موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (29-32)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

صَرَفْنَا: أي: وَجَّهْنا وبَعَثْنا، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رَجْعِ الشَّيءِ [499] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/342)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566). .
نَفَرًا: النَّفَرُ: ما بيْنَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على تَجافٍ وتَباعُدٍ، ومنه النَّفَرُ؛ لأنَّهم يَنْفِرونَ للنُّصرةِ [500] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/459)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((تفسير ابن كثير)) (5/157). .
أَنْصِتُوا: أي: اسْكُتوا سُكوتَ المسْتَمِعينَ، والإنصاتُ: هو الاستِماعُ معَ تركِ الكلامِ، وأصلُ (نصت): يدُلُّ على السُّكوتِ [501] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/170)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/1845)، ((المفردات)) للراغب (ص: 496)، ((تفسير القرطبي)) (16/216)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
وَيُجِرْكُمْ: أي: يُنقِذْكم ويَمنَعْكم، يُقالُ: أجَرْتُ فُلانًا: إذا استغاثَ بك فحَمَيْتَه [502] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/172)، ((البسيط)) للواحدي (16/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/303). .
بِمُعْجِزٍ: أي: فائِتٍ وسابقٍ، وأصلُ (عجز): يدُلُّ على تأخُّرٍ عن الشَّيءِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/389)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 438)، ((المفردات)) للراغب (ص: 547)، ((تفسير القرطبي)) (10/109)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81). .
أَولِيَاءُ: أي: أنصارٌ، والوِلايةُ النُّصرةُ، وأصْل (ولي): يدُلُّ على قُرْبٍ؛ سواءٌ مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه [504] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/173)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((تفسير القرطبي)) (16/218)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا ممَّا أكَرم به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن سماعِ نفَرٍ مِن الجنِّ للقرآنِ، وإيمانِهم به، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ أرسَلْنا إليك طائِفةً مِن الجِنِّ يَستَمِعونَ منك القُرآنَ، فلمَّا حَضَروه قال بَعضُهم لِبَعضٍ: أنصِتوا لِنَستَمِعَ إليه، فلمَّا أنهَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قراءتَه انصَرَف أولئك النَّفَرُ إلى قَومِهم مِنَ الجِنِّ مُحَذِّرينَ إيَّاهم مِن عذابِ اللهِ إنْ لم يُؤمِنوا به؛ قالوا لِقَومِهم: يا قَوْمَنا إنَّا سَمِعْنا كِتابًا -وهو القُرآنُ- أُنزِلَ مِن بَعدِ التَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت على موسى مُوافِقًا لِما قَبْلَه مِن كُتُبِ اللهِ، يُرشِدُ إلى الحَقِّ وإلى طَريقٍ مُستَقيمٍ.
يا قَومَنا أجيبوا مُحمَّدًا الدَّاعيَ إلى اللهِ وَحْدَه، وآمِنوا باللهِ يَغفِرْ لكم مِن ذُنوبِكم، ويُنقِذْكم مِن عَذابٍ مُوجِعٍ مُؤلمٍ، ومَن لا يُجِبْ مُحمَّدًا إلى ما يدعو إليه فلن يُعجِزَ اللهَ بالهَرَبِ منه إذا أراد عُقوبتَه، وليس له مِن دُونِ اللهِ أنصارٌ يَمنَعونَه مِن عذابِ اللهِ، أولئك في ضَلالٍ واضِحٍ عن الحَقِّ.

تفسير الآيات:

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّ الإنسَ مُؤمِنٌ وكافرٌ؛ ذكَر أنَّ الجِنَّ فيهم مُؤمِنٌ وكافرٌ، وكان ذلك بإثْرِ قِصَّةِ هُودٍ وقَومِه؛ لِمَا كان عليه قَومُه مِن الشِّدَّةِ والقُوَّةِ، والجِنُّ تُوصَفُ أيضًا بذلك، وأنَّ ما أُهلِكَ به قَومُ هُودٍ هو الرِّيحُ، وهو مِن العالَمِ الَّذي لا يُشاهَدُ، وإنَّما يُحَسُّ بِهُبوبِه، والجِنُّ أيضًا مِن العالَمِ الَّذي لا يُشاهَدُ، وأنَّ هُودًا عليه السَّلامُ كان مِن العرَبِ، ورسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن العرَبِ [505] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/449). .
وأيضًا لَمَّا كان ما ذُكِرَ مِن البُعدِ مِن الإيمانِ مع تَصريفِ العِظاتِ والعِبَرِ والآياتِ يَكادُ أن يُؤْيِسَ السَّامِعَ مِن إيمانِ هؤلاء المَدْعُوِّينَ؛ قَرَّبَه دَلالةً على عِزَّتِه وحِكمتِه بالتَّذكيرِ بإيمانِ مَن هم أعلَى منهم عُتُوًّا، وأشَدُّ نفرةً، وأبْعَدُ إجابةً، وأخفَى شَخصًا [506] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/177). .
