موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (17-20)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ

غريب الكلمات:

أُفٍّ: الأُفُّ: الرَّديءُ مِن الكَلامِ، وكُلُّ ما غَلُظَ مِنه وقَبُحَ، وهو اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التَّضَجُّرِ والاستِثقالِ، أو صَوتٌ يُنبئُ عن ذلك، وأصلُ (أفف): يدُلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ .
خَلَتِ: أي: مَضَتْ وذَهبَتْ، مِن خلا الزَّمانُ: إذا مَضَى وذهَبَ .
الْقُرُونُ: جمعُ قَرْنٍ، وهو: الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، أو القَومُ المُقترِنونَ في زَمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّةُ القرنِ مِئةُ سَنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، والاقترانُ هو اجتِماعُ شيئَينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .
وَيْلَكَ: الويلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُستعمَلُ أيضًا في التَّحسُّرِ، وقيل: هي وادٍ في جهنَّمَ، وأصْلُ الوَيلِ: الشَّرُّ وحُلولُه .
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أي: أباطيلُهم وتُرَّهاتُهم، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطفافِ الشَّيءِ .
الْهُونِ: أي: الهَوانِ والذُّلِّ والخِزْيِ، وأصلُ (هون): يدُلُّ على ذُلٍّ .
تَفْسُقُونَ: أي: تَخرُجونَ عن الطَّاعةِ، وذلك مِن قولِهم: فسَقَ الرُّطَبُ، إذا خرجَ عَن قِشرِه، والفُسوقُ: خروجٌ مِن الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ مِن الإيمانِ إلى الكُفرِ .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ الله تعالى عن حالِ الأشْقياءِ العاقِّينَ للوالدينِ، فيقولُ: والَّذي قال لِوالِدَيه إذْ دَعَواه إلى الإيمانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ: أُفٍّ لَكما، أتَعِدانِني أن أُبعَثَ بعدَ مَوتي وقد مَضَت أُمَمٌ كَثيرةٌ مِن قَبْلي، ولم يَرجِعْ منهم أحَدٌ؟!
ثمَّ يذكرُ اللهُ تعالى ما ردَّ به الأبَوانِ، فيقولُ: ووالِداه يَطلُبانِ مِن اللهِ الغَوثَ بأن يَهديَ ابنَهما إلى الحَقِّ، يَقولانِ له: وَيْلَك آمِنْ بالبَعثِ بعدَ الموتِ، إنَّ ما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ حقٌّ لا شَكَّ فيه، فيَقولُ هذا المُكَذِّبُ العاقُّ لوالِدَيه: ما هذا الَّذي تَدْعُوانِني إلى الإيمانِ به إلَّا أحاديثُ الأقدَمينَ ممَّا لا حقيقةَ له!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى عقوبةَ هؤلاءِ الأشقياءِ، فيقولُ: أولئك العاقُّونَ المُكَذِّبونَ بالبَعثِ هم الَّذين وَجَب عليهم عذابُ اللهِ في قضائِه السَّابقِ مُندَرِجينَ في جُملةِ مَن يُعَذِّبُهم اللهُ مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الَّتي مَضَت قَبْلَهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، إنَّهم كانوا خاسِرينَ؛ لأنَّهم استحَبُّوا الكُفرَ على الإيمانِ.
 ويُبيِّنُ سبحانَه أحدَ مظاهرِ عدلِه في حُكمِه بيْنَ عِبادِه، فيقولُ: ولِكُلٍّ مِن هؤلاءِ الفريقَينِ: فَريقِ المؤمِنِ البارِّ بوالِدَيه، وفَريقِ الكافِرِ العاقِّ لِوالِدَيه- مَنازِلُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ بحَسَبِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ولِيُعطيَهم اللهُ جزاءَ أعمالِهم كامِلةً وافيةً، وهم لا يُظلَمونَ.
