موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (1-8)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْحَاقَّةُ: أي: القيامةُ الصَّادِقةُ، الواجِبةُ الوُقوعِ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ فيها حواقَّ الأُمورِ. وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((تفسير ابن جرير)) (23/206)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247)، ((تفسير القرطبي)) (18/257). .
بِالْقَارِعَةِ: أي: القيامةِ الَّتي تَقرَعُ قُلوبَ العِبادِ بالمَخافةِ، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها تَقرَعُ النَّاسَ بالأهوالِ الشَّديدةِ، وأصلُ (قرع): يدُلُّ على ضَربِ الشَّيءِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 380)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/72)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 412). .
بِالطَّاغِيَةِ: أي: بالصَّيحةِ الطَّاغيةِ الَّتي جاوَزَت مِقدارَ الصِّياحِ. والطَّاغي مِن كُلِّ شَيءٍ: ما تجاوَزَ القَدْرَ، وأصلُ (طغي): يدُلُّ على تجاوُزِ الحَدِّ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((تفسير ابن جرير)) (23/208)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 423). .
صَرْصَرٍ: أي: شَديدةِ البَردِ والصَّوتِ، والصَّرصَرُ: الرِّيحُ العاصِفةُ الَّتي يكونُ لها صَرصَرةٌ، أي: دَوِيٌّ في هُبوبِها؛ مِن شِدَّةِ سُرعةِ تنقُّلِها، والتَّضعيفُ فيه للمُبالَغةِ في شِدَّتِها، والصَّرصرُ: الباردةُ تُهلِكُ بشدَّةِ بردِها، مأخوذٌ مِن الصِّرِّ: وهو البَردُ الَّذي يَصُرُّ، أي: يَجمَعُ ويَقبِضُ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 388)، ((تفسير ابن جرير)) (10/279)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482)، ((تفسير القرطبي)) (17/135)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 368). .
عَاتِيَةٍ: أي: قاهِرَةٍ، بالِغةٍ مُنتهاها في القُوَّةِ والشِّدَّةِ، والعُتُوُّ: الخروجُ عن الطَّاعةِ، وأصلُ (عتو): يدُلُّ على استِكبارٍ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208). .
سَخَّرَهَا: أي: سلَّطها وأرْسَلها، والتَّسْخيرُ: سياقةٌ إلى الغَرَضِ المختصِّ قَهرًا، أو: استِعمالُ الشَّيءِ على وجهِ الاستِعلاءِ والاقتِدارِ، وأصلُ (سخر): يدُلُّ على استِذلالٍ [11] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/144)، ((تفسير السمعاني)) (6/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 402)، ((تفسير الرسعني)) (8/251). .
حُسُومًا: أي: تِباعًا، مُتوالِيةً، مَشائِيمَ، قاطِعةً لهم، والحُسومُ: التَّتابُعُ؛ إذا تتابَعَ الشَّيءُ فلم يَنقَطِعْ أوَّلُه عن آخِرِه، قيل له: حُسومٌ، والحَسمُ كذلك: القَطعُ بالاستِئصالِ، وأصلُ (حسم): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيء عن آخِرِه [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 201)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57)، ((البسيط)) للواحدي (22/139، 140)، ((المفردات)) للراغب (ص: 235)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 412)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 423). .
صَرْعَى: مَوْتى، وأصلُ (صرع): يدُلُّ على سُقوطِ شَيءٍ إلى الأرضِ [13] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/342)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483)، ((تفسير القرطبي)) (18/261)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 565، 567). .
أَعْجَازُ: أي: أصولُ، وأصلُ (عجز) هنا: يدُلُّ على مُؤَخَّرِ الشَّيءِ [14] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 433)، ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 547)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 398). .
خَاوِيَةٍ: أي: ساقِطةٍ، خالِيةِ الأجوافِ، وأصلُ (خوي): يدُلُّ على الخُلُوِّ والسُّقوطِ [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/225)، ((تفسير البغوي)) (8/208). .
بَاقِيَةٍ: أي: بقاءٍ أو أثَرٍ، وأصلُ (بقي): يدُلُّ على دَوامٍ [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/276)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 412). .

المعنى الإجماليُّ:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بذِكرِ القيامةِ، فقال: القيامةُ الصَّادِقةُ الوُقوعِ، الَّتي تَظهَرُ فيها الحقائِقُ، أيُّ شَيءٍ هِي؟ وما حالُها وصِفتُها؟ وما أدراك ما الحاقَّةُ وصِفَتُها وحالُها وأهوالُها؟!
 ثمَّ ذكَرَ اللهُ تعالى مَن كَذَّبَ بالقيامةِ، وما حَلَّ بهم بسَبَبِ التَّكذيبِ، فقال: كذَّبت ثَمودُ قَومُ صالحٍ، وعادٌ قَومُ هودٍ؛ بالقيامةِ!
فأمَّا ثَمودُ فأُهلِكوا بصَيحةٍ فَظيعةٍ تجاوَزَ صَوتُها مِقدارَ كُلِّ صَوتٍ، وأمَّا عادٌ فأُهلِكوا بريحٍ بارِدةٍ شَديدةِ الصَّوتِ، قد تجاوَزَت شِدَّتُها في ذلك كُلَّ عاصِفةٍ، فدمَّرَتْهم تَدميرًا، سلَّط اللهُ تلك الرِّيحَ عليهم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ مُتتابِعةً عليهم، فهلكوا! فتَرى قومَ عادٍ فيها ساقِطينَ على الأرضِ مَوتى، كأنَّهم جُذوعِ نَخلٍ ساقِطةٍ خالِيةِ الأجوافِ، فهل ترى لهم مِن بقاءٍ بعْدَ أن أبادَهم اللهُ تعالى؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

الْحَاقَّةُ (1).