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ بعَثْنا إليك طائِفةً مِن الجِنِّ يَستَمِعونَ منك القُرآنَ [507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/163)، ((تفسير القرطبي)) (16/210)، ((تفسير ابن كثير)) (7/301)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/57، 58). قال ابنُ عطية: (التَّحريرُ في هذا أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جاءه جِنٌّ دونَ أن يَعرِفَ بهم، وهم المتفَرِّقونَ مِن أجْلِ الرَّجْمِ، وهذا هو قَولُه تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: 1] ، ثمَّ بعدَ ذلك وَفَد عليه وَفدٌ، وهو المذكورُ صَرْفُه في هذه الآيةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/104). وقال ابنُ كثير -بعد أن ذكر عددًا مِن الأحاديثِ وطُرقِها-: (هذه الطُّرُقُ كُلُّها تدُلُّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ذهَبَ إلى الجِنِّ قَصدًا، فتلا عليهم القُرآنَ، ودعاهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وشَرَع اللهُ لهم على لِسانِه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوَقتِ، وقد يحتَمِلُ أنَّ أوَّلَ مَرَّةٍ سَمِعوه يقرأُ القُرآنَ ولم يَشعُرْ بهم، كما قاله ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما، ثمَّ بعد ذلك وَفَدوا إليه كما رواه ابنُ مَسعودٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/296). وقال ابن حجر: (أنكر ابنُ عبَّاسٍ أنَّهم اجتمَعوا بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ... قال: ما قرَأ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على الجنِّ ولا رآهم. الحديثَ ... فيُجمَعُ بيْنَ ما نفاه وما أثبَتَه غيرُه بتعدُّدِ وُفودِ الجنِّ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فأمَّا ما وقَع في مكَّةَ فكان لاستِماعِ القرآنِ والرُّجوعِ إلى قَومِهم مُنذِرينَ كما وقع في القرآنِ، وأمَّا في المدينةِ فلِلسُّؤالِ عن الأحكامِ ... ويحتملُ أن يكونَ القُدومُ الثَّاني كان أيضًا بمكَّةَ ... ويحتملُ تعدُّدُ القُدومِ بمكَّةَ مرَّتينِ وبالمدينةِ). ((فتح الباري)) (7/ 171). وقال البيهقيُّ: (وهذا الَّذي حكاه عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ إنَّما هو في أوَّلِ ما سَمِعَتِ الجِنُّ قِراءةَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ، وعَلِمَتْ بحالِه، وفي ذلك الوقتِ لم يَقرَأْ عليهم ولم يَرَهُم، كما حكاه، ثمَّ أتاه داعي الجنِّ مرَّةً أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القُرآنَ -كما حكاه عبدُ الله بنُ مسعودٍ- ورأى آثارَهم، وآثارَ نيرانِهم، واللهُ أعلَمُ. وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ حَفِظَ القِصَّتَينِ جميعًا فرواهما). ((دلائل النبوة)) (2/ 227). قال السُّبْكيُّ: (فالأَولى أن يُجعَلَ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ غيرَ مُعارِضٍ لكلامِ ابنِ مسعودٍ، وأن يَكونا مرَّتَينِ: إحداهما: الَّتي ذكرها ابنُ عبَّاسٍ، وهي الَّتي أشار إليها القرآنُ في سورةِ الأحقافِ وفي سورةِ الجنِّ؛ لم يكُنِ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قصَدَهم، ولا شعَرَ بهم، ولا رآهم، ولا قرَأ عليهم قصْدًا، بل سمِعوا قراءتَه وآمَنوا به كما نطَق به الكتابُ العزيزُ. وثُبوتُها مِن حيثُ الجُملةُ قطعيٌّ). ((فتاوى السبكي)) (2/ 599). وقال الشنقيطي: (وقد دلَّ القرآنُ العظيمُ أنَّ استماعَ هؤلاء النَّفَرِ مِن الجنِّ، وقولَهم ما قالوا عن القرآنِ كلِّه: وقَع ولم يَعلَمْ به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أوحى اللهُ ذلك إليه، كما قال تعالى في القصَّةِ بعَيْنِها، مع بَيانِها وبَسطِها، بتفصيلِ الأقوالِ الَّتي قالَتْها الجنُّ بعدَ استِماعِهم القرآنَ العظيمَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1، 2] إلى آخرِ الآياتِ). ((أضواء البيان)) (7/ 235). .
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا.
أي: فلمَّا حَضَروه قال بَعضُهم لِبَعضٍ: اسكُتوا لِنَستَمِعَ إليه [508] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/27)، ((تفسير ابن جرير)) (21/165، 170)، ((الوسيط)) للواحدي (4/115)، ((تفسير القرطبي)) (16/215)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/235). والضَّميرُ في فَلَمَّا حَضَرُوهُ قيل: يعودُ إلى القُرآنِ. وممَّن ذهب إلى هذا: الواحديُّ، والزمخشري، والرَّسْعَني، والشوكاني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/115)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 311)، ((تفسير الرسعني)) (7/237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/30). وقيل: يعودُ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/27)، ((تفسير القرطبي)) (16/215). .
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.
أي: فلمَّا فَرَغ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن قراءةِ القُرآنِ انصَرَف أولئك النَّفَرُ إلى قَومِهم مِن الجِنِّ مُخَوِّفينَ لهم، ومُحَذِّرينَ مِن عَذابِ اللهِ إنْ لم يُؤمِنوا به [509] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/170، 171)، ((تفسير ابن كثير)) (7/302)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/179، 180)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/59)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/235). قال ابن عاشور: (فأبلَغوهم ما سَمِعوا مِن القُرآنِ مِمَّا فيه التَّخويفُ مِن بأسِ الله تعالى لِمَن لا يؤمِنُ بالقُرآنِ، والتَّبشيرُ لِمَن عَمِل بما جاء به القُرآنُ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/59). .
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30).
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
أي: قالوا لِقَومِهم: يا قَومَنا إنَّا سَمِعْنا كِتابًا -وهو القُرآنُ- أُنزِلَ مِن بَعدِ التَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت على موسى، مُوافِقًا لِما قَبْلَه مِن كُتُبِ اللهِ [510] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/171)، ((تفسير السمرقندي)) (3/293)، ((تفسير القرطبي)) (16/217)، ((تفسير ابن كثير)) (7/302)، ((تفسير الشوكاني)) (5/31). .