ثمَّ يذكرُ تعالى ما يُوبَّخُ به الكفَّارُ عندَ عرضِهم على النَّارِ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُعرَضُ الَّذين كَفَروا على النَّارِ، فيُقالُ لهم تَوبيخًا: ضيَّعتُم وأتلَفْتُم الطَّيِّباتِ الَّتي أنعَمَ اللهُ بها عليكم في حياتِكم الدُّنيا؛ حيثُ استَمتَعْتُم بِها واستَوفيتُموها في دُنياكم؛ فأنتم تُحرَمونَ منها في أُخراكم التي لم تَعمَلوا لأجْلِها شَيئًا؛ فيَومَ القيامةِ تُجزَونَ عذابَ الهُونِ والخِزْيِ والذُّلِّ؛ بسبَبِ استِكبارِكم في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ، وبسَبَبِ خُروجِكم عن طاعةِ اللهِ!

تفسير الآيات:

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه المحسِنَ بادِئًا به؛ لِكَونِ المقامِ للإحسانِ؛ أتْبَعَه المُسيءَ المناسِبَ لمقصودِ السُّورةِ، المذكورَ صَريحًا في مَطلَعِها .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالَى حالَ الدَّاعينَ للوالِدَينِ، البارِّينَ بهما، وما لَهم عندَه مِن الفَوزِ والنَّجاةِ؛ عَطَف بحالِ الأشقياءِ العاقِّينَ للوالدَينِ، فقال :
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا.
أي: والَّذي قال لِوالِدَيه إذْ دَعَواه إلى الإيمانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، مُتَضَجِّرًا منهما: أُفٍّ لَكما .
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي.
أي: يَقولُ هذا العاقُّ لِوالِدَيه المؤمِنَينِ: أتَعِدانِني أن أُبعَثَ بعدَ مَوتي، فأُخرَجَ مِن قَبري حيًّا، والحالُ أنَّه قد مَضَت الأُمَمُ الأُولَى قبْلي، ولم يَرجِعْ منهم أحَدٌ بعدَ مَوتِه ؟!
وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ.
أي: ووالِداه يَطلُبانِ مِن اللهِ أنْ يُغيثَهما بأن يَهديَ ابنَهما إلى الحَقِّ .
وَيْلَكَ آَمِنْ.
أي: يقولانِ لِوَلدِهما الكافِرِ: وَيْلَك آمِنْ بما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ .
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: إنَّ ما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ للحِسابِ والجزاءِ صِدْقٌ لا شَكَّ فيه، ووَعدٌ لا خُلْفَ فيه .
فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أي: فيَقولُ هذا المُكَذِّبُ بالبَعثِ لوالِدَيه: ما هذا الَّذي تَدْعُوانِني إلى الإيمانِ به إلَّا أحاديثُ الأقدَمينَ وقِصَصُهم الَّتي سطَّروها في كُتُبِهم، وهي خُرافاتٌ باطِلةٌ لا حقيقةَ لها !
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18).
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
أي: أولئك العاقُّونَ المُكَذِّبونَ بالبَعثِ القائِلونَ تلك المقالاتِ: هم الَّذين وَجَب عليهم عذابُ اللهِ، وسبَق عليهم القضاءُ بذلك، كائِنينَ في جُملةِ مَن يُعَذِّبُهم مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الَّتي مَضَت قَبْلَهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، فسيَدخُلُ أولئك في عِدادِهم .
كما قال تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ [الأعراف: 38] .
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ.
أي: إنَّهم كانوا خاسِرينَ ببَيعِهم الهُدى بالضَّلالِ، والجنَّةَ بالنَّارِ، وخَسِروا أنفُسَهم وأهلِيهم يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قَسَّم اللهُ تعالى النَّاسَ في الأعمالِ؛ جمَعَهم في العَدلِ والإفضالِ .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا.
أي: ولِكُلٍّ مِن هؤلاءِ الفريقَينِ: فَريقِ المؤمِنِ البارِّ بوالِدَيه، وفَريقِ الكافِرِ العاقِّ لِوالِدَيه- مَنازِلُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ بحَسَبِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ .
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ.
أي: ولِيُعطيَهم اللهُ جزاءَ أعمالِهم الَّتي عَمِلوها كامِلًا وافيًا .
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أي: وهم لا يُظلَمونَ شَيئًا مِن جزاءِ أعمالِهم؛ فلا يُنقَصُ مِن ثَوابِ المحسنينَ، ولا يُزادُ في عِقابِ المسيئينَ، ولا يُحمَّلونَ ذُنوبَ غَيرِهم، ولا يُعاقَبونَ على ما لم يَعمَلوه .