أي: القيامةُ الثَّابِتةُ المَجيءِ، الصَّادِقةُ الوُقوعِ، الَّتي تَظهَرُ فيها الحقائِقُ، ويتحَقَّقُ فيها وَعدُ اللهِ تعالى ووَعيدُه [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/205)، ((الوسيط)) للواحدي (4/343)، ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). قال الواحدي: (الْحَاقَّةُ يعني: القيامةَ، في قَولِ جميعِ المفَسِّرينَ). ((الوسيط)) (4/343). وقال الزمخشري: (الْحَاقَّةُ السَّاعةُ الواجِبةُ الوُقوعِ، الثَّابتةُ المَجيءِ، الَّتي هي آتيةٌ لا ريْبَ فيها. أو الَّتي فيها حَواقُّ الأمورِ مِن الحِسابِ والثَّوابِ والعِقابِ. أو الَّتي تحقُّ فيها الأمورُ، أى: تُعرَفُ على الحقيقةِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/598). وقال الشوكاني: (قوله: الْحَاقَّةُ هي القيامةُ؛ لأنَّ الأمرَ يحِقُّ فيها، وهي تحِقُّ في نفْسِها مِن غيرِ شكٍّ). ((تفسير الشوكاني)) (5/333). وقال الثعلبي: (سُمِّيَتْ حاقَّةً؛ لأنَّها حقَّتْ فلا كاذِبةَ لها، ولأنَّ فيها حَواقَّ الأمورِ وحقائقَها، ولأنَّ فيها يحقُّ الجزاءُ على الأعمالِ، أي: يجِبُ). ((تفسير الثعلبي)) (10/25). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/205). وقال البقاعي: (الْحَاقَّةُ أي: السَّاعةُ الَّتي يُكذِّبُ بها هؤلاء وهي أثبَتُ الأشياءِ وأجلاها، فلا كاذِبةَ لها، ولا لشَيءٍ عنها، فلا بُدَّ مِن حُقوقِها؛ فهي ثابتةٌ في نفْسِها، ومِن إحضارِ الأمورِ فيها بحقائقِها، والمُجازاةِ عليها بالحقِّ الَّذي لا مِرْيةَ فيه لأحدٍ مِن الخَلقِ، فهي فاعِلةٌ بمعنَى مفعولٍ فيها، وهي فاعلةٌ أيضًا لأنَّها غالبةٌ لكلِّ خصْمٍ، مِن حاقَقْتُه فحَقَقْتُه أَحُقُّه، أي غالَبْتُه في الحقِّ فغَلَبْتُه فيه، فهي تحِقُّ الحقَّ ولا بُدَّ، فتَعلو الباطِلَ فتَدْمَغُه وتُزهِقُه، فتُحِقُّ العذابَ للمجرِمينَ، والثَّوابَ للمُسلمينَ، وكلُّ ما فيها دائرٌ على الثَّباتِ والبيانِ؛ لأنَّ ذلك مُقتضى الحِكمةِ، ولا يُرضى لأحدٍ مِن الحُكَّامِ تركُ رعيَّتِه بغيرِ إنصافٍ بيْنَهم على زعمِه، فكيف بالحكيمِ العليمِ؟!). ((نظم الدرر)) (20/338، 339). .
كما قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 97] .
وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا تهجَّدَ مِنَ اللَّيلِ قال: ((اللَّهمَّ رَبَّنا لك الحَمدُ، أنت قَيِّمُ السَّمَواتِ والأرضِ، ولك الحَمدُ أنت رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ، ولك الحَمدُ أنت نُورُ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فِيهنَّ، أنت الحَقُّ، وقَولُك الحَقُّ، ووعَدُك الحَقُّ، ولِقاؤك الحَقُّ، والجنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والسَّاعةُ حَقٌّ )) [18] رواه البخاري (7442) واللَّفظُ له، ومسلم (769). .
مَا الْحَاقَّةُ (2).
أي: أيُّ شَيءٍ تلك السَّاعةُ الحاقَّةُ، العَظيمةُ الشَّأنِ؟ وما حالُها وصِفتُها [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/205)، ((الوسيط)) للواحدي (4/343)، ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير الشوكاني)) (5/333). ؟
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3).
أي: وما الَّذي يُعَرِّفُك ما الحاقَّةُ وصِفتُها وحالُها وأهوالُها [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/207)، ((الوسيط)) للواحدي (4/343)، ((تفسير ابن عطية)) (5/356). قيل: الخِطابُ هنا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/421)، ((تفسير ابن جرير)) (23/207). وقيل: الخِطابُ لغَيرِ مُعَيَّنٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). أمَّا معنى الآيةِ فقيل: المرادُ: كأنَّك لَسْتَ تَعلَمُها؛ إذ لم تُعايِنْها حقيقةً، ولم تَرَ ما فيها مِن أهوالٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/ 343)، ((تفسير القرطبي)) (18/257)، ((تفسير الشوكاني)) (5/333). قال الزمخشري: (يعني: أنَّك لا عِلمَ لك بكُنْهِها ومدى عِظَمِها، على أنَّه مِن العِظَمِ والشِّدَّةِ بحيث لا يَبلُغُه دِرايةُ أحدٍ ولا وَهمُه، وكيفما قدَّرْتَ حالَها فهي أعظَمُ مِن ذلك!). ((تفسير الزمخشري)) (4/598). وقال القاسمي: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ قال بعضُهم: مِن عوائدِ العَربِ في مُحاوَراتِهم اللَّطيفةِ، إذا أرادوا تشويقَ المُخاطَبِ في مَعرفةِ شَيءٍ ودِرايتِه، أتَوا بإجمالٍ وتفصيلٍ، أيْ: أيُّ شَيءٍ أعلَمَ المُخاطَبَ ما هي؟ تأكيدًا لتَفخيمِ شأنِها، حتَّى كأنَّها خرَجَت مِن دائرةِ عِلمِ المُخاطَبِ، على معنَى: أنَّ عِظَمَ شَأنِها وما اشتمَلَت عليه مِن الأوصافِ: مِمَّا لم تَبلُغْه درايةُ أحدٍ مِن المُخاطَبينَ، ولم تَصِلْ إليه مَعرِفةُ أحدٍ مِن السَّامِعينَ، ولا أدركَه وَهمُه، وكيفما قَدَّرَ حالَها فهي وراءَ ذلك وأعظَمُ. ومنه يُعلَمُ أنَّ الاستفهامَ كِنايةٌ عن لازِمِه، مِن أنَّها لا تُعلَمُ، ولا يَصِلُ إليها دِرايةُ دارٍ، ولا تَبلُغُها الأفكارُ). ((تفسير القاسمي)) (9/308). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). ؟!
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الحاقَّةَ وفخَّمَها؛ أتْبَعَ ذِكرَ ذلك ذِكرَ مَن كذَّب بها، وما حلَّ بهم بسَببِ التَّكذيبِ؛ تَذكيرًا لأهلِ مكَّةَ، وتخويفًا لهم مِن عاقبةِ تَكذيبِهم [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/621). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تَعالى ذكَرَ نَموذجًا مِن أحوالِ القيامةِ الموجودةِ في الدُّنيا المشاهَدةِ فيها، وهو ما أحلَّه مِن العُقوباتِ البَليغةِ بالأُمَمِ العاتيةِ [22] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 882). .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4).
أي: كذَّبت قَبيلةُ ثَمودَ قَومِ صالحٍ، وقبيلةُ عادٍ قَومِ هودٍ؛ بالقيامةِ، فأنكَروا بَعْثَ النَّاسِ بعْدَ مَوتِهم، وقيامَهم للحِسابِ والجَزاءِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/207)، ((الوسيط)) للواحدي (4/343)، ((تفسير القرطبي)) (18/257)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/115). قال ابن جرير: (القارعةُ أيضًا اسمٌ مِن أسماءِ القيامةِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/207). وقال البِقاعي: (بِالْقَارِعَةِ أي: الَّتي تَقرَعُ، أي: تَضرِبُ ضَربًا قويًّا، وتَدُقُّ دقًّا عنيفًا شديدًا للأسماعِ وجميعِ العالَمِ، بانفِطارِ السَّمَواتِ، وتناثُرِ النَّيِّراتِ، ونَسْفِ الجِبالِ الرَّاسياتِ، فلا يَثبُتُ لذلك الهَولِ شَيءٌ!). ((نظم الدرر)) (20/342). !
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5).