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: يُرشِدُ هذا القُرآنُ إلى الحَقِّ، وإلى طَريقٍ لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلٍ إلى اللهِ تعالى وإلى جَنَّتِه [511] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/235). وقال ابنُ كثير: (قَولُهم: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي: في الاعتِقادِ والإخبارِ، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ في الأعمالِ؛ فإنَّ القُرآنَ يَشتَمِلُ على شَيئَينِ: خَبَرٍ وطَلَبٍ؛ فخَبَرُه صِدقٌ، وطَلَبُه عَدلٌ، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام: 115]، وقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33] ، فالهُدى هو: العِلمُ النَّافِعُ، ودينُ الحَقِّ: هو العَمَلُ الصَّالحُ. وهكذا قالت الجِنُّ: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ في الاعتِقاداتِ، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي: في العَمَليَّاتِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/303). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/60). .
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا مَدَحوا القُرآنَ، وبَيَّنوا مَحلَّه ومَرتَبتَه؛ دَعَوا قَومَهم إلى الإيمانِ به [512] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 783). .
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ.
أي: يا قَومَنا أجيبُوا مُحمَّدًا رَسولَ اللهِ الَّذي يَدعو إلى اللهِ وَحْدَه وطاعتِه، وآمِنوا باللهِ [513] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/172)، ((تفسير السمرقندي)) (3/293)، ((الوسيط)) للواحدي (4/115)، ((تفسير الرازي)) (28/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/60، 61). .
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ بالإيمانِ به؛ ذكَرَ فائِدةَ ذلك الإيمانِ، وهي قَولُه تعالى [514] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/29). :
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.
أي: فإنْ أجَبْتُم داعيَ اللهِ وآمَنْتُم باللهِ فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لكم مِن ذُنوبِكم، فيَستُرُها عليكم ولا يُؤاخِذُكم بها [515] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/172)، ((تفسير السمرقندي)) (3/293)، ((تفسير البغوي)) (4/206). قيل: مِنْ في قَولِه تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ صِلةٌ في الكلامِ، يعني: يَغفِرْ لكم ذُنوبَكم. وممَّن ذهب إلى هذا: السمرقندي، والبغوي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/293)، ((تفسير البغوي)) (4/206)، ((تفسير العليمي)) (6/303). وقيل: هي للتَّبعيضِ، أي: يَغفِرْ لكم بعضَ ذُنوبِكم. وممَّن ذهب إلى أنَّها للتَّبعيضِ: البيضاوي، وابنُ جُزي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/117)، ((تفسير ابن جزي)) (2/279)، ((تفسير أبي السعود)) (8/89). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (26/61). قال ابنُ جُزَي: (مِنْ هنا للتَّبعيضِ على الأصَحِّ، أي: يَغفِرْ لكم الذُّنوبَ الَّتي فعَلْتُم قبْلَ الإسلامِ، وأمَّا الَّتي بعدَ الإسلامِ فهي في مَشيئةِ اللهِ. وقيل: معنى التَّبعيضِ: أنَّ المَظالِمَ لا تُغفَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/279). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: أنَّ الَّذي يُغفَرُ هو ما كان في خالِصِ حَقِّ اللهِ، دونَ مَظالِمِ العِبادِ: البيضاويُّ، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/117)، ((تفسير أبي السعود)) (8/89). قال ابنُ عاشور: (مِنْ في قَولِه: مِنْ ذُنُوبِكُمْ الأظهَرُ أنَّها للتَّعليلِ، فتتعَلَّقُ بفِعلِ أَجِيبُوا باعتبارِ أنَّه مجابٌ بفِعلِ يَغْفِرْ. ويجوزُ أن تكونَ تبعيضيَّةً، أي: يَغفِرْ لكم بعضَ ذُنوبِكم، فيكونَ ذلك احترازًا في الوَعدِ؛ لأنَّهم لم يَتحَقَّقوا تفصيلَ ما يُغفَرُ مِن الذُّنوبِ وما لا يُغفَرُ؛ إذ كانوا قد سَمِعوا بعضَ القُرآنِ ولم يُحيطوا بما فيه. ويجوزُ أن تكونَ زائدةً للتَّوكيدِ، على رأيِ جماعةٍ مِمَّن يَرَونَ زيادةَ «مِنْ» في الإثباتِ كما تُزادُ في النَّفيِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/61). .
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
أي: ويُؤمِّنْكم مِن عَذابٍ مُوجِعٍ شَديدِ الإيلامِ [516] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/28)، ((تفسير ابن جرير)) (21/172، 173)، ((تفسير ابن كثير)) (7/303)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/183)، ((تفسير الشوكاني)) (5/31). .
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّهم حذَّروا قومَهم وتوَعَّدوهم، وأوجَبوا إجابتَهم داعيَ اللهِ بطريقِ التَّرهيبِ، إثْرَ إيجابِها بطريقِ التَّرغيبِ، فقالوا [517] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/ 37). :
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ.
أي: ومَن لا يُجِبْ مُحمَّدًا رَسولَ اللهِ إلى ما يدعو إليه مِنَ الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، فلن يُعجِزَ اللهَ بالهَرَبِ منه إذا أراد عُقوبتَه؛ فهو في قَبضتِه وسُلْطانِه [518] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/173)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (4/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). قال ابن جُزَي: (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ الآيةَ: يحتملُ أنْ يكونَ مِن كلامِ الجنِّ، أو مِن كلامِ الله تعالى). ((تفسير ابن جزي)) (2/279). وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا القَولَ مِن كَلامِ الجِنِّ المُنذِرينَ: ابنُ جرير، والرازي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/173)، ((تفسير الرازي)) (28/29)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/183). .