كما قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17] .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّه يُوصِلُ حَقَّ كُلِّ أحَدٍ إليه؛ بيَّنَ أحوالَ أهلِ العِقابِ أوَّلًا .
وأيضًا لَمَّا كان الظَّاهِرُ في هذه السُّورةِ الإنذارَ، كما يَشهَدُ به مَطلَعُها؛ ذَكَر بَعضَ ما يُبَكَّتُ به المجرِمونَ يومَ البَعثِ الَّذي كانوا به يُكَذِّبونَ، ويكونُ فيه توفيةُ جزاءِ الأعمالِ .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُعرَضُ الَّذين كَفَروا باللهِ على النَّارِ .
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا.
أي: يُقالُ لهم تَوبيخًا: استَمتَعْتُم بالملَذَّاتِ والشَّهَواتِ، فاستَوْفَيْتُموها في دُنياكم؛ فأنتم تُحرَمونَ منها في أُخراكم الَّتي لم تَعمَلوا مِن أجْلِها شَيئًا !
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.
أي: فاليَومَ تُجزَونَ العَذابَ الَّذي يُهينُكم ويُخزيكم ويُذِلُّكم .
بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: تُجزَونَ عذابَ الهُونِ؛ بسبَبِ استِكبارِكم في الأرضِ ظُلمًا بغيرِ استِحقاقٍ لذلك .
كما قال تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 75، 76].
وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
أي: وتُجزَونَ عَذابَ الهُونِ؛ بسَبَبِ خُروجِكم عن طاعةِ اللهِ، ووُقوعِكم في مَعصيتِه .
كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 20].

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا هذه الآيةُ وإنْ كانت في الكُفَّارِ فهي وازعةٌ لِأُولي النُّهَى مِن المؤمِنينَ عن الشَّهَواتِ، واستِكمالِ الطَّيِّباتِ ، وقد تورَّع أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ الله عنه عن كثيرٍ مِن طَيِّباتِ المآكِلِ والمَشارِبِ، وتَنزَّهَ عنها، وقال: (إنِّي أخافُ أن أكونَ كالَّذين قال اللهُ تعالى لهم وقرَّعهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) . وقال ابنُ عُمَرَ رضيَ الله عنهما: (لا يُصيبُ عبدٌ مِن الدُّنيا شيئًا إلَّا نقَصَ مِن درَجاتِه عندَ اللهِ، وإن كان عليه كريمًا) .
2- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا إنَّ الصَّالِحينَ يُؤثِرونَ التَّقَشُّفَ والزُّهدَ في الدُّنيا؛ رَجاءَ أن يكونَ ثَوابُهم في الآخِرةِ أكمَلَ، إلَّا أنَّ هذه الآيةَ لا تدُلُّ على المَنعِ مِن التَّنَعُّمِ ؛ لأنَّ هذه الآيةَ ورَدَتْ في حَقِّ الكافِرِ، وإنَّما وبَّخ اللهُ الكافِرَ؛ لأنَّه يَتمَتَّعُ بالدُّنيا، ولم يُؤَدِّ شُكرَ المُنعِمِ بطاعتِه والإيمانِ به، وأمَّا المؤمِنُ فإنَّه يُؤدِّي بإيمانِه شُكرَ المُنعِمِ، فلا يُوَبَّخُ بتمَتُّعِه، والدَّليلُ عليه قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ، والاحتِرازُ عن التَّنَعُّمِ أَوْلى؛ لأنَّ النَّفْسَ إذا اعتادت التَّنَعُّمَ صَعُب عليها الاحتِرازُ والانقِباضُ، وحينَئذٍ فرُبَّما حمَلَه المَيلُ إلى تلك الطَّيِّباتِ على فِعلِ ما لا ينبغي، وذلك ممَّا يَجُرُّ بَعضُه إلى بعضٍ، ويقَعُ في البُعدِ عن اللهِ تعالى بسَبَبِه .