أي: فأمَّا ثَمودُ فأُهلِكوا بالصَّيحةِ الطَّاغيةِ الفَظيعةِ الَّتي تجاوَزَ صَوتُها مِقدارَ كُلِّ صَوتٍ مُرتَفِعٍ، فرجَفَت منها الأرضُ والقُلوبُ، وماتوا مِن شِدَّتِها [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/208، 209)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1126)، ((تفسير ابن عطية)) (5/356، 357)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). قال ابن الجوزي: (فأمَّا بِالطَّاغِيَةِ ففيها ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحدُها: أنَّها طُغيانُهم وكُفرُهم، قاله ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، ومقاتلٌ، وأبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ. قال الزَّجَّاجُ: ومعنَى الطَّاغيةِ عندَ أهلِ اللُّغةِ: طُغيانُهم. و «فاعِلة» قد يأتي بمعنَى المصادرِ، نحو: عاقِبة، وعافِيَة. والثَّاني: بالصَّيحةِ الطَّاغيةِ، قاله قَتادةُ؛ وذلك أنَّها جاوزَتْ مِقْدارَ الصِّياحِ، فأهلَكَتْهم. والثَّالثُ: أنَّ الطَّاغيةَ: عاقِرُ النَّاقةِ، قاله ابنُ زَيدٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/328). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/213). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالطَّاغيةِ: الصَّيحةُ: ابنُ جرير، وابنُ عطية، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/209)، ((تفسير ابن عطية)) (5/356، 357)، ((تفسير ابن جزي)) (2/404)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 761)، ((تفسير العليمي)) (7/141)، ((تفسير الشوكاني)) (5/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بالطَّاغيةِ: بطُغْيانِهم وكُفرِهم وعِصْيانِهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وأبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسَّمَرْقَنْديُّ، والثعلبي، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/421)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/267)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 483)، ((تفسير السمرقندي)) (3/488)، ((تفسير الثعلبي)) (10/26)، ((تفسير البغوي)) (5/144)، ((تفسير الخازن)) (4/333). وقال الواحدي: (أكثَرُ أهلِ التَّفسيرِ والعربيَّةِ على أنَّ الطَّاغيةَ هاهنا بمعنى الطُّغْيانِ). ((البسيط)) (22/134). !
كما قال تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الذاريات: 43، 44].
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المُهلَكينَ بالصَّيحةِ مِن أجْلِ التَّكذيبِ بالقارعةِ؛ تحذيرًا لِمَن يكَذِّبُ بها؛ أتْبَعَه المُهلَكينَ بما هو سَبَبٌ لإنفاذِ الصَّيحةِ وتَقويتِها؛ دَلالةً على تمامِ القُدرةِ على كُلِّ نَوعٍ مِن العذابِ بالاختيارِ [25] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/342). .
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6).
أي: وأمَّا عادٌ فأُهلِكوا بريحٍ عَظيمةٍ بارِدةٍ شَديدةِ الصَّوتِ، قد تجاوَزَتْ شِدَّتُها في ذلك كُلَّ عاصِفةٍ أُخرَى، فدمَّرَتْهم تَدميرًا [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/209)، ((تفسير ابن عطية)) (5/357)، ((تفسير القرطبي)) (18/259)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). قال ابن عطية: («الصَّرْصَرُ» يحتَمِلُ أن يكونَ مِنَ الصِّرِّ، أي: البَردِ، وهو قَولُ قَتادةَ. ويحتمِلُ أن يكونَ مِن صَرَّ الشَّيءُ: إذا صَوَّتَ، فقال قومٌ: صَوتُ الرِّيحِ صَرصَرٌ، كأنَّه يَحكي هذَينِ الحَرفَينِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/357). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسَّمرقندي، والقُرطبي، وابنُ كثير، والشَّوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/421)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/214)، ((تفسير السمرقندي)) (3/488)، ((تفسير القرطبي)) (18/259)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208)، ((تفسير الشوكاني)) (5/334). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وعِكْرِمةُ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/210)، ((تفسير الماوردي)) (6/77)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/265). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني: الرازيُّ، والخازن، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/621)، ((تفسير الخازن)) (4/333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/77). وقال ابنُ جَريرٍ، ومكِّيٌّ، والقاسميُّ: هي شديدةُ العُصوفِ، مع شِدَّةِ بَرْدِها. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/209)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7663)، ((تفسير القاسمي)) (9/309). وقال البِقاعي: (هي في غايةِ ما يكونُ مِن شِدَّةِ البرْدِ والصَّوتِ، كأنَّه كُرِّرَ فيها البرْدُ حتَّى صار يحرِقُ بشِدَّتِه، والصَّوتُ حتَّى صار يُصِمُّ بقُوَّتِه). ((نظم الدرر)) (20/343). وجمَعَ ابنُ كثيرٍ بيْن المعاني السَّابقةِ في تفسيرِ قولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا [فصلت: 16]، فقال: (والحقُّ أنَّها متَّصِفةٌ بجَميعِ ذلك [أي: كَونِها شَديدةَ الهُبوبِ، باردةً، لها صَوتٌ]؛ فإنَّها كانت رِيحًا شَديدةً قويَّةً؛ لِتَكونَ عُقوبتُهم مِن جنسِ ما اغتَرُّوا به مِن قُواهم، وكانت باردةً شديدةَ البرْدِ جِدًّا، كقولِه تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، أي: باردةٍ شَديدةٍ، وكانت ذاتَ صَوتٍ مُزعِجٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/169). والعاتية: الَّتي جاوَزَتِ المِقْدارَ. قاله ابنُ الجوزيِّ، والرَّسْعَنيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/328)، ((تفسير الرسعني)) (8/251). وقال الزمخشري: (عَاتِيَةٍ شديدةِ العَصفِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/599). وقال القاسمي: (عَاتِيَةٍ أي: مُتجاوِزةٍ الحدَّ المعروفَ في الهُبوبِ والبُرودةِ). ((تفسير القاسمي)) (9/309). قال مكِّي: (وقولُه: عَاتِيَةٍ ليس هو مِن العُتُوِّ الَّذي هو العِصيانُ، إنَّما هو مِن العُتوِّ الَّذي هو بُلوغُ الشَّيءِ وانتهاؤُه في قوَّتِه وقَدْرِه). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (12/7662، 7663). وقال الماوَرْدي: (وفي تسميتِها عاتيةً وجْهانِ؛ أحدُهما: لأنَّها عتَتْ على القَومِ بلا رحمةٍ ولا رأفةٍ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: لأنَّها عتتْ على خُزَّانِها بإذْنِ الله). ((تفسير الماوردي)) (6/77). ممَّن قال الوجهِ الأوَّلِ: ابنُ جُزَي، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). وممَّن قال بالوجهِ الثَّاني: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/209)، ((تفسير السمرقندي)) (3/488)، ((تفسير الثعلبي)) (10/26)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير السمعاني)) (6/35)، ((تفسير البغوي)) (5/144)، ((تفسير العليمي)) (7/141). وقال ابن عطيَّة: («العاتية» معناه: الشَّديدةُ، المُخالِفةُ، فكانت الرِّيحُ عتَتْ على الخُزَّانِ بخِلافِها، وعتت على قومِ عادٍ بشِدَّتِها). ((تفسير ابن عطية)) (5/357). !
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت: 16].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 18 - 21].
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبورِ [27] الصَّبا: هي الرِّيحُ الشَّرقيَّةُ، والدَّبورُ: هي الرِّيحُ الغَربيَّةُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/197). ) [28] رواه البخاري (1035)، ومسلم (900). .