كما قال الله تعالى حِكايةً عن قَولِ الجِنِّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن: 12] .
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ.
أي: وليس له مِن دُونِ اللهِ أنصارٌ يَمنَعونَه ويَحمُونَه مِن عذابِ اللهِ [519] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/173)، ((تفسير القرطبي)) (16/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: أولئك في انصرافٍ وذَهابٍ واضِحٍ عن الحَقِّ [520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 783)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا، أي: اسْكُتوا لِلاستِماعِ، ففيه تأدُّبٌ مع العِلمِ، وتعليمُ كيف يُتعَلَّمُ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/105). ، وأيضًا فيه تأدُّبٌ مع مُعِلِّمِ العلمِ [522] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/179). . وذلك على القولِ بأنَّ الضَّميرَ عائدٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
2- في قَولِه تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ أنَّ مَن دعا إلى اللهِ على بصيرةٍ وَجَبَ اتِّباعُه [523] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/100). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ المَقصودُ مِن نُزولِ القُرآنِ بخَبَرِ الجِنِّ تَوبيخُ المُشرِكين بأنَّ الجِنَّ -وهم مِن عالَمٍ آخَرَ- عَلِموا القُرآنَ وأيْقَنوا بأنَّه مِن عِندِ اللهِ، والمُشرِكون -وهم مِن عَالَمِ الإنسِ، ومِن جِنسِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم المَبْعوثِ بالقُرآنِ، وممَّن يَتكلَّمُ بِلُغةِ القُرآنِ- لم يَزالُوا في رَيبٍ منه، وتَكذيبٍ وإصرارٍ؛ فهذا مَوعظةٌ لِلمُشرِكين بطَريقِ المُضادَّةِ لِأحوالِهم، بعْدَ أنْ جَرَت مَوعظتُهم بحالِ مُماثِلِيهم في الكُفْرِ مِن جِنْسِهم [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/57، 58). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (9/449). .
2- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ هذا للمُشرِكينَ، وإن كانوا لا يُصَدِّقونَه؛ لِتَسجيلِ بُلوغِ ذلك إليهم؛ لِيَنتَفِعَ به مَن يَهتَدي، ولِتُكتَبَ تَبِعَتُه على الَّذين لا يَهتَدونَ [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/58). .
3- قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ احتُجَّ بقوله: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ على أنَّ في الجِنِّ الرُّسُلَ والأنبياءَ، فقد قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء: 165] .
والجوابُ عن ذلك: أن الإنذارَ أعَمُّ مِن الرِّسالةِ، والأعَمُّ لا يَستلزِمُ الأخَصَّ، قال تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة: 122] ، فهؤلاء نُذُرٌ وليسوا برُسُلٍ. قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: (الرُّسُلُ مِن الإنسِ، وأمَّا الجِنُّ ففيهم النُّذُرُ). فالقولُ بأنَّ في الجِنِّ الرُّسُلَ والأنبياءَ قَولٌ شاذٌّ لا يُلتَفتُ إليه، ولا يُعرَفُ به سَلَفٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأئمَّةِ الإسلامِ، فلا شَكَّ أنَّ الجِنَّ لم يَبعَثِ اللهُ منهم رَسولًا؛ لِقَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] ، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] ، وقال عن إبراهيمَ الخَليلِ عليه السَّلامُ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27] ، فكُلُّ نَبيٍّ بَعَثه اللهُ بعدَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ فمِن ذُرِّيَّتِه وسُلالتِه [526] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 416)، ((تفسير ابن كثير)) (7/302). قال السيوطي: (جمهورُ العلماءِ سلَفًا وخلَفًا على أنَّه لم يكُنْ مِن الجِنِّ قَطُّ رسولٌ ولا نبيٌّ. كذا رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ، ومجاهِدٍ، والكَلْبيِّ، وأبي عُبَيدٍ). ((لقط المرجان)) (ص: 41). .
4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فيه سؤالٌ: كيف قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسَى؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: قال الحَسَنُ: إنَّهم كانوا على اليَهوديَّةِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّهم قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسَى؛ تنبيهًا لِقَومِهم على اتِّباعِ الرَّسولِ؛ إذ كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد بشَّرَ به موسى، فقالوا ذلك مِن حيثُ إنَّ هذا الأمرَ مَذكورٌ في التَّوراةِ [527] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/450). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ كِتابَ موسى أصلٌ للإنجيلِ، وعُمدةٌ لِبَني إسرائيلَ في أحكامِ الشَّرعِ، وإنَّما الإنجيلُ مُتَمِّمٌ ومُكَمِّلٌ ومُغَيِّرٌ لِبَعضِ الأحكامِ [528] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 783). قال ابن كثير: (كثيرًا ما يَقرِنُ اللهُ بيْنَ التَّوراةِ والقرآنِ، كما في قولِه تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ [الأنعام: 91] إلى أن قال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [الأنعام: 92] ، وقال في آخِرِ السُّورةِ: ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: 154] ، إلى أن قال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] . وقالت الجِنُّ: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وقال وَرَقةُ بنُ نَوْفَلٍ: «هذا النَّاموسُ الَّذي أنزَل اللهُ على موسى» [البخاري (3392) ومسلم (160)]. وقد عُلِم بالضَّرورةِ لِذَوي الألبابِ أنَّ اللهَ لم يُنزِلْ كتابًا مِن السَّماءِ فيما أنزَل مِن الكُتبِ المُتعَدِّدةِ على أنبيائِه أكمَلَ ولا أشمَلَ ولا أفصَحَ ولا أعظَمَ ولا أشرَفَ مِن الكتابِ الَّذي أنزَل على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو القرآنُ، وبَعْدَه في الشَّرفِ والعَظَمةِ الكِتابُ الَّذي أنزَله على موسى بنِ عِمْرانَ عليه السَّلامُ، وهو التَّوراةُ الَّتي قال اللهُ تعالى فيها: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44]. والإنجيلُ إنَّما نزَل مُتمِّمًا لِلتَّوراةِ، ومُحِلًّا لبعضِ ما حُرِّم على بني إسرائيلَ). ((تفسير ابن كثير)) (6/ 242، 243). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّه يحتمِلُ أنَّهم لم يَكونوا سمِعوا بذِكرِ عيسَى عليه السَّلامُ [529] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/163). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أنَّ الجِنَّ فيهم الصُّلَحاءُ والعُبَّادُ، والزُّهَّادُ والعلماءُ؛ لأنَّ المُنذِرَ لا بُدَّ أنْ يكونَ عالِمًا بما يُنذِرُ، عابِدًا مُطيعًا للهِ سُبحانَه في الإنذارِ [530] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/291). .