3- مَن صام اليومَ عن شَهَواتِه أفطَرَ عليها بعدَ مماتِه، ومَن تعَجَّل ما حُرِّم عليه قبْلَ وَفاتِه عُوقِبَ بحِرمانِه في الآخرةِ وفَواتِه، وشاهِدُ ذلك قَولُه تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا الآيةَ، وقَولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا لم يَشرَبْها في الآخِرةِ إلَّا أنْ يَتُوبَ )) ، و: ((مَن لَبِسَ الحَريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخِرةِ )) ، فمَن تَرَكَ اللَّذَّةَ المحرَّمةَ للهِ استَوْفاها يومَ القيامةِ أكمَلَ ما تكونُ، ومَنِ استَوفاها هنا حُرِمَها هناك أو نُقِصَ كمالَها؛ فلا يَجعَلُ اللهُ لَذَّةَ مَن أسرَعَ في معاصيه ومَحارِمِه كلَذَّةِ مَن ترَكَ شَهوتَه للهِ أبدًا !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكَر الله تعالى فريقَ الكافرينَ، ووصَفهم بعقوقِ الوالدَينِ، وبإنكارِهم البعثَ، وفيه أنَّه لا شيءَ أفحشُ مِن عقوقِ الوالدَينِ، وإنكارِ الحشرِ .
2- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَقتَضي أنَّ الجِنَّ يموتونَ كما يموتُ البَشَرُ قَرنًا بعدَ قَرنٍ .
3- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أنَّ الجِنَّ مأمورون مَنهيُّونَ مُكَلَّفونَ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ؛ فقد أخبَرَ اللهُ أنَّ منهم مَن حَقَّ عليه القَولُ -أي: وَجَبَ عليه العَذابُ-، وأنَّه خاسرٌ، ولا يكونُ ذلك إلَّا في أهلِ التَّكليفِ المُستوجِبينَ العِقابَ بأعمالِهم، ثمَّ قال بعدَ ذلك: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: في الخَيرِ والشَّرِّ يُوَفَّونَها ولا يُظلَمونَ شَيئًا مِن أعمالِهم، وهذا ظاهِرٌ جِدًّا في ثَوابِهم وعِقابِهم، وأنَّ مُسيئَهم كما يَستحِقُّ العذابَ بإساءتِه فمُحسِنُهم يَستحِقُّ الدَّرَجاتِ بإحسانِه وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا؛ فدلَّ ذلك لا مَحالةَ أنَّهم كانوا مأمورينَ بالشَّرائعِ، مُتَعَبَّدِينَ بها في الدُّنيا؛ ولذلك استحَقُّوا الدَّرَجاتِ بأعمالِهم في الآخِرةِ في الخَيرِ والشَّرِّ ، ثمَّ قال: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أي: جزاءَها مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وجَنَّةٍ ونارٍ، وهذا ظاهِرٌ أو نَصٌّ في أنَّ الجِنَّ يُثابُونَ بالإحسانِ، كما يُعاقَبونَ بالعِصيانِ .
4- في قَولِه تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أنَّ تَفاوُتَ أهلِ النَّارِ في العذابِ هو بحَسَبِ تفاوُتِ أعمالِهم الَّتي دخَلوا بها النَّارَ .
5- أخبَر اللهُ تعالى أنَّ الدُّنيا والغِنى والمالَ إنَّما جَعَلَها اللهُ مُتعةً لِمَن لا نصيبَ له في الآخرةِ؛ وأنَّ الآخِرةَ جَعَلَها للمُتَّقِينَ، فقال جلَّ وعلا: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، وقال أيضًا: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] ، وإلى هذا المعنى أشار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه لِعُمَرَ رضيَ الله عنه: ((أمَا تَرضَى أنْ تكونَ لهم الدُّنيا ولنا الآخِرةُ؟ )) .
6- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ احتُجَّ به على أنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّرائعِ؛ لأنَّه عَلَّل عَذابَهم بأمْرَينِ؛ أوَّلُهما: الكُفرُ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وثانيهما: الفِسقُ. وهذا الفِسقُ لا بدَّ أن يكونَ مُغايِرًا لذلك الكُفرِ؛ لأنَّ العَطفَ يُوجِبُ المغايَرةَ؛ فثَبَت أنَّ فِسقَ الكُفَّارِ يُوجِبُ العِقابَ في حَقِّهم، ولا معنى للفِسقِ إلَّا تَركُ المأموراتِ وفِعلُ المَنهيَّاتِ .
7- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أنَّ عُقوبةَ التَّكَبُّرِ الهَوانُ والذُّلُّ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ... هذا الفريقُ المَقصودُ مِن هذه الآياتِ المَبْدوءةِ بقَولِه تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ [الأحقاف: 15] . وهذا الفريقُ الَّذي كَفَرَ بِرَبِّه وأساء إلى والِدَيْه؛ فجُملةُ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ الأحسَنُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على جُملةِ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [الأحقاف: 7] إلخ؛ وهي انتِقالٌ إلى مَقالةٍ أُخْرى مِن أُصولِ شِرْكِهم؛ وهي مَقالةُ إنْكارِ البَعثِ .
- والمُرادُ بـ (الَّذِي قَالَ): الجِنسُ القائلُ ذلك القولَ؛ ولذلك وَقَعَ الخبَرُ مَجموعًا: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الأحقاف: 18] .
- وأُفٍّ: اسْمُ فِعلٍ بمَعنى: أتضَجَّرُ، وهو هنا مُستعمَلٌ كِنايةً عن أقلِّ الأذى؛ فيَكونُ الَّذين يُؤذُون والِدَيْهم بأكثَرَ مِن هذا أوغَلَ في العُقوقِ الشَّنيعِ، وأحْرى بالحُكْمِ؛ بدَلالةِ فَحْوى الخِطابِ .
- والاستِفهامُ في أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إنكارٌ وتَعجُّبٌ، وجُعِلَت جُملةُ الحالِ -وهي وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي- قَيدًا لِمُنتهَى الإنكارِ، أي: كيف يكونُ ذلك في حالِ مُضِيِّ القُرونِ ؟!
- وقولُهما: وَيْلَكَ دُعاءٌ عليه بالثُّبورِ، والمُرادُ به الحثُّ والتَّحريضُ على الإيمانِ، لا حَقيقةُ الهَلاكِ، حيثُ إنَّ فيه إشْعارًا بأنَّ الفِعلَ المُرتَكبَ حَقيقٌ بأنْ يُهلَكَ مُرتكِبُه، وأنْ يُطلَبَ له الهَلاكُ، فإذا سمِعَ ذلك كان باعثًا على تَرْكِه ، فكلمةُ (وَيْلَك) كَلمةُ تَهديدٍ وتَخويفٍ .
- وليستْ جُملةُ وَيْلَكَ آَمِنْ بَيانًا لمعنَى اسْتِغاثَتِهما، ولكنَّها مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه مَعنى الجُملةِ .
- وقولُهما: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعليلٌ لِلْأمْرِ بالإيمانِ، وتَعريضٌ له بالتَّهديدِ مِن أنْ يَحِقَّ عليه وَعْدُ اللهِ .
- وقولُهما: وَعْدَ اللَّهِ أي: البعثَ، أضافَا الوعدَ إليه تعالَى؛ تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على خَطَئِه في إسنادِ الوعْدِ إليهما .
2- قولُه تعالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ... اسْتِحضارُ هذا الفريقِ بطَريقِ اسمِ الإشارةِ؛ لِزِيادةِ تَمْييزِ حالِهم العَجيبةِ .
- وتَعريفُ الْقَوْلُ تَعريفُ العهْدِ، وهو قَولٌ مَعهودٌ عِندَ المُسلمينَ؛ لِمَا تَكرَّرَ في القُرآنِ مِن التَّعبيرِ عنه بالقَولِ في نحوِ آيةِ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]، ونحوِ قولِه: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] الآيةَ .
- وقولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ تَعليلٌ للحُكمِ بطَريقِ الاستِئنافِ التَّحقيقيِّ .
- وتأْكيدُ الكَلامِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ لأنَّهم يَظُنُّون أنَّ ما حصَلَ لهم في الدُّنيا مِن التَّمتُّعِ بالطَّيِّباتِ فَوزًا ليس بعْدَه نَكَدٌ؛ لأنَّهم لا يُؤمِنون بالبَعثِ والجَزاءِ .
- وإيرادُ فِعلِ الكَونِ كَانُوا خَاسِرِينَ دونَ أنْ يُقالَ: (إنهم خاسِرون)؛ لِلْإشارةِ إلى أنَّ خُسْرانَهم مُحقَّقٌ؛ فكُنِّيَ عن ذلك بجَعْلِهم كائنينَ فيه، فـ (كان) تدُلُّ على أنَّ الخَسارةَ مُتمكِّنةٌ منهم .
