موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (146-147)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات :

سَأَصْرِفُ: أي: سأَرُدُّ، والصَّرفُ: رَدُّ الشَّيءِ من حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه، وأصْلُ (صرف): يدُلُّ على رجْعِ الشَّيءِ [1687] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/342)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482). .
الْغَيِّ: أي: الانهِماكِ في الباطلِ والضَّلالِ، والجهلِ بالأمْر مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصْلُ الغَيِّ: خِلافُ الرُّشْدِ [1688] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 37)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 113). .
غَافِلِينَ: أي: ساهِينَ لاهِين، والغَفْلةُ: سَهْوٌ يَعْتري الإنسانَ مِن قِلَّةِ التَّحفُّظِ والتَّيقُّظِ، وأَصْلُ (غفل): ترْكُ الشَّيءِ سَهْوًا، وربَّما كان عن عَمْدٍ [1689] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/445)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/386)، ((المفردات)) للراغب (ص: 609). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه سيُبْعِدُ عن آياتِه الَّذينَ يَتكبَّرونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، وإنْ يَرَوْا كُلَّ حُجَّةٍ تدُلُّ على أنَّ اللهَ هو مَنْ يَستحِقُّ العِبادةَ لا يُؤمِنوا بها، وإنْ يَرَوْا طَريقَ الهُدى والاستقامةِ لا يَسلُكوه، وإنْ يَرَوْا سَبيلَ الضَّلالِ يَسلُكوه؛ ذلك بأنَّهم كذَّبوا بآياتِ اللهِ، وكانوا عنها غافلين.
ثُمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ الَّذينَ كذَّبوا بآياتِه، وأنْكَروا البَعْثَ بعْدَ الموتِ، ولقاءَه في الآخرةِ، بَطَلَتْ أعمالُهم، ولا يُجْزَوْنَ إلَّا بما يَستحِقُّونَ من العِقابِ على أعمالِهم السَّيِّئةِ.

تفسير الآيتين :