6- في قَولِه تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ تَعبيرُهم عنه هاهنا بالطَّريقِ فيه نُكتةٌ بَديعةٌ، وهي أنَّهم قَدَّموا قَبْلَه ذِكرَ موسى، وأنَّ الكِتابَ الَّذي سَمِعوه مُصَدِّقٌ لِمَا بيْنَ يديه مِن كتابِ موسى وغيرِه؛ فكان فيه كالنَّبَأِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في قَولِه لِقَومِه: مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] ، أي: لم أكُنْ أوَّلَ رَسولٍ بُعِثَ إلى أهلِ الأرضِ، بل قد تقَدَّمتْ رُسُلٌ مِن اللهِ إلى الأُمَمِ، وإنَّما بُعِثتُ مُصَدِّقًا لهم بمِثلِ ما بُعِثوا به مِن التَّوحيدِ والإيمانِ؛ فقال مُؤمِنو الجنِّ: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، أي: إلى سَبيلٍ مَطروقٍ قد مَرَّتْ عليه الرُّسُلُ قبْلَه، وأنَّه ليس بِدْعًا كما قال في أوَّلِ السُّورةِ نَفْسِها؛ فاقتَضَتِ البلاغةُ والإعجازُ لفظَ الطَّريقِ؛ لأنَّه «فعيلٌ» بمعنى «مفعول»، أي: مَطروقٌ مَشَتْ عليه الرُّسُلُ والأنبياءُ قَبْلُ؛ فحَقيقٌ على مَن صَدَّقَ رُسُلَ اللهِ وآمَنَ بهم أنْ يُؤمِنَ به ويُصَدِّقَه؛ فذِكْرُ الطَّريقِ هاهنا إذَنْ أَولى؛ لأنَّه أدخَلُ في بابِ الدَّعوةِ، والتَّنبيهِ على تَعَيُّنِ اتِّباعِه. واللهُ أعلَمُ [531] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/16). .
7- في قَولِه تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مُجرَّدَ تلاوةِ القرآنِ على شَخصٍ يكونُ مُلزِمًا له بالاتِّباعِ، فإذا تُلِيَ القرآنُ على إنسانٍ فقد قامتْ عليه الحُجَّةُ؛ ولهذا فالجِنُّ وَلَّوْا إلى قَومِهم مُنذِرِينَ بمُجَرَّدِ سَماعِهم القُرآنَ؛ فقِراءةُ القُرآنِ مُلزِمةٌ، لكنْ إذا كان لا يَفهمُ لُغةَ القرآنِ فلا تكونُ مُلزِمةً؛ لِقَولِه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولا يَحصُلُ البيانُ وهو لا يَعرِفُ لُغةَ القُرآنِ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 296). .
8- قولُه تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ظاهِرُه أنَّ الجِنَّ كانوا يَتعبَّدونَ بشَريعةِ موسى [533] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (7/258). .
9- في قَولِه تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ دَلالةٌ على أنَّ الجِنَّ كانوا مُؤمِنينَ بالرُّسُلِ السَّابِقينَ، وأنَّهم يَعلَمونَ كُتُبَهم [534] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/301). .
10- في قَولِه تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ إلى قَولِه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ دَلالةٌ على تكليفِ الجِنِّ مِن وُجوهٍ مُتعَدِّدةٍ:
أحدُها: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى صَرَفَهم إلى رَسولِه يَستَمِعونَ القُرآنَ؛ لِيُؤمِنوا به، ويأتَمِروا بأوامِرِه، ويَنتَهوا عن نَواهيه.
الثَّاني: أنَّهم وَلَّوا إلى قَومِهم مُنذِرينَ، والإنذارُ هو الإعلامُ بالمَخوفِ بعدَ انعقادِ أسبابِه؛ فعُلِمَ أنَّهم مُنذِرونَ لهم بالنَّارِ إنْ عَصَوُا الرَّسولَ.
الثَّالثُ: أنَّهم أخبَروا أنَّهم سَمِعوا القُرآنَ وعَقَلوه وفَهِموه، وأنَّه يَهدي إلى الحَقِّ، وهذا القَولُ منهم يدُلُّ على أنَّهم عالِمونَ بموسى وبالكِتابِ المنَزَّلِ عليه، وأنَّ القُرآنَ مُصَدِّقٌ له، وأنَّه هادٍ إلى صراطٍ مُستقيمٍ، وهذا يدُلُّ على تمكينِهم مِن العِلمِ الَّذي تقومُ به الحُجَّةُ، وهم قادِرونَ على امتثالِ ما فيه، والتَّكليفُ إنَّما يَستلزِمُ العَقلَ والقُدرةَ.