3- قولُه تعالَى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- قولُه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا تَنوينُ (كُلٍّ) تَنْوينُ عِوَضٍ عمَّا تُضافُ إليه (كُل)، وهو مُقدَّرٌ يُعلَمُ مِن السِّياقِ، أي: ولكلِّ الفَريقَينِ -المؤمِنُ البارُّ بوالِدَيْه، والكافرُ الجامِعُ بيْن الكُفْرِ والعُقوقِ- دَرَجاتٌ، أي: مَراتِبُ مِن التَّفاوُتِ في الخَيرِ بالنِّسبةِ لِأهْلِ جَزاءِ الخيرِ، وهمُ المُؤمِنون، ودَرَكاتٌ في الشَّرِّ لِأهْلِ الكُفْرِ .
- قولُه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا التَّعبيرُ عن مَراتبِ المُؤمِنينَ والكافرينَ بالدَّرَجاتِ تَغليبٌ؛ لأنَّ الدَّرَجةَ مَرْتبةٌ في العُلوِّ، وهو عُلُوٌّ اعتباريٌّ إنَّما يُناسِبُ مَراتبَ الخَيرِ، وأمَّا المَرتبةُ السُّفْلى فهي الدَّرَكةُ؛ قال تعالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ؛ ووَجْهُ التَّغليبِ التَّنويهُ بشَأْنِ أهْلِ الخَيرِ .
 أو عُبِّر بالدَّرَجاتِ؛ لأنَّه تعالَى لَمَّا ذَكَر الفريقَ الأوَّلَ، ووَصَفَهم بثَباتٍ في القَولِ، واستِقامةٍ في الفِعلِ، ورتَّبَ عليه جَزاءَهم، وأوقَعَ قَولَه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [الأحقاف: 15] اسْتِطْرادًا في البَيْنِ، وعقَّبَ ذلك بذِكْرِ فَريقِ الكافرينَ، ووصَفَهم بعُقوقِ الوالدَينِ، وبإنْكارِهم البَعثَ، وجعَلَ العُقوقَ أصْلًا في الاعتبارِ، وكرَّرَ في القِسمِ الأوَّلِ الجَزاءَ -وهو ذِكْرُ الجنَّةِ- مِرارًا ثلاثًا، وأفرَدَ جَزاءَ الكافِرِ -وهو ذِكرُ النَّارِ- وأخَّرَه بعْدَ ذِكرِ ما يَجمَعُهما مِن قَولِه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ؛ غلَّب الدَّرَجاتِ على الدَّرَكاتِ لذلك .
 وقيل: الدَّرَجاتُ هي: الطَّبقاتُ مِن المراتِبِ مُطلَقًا. أو فيه إضمارٌ، تَقديرُه: ولكلِّ فَريقٍ دَرَجاتٌ أو دَرَكاتٌ، لكنْ حُذِفَ الثَّاني اختِصارًا؛ لِدَلالةِ المَذْكورِ عليه .
وقيل: المرادُ بالدَّرَجاتِ المراتِبُ المُتزايدةُ، إلَّا أنَّ زياداتِ أهلِ الجنَّةِ في الخَيراتِ والطَّاعاتِ، وزياداتِ أهلِ النَّارِ في المعاصي والسَّيِّئاتِ .
- و(مِن) في قولِه: مِمَّا عَمِلُوا تَبْعيضيَّةٌ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، والمُرادُ بـ مِمَّا عَمِلُوا جَزاءُ ما عَمِلوا، فيُقدَّرُ مُضافٌ .
- وقولُه: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ هو عِلَّةٌ لِمَحذوفٍ دلَّ عليه الكَلامُ، وتَقديرُه: قدَّرْنا جَزاءَهم على مَقاديرِ دَرجاتِهم؛ لِنُوَفِّيَهم جَزاءَ أعْمالِهم، أي: نُجازِيَهم تامًّا وافيًا لا غَبْنَ فيه .
- وجُملةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ احتِراسٌ مَنظورٌ فيه إلى تَوفيةِ أحَدِ الفريقَينِ، وهو الفريقُ المُستحِقُّ للعُقوبةِ؛ لِئلَّا يُحسَبَ أنَّ التَّوفيةَ بالنِّسبةِ إليهم أنْ يكونَ الجَزاءُ أشدَّ ممَّا تَقْتضيهِ أعمالُهم .