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7).
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا.
أي: سلَّط اللهُ تلك الرِّياحَ العاصِفةَ على عادٍ، وأرسَلَها عليهم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ كَوامِلَ، مَشائيمَ، تتابَعَت عليهم حتَّى هَلَكوا [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/211 - 214)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير ابن كثير)) (8/208)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/344، 345)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/117). قال الرازي: (قولُه تعالى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا قال مقاتلٌ: سلَّطها عليهم. وقال الزَّجَّاجُ: أقامها عليهم. وقال آخَرونَ: أرسَلَها عليهم. هذه هي الألفاظُ المنقولةُ عن المفسِّرينَ). ((تفسير الرازي)) (30/622). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/421)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/214). وقال الثعلبيُّ، والسمعانيُّ، وابن الجوزيِّ، والقرطبيُّ: سَخَّرَهَا: أرسَلَها وسلَّطها. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/26)، ((تفسير السمعاني)) (6/35)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/329)، ((تفسير القرطبي)) (18/259). قال البِقاعي: (قد لَزِمَ مِن زيادةِ عَدَدِ الأيَّامِ أنَّ الابتداءَ كان بها قَطْعًا، وإلَّا لم تكن اللَّيالي سَبْعًا؛ فتأمَّلْ ذلك). ((نظم الدرر)) (20/345). وقال الماوَرْديُّ: (وفي قولِه: حُسُومًا أربعةُ تَأويلاتٍ؛ أحدُها: مُتتابِعاتٍ. قاله ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، ومجاهدٌ، والفرَّاءُ... الثَّاني: مَشائيمَ. قاله عِكْرِمةُ والرَّبيعُ. الثَّالثُ: أنَّها حَسَمَت اللَّياليَ والأيَّامَ حتَّى استَوفَتْها؛ لأنَّها بدَأَت طُلوعَ الشَّمسِ مِن أوَّلِ يومٍ، وانقطَعَت مع غُروبِ الشَّمسِ مِن آخِرِ يومٍ. قالَه الضَّحَّاكُ. الرَّابعُ: لأنَّها حَسَمَتْهم ولم تُبْقِ منهم أحدًا. قاله ابنُ زَيدٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/77). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/180). ونسَبَ الواحديُّ والرَّازيُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ أنَّ حُسُومًا أي: مُتتابِعةً. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/138)، ((تفسير الرازي)) (30/622). قال الرازي: (وعلى هذا القولِ: حُسومٌ جمْعُ حاسمٍ، كشُهودٍ وقُعودٍ، ومعنى الحَسمِ في اللُّغةِ: القطعُ بالاستِئْصالِ... فلمَّا كانت تلك الرِّياحُ مُتتابِعةً ما سكنَتْ ساعةً حتَّى أتتْ عليهم، أشْبَهَ تَتابُعُها عليهم تَتابُعَ فِعلِ الحاسِمِ في إعادةِ الكَيِّ على الدَّاءِ كَرَّةً بعدَ أخرى حتَّى يَنحسِمَ). ((تفسير الرازي)) (30/622). وقال ابنُ فارسٍ: (أمَّا قولُه تعالى: وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فيُقالُ: هي المتتابعةُ. ويُقالُ: الحسومُ الشؤمُ. ويُقالُ: سُمِّيتْ حسومًا؛ لأنَّها حسَمت الخيرَ عن أهلِها. وهذا القولُ أقيسُ). ((مقاييس اللغة)) (2/57). وقال ابن كثير: (... حُسُومًا أي: كَوامِلَ، مُتَتابِعاتٍ، مَشائيمَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/208). وقيل: الحُسومُ مَصدَرٌ، كالشُّكورِ والكُفورِ، وعلى هذا التَّقديرِ فإمَّا أن يَنتصِبَ بفِعلِه مُضمَرًا، والتَّقديرُ: تَحسِمُ حُسومًا، يعني: تَستأصِلُ استِئْصالًا، أو يكونَ صِفةً، كقولِك: ذاتُ حُسومٍ، أو يكونَ مفعولًا له، أي: سخَّرَها عليهم للاستِئْصالِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/599)، ((تفسير الرازي)) (30/622). ويُنظر ما يأتي (ص: 30). !
كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19].
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى.
أي: فتَرى قومَ عادٍ في تلك اللَّيالي والأيَّامِ مَطروحينَ على الأرضِ مَوتى [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483)، ((تفسير ابن عطية)) (5/357)، ((تفسير القرطبي)) (18/261)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/345)، ((تفسير الشوكاني)) (5/335). قيل: الخِطابُ في قَولِه تعالى: فَتَرَى: لمحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/421)، ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7667). وقِيل: الخِطابُ لكلِّ مَن يَصلُحُ له، على تَقديرِ: أنَّه لو كان حاضرًا حينَئذٍ لَرأى ذلك، أي: فيَرى الرَّائي لو كان راءٍ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجُملةِ: الشَّوكانيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/335)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/118). !
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ.
أي: صارت جُثَثُهم بعْدَ هَلاكِهم مِثلَ جُذوعِ نَخلٍ ساقِطةٍ خالِيةِ الأجوافِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير ابن عطية)) (5/357)، ((تفسير القرطبي)) (18/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/118). ممَّن اختار أنَّ الأعجازَ هي الأصولُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، وابن الجوزي، والرازي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/422)، ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/214)، ((تفسير الثعلبي)) (10/27)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7667)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير السمعاني)) (6/35)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/329)، ((تفسير الرازي)) (30/622). قيل: المعنى: أنَّها صارت جُذوعًا باليةً لَيستْ لها رُؤوسٌ، قد بَقِيَت أصولُها، وذهَبَت أعناقُها. وممَّن ذهَبَ إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/422). وممَّن قال بنحْوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/266). وممَّن قال في الجُملةِ: إنَّ خَاوِيَةٍ أي: مُنقلِعةٍ ساقِطةٍ، قد اجتُثَّتْ مِن أُصولِها: السَّمرقنديُّ، والثَّعلبي، والبَغَوي، والخازنُ، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/489)، ((تفسير الثعلبي)) (10/27)، ((تفسير البغوي)) (5/145)، ((تفسير الخازن)) (4/334)، ((تفسير القاسمي)) (9/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (6/35). وقيل: المعنى: كأنَّهم أصولُ نَخلٍ خاليةِ الأجوافِ لا شَيءَ فيها. وممَّن قال بهذا: الرازيُّ، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/622)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 239)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22). ويُنظر أيضًا: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/ 7667). وقيل: الخاويةُ: الفارغةُ السَّاقطةُ، مُتآكِلةُ الأجوافِ، الَّتي قد خَلَت أعجازُها بِلًى وفَسادًا. وممَّن قال بهذا في الجُملةِ: ابنُ عطيَّةَ، والبِقاعيُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/357)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/345)، ((تفسير العليمي)) (7/141). قال الماوَرْدي: (في تَشبيهِهم بالنَّخلِ الخاويةِ ثَلاثةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: أنَّ أبدانَهم خَوَت مِن أرواحِهم، مِثلُ النَّخلِ الخاويةِ. قاله يحيى بنُ سلَّامٍ. الثَّاني: أنَّ الرِّيحَ كانت تَدخُلُ في أجوافِهم مِن الخَيْشومِ، وتَخرُجُ من أدبارِهم، فصاروا كالنَّخلِ الخاويةِ. حكاه ابنُ شَجَرةَ. الثَّالثُ: أنَّ الرِّيحَ قَطَعَت رُؤوسَهم عن أجسادِهم، فصاروا بقَطْعِها كالنَّخلِ الخاويةِ). ((تفسير الماوردي)) (6/78). .