الرَّابعُ: أنَّهم قالوا لِقَومِهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ، وهذا صَريحٌ في أنَّهم مُكَلَّفون مأمورونَ بإجابةِ الرَّسولِ، وهي تَصديقُه فيما أخبَرَ، وطاعتُه فيما أمَرَ.
الخامسُ: أنَّهم قالوا: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، والمَغفِرةُ لا تكونُ إلَّا عن ذَنبٍ، وهو مُخالَفةُ الأمرِ.
السَّادسُ: أنَّهم قالوا: مِنْ ذُنُوبِكُمْ، والذَّنْبُ مُخالَفةُ الأمرِ.
السَّابعُ: أنَّهم قالوا: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن لم يَستجِبْ منهم لِداعي اللهِ لم يُجِرْه مِن العذابِ الأليمِ، وهذا صَريحٌ في تَعَلُّقِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ بهم.
الثَّامنُ: أنَّهم قالوا: وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ وهذا تهديدٌ لِمَن تَخَلَّفَ عن إجابةِ داعي اللهِ منهم [535] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 421). .
11- قَولُ الله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ يدُلُّ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان مَبعوثًا إلى الجِنِّ كما كان مَبعوثًا إلى الإنسِ [536] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/206)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/113)، ((تفسير الرازي)) (28/29)، ((تفسير القرطبي)) (16/217). ، فأمْرُ بعضِهم بعضًا بإجابتِه دليلٌ على أنَّه داعٍ لهم، وهو معنَى بَعثِه إليهم [537] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/ 595). واستدلَّ السُّبْكيُّ أيضًا على ذلك بمواضعَ أخرى مِن هذه الآياتِ: ومنها قولُه تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قال: (والمُنذِرون هم المُخَوِّفون ممَّا يَلحَقُ بمُخالَفتِه لَوْمٌ، فلو لم يكُنْ مَبعوثًا إليهم لَما كان القرآنُ الَّذي أتى به لازمًا لهم، ولا خُوِّفوا به). ومنها قولُهم: وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ، قال: (وذلك يَقتَضي ترتيبَ المغفرةِ على الإيمانِ به، وأنَّ الإيمانَ به شرطٌ فيها، وإنَّما يكونُ كذلك إذا تعلَّقَ حُكمُ رسالتِه بهم، وهو معنَى كَونِه مبعوثًا إليهم). ومنها قولُهم: وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قال: (فعدَمُ إعجازِهم وأوليائِهم وكَوْنُهم في ضلالٍ مُرَتَّبٌ على عدَمِ إجابتِه، وذلك أدَلُّ دليلٍ على بَعثتِه إليهم). .
12- قَولُ الله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ يُفهَمُ مِن ظاهِرِها أنَّ جَزاءَ المُطيعِ مِن الجِنِّ غُفرانُ ذُنوبِه، وإجارتُه مِن عذابٍ أليمٍ، لا دُخولُه الجنَّةَ. وقد تمسَّكَ جماعةٌ مِن العُلَماءِ بظاهِرِ هذه الآيةِ، فقالوا: إنَّ المُؤمِنينَ المُطيعينَ مِن الجِنِّ لا يَدخُلونَ الجنَّةَ، مع أنَّه جاء في آيةٍ أُخرى ما يدُلُّ على أنَّ مُؤمِنيهم في الجنَّةِ، وهي قَولُه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]؛ لأنَّه تعالى بَيَّن شُمولَه للجِنِّ والإنسِ بقَولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 47]، ويُستَأنَسُ لهذا بقَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 56]؛ لأنَّه يُشيرُ إلى أنَّ في الجنَّةِ جِنًّا يَطمِثونَ النِّساءَ كالإنسِ؟
الجوابُ: أنَّ آيةَ (الأحقافِ) نُصَّ فيها على الغُفرانِ والإجارةِ مِن العَذابِ، ولم يُتعَرَّضْ فيها لدُخولِ الجنَّةِ بنَفيٍ ولا إثباتٍ، وآيةَ (الرَّحمن) نُصَّ فيها على دُخولِهم الجنَّةَ؛ لأنَّه تعالى قال فيها: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، وقد تقَرَّر في الأصولِ أنَّ المَوصولاتِ مِن صِيَغِ العُمومِ؛ فقَولُه: (لِمَنْ خَافَ) يَعُمُّ كُلَّ خائفٍ مَقامَ رَبِّه، ثمَّ صَرَّح بشُمولِ ذلك للجِنِّ والإنسِ معًا بقَولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 47]، فبيَّن أنَّ الوَعدَ بالجنَّتَينِ لِمَن خاف مَقامَ رَبِّه: مِن آلائِه، أي: نِعَمِه على الإنسِ والجِنِّ؛ فلا تَعارُضَ بيْنَ الآيتَينِ؛ لأنَّ إحداهما بيَّنَت ما لم تَتعَرَّضْ له الأُخرى [538] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 510-514). ، فمُحسِنُ الجِنِّ في الجنَّةِ، كما أنَّ مُسيئَهم في النَّارِ؛ فقد أخبَرَنا سُبحانَه عن نَذيرِهم إخبارَ مُقِرٍّ له أنَّ مَن أجاب داعيَه غُفِرَ له، وأجارَه مِن العَذابِ، ولو كانتِ المغفرةُ لهم إنَّما يَنالونَ بها مُجرَّدَ النَّجاةِ مِن العذابِ كان ذلك حاصِلًا بقَولِه: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، بل تمامُ المَغفرةِ دُخولُ الجنَّةِ، والنَّجاةُ مِن النَّارِ، فكلُّ مَن غَفَرَ اللهُ له فلا بُدَّ مِن دُخولِه الجنَّةَ [539] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/38). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/303، 304)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/236). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
- مُناسَبةُ ذِكرِ إيمانِ الجنِّ ما تَقدَّمَ مِن قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف: 18] ؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [الأحقاف: 21] عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، ويَتعلَّقُ قَولُه هنا: (إِذْ صَرَفْنَا) بفِعلٍ يدُلُّ عليه قَولُه: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ، والتَّقديرُ: واذْكُرْ إذ صَرَفْنا إليك نَفَرًا مِن الجِنِّ [540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/57، 58). .
