيمانِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/170). . وذلك على القولِ بأنَّهم لم يكونوا مِن المنافِقينَ.
7- قَولُه تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا استدَلَّ جماعةٌ مِنَ العلماءِ على صِحَّةِ إمامة أبي بكرٍ وعُمرَ بهذه الآيةِ؛ لأنَّه إن أُريدَ بها بنو حنيفةَ، فأبو بكرٍ دعا إلى قِتالِهم، وإن أُريدَ بها فارِسُ والرُّومُ، فعُمَرُ دعا إلى قِتالِهم، والآيةُ تُلزِمُهمُ اتِّباعَ طاعةِ مَن يَدْعوهم، وتَتَوعَّدُهم على التَّخلُّفِ بالعِقابِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/132). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (16/272). وممَّن استدلَّ  بالآيةِ على خلافةِ أبي بكرٍ ووجوبِ طاعتِه: الشَّافِعيُّ، والأشعريُّ، وابنُ حزمٍ، وغيرُهم. يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/505). وقال أيضًا: (ولا ريْبَ أنَّ أبا بكرٍ دعاهم إلى قتالِ المرتدِّينَ، ثمَّ قتالِ فارِسَ والرُّومِ، وكذلك عُمَرُ دعاهم إلى قتالِ فارِسَ والرُّومِ، وعُثمانُ دعاهم إلى قتالِ البَرْبَرِ ونحوِهم، والآيةُ تَتناوَلُ هذا الدُّعاءَ كلَّه. أمَّا تخصيصُها بمَن دعاهم بعدَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -كما قاله طائفةٌ مِن المُحتجِّينَ بها على خِلافةِ أبي بكرٍ- فخطأٌ، بل إذا قيل: تَتناوَلُ هذا وهذا كان هذا ممَّا يَسوغُ، ويمكِنُ أن يُرادَ بالآيةِ، ويُستدَلُّ عليه بها؛ ولهذا وجَب قتالُ الكفَّارِ مع كلِّ أميرٍ دعا إلى قتالِهم، وهذا أظهَرُ الأقوالِ في الآيةِ). ((منهاج السنة النبوية)) (8/510). . وذلك على بعضِ الأقوالِ في التَّفسيرِ.
8- قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ هذا حُكمُ هؤلاءِ المعاذيرِ في كُلِّ جِهادٍ إلى يومِ القيامةِ، إلَّا أن يَحزُبَ حازِبٌ في حَضرةٍ ما، فالفَرضُ مُتوَجِّهٌ بحَسَبِ الوُسعِ، ومعَ ارتِفاعِ الحَرَجِ فجائِزٌ لهم الغَزوُ، وأجْرُهم فيه مُضاعَفٌ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/133). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ فيه عَدَمُ وُجوبِ الجِهادِ على مَن له عُذرٌ؛ كالأعمى، والأعرَجِ، والمَريضِ [249] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 240). .
10- في قَولِه تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أنَّ الأحكامَ تدورُ مع عِلَلِها؛ فإذا وُجِدَتِ العِلَّةُ في الحُكمِ ثَبَتَ، وإنِ انتَفَتِ العِلَّةُ انتفَى الحُكمُ؛ لأنَّ نَفيَ الحَرَجِ عن هؤلاء إنَّما كان لهذه العِلَّةِ الَّتي فيهم، فإذا بَرِئَ المريضُ واستقامَ، ومشَى الأعرَجُ، ورَدَّ اللهُ البَصَرَ على الأعمَى؛ انتفَى هذا الحُكمُ في حقِّهم، وثَبَتَ في حقِّهِم ما يَثبُتُ في حقِّ السَّالِمينَ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النور)) (ص: 419). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا
- قَولُه: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ هذا استِئنافٌ ثانٍ بعدَ قَولِه: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/166، 167). [الفتح: 11] .
- وفي قَولِه: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ استُغْنِيَ عن وصْفِهم بأنَّهم مِن الأعرابِ؛ لأنَّ تَعريفَ الْمُخَلَّفُونَ تعريفُ العَهدِ، أي: المُخلَّفونَ المَذكورونَ [252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/167). .
- وأشعَرَ قَولُه: ذَرُونَا بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيَمنَعُهم مِن الخُروجِ معه إلى غَزْوِ خَيبرَ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/168). .
- قَولُه: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا أي: لا تَتَّبِعونَا؛ فإنَّه نفْيٌ في مَعْنى النَّهيِ للمُبالَغةِ [254] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/108). .