كما قال تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20].
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8).
أي: فهل تَرى لكُفَّارِ عادٍ مِن بقاءٍ بعْدَ أن أبادَهم اللهُ تعالى [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير ابن كثير)) (8/209). الخِطابُ في قوله تعالى: تَرَى قيل: هو لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/215)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/ 7668). وقيل: هو لغيرِ مُعَيَّنٍ. وممَّن ذهب إلى هذا: البِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/346)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/119). قال ابنُ الجوزي: (قَولُه عزَّ وجلَّ: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: مِن بقاءٍ. قاله الفرَّاءُ. والثَّاني: مِن بَقيَّةٍ. قاله أبو عُبَيْدةَ. قال: وهو مَصدَرٌ، كالطَّاغيةِ. والثَّالثُ: هل ترَى لهم مِن أثَرٍ. قاله ابنُ قُتَيْبةَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/329). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الفرَّاءُ، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، والغَزْنَوي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/180)، ((تفسير ابن جرير)) (22/96)، ((تفسير الثعلبي)) (10/27)، ((باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن)) للغزنوي (3/1539)، ((تفسير العليمي)) (7/142). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ أبي زَمَنِين، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/267)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/27)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 405)، ((تفسير ابن كثير)) (8/209). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: مِن نفْسٍ باقِيَةٍ: السَّمْعانيُّ، والبغوي، والواحدي، والخازن. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/35)، ((تفسير البغوي)) (5/145)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير الخازن)) (4/334). ويجوزُ أنْ تكونَ بمعنى: فرقةٍ باقيةٍ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/142). ؟
كما قال تعالى: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 24، 25].
وقال سُبحانَه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1 - 3] عظَّم تعالى شأنَ القيامةِ وفَخَّمَه؛ فإنَّ لها شأنًا عَظيمًا، وهَولًا جَسيمًا [33] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 882). .
2- عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، قال: (ما في القرآنِ: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُخبِرْه، وما كان وَمَا أَدْرَاكَ فقد أخْبَره) [34] أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (23/207). ويُنظر ما يأتي في البلاغة (ص: 26). .
3- قال اللهُ تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، ولم يقُلْ: (صَرصَرةٍ)، كما قال: عَاتِيَةٍ، مع أنَّ الرِّيحَ مُؤنَّثةٌ؛ لأنَّ (الصَّرصَرَ) وَصفٌ مُختَصٌّ بالرِّيحِ، فأشبَهَ بابَ (حائِضٍ، وطامثٍ، وحامِلٍ)، بخِلافِ (عاتيةٍ)؛ فإنَّ غيرَ الرِّيحِ مِن الأسماءِ المُؤنَّثةِ يُوصَفُ به [35] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 578). .
4- قولُه تَعالى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ فيه أنَّه لم يَبْقَ لهم نَسْلٌ يُذْكَرون بهم، بلْ أُهلِكوا بأجْمَعِهم، وانقَطَعَ نَسْلُهم، وانقَطَعَ عنهم الذِّكرُ إلَّا بالسُّوءِ، وإلَّا كان يُرى لهم باقيةٌ، ففيه أنَّهم استُؤصِلوا، وعمَّ العَذابُ الكبيرَ والصَّغيرَ [36] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/168). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (30/623). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ
- قولُه: الْحَاقَّةُ هو صِيغةُ فاعِلٍ مِن: حقَّ الشَّيءُ؛ إذا ثبَتَ وُقوعُه، والهاءُ فيها لا تَخْلو عن أنْ تكونَ هاءَ تأنيثٍ؛ فتكونَ الْحَاقَّةُ وصْفًا لِمَوصوفٍ مُقدَّرٍ مُؤنَّثِ اللَّفظِ، أو أنْ تكونَ هاءَ مَصدرٍ، على وزْنِ (فاعِلةٍ)، مِثلُ الكاذِبةِ للكذِبِ، والخاتمةِ للختْمِ، والباقيةِ للبقاءِ، والطَّاغيةِ للطُّغيانِ، والنَّافلةِ، والخاطئةِ، وأصلُها تاءُ المرَّةِ، ولكنَّها لَمَّا أُريدَ المصدرُ قُطِعَ النَّظرُ عن المرَّةِ، مِثلُ كثيرٍ مِن المصادرِ الَّتي على وزْنِ فَعلةٍ غيرُ مُرادٍ به المرَّةُ، مِثلُ قولِهم: ضَربةُ لازِبٍ. فالحاقَّةُ إذنْ بمعنى الحقِّ، كما يُقالُ: مِن حاقِّ كذا، أي: مِن حقِّه. وعلى الوجهَينِ فيَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بالحاقَّةِ المعنى الوَصْفيَّ، أي: حادِثةٌ تَحِقُّ، أو حقٌّ يَحِقُّ. ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بها لَقبًا ليومِ القيامةِ، فلُقِّبَ بذلك يومُ القيامةِ؛ لأنَّه يومٌ مُحقَّقٌ وُقوعُه، كما قال تعالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] ، أو لأنَّه تَحِقُّ فيه الحقوقُ، ولا يُضاعُ الجزاءُ عليها؛ قال تعالَى: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] ، وقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. وإيثارُ هذه المادَّةِ وهذه الصِّيغةِ يَسمَحُ باندِراجِ مَعانٍ صالحةٍ بهذا المقامِ، فيكونُ ذلك مِن الإيجازِ البديعِ؛ لتَذهَبَ نُفوسُ السَّامِعينَ كلَّ مَذهبٍ ممْكنٍ مِن مَذاهبِ الهَولِ والتَّخويفِ بما يحِقُّ حُلولُه بهم، فيَجوزُ أيضًا أنْ تكونَ الْحَاقَّةُ وصْفًا لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: السَّاعةُ الحاقَّةُ، أو الواقعةُ الحاقَّةُ؛ فيَكونَ تَهديدًا بيومٍ أو وقْعةٍ يكونُ فيها عِقابٌ شَديدٌ للمُعرَّضِ بهم، مِثلُ يومِ بدْرٍ أو وَقْعتِه، وأنَّ ذلك حقٌّ لا رَيبَ في وُقوعِه، أو وصْفًا للكلمةِ، أي: كلمةُ الله الَّتي حقَّت على المشركين مِن أهلِ مكَّةَ، ويجوزُ أنْ تكونَ مَصدرًا بمعْنى الحقِّ، فيَصِحُّ أنْ يكونَ وصْفًا ليومِ القيامةِ بأنَّه حقٌّ، كقولِه تعالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 97]، أو وصْفًا للقرآنِ، كقولِه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] ، أو أُريدَ به الحقُّ كلُّه ممَّا جاء به القرآنُ مِن الحقِّ؛ قال تعالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] ، وقال: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/111 - 113). [الأحقاف: 30] . وقيل: الْحَاقَّةُ وصْفٌ حُذِف مَوصوفُه؛ للإيذانِ بكَمالِ ظُهورِ اتِّصافهِ بهذه الصِّفةِ، وجَرَيانِها مجرَى الاسمِ [38] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/21). .
