موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (1-8)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْحَاقَّةُ: أي: القيامةُ الصَّادِقةُ، الواجِبةُ الوُقوعِ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ فيها حواقَّ الأُمورِ. وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه .
بِالْقَارِعَةِ: أي: القيامةِ الَّتي تَقرَعُ قُلوبَ العِبادِ بالمَخافةِ، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها تَقرَعُ النَّاسَ بالأهوالِ الشَّديدةِ، وأصلُ (قرع): يدُلُّ على ضَربِ الشَّيءِ .
بِالطَّاغِيَةِ: أي: بالصَّيحةِ الطَّاغيةِ الَّتي جاوَزَت مِقدارَ الصِّياحِ. والطَّاغي مِن كُلِّ شَيءٍ: ما تجاوَزَ القَدْرَ، وأصلُ (طغي): يدُلُّ على تجاوُزِ الحَدِّ .
صَرْصَرٍ: أي: شَديدةِ البَردِ والصَّوتِ، والصَّرصَرُ: الرِّيحُ العاصِفةُ الَّتي يكونُ لها صَرصَرةٌ، أي: دَوِيٌّ في هُبوبِها؛ مِن شِدَّةِ سُرعةِ تنقُّلِها، والتَّضعيفُ فيه للمُبالَغةِ في شِدَّتِها، والصَّرصرُ: الباردةُ تُهلِكُ بشدَّةِ بردِها، مأخوذٌ مِن الصِّرِّ: وهو البَردُ الَّذي يَصُرُّ، أي: يَجمَعُ ويَقبِضُ .
عَاتِيَةٍ: أي: قاهِرَةٍ، بالِغةٍ مُنتهاها في القُوَّةِ والشِّدَّةِ، والعُتُوُّ: الخروجُ عن الطَّاعةِ، وأصلُ (عتو): يدُلُّ على استِكبارٍ .
سَخَّرَهَا: أي: سلَّطها وأرْسَلها، والتَّسْخيرُ: سياقةٌ إلى الغَرَضِ المختصِّ قَهرًا، أو: استِعمالُ الشَّيءِ على وجهِ الاستِعلاءِ والاقتِدارِ، وأصلُ (سخر): يدُلُّ على استِذلالٍ .
حُسُومًا: أي: تِباعًا، مُتوالِيةً، مَشائِيمَ، قاطِعةً لهم، والحُسومُ: التَّتابُعُ؛ إذا تتابَعَ الشَّيءُ فلم يَنقَطِعْ أوَّلُه عن آخِرِه، قيل له: حُسومٌ، والحَسمُ كذلك: القَطعُ بالاستِئصالِ، وأصلُ (حسم): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيء عن آخِرِه .
صَرْعَى: مَوْتى، وأصلُ (صرع): يدُلُّ على سُقوطِ شَيءٍ إلى الأرضِ .
أَعْجَازُ: أي: أصولُ، وأصلُ (عجز) هنا: يدُلُّ على مُؤَخَّرِ الشَّيءِ .
خَاوِيَةٍ: أي: ساقِطةٍ، خالِيةِ الأجوافِ، وأصلُ (خوي): يدُلُّ على الخُلُوِّ والسُّقوطِ .
بَاقِيَةٍ: أي: بقاءٍ أو أثَرٍ، وأصلُ (بقي): يدُلُّ على دَوامٍ .

المعنى الإجماليُّ:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بذِكرِ القيامةِ، فقال: القيامةُ الصَّادِقةُ الوُقوعِ، الَّتي تَظهَرُ فيها الحقائِقُ، أيُّ شَيءٍ هِي؟ وما حالُها وصِفتُها؟ وما أدراك ما الحاقَّةُ وصِفَتُها وحالُها وأهوالُها؟!
 ثمَّ ذكَرَ اللهُ تعالى مَن كَذَّبَ بالقيامةِ، وما حَلَّ بهم بسَبَبِ التَّكذيبِ، فقال: كذَّبت ثَمودُ قَومُ صالحٍ، وعادٌ قَومُ هودٍ؛ بالقيامةِ!