- وقولُه: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قيل: حَضَروا الرَّسولَ، وعليه فهو الْتِفاتٌ مِن إِلَيْكَ إلى ضَميرِ الغَيبةِ [541] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/450). .
- وأَنْصِتُوا أمْرٌ بتَوجيهِ الأسماعِ إلى الكَلامِ اهتِمامًا به؛ لِئلَّا يَفوتَ منه شَيءٌ، أي: قالُوا كلُّهم: أنْصِتوا، كلُّ واحدٍ يَقولُها لِلْبقيَّةِ؛ حِرْصًا على الوعْيِ، فنَطَقَ بها جَميعُهم [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/58، 59). .
- والضَّميرُ في قولِه: فَلَمَّا قَضَى لِلقُرآنِ بتَقديرِ مُضافٍ، أي: قُضِيَت قِراءتُه، أي: انْتَهى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن القِراءةِ حِينَ حَضَروا [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/59). .
2- قولُه تعالَى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ
- جُملةُ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ... إلى آخِرِها مُبيِّنةٌ لِقَولِه: مُنْذِرِينَ [544] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/59). .
- وابتَدَأَ الجِنُّ إفادةَ قَومِهم بأنَّهم سَمِعوا كِتابًا؛ تَمْهيدًا لِلغرَضِ مِن المَوعِظةِ بذِكرِ الكِتابِ ووَصْفِه؛ لِيَستشرِفَ المُخاطَبون لِمَا بعْدَ ذلك [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/59). .
- وقَولُ الجِنِّ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى تَنبيهٌ لِقَومِهم على اتِّباعِ الرَّسولِ؛ إذ كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد بشَّرَ به مُوسى، فقالوا ذلك مِن حيثُ إنَّ هذا الأمْرَ مَذْكورٌ في التَّوراةِ [546] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/450). .
- ووَصْفُ الكِتابِ بأنَّه أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى دُونَ (أُنزِلَ على محمَّدٍ) صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ التَّوراةَ آخِرُ كِتابٍ مِن كُتبِ الشَّرائعِ نَزَلَ قبْلَ القُرآنِ، وأمَّا ما جاء بعْدَه فكُتُبٌ مُكمِّلةٌ لِلتَّوراةِ، ومُبيِّنةٌ لها، مِثلُ زَبورِ داودَ، وإنجيلِ عيسى، فكأنَّه لم يَنزِلْ شَيءٌ جَديدٌ بعْدَ التَّوراةِ، فلمَّا نَزَلَ القُرآنُ جاء بهَدْيٍ مُستقِلٍّ غَيرِ مَقصودٍ منه بَيانُ التَّوراةِ، ولكنَّه مُصدِّقٌ لِلتَّوراةِ، وهادٍ إلى أزْيَدَ ممَّا هَدَتْ إليه التَّوراةُ [547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/60). .
- ووَصَفوه بأنَّه يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، أي: إلى ما هو حقٌّ في نفْسِه صِدْقٌ، يُعلَمُ ذلك بصَريحِ العقْلِ. وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ غايَروا بيْنَ اللَّفظينِ والمعنَى مُتقارِبٌ، ورُبَّما اسْتُعمِلَ أحدُهما في مَوضعٍ لا يُستعمَلُ الآخَرُ فيه؛ فجُمِعَ هنا بيْنَهما، وحَسُنَ التَّكرارُ [548] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/450). .
3- قولُه تعالَى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
- في قولِهم: يَا قَوْمَنَا إعادةُ الجِنِّ نِداءَ قَومِهم؛ لِلاهتِمامِ بما بعْدَ النِّداءِ، وهو أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ إلى آخِرِه؛ لأنَّه المَقصودُ مِن تَوجيهِ الخِطابِ إلى قَومِهم، وليس المَقصودُ إعلامَ قَومِهم بما لَقُوا مِن عَجِيبِ الحوادِثِ، وإنَّما كان ذلك تَوطئةً لهذا، ولأنَّ اختِلافَ الأغراضِ وتَجدُّدَ الغَرَضِ ممَّا يَقْتضي إعادةَ مِثلِ هذا النِّداءِ، كما يُعِيدُ الخَطيبُ قَولَه: أيُّها النَّاسُ [549] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/450)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/60). .
- ودَاعِيَ اللَّه يَجوزُ أنْ يكونَ القُرآنَ؛ لأنَّه سَبَقَ في قَولِهم: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وأُطلِقَ على القُرآنِ داعِي اللهِ؛ لأنَّه يَشتمِلُ على طَلَبِ الاهتداءِ بهَدْيِ اللهِ، فشُبِّهَ ذلك بدُعاءٍ إلى اللهِ، واشْتُقَّ منه وَصفٌ لِلقُرآنِ بأنَّه داعي اللهِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ داعي اللهِ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه يَدْعو إلى اللهِ بالقُرآنِ [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/60، 61). .