- وافتتاحُ السُّورةِ بهذا اللَّفظِ تَرويعٌ للمشركين [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). .
- والاستِفهامُ مَا الْحَاقَّةُ مُستعمَلٌ في التَّهويلِ والتَّعظيمِ والتَّفخيمِ لشأنِها؛ لأنَّ الأمرَ العظيمَ مِن شأْنِه أنْ يُستفهَمَ عنه، فصار التَّعظيمُ والاستفهامُ مُتلازِمَينِ. ولك أنْ تَجعَلَ الاستِفهامَ إنكاريًّا، أي: لا يَدْري أحدٌ كُنْهَ هذا الأمرِ، والمقصودُ مِن ذلك على كِلا الاعتبارَينِ هو التَّهويلُ [40] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/343)، ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي حيان)) (10/254)، ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/113، 114)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/191). .
- وفي قولِه: مَا الْحَاقَّةُ وضْعُ الظاهرِ مَوضعَ المضمَرِ، فلمْ يقُلْ: ما هي؟ والفائدةُ منه زِيادةُ التَّهويلِ والتَّفخيمِ لشَأنِها [41] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير أبي حيان)) (10/254)، ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/113)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/191). .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مُكنًّى به عن تَعذُّرِ إحاطةِ عِلمِ النَّاسِ بكُنْهِ الحاقَّةِ ببَيانِ خُروجِها عن دائرةِ عُلومِ المخلوقاتِ؛ لأنَّ الشَّيءَ الخارجَ عن الحدِّ المألوفِ لا يُتصوَّرُ بسُهولةٍ، فمِن شأْنِه أنْ يُتساءلَ عن فَهْمِه [42] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي حيان)) (10/254)، ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/113)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/191). .
- جُملةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ مَعطوفةٌ على ما قبْلَها مِن الجُملةِ الواقعةِ خبَرًا لقولِه تعالَى: الْحَاقَّةُ، مُؤكِّدةٌ لهَولِها [43] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). .
- ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً بيْنَ جُملةِ مَا الْحَاقَّةُ وجُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة: 4] ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). .
- وتَركيبُ (ما أدراكَ كذا) ممَّا جَرَى مَجرى المثَلِ، فلا يُغيَّرُ عن هذا اللَّفظِ، وأصلُ الكلامِ قبْلَ التَّركيبِ بالاستِفهامِ أنْ تقولَ: دريتُ الحاقَّةَ أمرًا عظيمًا، ثمَّ صار: أدراني فُلانٌ الحاقَّةَ أمْرًا عظيمًا [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/113). .
- واستِعمالُ (ما أدْراك) غيرُ استعمالِ (ما يُدْريك) في قولِه تعالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] ، وقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورى: 17]، فمَفعولُ (ما أدراك) مُحقَّقُ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للتَّهويلِ، ومَفعولُ (ما يُدْريك) غيرُ مُحقَّقِ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للإنكارِ، وهو في معْنى نفْيِ الدِّرايةِ. وكلُّ مَوضعٍ ذُكِرَ في القرآنِ (وما أدراك) فقدْ عُقِّبَ ببَيانِه؛ نحوُ قولِ الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 10، 11]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 2، 3]، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار: 18، 19]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [46] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 313)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/114). .
- ولَمَّا كان ذلك كلُّه أمرًا رائعًا للعقولِ، هازًّا للقلوبِ، مُزعِجًا للنُّفوسِ، وكان رُبَّما تَوقَّفَ فيه الجِلْفُ الجافي؛ أكَّدَ أمْرَه وزادَ في تَهويلِه، وأطْنَبَ في تَفخيمِه وتَبجيلِه؛ إشارةً إلى أنَّ هَوْلَه يَفوتُ الوصفُ بقولِه، مُعلِمًا أنَّه ممَّا يَحِقُّ له أنْ يُستفهَمَ عنه، سائقًا له بأداةِ الاستفهامِ مُرادًا بها التَّعظيمُ للشَّأنِ، وأنَّ الخبَرَ ليس كالعِيانِ مَا الْحَاقَّةُ؛ فأداةُ الاستفهامِ مُبتدأٌ أُخبِرَ عنه بالحاقَّةِ، وهما خبَرٌ عن الأُولى، الرَّابطُ تَكريرُ المُبتدَأِ بلَفْظِه، وأكثَرُ ما يكونُ ذلك إذا أُرِيدَ معْنى التَّعظيمِ والتَّهويلِ [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/339). .
وقيل: مُقتضَى التَّحقيقِ أنْ تكونَ (ما) الاستِفهاميَّةُ في قولِه: مَا الْحَاقَّةُ خبَرًا لِما بعْدَها؛ فإنَّ مَناطَ الإفادةِ بَيانُ أنَّ الحاقَّةَ أمْرٌ بَديعٌ، وخَطْبٌ فَظيعٌ، كما يُفيدُه كونُ (مَا) خبَرًا، لا بَيانُ أنَّ أمرًا بَديعًا الحاقَّةُ، كما يُفيدُه كونُها مُبتدَأً، وكونُ الْحَاقَّةُ خبرًا [48] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/21). .
2- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ
- قولُه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ استِئنافٌ مَسوقٌ لإعلامِ بَعضِ أحوالِ الحاقَّةِ لهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إثرَ تَقريرِ أنَّه ما أدْراهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/189). . فعلى أنَّ قولَه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] نِهايةُ كَلامٍ؛ فمَوقعُ قولِه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ وما اتَّصَلَ به استِئنافٌ، وهو تَذكيرٌ بما حَلَّ بثَمودَ وعادٍ لتَكذيبِهم بالبعثِ والجزاءِ؛ تَعريضًا بالمشركينَ مِن أهلِ مكَّةَ بتَهديدِهم أنْ يَحِقَّ عليهم مِثلُ ما حلَّ بثَمودَ وعادٍ؛ فإنَّهم سواءٌ في التَّكذيبِ بالبعثِ، وعلى هذا يكونُ قولُه: الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] إلخ تَوطئةً له وتمْهيدًا لهذه الموعظةِ العظيمةِ؛ استِرهابًا لنُفوسِ السَّامعينَ. وإنْ جعَلْتَ الكلامَ مُتَّصلًا بجُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ، وعيَّنْتَ لَفظَ الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ليومِ القيامةِ؛ كانت هذه الجُملةُ خبَرًا ثالثًا عن الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ، والمعنى: الحاقَّةُ كذَّبَتْ بها ثَمودُ وعادٌ، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُؤتَى بضَميرِ الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ، فيُقالُ: كذَّبَتْ ثَمودُ وعادٌ بها، فعُدِلَ إلى إظهارِ اسمِ (القارعةِ)؛ لأنَّ (القارعة) مُرادِفةُ الحاقَّةِ -في أحدِ مَحملَيِ لَفظِ الْحَاقَّةُ-، وهذا كالبَيانِ للتَّهويلِ الَّذي في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ[الحاقة: 3] ، ولتَدُلَّ (القارعة) على معْنى القرْعِ، زِيادةً في وصْفِ شِدَّتِها، وتَشديدًا لِهَوْلِها [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/608)، ((تفسير أبي حيان)) (10/254)، ((تفسير أبي السعود)) (9/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/114، 115). .