فأمَّا ثَمودُ فأُهلِكوا بصَيحةٍ فَظيعةٍ تجاوَزَ صَوتُها مِقدارَ كُلِّ صَوتٍ، وأمَّا عادٌ فأُهلِكوا بريحٍ بارِدةٍ شَديدةِ الصَّوتِ، قد تجاوَزَت شِدَّتُها في ذلك كُلَّ عاصِفةٍ، فدمَّرَتْهم تَدميرًا، سلَّط اللهُ تلك الرِّيحَ عليهم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ مُتتابِعةً عليهم، فهلكوا! فتَرى قومَ عادٍ فيها ساقِطينَ على الأرضِ مَوتى، كأنَّهم جُذوعِ نَخلٍ ساقِطةٍ خالِيةِ الأجوافِ، فهل ترى لهم مِن بقاءٍ بعْدَ أن أبادَهم اللهُ تعالى؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

الْحَاقَّةُ (1).
أي: القيامةُ الثَّابِتةُ المَجيءِ، الصَّادِقةُ الوُقوعِ، الَّتي تَظهَرُ فيها الحقائِقُ، ويتحَقَّقُ فيها وَعدُ اللهِ تعالى ووَعيدُه .
كما قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 97] .
وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا تهجَّدَ مِنَ اللَّيلِ قال: ((اللَّهمَّ رَبَّنا لك الحَمدُ، أنت قَيِّمُ السَّمَواتِ والأرضِ، ولك الحَمدُ أنت رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ، ولك الحَمدُ أنت نُورُ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فِيهنَّ، أنت الحَقُّ، وقَولُك الحَقُّ، ووعَدُك الحَقُّ، ولِقاؤك الحَقُّ، والجنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والسَّاعةُ حَقٌّ )) .
مَا الْحَاقَّةُ (2).
أي: أيُّ شَيءٍ تلك السَّاعةُ الحاقَّةُ، العَظيمةُ الشَّأنِ؟ وما حالُها وصِفتُها ؟
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3).
أي: وما الَّذي يُعَرِّفُك ما الحاقَّةُ وصِفتُها وحالُها وأهوالُها ؟!
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الحاقَّةَ وفخَّمَها؛ أتْبَعَ ذِكرَ ذلك ذِكرَ مَن كذَّب بها، وما حلَّ بهم بسَببِ التَّكذيبِ؛ تَذكيرًا لأهلِ مكَّةَ، وتخويفًا لهم مِن عاقبةِ تَكذيبِهم .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تَعالى ذكَرَ نَموذجًا مِن أحوالِ القيامةِ الموجودةِ في الدُّنيا المشاهَدةِ فيها، وهو ما أحلَّه مِن العُقوباتِ البَليغةِ بالأُمَمِ العاتيةِ .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4).
أي: كذَّبت قَبيلةُ ثَمودَ قَومِ صالحٍ، وقبيلةُ عادٍ قَومِ هودٍ؛ بالقيامةِ، فأنكَروا بَعْثَ النَّاسِ بعْدَ مَوتِهم، وقيامَهم للحِسابِ والجَزاءِ !
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5).
أي: فأمَّا ثَمودُ فأُهلِكوا بالصَّيحةِ الطَّاغيةِ الفَظيعةِ الَّتي تجاوَزَ صَوتُها مِقدارَ كُلِّ صَوتٍ مُرتَفِعٍ، فرجَفَت منها الأرضُ والقُلوبُ، وماتوا مِن شِدَّتِها !
كما قال تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الذاريات: 43، 44].
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المُهلَكينَ بالصَّيحةِ مِن أجْلِ التَّكذيبِ بالقارعةِ؛ تحذيرًا لِمَن يكَذِّبُ بها؛ أتْبَعَه المُهلَكينَ بما هو سَبَبٌ لإنفاذِ الصَّيحةِ وتَقويتِها؛ دَلالةً على تمامِ القُدرةِ على كُلِّ نَوعٍ مِن العذابِ بالاختيارِ .
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6).