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ المتقدمةِ قولَه: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ، ذَكَرَ ما يعاملُهم به، وما يَفْعَلُ بهم مِنْ صَرْفِه إيَّاهم عن آياتِه؛ لِفِسْقِهم وخُروجِهم عن طَوْرِهم إلى وَصْفٍ ليس لهم، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى من أحوالِهم ما استحقُّوا به اسْمَ الفِسْقِ [1690] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/365)، ((تفسير أبي حيان)) (5/173). ، فقال:
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أي: سأَمْنَعُ وأصُدُّ عن فَهْمِ آياتِ كُتبي المُنزَّلةِ، وعن التَّفكُّرِ في آياتي الكَوْنيَّةِ الدَّالَّةِ على عَظَمَتي، الَّذينَ يُعجَبونَ بأنفُسِهم؛ فيَرُدُّونَ الحقَّ، ويَحتقِرونَ الخَلْقَ [1691] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/443-444)، ((البسيط)) للواحدي (9/350)، ((تفسير البغوي)) (2/234)، ((تفسير ابن عطية)) (2/454)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/154)، ((تفسير القرطبي)) (7/283)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/45)، ((تفسير ابن كثير)) (3/474- 475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/104). .
كما قال تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 45-46] .
وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وقال سُبحانَه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [التوبة: 124-127] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَنْ كان في قلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قال رجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حسنةً، قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ [1692] بَطَرُ الحَقِّ: أي: دَفعُه وإنكارُه؛ ترفُّعًا وتجبُّرًا. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/90). ، وغَمْطُ النَّاسِ [1693] غَمْطُ النَّاسِ: أي: احتقارُهم. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/90). ) [1694] رواه مسلم (91). .
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا 
أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرون كُلَّ حُجَّةٍ للهِ تدُلُّ على أنَّه المُستحِقُّ للعبادةِ وحْدَه، لا يُؤمِنوا بها، سواءٌ كانت آيةً مُنزَّلةً، أو آيةً كَوْنيَّةً، أو معجزةً خارقةً [1695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/444)، ((تفسير البغوي)) (2/234)، ((تفسير الشوكاني)) (2/279). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ* وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 12- 15] .
وقال جلَّ جلالُه: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111] .
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرونَ طريقَ الهُدى ظاهرًا لهم، لا يسلُكوه، ولا يَرْغَبوا فيه [1696] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/444)، ((تفسير القرطبي)) (7/283)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). قال ابنُ عاشور: (والرُّشْدُ: الصَّلاحُ، وفعْلُ النَّافعِ... والمرادُ به هنا: الشيءُ الصَّالحُ كلُّه من الإيمان والأعمالِ الصَّالحةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/105). .
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرونَ طريقَ الضَّلالِ ظاهرًا لهم، يَسلُكوه، ويَرْغَبوا فيه [1697] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/444)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). قال ابنُ عاشور: (والغَيُّ: الفساد والضَّلالُ... فالمعنى: إنْ يُدرِكوا الشَّيءَ الصَّالحَ لم يعملوا به؛ لغلبةِ الهوَى على قُلوبِهم، وإن يُدْرِكوا الفسادَ عَمِلوا به لغَلبةِ الهوَى). ((تفسير ابن عاشور)) (9/105). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي: صرْفُنا المتكبِّرينَ عن فَهْمِ آياتِنا الشَّرعيَّةِ والكَوْنيَّةِ، هو عُقوبةٌ منَّا لهم بسببِ تكذيبِهم بها [1698] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/445)، ((تفسير ابن عطية)) (2/454)، ((تفسير القرطبي)) (7/283)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475). قال ابنُ عاشور: (معنى كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أنَّهم ابتدؤوا بالتكذيبِ، ولم ينظروا، ولم يهتمُّوا بالتأمُّل في الآيات، فداموا على الكِبْرِ وما معه، فصرَفَ الله قلوبَهم عن الانتِفاع بالآيات، وليس المرادُ الإخبارَ بأنَّهم حصَلَ منهم التكذيبُ؛ لأنَّ ذلك قد عُلِمَ من قوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا). ((تفسير ابن عاشور)) (9/107). .
  وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
أي: وكان الكافرون مُعْرِضينَ عن تلك الآياتِ، لا يَتدبَّرونها، ولا يتفكَّرون فيها [1699] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/445)، ((البسيط)) للواحدي (9/353)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475)،((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/107). ذهب أبو حيَّان، والسعديُّ إلى أنَّ قوله تعالى: وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ معطوفٌ على ما قَبْلَه؛ فيكون سببُ الصَّرْفِ عن فَهْمِ الآياتِ هو التَّكذيبَ بها والغفلةَ عنها. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). وقيل: يَحتمِلُ أن الصَّرْفَ سببُه التكذيبُ، ويكون قولُه: وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ استئنافَ إخبارٍ منه تعالى عنهم، أي: مِن شأنِهم أنَّهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبُّرِها؛ فأَوْرَثَتْهم الغفلةُ التكذيبَ بها. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/174- 175). .
كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1- 3] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(147) 
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ الله تعالى ما لِأَجْلِه صَرَفَ المتكبِّرينَ عن آياتِه بقولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، بيَّنَ حالَ أولئك المكذِّبينَ، فقد كان يجوزُ أنْ يُظَنَّ أنهم يَختلِفونَ في بابِ العِقابِ؛ لأنَّ فيهم مَنْ يعمَلُ بعضَ أعمالِ البِرِّ؛ فبيَّنَ تعالى حالَ جميعِهم، سواءٌ كان مُتكبِّرًا أو مُتواضِعًا، أو كان قليلَ الإحسانِ أو كثيرَ الإحسانِ، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالَهم مُحْبَطَةٌ [1700] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/367). .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
أي: والَّذينَ كذَّبوا بحُجَجِنا وأدِلَّتِنا، وأنْكَروا البَعْثَ بعْدَ الموتِ، ولِقاءَنا في الآخرةِ، واستمرُّوا على ذلك إلى مماتِهم؛ بَطَلَتْ أعمالُهم وفَسَدَتْ، وذهبَتْ كأنَّها لم تَكُنْ [1701] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/446)، ((البسيط)) للواحدي (9/353)، ((تفسير ابن عطية)) (2/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). .
هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
أي: لا نُجازي المكذِّبينَ بآياتي ولِقائي إلَّا بما يَستحِقُّونَ من العِقابِ على أعمالِهم السَّيِّئةِ [1702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/446)، ((البسيط)) للواحدي (9/353)، ((تفسير البغوي)) (2/235)، ((تفسير ابن عطية)) (2/454)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/108). .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33] .
وقال سُبحانَه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] .
وقال جلَّ جلالُه: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 27-28] .
وقال تبارَك وتعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 21-30] .

الفوائد التربوية :

القلبُ لا يَدخُلُه حَقائقُ الإيمانِ إذا كان فيه ما يُنجِّسُه مِنَ الكِبْرِ والحَسَدِ؛ فإنَّ مِن شأنِ الكِبْرِ أنْ يَصرِفَ أهلَه عن النَّظرِ والاستدلالِ على الحقِّ والهُدى لِأَجْلِ اتِّباعِه؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فالَّذينَ يتكبَّرونَ مُعْجَبونَ بأنفُسِهم، يَعُدُّونَ أنفُسَهم عُظَماءَ؛ فلا يأتمِرونَ لآمِرٍ، ولا ينتصِحونَ لناصِحٍ [1703] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/242)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/104). .