- قولُه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ابتُدِئَ بثَمودَ وعادٍ في الذِّكرِ مِن بيْنِ الأُمَمِ المكذِّبةِ؛ لأنَّهما أكثرُ الأُمَمِ المكذِّبةِ شُهرةً عندَ المشركينَ مِن أهلِ مكَّةَ؛ لأنَّهما مِن الأُمَمِ العربيَّةِ، ولأنَّ دِيارَهما مُجاورةٌ شمالًا وجنوبًا [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/115). .
- القارعةُ، أي: الَّتي تُصيبُ النَّاسَ بالأهوالِ والأفزاعِ، أو الَّتي تُصيبُ الموجوداتِ بالقَرْعِ؛ مِثلُ دكِّ الجبالِ، وخسْفِ الأرض، وطمْسِ النُّجومِ، وكُسوفِ الشَّمسِ كُسوفًا لا انجلاءَ له، فشُبِّهَ ذلك بالقرْعِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/115). .
3- قولُه تعالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ابتُدِئَ بذِكرِ ثَمودَ مِن حيثُ إنَّ بلادَهم أقرَبُ إلى قُرَيشٍ، وواعظُ القُربِ أكبَرُ، وإهلاكهم بالصَّيحةِ، وهي أشْبَهُ بصَيحةِ النَّفخِ في الصُّورِ، المُبَعْثِرِ لِما في القُبورِ [53] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/342). . أو لأنَّ العذابَ الَّذي أصابَهم مِن قَبيلِ القرْعِ؛ إذ أصابَتْهم الصَّيحةُ الَّتي أُطلِق عليها الصَّاعِقةُ في بعضِ الآياتِ، ولأنَّ الكلامَ على مَهلكِ عادٍ أنسَبُ، فأُخِّرَ لذلك أيضًا [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). ، فاللهُ تعالى ذكَرَ تفصيلَ إهلاكِ عادٍ بخِلافِ ثَمودَ، فلعلَّ تأخيرَ ذِكْرِهم لِما تَبِعَه مِن تفصيلٍ.
- وجِيءَ في الخبرِ عن هاتَينِ الأُمَّتينِ -ثَمودَ وعادٍ- بطَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ [55] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلَفظٍ يشتملُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا. والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111]، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى، وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المرتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ؛ لأنَّهما اجتَمَعتا في مُوجِبِ العُقوبةِ، ثمَّ فُصِّلَ ذِكرُ عَذابِهما [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). .
- وإنَّما سُمِّيت الصَّيحةُ بالطَّاغيةِ؛ لأنَّها كانتْ مُتجاوِزةً الحالَ المُتعارَفَ في الشِّدَّةِ، فشُبِّهَ فِعلُها بفِعلِ الطَّاغي المُتجاوِزِ الحدَّ في العُدوانِ والبطْشِ [57] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/598)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي حيان)) (10/254)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). .
4- قولُه تعالَى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ
- قولُه: عَاتِيَةٍ أصْلُ العُتُوِّ والعُتِيِّ: شِدَّةُ التَّكبُّرِ، فعُبِّرَ به عن الشَّيءِ المُتجاوِزِ الحدَّ المعتادَ؛ تَشبيهًا بالتَّكبُّرِ الشَّديدِ في عدَمِ الطَّاعةِ، والجرْيِ على المعتادِ [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/599)، ((تفسير أبي حيان)) (10/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/116). .
قيل: عَتَتْ على خُزَّانِها، فخَرَجَت بلا كيلٍ ولا وزْنٍ، وهذا كِنايةٌ عن الشِّدَّةِ والإفراطِ فيها، لا أنَّها عَتَت على الخُزَّانِ حقيقةً [59] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/599)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/610)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22). .
5- قولُه تعالَى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
- قولُه: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا استِئنافٌ جِيءَ به بَيانًا لكَيفيَّةِ إهلاكِهم بالرِّيحِ. وقيل: هو استِئنافٌ أو صِفةٌ جِيءَ به لنفْيِ ما يُتوهَّمُ مِن أنَّها كانتْ مِن اتِّصالاتٍ فَلَكيَّةٍ؛ إذ لو كانتْ لَكان هو المقدِّرَ لها والمسبِّبَ [60] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22). .
- والتَّسخيرُ: الغصْبُ على عمَلٍ، وعُبِّرَ به عن تَكوينِ الرِّيحِ الصَّرصرِ تَكوينًا مُتجاوِزًا المُتعارَفَ في قوَّةِ جِنسِها، فكأنَّها مُكرَهةٌ عليه، وعُلِّقَ به عَلَيْهِمْ؛ لأنَّه ضُمِّنَ معْنى أرْسَلَها [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/117). .
- و(حُسومٌ) يَجوزُ أنْ يكونَ جمْعَ حاسمٍ، مِثلُ قُعودٍ جمْعُ قاعدٍ، وشُهودٍ جمْعُ شاهدٍ، غُلِّبَ فيه الأيَّامُ على اللَّيالي؛ لأنَّها أكثَرُ عَددًا؛ إذ هي ثَمانيةُ أيَّامٍ، وهذا له مَعانٍ؛ أحدُها: أنْ يكونَ المعنى: يُتابِعُ بعضُها بعضًا، أي: لا فصْلَ بيْنَها. وقيل: الحُسومُ مُشتَقٌّ مِن حَسْمِ الدَّاءِ بالمِكواةِ؛ إذ يُكوى ويُتابَعُ الكَيُّ أيَّامًا. المعْنى الثَّاني: أنْ يكونَ مِن الحسْمِ، وهو القطْعُ، أي: حاسِمةً مُستأصِلةً. ومنه سُمِّيَ السَّيفُ حُسامًا؛ لأنَّه يَقطَعُ، أي: حسَمَتْهم فلم تُبْقِ منهم أحدًا، وعلى هذَينِ المعْنيَينِ فهو صِفةٌ لـ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، أو حالٌ منها. المعْنى الثَّالثُ: أنْ يكونَ حُسومٌ مَصدرًا، كالشُّكورِ والدُّخولِ، فيَنتصِبَ على المفعولِ مِن أجْلِه، وعامِلُه سَخَّرَهَا، أي: سخَّرَها عليهم لاستِئْصالِهم، وقطْعِ دَابِرِهم. وكلُّ هذه المعاني صالحٌ لأنْ يُذكَرَ مع هذه الأيَّامِ، فإيثارُ هذا اللَّفظِ مِن تَمامِ بَلاغةِ القرآنِ وإعجازِه [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/599)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي حيان)) (10/255)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/117)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/190). .
- قولُه: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ الرُّؤيةُ عِلميَّةٌ لا بَصريَّةٌ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أبْصَرَهم صَرْعى فيها ولا رآهُم، فصار المعْنى: فتَعلَمُهم صَرعى فيها بإعلامِنا حتَّى كأنَّك تُشاهِدُهم [63] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 578، 579). .