أي: وأمَّا عادٌ فأُهلِكوا بريحٍ عَظيمةٍ بارِدةٍ شَديدةِ الصَّوتِ، قد تجاوَزَتْ شِدَّتُها في ذلك كُلَّ عاصِفةٍ أُخرَى، فدمَّرَتْهم تَدميرًا !
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت: 16].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 18 - 21].
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبورِ ) .
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7).
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا.
أي: سلَّط اللهُ تلك الرِّياحَ العاصِفةَ على عادٍ، وأرسَلَها عليهم سَبْعَ لَيالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ كَوامِلَ، مَشائيمَ، تتابَعَت عليهم حتَّى هَلَكوا !
كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19].
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى.
أي: فتَرى قومَ عادٍ في تلك اللَّيالي والأيَّامِ مَطروحينَ على الأرضِ مَوتى !
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ.
أي: صارت جُثَثُهم بعْدَ هَلاكِهم مِثلَ جُذوعِ نَخلٍ ساقِطةٍ خالِيةِ الأجوافِ .
كما قال تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20].
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8).
أي: فهل تَرى لكُفَّارِ عادٍ مِن بقاءٍ بعْدَ أن أبادَهم اللهُ تعالى ؟
كما قال تعالى: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 24، 25].
وقال سُبحانَه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1 - 3] عظَّم تعالى شأنَ القيامةِ وفَخَّمَه؛ فإنَّ لها شأنًا عَظيمًا، وهَولًا جَسيمًا .
2- عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، قال: (ما في القرآنِ: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُخبِرْه، وما كان وَمَا أَدْرَاكَ فقد أخْبَره) .
3- قال اللهُ تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، ولم يقُلْ: (صَرصَرةٍ)، كما قال: عَاتِيَةٍ، مع أنَّ الرِّيحَ مُؤنَّثةٌ؛ لأنَّ (الصَّرصَرَ) وَصفٌ مُختَصٌّ بالرِّيحِ، فأشبَهَ بابَ (حائِضٍ، وطامثٍ، وحامِلٍ)، بخِلافِ (عاتيةٍ)؛ فإنَّ غيرَ الرِّيحِ مِن الأسماءِ المُؤنَّثةِ يُوصَفُ به .
4- قولُه تَعالى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ فيه أنَّه لم يَبْقَ لهم نَسْلٌ يُذْكَرون بهم، بلْ أُهلِكوا بأجْمَعِهم، وانقَطَعَ نَسْلُهم، وانقَطَعَ عنهم الذِّكرُ إلَّا بالسُّوءِ، وإلَّا كان يُرى لهم باقيةٌ، ففيه أنَّهم استُؤصِلوا، وعمَّ العَذابُ الكبيرَ والصَّغيرَ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ
- قولُه: الْحَاقَّةُ هو صِيغةُ فاعِلٍ مِن: حقَّ الشَّيءُ؛ إذا ثبَتَ وُقوعُه، والهاءُ فيها لا تَخْلو عن أنْ تكونَ هاءَ تأنيثٍ؛ فتكونَ الْحَاقَّةُ وصْفًا لِمَوصوفٍ مُقدَّرٍ مُؤنَّثِ اللَّفظِ، أو أنْ تكونَ هاءَ مَصدرٍ، على وزْنِ (فاعِلةٍ)، مِثلُ الكاذِبةِ للكذِبِ، والخاتمةِ للختْمِ، والباقيةِ للبقاءِ، والطَّاغيةِ للطُّغيانِ، والنَّافلةِ، والخاطئةِ، وأصلُها تاءُ المرَّةِ، ولكنَّها لَمَّا أُريدَ المصدرُ قُطِعَ النَّظرُ عن المرَّةِ، مِثلُ كثيرٍ مِن المصادرِ الَّتي على وزْنِ فَعلةٍ غيرُ مُرادٍ به المرَّةُ، مِثلُ قولِهم: ضَربةُ لازِبٍ. فالحاقَّةُ إذنْ بمعنى الحقِّ، كما يُقالُ: مِن حاقِّ كذا، أي: مِن حقِّه. وعلى الوجهَينِ فيَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بالحاقَّةِ المعنى الوَصْفيَّ، أي: حادِثةٌ تَحِقُّ، أو حقٌّ يَحِقُّ. ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بها لَقبًا ليومِ القيامةِ، فلُقِّبَ بذلك يومُ القيامةِ؛ لأنَّه يومٌ مُحقَّقٌ وُقوعُه، كما قال تعالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] ، أو لأنَّه تَحِقُّ فيه الحقوقُ، ولا يُضاعُ الجزاءُ عليها؛ قال تعالَى: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] ، وقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. وإيثارُ هذه المادَّةِ وهذه الصِّيغةِ يَسمَحُ باندِراجِ مَعانٍ صالحةٍ بهذا المقامِ، فيكونُ ذلك مِن الإيجازِ البديعِ؛ لتَذهَبَ نُفوسُ السَّامِعينَ كلَّ مَذهبٍ ممْكنٍ مِن مَذاهبِ الهَولِ والتَّخويفِ بما يحِقُّ حُلولُه بهم، فيَجوزُ أيضًا أنْ تكونَ الْحَاقَّةُ وصْفًا لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: السَّاعةُ الحاقَّةُ، أو الواقعةُ الحاقَّةُ؛ فيَكونَ تَهديدًا بيومٍ أو وقْعةٍ يكونُ فيها عِقابٌ شَديدٌ للمُعرَّضِ بهم، مِثلُ يومِ بدْرٍ أو وَقْعتِه، وأنَّ ذلك حقٌّ لا رَيبَ في وُقوعِه، أو وصْفًا للكلمةِ، أي: كلمةُ الله الَّتي حقَّت على المشركين مِن أهلِ مكَّةَ، ويجوزُ أنْ تكونَ مَصدرًا بمعْنى الحقِّ، فيَصِحُّ أنْ يكونَ وصْفًا ليومِ القيامةِ بأنَّه حقٌّ، كقولِه تعالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 97]، أو وصْفًا للقرآنِ، كقولِه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] ، أو أُريدَ به الحقُّ كلُّه ممَّا جاء به القرآنُ مِن الحقِّ؛ قال تعالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] ، وقال: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الأحقاف: 30] . وقيل: الْحَاقَّةُ وصْفٌ حُذِف مَوصوفُه؛ للإيذانِ بكَمالِ ظُهورِ اتِّصافهِ بهذه الصِّفةِ، وجَرَيانِها مجرَى الاسمِ .
- وافتتاحُ السُّورةِ بهذا اللَّفظِ تَرويعٌ للمشركين .
- والاستِفهامُ مَا الْحَاقَّةُ مُستعمَلٌ في التَّهويلِ والتَّعظيمِ والتَّفخيمِ لشأنِها؛ لأنَّ الأمرَ العظيمَ مِن شأْنِه أنْ يُستفهَمَ عنه، فصار التَّعظيمُ والاستفهامُ مُتلازِمَينِ. ولك أنْ تَجعَلَ الاستِفهامَ إنكاريًّا، أي: لا يَدْري أحدٌ كُنْهَ هذا الأمرِ، والمقصودُ مِن ذلك على كِلا الاعتبارَينِ هو التَّهويلُ .
- وفي قولِه: مَا الْحَاقَّةُ وضْعُ الظاهرِ مَوضعَ المضمَرِ، فلمْ يقُلْ: ما هي؟ والفائدةُ منه زِيادةُ التَّهويلِ والتَّفخيمِ لشَأنِها .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مُكنًّى به عن تَعذُّرِ إحاطةِ عِلمِ النَّاسِ بكُنْهِ الحاقَّةِ ببَيانِ خُروجِها عن دائرةِ عُلومِ المخلوقاتِ؛ لأنَّ الشَّيءَ الخارجَ عن الحدِّ المألوفِ لا يُتصوَّرُ بسُهولةٍ، فمِن شأْنِه أنْ يُتساءلَ عن فَهْمِه .
- جُملةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ مَعطوفةٌ على ما قبْلَها مِن الجُملةِ الواقعةِ خبَرًا لقولِه تعالَى: الْحَاقَّةُ، مُؤكِّدةٌ لهَولِها .
- ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً بيْنَ جُملةِ مَا الْحَاقَّةُ وجُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة: 4] ، والواوُ اعتراضيَّةٌ .
- وتَركيبُ (ما أدراكَ كذا) ممَّا جَرَى مَجرى المثَلِ، فلا يُغيَّرُ عن هذا اللَّفظِ، وأصلُ الكلامِ قبْلَ التَّركيبِ بالاستِفهامِ أنْ تقولَ: دريتُ الحاقَّةَ أمرًا عظيمًا، ثمَّ صار: أدراني فُلانٌ الحاقَّةَ أمْرًا عظيمًا .
- واستِعمالُ (ما أدْراك) غيرُ استعمالِ (ما يُدْريك) في قولِه تعالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] ، وقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورى: 17]، فمَفعولُ (ما أدراك) مُحقَّقُ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للتَّهويلِ، ومَفعولُ (ما يُدْريك) غيرُ مُحقَّقِ الوقوعِ؛ لأنَّ الاستِفهامَ فيه للإنكارِ، وهو في معْنى نفْيِ الدِّرايةِ. وكلُّ مَوضعٍ ذُكِرَ في القرآنِ (وما أدراك) فقدْ عُقِّبَ ببَيانِه؛ نحوُ قولِ الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 10، 11]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 2، 3]، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار: 18، 19]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ .
- ولَمَّا كان ذلك كلُّه أمرًا رائعًا للعقولِ، هازًّا للقلوبِ، مُزعِجًا للنُّفوسِ، وكان رُبَّما تَوقَّفَ فيه الجِلْفُ الجافي؛ أكَّدَ أمْرَه وزادَ في تَهويلِه، وأطْنَبَ في تَفخيمِه وتَبجيلِه؛ إشارةً إلى أنَّ هَوْلَه يَفوتُ الوصفُ بقولِه، مُعلِمًا أنَّه ممَّا يَحِقُّ له أنْ يُستفهَمَ عنه، سائقًا له بأداةِ الاستفهامِ مُرادًا بها التَّعظيمُ للشَّأنِ، وأنَّ الخبَرَ ليس كالعِيانِ مَا الْحَاقَّةُ؛ فأداةُ الاستفهامِ مُبتدأٌ أُخبِرَ عنه بالحاقَّةِ، وهما خبَرٌ عن الأُولى، الرَّابطُ تَكريرُ المُبتدَأِ بلَفْظِه، وأكثَرُ ما يكونُ ذلك إذا أُرِيدَ معْنى التَّعظيمِ والتَّهويلِ .
وقيل: مُقتضَى التَّحقيقِ أنْ تكونَ (ما) الاستِفهاميَّةُ في قولِه: مَا الْحَاقَّةُ خبَرًا لِما بعْدَها؛ فإنَّ مَناطَ الإفادةِ بَيانُ أنَّ الحاقَّةَ أمْرٌ بَديعٌ، وخَطْبٌ فَظيعٌ، كما يُفيدُه كونُ (مَا) خبَرًا، لا بَيانُ أنَّ أمرًا بَديعًا الحاقَّةُ، كما يُفيدُه كونُها مُبتدَأً، وكونُ الْحَاقَّةُ خبرًا .
2- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ
- قولُه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ استِئنافٌ مَسوقٌ لإعلامِ بَعضِ أحوالِ الحاقَّةِ لهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إثرَ تَقريرِ أنَّه ما أدْراهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ . فعلى أنَّ قولَه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] نِهايةُ كَلامٍ؛ فمَوقعُ قولِه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ وما اتَّصَلَ به استِئنافٌ، وهو تَذكيرٌ بما حَلَّ بثَمودَ وعادٍ لتَكذيبِهم بالبعثِ والجزاءِ؛ تَعريضًا بالمشركينَ مِن أهلِ مكَّةَ بتَهديدِهم أنْ يَحِقَّ عليهم مِثلُ ما حلَّ بثَمودَ وعادٍ؛ فإنَّهم سواءٌ في التَّكذيبِ بالبعثِ، وعلى هذا يكونُ قولُه: الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] إلخ تَوطئةً له وتمْهيدًا لهذه الموعظةِ العظيمةِ؛ استِرهابًا لنُفوسِ السَّامعينَ. وإنْ جعَلْتَ الكلامَ مُتَّصلًا بجُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ، وعيَّنْتَ لَفظَ الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ليومِ القيامةِ؛ كانت هذه الجُملةُ خبَرًا ثالثًا عن الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ، والمعنى: الحاقَّةُ كذَّبَتْ بها ثَمودُ وعادٌ، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُؤتَى بضَميرِ الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] ، فيُقالُ: كذَّبَتْ ثَمودُ وعادٌ بها، فعُدِلَ إلى إظهارِ اسمِ (القارعةِ)؛ لأنَّ (القارعة) مُرادِفةُ الحاقَّةِ -في أحدِ مَحملَيِ لَفظِ الْحَاقَّةُ-، وهذا كالبَيانِ للتَّهويلِ الَّذي في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ[الحاقة: 3] ، ولتَدُلَّ (القارعة) على معْنى القرْعِ، زِيادةً في وصْفِ شِدَّتِها، وتَشديدًا لِهَوْلِها .
- قولُه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ابتُدِئَ بثَمودَ وعادٍ في الذِّكرِ مِن بيْنِ الأُمَمِ المكذِّبةِ؛ لأنَّهما أكثرُ الأُمَمِ المكذِّبةِ شُهرةً عندَ المشركينَ مِن أهلِ مكَّةَ؛ لأنَّهما مِن الأُمَمِ العربيَّةِ، ولأنَّ دِيارَهما مُجاورةٌ شمالًا وجنوبًا .
- القارعةُ، أي: الَّتي تُصيبُ النَّاسَ بالأهوالِ والأفزاعِ، أو الَّتي تُصيبُ الموجوداتِ بالقَرْعِ؛ مِثلُ دكِّ الجبالِ، وخسْفِ الأرض، وطمْسِ النُّجومِ، وكُسوفِ الشَّمسِ كُسوفًا لا انجلاءَ له، فشُبِّهَ ذلك بالقرْعِ .
3- قولُه تعالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ابتُدِئَ بذِكرِ ثَمودَ مِن حيثُ إنَّ بلادَهم أقرَبُ إلى قُرَيشٍ، وواعظُ القُربِ أكبَرُ، وإهلاكهم بالصَّيحةِ، وهي أشْبَهُ بصَيحةِ النَّفخِ في الصُّورِ، المُبَعْثِرِ لِما في القُبورِ . أو لأنَّ العذابَ الَّذي أصابَهم مِن قَبيلِ القرْعِ؛ إذ أصابَتْهم الصَّيحةُ الَّتي أُطلِق عليها الصَّاعِقةُ في بعضِ الآياتِ، ولأنَّ الكلامَ على مَهلكِ عادٍ أنسَبُ، فأُخِّرَ لذلك أيضًا ، فاللهُ تعالى ذكَرَ تفصيلَ إهلاكِ عادٍ بخِلافِ ثَمودَ، فلعلَّ تأخيرَ ذِكْرِهم لِما تَبِعَه مِن تفصيلٍ.
- وجِيءَ في الخبرِ عن هاتَينِ الأُمَّتينِ -ثَمودَ وعادٍ- بطَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ ؛ لأنَّهما اجتَمَعتا في مُوجِبِ العُقوبةِ، ثمَّ فُصِّلَ ذِكرُ عَذابِهما .
- وإنَّما سُمِّيت الصَّيحةُ بالطَّاغيةِ؛ لأنَّها كانتْ مُتجاوِزةً الحالَ المُتعارَفَ في الشِّدَّةِ، فشُبِّهَ فِعلُها بفِعلِ الطَّاغي المُتجاوِزِ الحدَّ في العُدوانِ والبطْشِ .
4- قولُه تعالَى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ
- قولُه: عَاتِيَةٍ أصْلُ العُتُوِّ والعُتِيِّ: شِدَّةُ التَّكبُّرِ، فعُبِّرَ به عن الشَّيءِ المُتجاوِزِ الحدَّ المعتادَ؛ تَشبيهًا بالتَّكبُّرِ الشَّديدِ في عدَمِ الطَّاعةِ، والجرْيِ على المعتادِ .