4- قولُه تعالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ انْتِقالٌ إلى وَعيدِ الكافرينَ على الكُفْرِ بحَذافِرِه، وذلك زائدٌ على الوَعيدِ المُتقدِّمِ المُتعلِّقِ بإنْكارِهم البَعثَ مع عُقوقِهم الوالدَينِ المُسلِمينِ؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف: 17] الآياتِ .
- والكلامُ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: ويُقالُ لِلَّذِينَ كفَروا يومَ يُعرَضونَ على النَّارِ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ... ومُناسَبةُ ذِكْرِه هنا: أنَّه تَقريرٌ لِمَعنى لَا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 19] ، أي: لا يُظلَمون في جَزاءِ الآخرةِ، مع أنَّنا أنْعَمْنا عليهم في الدُّنيا، ولو شِئْنا لَعَجَّلْنا لهم الجَزاءَ على كُفْرِهم في الحياةِ الدُّنيا، فهو إعذارٌ لهم وتَقريرٌ لِكَونِهم لا يُظلَمونَ، فرُتِّبَ عليه قولُه: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ؛ فالفاءُ فَصيحةٌ، والتَّقديرُ: إنْ كان كذلك فاليَومَ لم يَبْقَ لكمْ إلَّا جَزاءُ سَيِّئِ أعْمالِكم، وليستِ الفاءُ للتَّفريعِ ولا للتَّسبُّبِ .
- قولُه: أَذْهَبْتُمْ بهَمزةٍ واحدةٍ، على أنَّه خَبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ، وقُرِئَ: أَأَذْهَبْتُمْ بهَمْزتينِ ، وهذا الاستِفهامُ هو على مَعنى التَّوبيخِ والتَّقريرِ؛ فتَؤولُ القِراءتانِ إلى مَعنًى واحدٍ .
- وفي هذِه الآيةِ كِنايةٌ عن عَدَمِ الإيمانِ، والمعنى: أنَّه كانتْ تَكونُ لكمْ طَيِّباتُ الآخِرةِ لو آمنْتُم، لكنَّكم لم تُؤمِنوا، فاسْتَعْجَلْتم طَيِّباتِكم في الحياةِ الدُّنيا، ثمَّ بيَّنَ تلك الكِنايةَ بقَولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي: تَترفَّعون عن الإيمانِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي: بمَعاصي الجوارحِ. وقدَّمَ ذَنْبَ القلْبِ -وهو الاستِكبارُ- على ذَنْبِ الجوارِحِ؛ إذ أعمالُ الجوارِحِ ناشئةٌ عن مُرادِ القلْبِ ، ولأنَّ أحوالَ القُلوبِ أعظَمُ وَقعًا مِن أعمالِ الجوارحِ .
- قولُه: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادةٌ لِتَشنيعِ الاستِكبارِ بذِكْرِ ما هو صِفةٌ لازِمةٌ له، وهو مُغايَرةُ الحَقِّ، أي: بالباطِلِ، وهي حالٌ لازِمةٌ للاستِكبارِ، كاشِفةٌ لِوَصفِه؛ إذِ الاستِكبارُ لا يكونُ بحَقٍّ في جانِبِ الخَلْقِ .
وقيل: قَولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ صِلةٌ للاستِكبارِ، وقَيدٌ له؛ فإنَّه يُتَصَوَّرُ أن يَتكَلَّفَ الإنسانُ إعلاءَ نَفْسِه على غَيرِه أو إكثارَه مِنَ الاستِعلاءِ عليه بحَقٍّ، كالتَّرفُّعِ عن المُبطِلينَ، وإهانةِ الجبَّارينَ، واحتِقارِ المحارِبينَ، وإن كان الأصلُ الغالِبُ في الاستِكبارِ أن يكونَ بغيرِ الحَقِّ.
أو المعنى: أنَّهم يَستَكبِرونَ حالةَ كَونِهم مُتلَبِّسينَ بغَيرِ الحَقِّ، أي: مُنغَمِسينَ في الباطِلِ؛ فأمثالُ هؤلاءِ لا قيمةَ للحَقِّ في نَفْسِه عِندَهم، فهم لا يَطلُبونَه، ولا يَبحَثونَ عنه .