- وقولُه: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ أمْرٌ بإجابتِه في كُلِّ ما أَمَر به، فيَدخُلُ فيه الأمرُ بالإيمانِ، إلَّا أنَّه أعاد ذِكْرَ الإيمانِ على التَّعيينِ؛ مِن أجْلِ أنَّه أهَمُّ الأقسامِ وأشرَفُها [551] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/29). . فعَطْفُ وَآَمِنُوا بِهِ على أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/61). .
- وفي قولِه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّنكيتِ [553] التَّنكيتُ: هو أن يَقصِدَ المتكلِّمُ إلى شيءٍ بالذِّكر دونَ غيرِه ممَّا يَسُدُّ مسَدَّه مِن أجْلِ نُكتةٍ في المذكورِ تُرجِّحُ مجيئَه على سِواه. وإذا وقَع في التَّشبيهِ فقد بلَغ الغايةَ. يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/306)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (2/55). ؛ فقدْ عُبِّرَ بـ (مِن) التَّبعيضيَّةِ إشارةً إلى أنَّ الغُفْرانَ يقَعُ على الذُّنوبِ الخاصَّةِ بيْنَ العبْدِ وربِّه، أمَّا حُقوقُ العِبادِ فلا يُمكِنُ غُفْرانُها إلَّا بعْدَ أنْ يَرْضَى أصحابُها. وكذا فمِن الذُّنوبِ ما يُجازَى به صاحبُه في الدُّنيا بالعقوباتِ والنَّكباتِ والهمومِ ونحوِها، أو يَكونُ ذلك احتِرازًا في الوعْدِ؛ لأنَّهم لم يَتحقَّقوا تَفصيلَ ما يُغفَرُ مِن الذُّنوبِ وما لا يُغفَرُ؛ إذ كانوا قدْ سَمِعوا بَعضَ القُرآنِ، ولم يُحيطوا بما فيه. وقيل: الأظْهَرُ أنَّها للتَّعليلِ، فتَتعلَّقُ بفِعلِ أَجِيبُوا باعتبارِ أنَّه مُجابٌ بفِعلِ يَغْفِرْ. ويَجوزُ أنْ تكونَ صِلَةً للتَّوكيدِ؛ لأنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قبْلَه، فلا يَبْقى معه تَبِعةٌ [554] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/312)، ((تفسير البيضاوي)) (5/117)، ((تفسير أبي حيان)) (9/451)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 522)، ((تفسير أبي السعود)) (8/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/183)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/61)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/192). .
4- قولُه تعالَى: وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قولُه: وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ إيجابٌ لِلإجابةِ بطَريقِ التَّرهيبِ، إثْرَ إيجابِها بطَريقِ التَّرغيبِ، وتَحقيقٌ لِكَونِهم مُنْذَرينَ [555] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/89). .
- وإظهارُ دَاعِيَ اللَّهِ مِن غيرِ اكْتِفاءٍ بأحَدِ الضَّميرَينِ؛ لِلمُبالَغةِ في الإيجابِ بزِيادةِ التَّقريرِ، وتَربيةِ المَهابةِ، وإدْخالِ الرَّوعةِ [556] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/89). .
- ومعنَى فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ: أنَّه لا يَنْجو مِن عِقابِ اللهِ على عَدَمِ إجابتِه داعِيَه؛ فمَفعولُ بِمُعْجِزٍ مُقدَّرٌ دلَّ عليه المُضافُ إليه في قَولِه: دَاعِيَ اللَّهِ، أي: فليس بمُعجزٍ اللهَ، والكَلامُ كِنايةٌ عن المُؤاخَذةِ بالعِقابِ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .
- وتَقْييدُ الإعجازِ بكَونِه في الأرضِ؛ لِتَوسيعِ الدَّائرةِ، أي: فليسَ بمُعجِزٍ له تعالَى بالهَرَبِ، وإنْ هَرَب كلَّ مَهْرَبٍ مِن أقْطارِها، أو دخَلَ في أعْماقِها [558] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/89). ، فالمَقصودُ مِن قَولِه: فِي الْأَرْضِ تَعميمُ الجِهاتِ؛ فجَرى على أُسلوبِ اسْتِعمالِ الكلامِ العربيِّ؛ وإلَّا فإنَّ مَكانَ الجنِّ غَيرُ مُعيَّنٍ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .
- قولُه: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ، أي: لا نَصيرَ يَنصُرُه على اللهِ، ويَحْمِيه منه؛ فهو نفْيٌ لِأنْ يكونَ له سَبيلٌ إلى النَّجاةِ بالاسْتِعصامِ بمَكانٍ لا تَبلُغُ إليه قُدْرةُ اللهِ، ولا بالاحتِماءِ بمَن يَستطيعُ حِمايتَه مِن عِقابِ اللهِ. وذِكرُ هذا تَعريضٌ لِلمُشرِكين [560] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .
- وجمْعُ الأولياءِ باعتِبارِ مَعْنى (مَنْ)؛ فيَكونُ مِن بابِ مُقابَلةِ الجَمْعِ بالجمْعِ؛ لِانقِسامِ الآحادِ إلى الآحادِ [561] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/89). .
- واسمُ الإشارةِ في أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ لِلتَّنبيهِ على أنَّ مَن هذه حالُهم جَديرونَ بما يَرِدُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن الحُكْمِ؛ لِتَسبُّبِ ما قبْلَ اسمِ الإشارةِ فيه [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .
- والظَّرفيَّةُ المُستفادةُ مِن قولِه: فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ لِإفادةِ قُوَّةِ تَلبُّسِهم بالضَّلالِ حتَّى كأنَّهم في وِعاءٍ هو الضَّلالُ [563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/62). .