قيل: عَتَتْ على خُزَّانِها، فخَرَجَت بلا كيلٍ ولا وزْنٍ، وهذا كِنايةٌ عن الشِّدَّةِ والإفراطِ فيها، لا أنَّها عَتَت على الخُزَّانِ حقيقةً .
5- قولُه تعالَى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
- قولُه: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا استِئنافٌ جِيءَ به بَيانًا لكَيفيَّةِ إهلاكِهم بالرِّيحِ. وقيل: هو استِئنافٌ أو صِفةٌ جِيءَ به لنفْيِ ما يُتوهَّمُ مِن أنَّها كانتْ مِن اتِّصالاتٍ فَلَكيَّةٍ؛ إذ لو كانتْ لَكان هو المقدِّرَ لها والمسبِّبَ .
- والتَّسخيرُ: الغصْبُ على عمَلٍ، وعُبِّرَ به عن تَكوينِ الرِّيحِ الصَّرصرِ تَكوينًا مُتجاوِزًا المُتعارَفَ في قوَّةِ جِنسِها، فكأنَّها مُكرَهةٌ عليه، وعُلِّقَ به عَلَيْهِمْ؛ لأنَّه ضُمِّنَ معْنى أرْسَلَها .
- و(حُسومٌ) يَجوزُ أنْ يكونَ جمْعَ حاسمٍ، مِثلُ قُعودٍ جمْعُ قاعدٍ، وشُهودٍ جمْعُ شاهدٍ، غُلِّبَ فيه الأيَّامُ على اللَّيالي؛ لأنَّها أكثَرُ عَددًا؛ إذ هي ثَمانيةُ أيَّامٍ، وهذا له مَعانٍ؛ أحدُها: أنْ يكونَ المعنى: يُتابِعُ بعضُها بعضًا، أي: لا فصْلَ بيْنَها. وقيل: الحُسومُ مُشتَقٌّ مِن حَسْمِ الدَّاءِ بالمِكواةِ؛ إذ يُكوى ويُتابَعُ الكَيُّ أيَّامًا. المعْنى الثَّاني: أنْ يكونَ مِن الحسْمِ، وهو القطْعُ، أي: حاسِمةً مُستأصِلةً. ومنه سُمِّيَ السَّيفُ حُسامًا؛ لأنَّه يَقطَعُ، أي: حسَمَتْهم فلم تُبْقِ منهم أحدًا، وعلى هذَينِ المعْنيَينِ فهو صِفةٌ لـ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، أو حالٌ منها. المعْنى الثَّالثُ: أنْ يكونَ حُسومٌ مَصدرًا، كالشُّكورِ والدُّخولِ، فيَنتصِبَ على المفعولِ مِن أجْلِه، وعامِلُه سَخَّرَهَا، أي: سخَّرَها عليهم لاستِئْصالِهم، وقطْعِ دَابِرِهم. وكلُّ هذه المعاني صالحٌ لأنْ يُذكَرَ مع هذه الأيَّامِ، فإيثارُ هذا اللَّفظِ مِن تَمامِ بَلاغةِ القرآنِ وإعجازِه .
- قولُه: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ الرُّؤيةُ عِلميَّةٌ لا بَصريَّةٌ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أبْصَرَهم صَرْعى فيها ولا رآهُم، فصار المعْنى: فتَعلَمُهم صَرعى فيها بإعلامِنا حتَّى كأنَّك تُشاهِدُهم .
أو الخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ، أي: فيَرى الرَّائي لو كان راءٍ، وهذا أُسلوبٌ في حِكايةِ الأمورِ العظيمةِ الغائبةِ؛ تُستحضَرُ فيه تلك الحالةُ كأنَّها حاضرةٌ، ويُتخيَّلُ في المقامِ سامعٌ حاضرٌ شاهدٌ مُهْلَكَهم أو شاهَدَهم بعْدَه، وكِلا المُشاهدتَينِ مُنتَفٍ في هذه الآيةِ، فيُعتبَرُ خِطابًا فَرَضيًّا، فليس هو بالْتِفاتٍ ، ولا هو مِن خِطابِ غيرِ المعيَّنِ .