- وجِيءَ بـ (لَن) المُفيدةِ تأكيدَ النَّفيِ؛ لقَطْعِ أطماعِهم في الإذْنِ لهم باتِّباعِ الجَيشِ الخارجِ إلى خَيبرَ؛ ولذلك حُذِفَ مُتعلَّقُ تَتَّبِعُونَا؛ للعِلْمِ به [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/169). .
- في قَولِه: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالمُبالَغةِ؛ فالإضرابُ الأوَّلُ مَعروفٌ، وهو دَيْدَنُهم، ودَليلُ لَجاجِهم وتَمادِيهم في التَّعنُّتِ والإصرارِ على السَّفَهِ، أمَّا الإضرابُ الثَّاني فهو الَّذي تَتجسَّدُ فيه بَلادَتُهم وغَباؤُهم؛ لأنَّ الإضرابَ الأوَّلَ فيه نِسبةٌ إلى جَهلٍ في شَيءٍ مَخصوصٍ، وهو نِسبتُهم الحسَدَ إلى المُؤمِنينَ، والثَّانيَ فيه نِسبةٌ إلى جَهلٍ عامٍّ على الإطلاقِ [256] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/338)، ((تفسير البيضاوي)) (5/128، 129)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/169)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/242). .
2- قَولُه تعالَى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
- قَولُه: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ انتِقالٌ إلى طَمْأنةِ المُخلَّفينَ بأنَّهم سيَنالون مَغانِمَ في غَزواتٍ آتيةٍ؛ لِيَعلَموا أنَّ حِرمانَهم مِن الخُروجِ إلى خَيبرَ مع جَيشِ الإسلامِ ليس لانسِلاخِ الإسلامِ عنهم، ولكنَّه لحِكمةِ نَوطِ المُسبَّباتِ بأسبابِها على طَريقةِ حِكمةِ الشَّريعةِ؛ فهو حِرمانٌ خاصٌّ بوَقعةٍ مُعيَّنةٍ، وأنَّهم سيُدْعون بعدَ ذلك إلى قِتالِ قَومٍ كافرينَ كما تُدْعَى طَوائفُ المُسلِمينَ، فذِكْرُ هذا في هذا المَقامِ إدخالٌ للمَسرَّةِ بعدَ الحُزنِ؛ ليُزِيلَ عنهم انكسارَ خَواطِرِهم مِن جرَّاءِ الحِرْمانِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/170). . وذلك على القولِ بأنَّهم لم يكونوا مِن المنافِقينَ.
- قَولُه: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ كرَّرَ ذِكْرَهم بهذا الاسمِ؛ مُبالَغةً في الذَّمِّ، وإشعارًا بشَناعةِ التَّخلُّفِ، كأنَّ الذَّمَّ يَتوالَى عليهم كلَّما تَكرَّرَ ذِكْرُهم به، ووَسْمُهم بمِيسَمِه [258] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/129)، ((تفسير أبي السعود)) (8/109)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/242). .
- وكرَّرَ وَصْفَ مِنَ الْأَعْرَابِ هنا؛ ليَظهَرَ أنَّ هذه المَقالةَ قُصِدَ بها الَّذين نزَلَ فيهم قَولُه: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح: 11] ؛ فلا يَتَوهَّمَ السَّامِعونَ أنَّ المَعنيَّ بالمُخلَّفينَ كلُّ مَن يقَعُ منه التَّخلُّفُ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/171). .
- وأُسنِدَ سَتُدْعَوْنَ إلى المَجهولِ؛ لأنَّ الغرَضَ الأمْرُ بامتِثالِ الدَّاعي، وهو وَليُّ أمْرِ المسلِمينَ؛ بقَرينةِ قَولِه بعْدُ في تَذييلِه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الفتح: 17] ، ودَعوةُ خُلفاءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن بَعْدِه تَرجِعُ إلى دَعوةِ اللهِ ورسولِه؛ لقولِه: ((ومَن أطاعَ أميري فقد أطاعَني )) [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/171). والحديث أخرجه البخاريُّ (7137)، ومسلمٌ (1835) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
- وعُدِّيَ فِعلُ سَتُدْعَوْنَ بحرْفِ (إلى)؛ لإفادةِ أنَّها مُضمَّنةٌ معنَى المشْيِ. وهذا فرْقٌ دَقيقٌ بيْنَ تَعديةِ فِعلِ الدَّعوةِ بحرْفِ (إلى) وبيْنَ تَعديتِه باللَّامِ، نحوُ قَولِك: دعَوْتُ فلانًا لِما نابَني [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/171). .
- و(أوْ) في قَولِه: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ للتَّرديدِ بيْنَ الأمْرَينِ، والتَّنويعِ في حالةِ (تُدْعَون)، أي: تُدْعَونَ إلى قِتالِهم وإسلامِهم، وذلك يَستلزِمُ الإمعانَ في مُقاتَلتِهم، والاستِمرارَ فيها ما لم يُسلِموا [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/172). .