أو الخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ، أي: فيَرى الرَّائي لو كان راءٍ، وهذا أُسلوبٌ في حِكايةِ الأمورِ العظيمةِ الغائبةِ؛ تُستحضَرُ فيه تلك الحالةُ كأنَّها حاضرةٌ، ويُتخيَّلُ في المقامِ سامعٌ حاضرٌ شاهدٌ مُهْلَكَهم أو شاهَدَهم بعْدَه، وكِلا المُشاهدتَينِ مُنتَفٍ في هذه الآيةِ، فيُعتبَرُ خِطابًا فَرَضيًّا، فليس هو بالْتِفاتٍ [64] الالتفات: هو نقلُ الكلامِ مِن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخَرَ؛ تطريةً واستِدرارًا للسَّامعِ، وتجديدًا لنَشاطِه، وصيانةً لخاطِرِه مِن المَلالِ والضَّجرِ بدَوامِ الأسلوبِ الواحدِ على سمعِه؛ كالانتِقالِ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، أو تغييرِ ضميرِ المتكلِّمِ نفْسِه: تارةً بجَعلِه تاءً على جهةِ الإخبارِ عن نفْسِه، وتارةً يجعله كافًا، فيجعلُ نفْسَه مُخاطَبًا، وتارةً يجعلُه هاءً، فيُقيمُ نفْسَه مُقامَ الغائبِ. وشرطُه أن يكونَ الضَّميرُ في المُتنقَلِ إليه عائدًا في نفْسِ الأمرِ إلى الملتفِّ عنه، وللمُتكلِّمِ والخِطابِ والغَيبةِ مقاماتٌ، والمشهورُ أنَّ الالتفاتَ هو الانتقالُ مِن أحَدِها إلى الآخَرِ بعدَ التَّعبيرِ بالأوَّلِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 200، 201)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/314)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 156). ، ولا هو مِن خِطابِ غيرِ المعيَّنِ [65] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/118). .
- والتَّعريفُ في الْقَوْمَ للعهْدِ الذِّكريِّ. والقومُ: القَبيلةُ، وهذا تَصويرٌ لهلاكِ جَميعِ القبيلةِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/118). .
- قولُه: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ تَشبيهٌ مُرسَلٌ [67] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذِي وصْفٍ في وَصْفِه. وقيل: هو إثباتُ حُكمٍ مِن أحكامٍ المُشبَّهِ به للمُشبَّهِ. ويَنقسِمُ التشبيهُ عِدَّةَ تَقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّة؛ فمنه: التَّشبيهُ البليغُ: وهو ما كانتْ أداةُ التَّشبيهِ فيه مَحذوفةً. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ باعتبارٍ آخَرَ إلى مُؤكَّدٍ: وهو ما حُذِفتْ فيه الأداةُ، نحو: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88]، أي: مِثلَ مرِّ السحابِ. ومُرْسَلٍ: وهو ما لم تُحذَفْ فيه الأداةُ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ؛ فقد شبَّهَهم بالجُذوعِ لطُولِ قاماتِهم [68] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/191، 192). .
أو وجْهُ التَّشبيهِ بها: أنَّ الَّذين يَقطَعون النَّخلَ إذا قَطَعوه للانتِفاعِ بأعوادِه في إقامةِ البيوتِ للسُّقُفِ والعِضاداتِ، انْتَقَوا منه أصولَه؛ لأنَّها أغلَظُ وأملأُ، وتَرَكوها على الأرضِ حتى تَيبَسَ وتَزولَ رُطوبتُها، ثمَّ يَجعَلوها عَمَدًا وأساطينَ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/118). .
- ووصْفُ نَخْلٍ بأنَّها خاويةٌ باعتِبارِ إطلاقِ اسمِ النَّخلِ على مكانِه بتَأويلِ الجنَّةِ أو الحديقةِ، ففيه استِخدامٌ [70] الاستخدام: هو ذِكرُ اللَّفظِ بمعنًى وإعادةُ ضميرٍ أو إشارةٍ عليه بمعنًى آخَرَ، أو إعادةُ ضَميرَينِ عليه تُريدُ بثانيهما غيرَ ما تُريدُ بأوَّلِهما. يُنظر: ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 301)، ((علوم البلاغة: البيان، المعاني، البديع)) للمراغي (ص: 239)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/498)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/401). ، والمعْنى: خاليةٌ مِن النَّاسِ، وهذا الوصْفُ لتَشويهِ المشبَّهِ به بتَشويهِ مكانِه، ولا أثَرَ له في المشابَهةِ، وأحسَنُه ما كان فيه مُناسَبةٌ للغرَضِ مِن التَّشبيهِ كما في الآيةِ؛ فإنَّ لهذا الوصْفِ وقْعًا في التَّنفيرِ مِن حالتِهم؛ ليُناسِبَ الموعظةَ والتَّحذيرَ مِن الوُقوعِ في مِثلِ أسبابِها [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/119). .
6- قولُه تعالَى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ تَفريعٌ على مَجموعِ قِصَّتَيْ ثَمودَ وعادٍ، فهو فَذْلَكةٌ [72] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلَكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤه، والفراغُ منه. يُنظر: ((تاج العروس)) (27/293) للزَّبِيدي، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما فُصِّلَ مِن حالِ إهلاكِهما، وذلك مِن قَبيلِ الجمْعِ بعْدَ التَّفريقِ، فيكونُ في الآياتِ جمْعٌ، ثمَّ تَفريقٌ، ثمَّ جمْعٌ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/119). .
- والاستِفهامُ معْناهُ النَّفيُ، أي: لا تَرى لهم [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/119)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/191). .
- والباقيةُ: إمَّا اسمُ فاعلٍ على بابِه، والهاءُ: إمَّا للتَّأنيثِ بتأْويلِ (نفْسٍ)، أي: فما تُرى منهم نفْسٌ باقيةٌ، أو بتأْويلِ (فِرقةٍ)، أي: ما تُرى فِرقةٌ منهم باقيةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ بَاقِيَةٍ مَصدرًا على وزْنِ فاعلةٍ، أي: فما ترَى لهم بَقاءً، أي: هَلَكوا على بَكرةِ أبِيهم [75] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/239)، ((تفسير أبي حيان)) (10/255)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/119). .
- واللَّامُ في قولِه: لَهُمْ يَجوزُ أنْ تُجعَلَ لشِبْهِ المِلْكِ، أي: باقيةٍ مِن أجْلِ النَّفعِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اللَّامُ بمعْنى (مِن)، مِثلُ قولِهم: سمِعْتُ له صُراخًا. ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامَ الَّتي تُنْوى في الإضافةِ إذا لم تكُنِ الإضافةُ على معْنى (مِن)، والأصلُ: فهلْ تَرى باقيَتَهم، فلمَّا قُصِدَ التَّنصيصُ على عُمومِ النَّفيِ، واقْتَضى ذلك جلْبَ (مِن) الزَّائدةِ؛ لَزِمَ تَنكيرُ مَدخولِ (مِن) الزَّائدةِ، فأُعطِيَ حقُّ معْنى الإضافةِ بإظهارِ اللَّامِ الَّتي الشَّأنُ أنْ تُنْوى، كما في قولهِ تعالَى: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء: 5] ؛ فإنَّ أصْلَه: عِبادَنا [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/119، 120). .