- والتَّعريفُ في الْقَوْمَ للعهْدِ الذِّكريِّ. والقومُ: القَبيلةُ، وهذا تَصويرٌ لهلاكِ جَميعِ القبيلةِ .
- قولُه: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ تَشبيهٌ مُرسَلٌ ؛ فقد شبَّهَهم بالجُذوعِ لطُولِ قاماتِهم .
أو وجْهُ التَّشبيهِ بها: أنَّ الَّذين يَقطَعون النَّخلَ إذا قَطَعوه للانتِفاعِ بأعوادِه في إقامةِ البيوتِ للسُّقُفِ والعِضاداتِ، انْتَقَوا منه أصولَه؛ لأنَّها أغلَظُ وأملأُ، وتَرَكوها على الأرضِ حتى تَيبَسَ وتَزولَ رُطوبتُها، ثمَّ يَجعَلوها عَمَدًا وأساطينَ .
- ووصْفُ نَخْلٍ بأنَّها خاويةٌ باعتِبارِ إطلاقِ اسمِ النَّخلِ على مكانِه بتَأويلِ الجنَّةِ أو الحديقةِ، ففيه استِخدامٌ ، والمعْنى: خاليةٌ مِن النَّاسِ، وهذا الوصْفُ لتَشويهِ المشبَّهِ به بتَشويهِ مكانِه، ولا أثَرَ له في المشابَهةِ، وأحسَنُه ما كان فيه مُناسَبةٌ للغرَضِ مِن التَّشبيهِ كما في الآيةِ؛ فإنَّ لهذا الوصْفِ وقْعًا في التَّنفيرِ مِن حالتِهم؛ ليُناسِبَ الموعظةَ والتَّحذيرَ مِن الوُقوعِ في مِثلِ أسبابِها .
6- قولُه تعالَى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ تَفريعٌ على مَجموعِ قِصَّتَيْ ثَمودَ وعادٍ، فهو فَذْلَكةٌ لِما فُصِّلَ مِن حالِ إهلاكِهما، وذلك مِن قَبيلِ الجمْعِ بعْدَ التَّفريقِ، فيكونُ في الآياتِ جمْعٌ، ثمَّ تَفريقٌ، ثمَّ جمْعٌ .
- والاستِفهامُ معْناهُ النَّفيُ، أي: لا تَرى لهم .
- والباقيةُ: إمَّا اسمُ فاعلٍ على بابِه، والهاءُ: إمَّا للتَّأنيثِ بتأْويلِ (نفْسٍ)، أي: فما تُرى منهم نفْسٌ باقيةٌ، أو بتأْويلِ (فِرقةٍ)، أي: ما تُرى فِرقةٌ منهم باقيةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ بَاقِيَةٍ مَصدرًا على وزْنِ فاعلةٍ، أي: فما ترَى لهم بَقاءً، أي: هَلَكوا على بَكرةِ أبِيهم .
- واللَّامُ في قولِه: لَهُمْ يَجوزُ أنْ تُجعَلَ لشِبْهِ المِلْكِ، أي: باقيةٍ مِن أجْلِ النَّفعِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اللَّامُ بمعْنى (مِن)، مِثلُ قولِهم: سمِعْتُ له صُراخًا. ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامَ الَّتي تُنْوى في الإضافةِ إذا لم تكُنِ الإضافةُ على معْنى (مِن)، والأصلُ: فهلْ تَرى باقيَتَهم، فلمَّا قُصِدَ التَّنصيصُ على عُمومِ النَّفيِ، واقْتَضى ذلك جلْبَ (مِن) الزَّائدةِ؛ لَزِمَ تَنكيرُ مَدخولِ (مِن) الزَّائدةِ، فأُعطِيَ حقُّ معْنى الإضافةِ بإظهارِ اللَّامِ الَّتي الشَّأنُ أنْ تُنْوى، كما في قولهِ تعالَى: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء: 5] ؛ فإنَّ أصْلَه: عِبادَنا .