- وقولُه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا تَعييرٌ بالتَّولِّي الَّذي مَضَى، وتَحذيرٌ مِنِ ارْتكابِ مِثلِه في مِثلِ هذه الدَّعوةِ بأنَّه تَوَلٍّ يُوقِعُ في الإثمِ؛ لأنَّه تَوَلٍّ عن دَعوةٍ إلى واجبٍ، وهو القِتالُ للجِهادِ؛ فالتَّشبيهُ في قَولِه: كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ تَشبيهٌ في مُطلَقِ التَّولِّي؛ لقصْدِ التَّشويهِ، وليس تَشبيهًا فيما يَترتَّبُ على ذلك التَّولِّي [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/172). .
3- قَولُه تعالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا
- قَولُه: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] وبيْنَ جُملةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآيةَ، قُصِدَ منها نفْيُ الوَعيدِ عن أصحابِ الأعذارِ، تَنْصيصًا على العُذْرِ؛ للعِنايةِ بحُكْمِ التَّولِّي، والتَّحذيرِ منه [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/172). .
- وفي نفْيِ الحرَجِ عن كلٍّ مِن الطَّوائفِ المَعدودةِ مَزيدُ اعتناءٍ بأمْرِهم، وتَوسيعٌ لِدائرةِ الرُّخصةِ [265] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/109). .
- واقتصَرَ على الأصنافِ الثَّلاثةِ؛ لأنَّ العُذرَ إمَّا أن يَكونَ بإخلالٍ في عضوٍ، أو باختِلالٍ في القوَّةِ، والَّذي يُسبِّبُ إخلالَ العضوِ فإمَّا أن يَكونَ بسَببِ اختِلالٍ في العضوِ الَّذي به الوُصولُ إلى العدُوِّ، والانتِقالِ في مَواضعِ القِتالِ، أو في العضوِ الَّذي تَتِمُّ به فائدةُ الحصولِ في المعركةِ والوُصولِ، والأوَّلُ: هو الرِّجْلُ، والثَّاني: هو العَينُ [266] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/78). .
- وقُدِّم الأعمى على الأعرَجِ؛ لأنَّ عُذْرَ الأعمى يَستَمِرُّ ولو حَضَر القِتالَ، والأعرَجُ إنْ حضَرَ راكِبًا أو بطَريقٍ آخَرَ يَقدِرُ على القِتالِ بالرَّميِ وغَيرِه [267] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/79). .
- وقدَّمَ الآفَةَ في الآلةِ على الآفَةِ في القُوَّةِ؛ لأنَّ الآفَةَ في القُوَّةِ تَزولُ وتَطرَأُ، والآفَةَ في الآلةِ إذا طرَأَت لا تَزولُ؛ فإنَّ الأعمى لا يَعودُ بَصيرًا، فالعُذرُ في مَحَلِّ الآلةِ أتَمُّ [268] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/79). .
- وقولُه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا تَذييلٌ لجُملةِ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا [الفتح: 16] الآيةَ؛ لِمَا تَضمَّنَتْه مِن إيتاءِ الأجْرِ لِكُلِّ مُطيعٍ مِن المخاطَبينَ وغيرِهم، والتَّعذيبِ لكلِّ مُتَولٍّ كذلك، معَ ما في جُملةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مِن بَيانِ أنَّ الأجْرَ هو إدخالُ الجنَّاتِ، وهو يُفيدُ بطَريقِ المُقابَلةِ أنَّ التَّعذيبَ الأليمَ بإدخالِهم جهنَّمَ [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/172). .
- قَولُه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فصَّلَ الوعْدَ، وأجمَلَ الوَعيدَ؛ مُبالَغةً في الوَعْدِ؛ لسَبْقِ رَحمتِه، ثمَّ جبَرَ ذلك بالتَّكريرِ على سَبيلِ التَّعميمِ، فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا؛ إذ التَّرهيبُ هاهنا أنفَعُ مِن التَّرغيبِ [270] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/129). .
- قُرِئَ نُدْخِلْهُ ونُعَذِّبْهُ بنُونِ العظَمةِ على الالتِفاتِ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ، وقُرِئَ يُدْخِلْهُ يُعَذِّبْهُ بالياءِ التَّحتيةِ جرْيًا على أُسلوبِ الغَيبةِ بعَودِ الضَّميرِ إلى اسمِ الجَلالةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/172). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ بالنُّونِ فيهما، وقرأهما الباقون بالياءِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/248). .