الفوائد العلمية واللطائف :

في قولِ اللهِ تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إشعارٌ بأنَّ الصَّرْفَ سببُه هذا التكبُّرُ، وفي قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا إعْلامٌ بأنَّ ذلك الصَّرْفَ سببُه التَّكذيبُ، والجَمْعُ بينهما أنَّ التَّكبُّرَ سببٌ أوَّلُ، نَشَأَ عنه التَّكذيبُ؛ فنِسْبَةُ الصَّرْفِ إلى السَّببِ الأوَّلِ وإلى ما تَسَبَّبَ عنه [1704] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/175). .
قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ؛ لِتَفْضِيحِ تكبُّرِهم، والتَّشهيرِ بهم بأنَّ كِبْرَهم مظروفٌ في الأرضِ، أي: ليس هو خَفِيًّا مُقتصِرًا على أنفُسِهم، بل هو مَبْثوثٌ في الأرضِ، أي: مَبْثوثٌ أَثَرُه، فهو تكبُّرٌ شائعٌ في بِقاعِ الأرضِ؛ كقولِه: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] ، وقولِه: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 27] ، وقولِه: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [1705] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/104- 105). [الإسراء: 37] .
قال تعالى: وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، الغفلةُ انصرافُ العقلِ والذِّهْنِ عن تذكُّرِ شيءٍ بقَصْدٍ أو بغيرِ قَصْدٍ، وأكثرُ استعمالِه في القُرآنِ فيما كان عن قَصْدٍ بإعراضٍ وتشاغُلٍ، والمذمومُ منها ما كان عن قَصْدٍ، وهو مَناطُ التَّكْليفِ والمؤاخَذةِ، فأمَّا الغفلةُ عن غيرِ قَصْدٍ فلا مؤاخَذةَ عليها، وهي المقصودُ من قولِ عُلماءِ أصولِ الفِقهِ: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ [1706] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/107). .

بلاغة الآيتين :

قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ على احتمالِ أنَّ هذِه الآيةَ تَكملةٌ لِمَا خاطَبَ اللهُ به موسَى وقومَه، فجملةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ... استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ بَني إسرائيلَ كانوا يَهابون أولئك الأقوامَ ويَخشونَ، فكأنَّهم تساءَلوا: كيف تُرينا دارَهم، وتَعِدُنا بها؟! وهو مَسوقٌ لتحذيرِهم عن التكبُّرِ الموجِبِ لعدمِ التفكُّرِ في الآياتِ، أو تكونُ الجُملةُ جوابًا لسؤالِ مَن يقول: إذا دَخَلْنا أرضَ العدوِّ فلعلَّهم يُؤمِنونَ بهَدْيِنا، ويتَّبعون دِينَنا؛ فلا نحتاجُ إلى قِتالهم، فأُجيبوا بأنَّ اللهَ يَصرِفُهم عن اتِّباعِ آياتِه؛ لأنَّهم جُبِلوا على التكبُّر في الأرضِ، والإعراضِ عن الآياتِ. وعلى احتمالِ أنْ تكونَ جملةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي مِن خِطابِ اللهِ تعالى لرسولِه مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فتكونُ الجملةُ مُعترضةً في أثناءِ قِصَّةِ بني إسرائيل، بمُناسَبةِ قولِه: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ؛ تعريضًا بأنَّ حال مُشرِكي العربِ كحالِ أولئك الفاسِقينَ، وتصريحًا بسببِ إدامتِهم العنادَ والإعراضَ عن الإيمانِ؛ فتكونُ الجملةُ مُستأنَفةً استئنافًا ابتدائيًّا [1707] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/103- 104). .
وتقديمُ المجرورِ عَنْ آيَاتِي على مَفعولِ سَأَصْرِفُ؛ للاهتمامِ بالآياتِ، ولأنَّ ذِكْرَه عقبَ الفعلِ المتعلِّقِ هو به أَحسنُ [1708] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/104). .
وتعريفُ المصروفِينَ عن الآياتِ بطريقِ الموصوليَّةِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ...؛ للإيماءِ بالصِّلةِ إلى عِلَّةِ الصَّرْف، وهي ما تَضمَّنتْه الصِّلاتُ المذكورةُ؛ لأنَّ مَن صارتْ تِلك الصفاتُ حالاتٍ له لا يَنصُرُه اللهُ، أو لأنَّه إذا صارَ ذلك حالَه رِينَ على قَلْبِه؛ فصُرِفَ قَلبُه عن إدراكِ دَلالةِ الآياتِ، وزالتْ منه الأهليَّةُ لذلك الفَهْمِ الشَّريفِ [1709] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/104). .
وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ جاءَ لتشنيعِ التَّكبُّرِ بذِكرِ ما هو صِفةٌ لازمةٌ له، وهو مُغايَرةُ الحقِّ، أي: باطل، وهي حالٌ لازمةٌ للتكبُّرِ، كاشِفةٌ لوصْفِه؛ إذ التكبُّرُ لا يكونُ بحقٍّ في جانبِ الخَلْقِ، وإنَّما هو وصْفٌ لله بحقٍّ؛ لأنَّه العظيمُ على كلِّ موجودٍ [1710] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/105). .
قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا، واجْتُلِبت (أنَّ) الدالة على المصدريَّة والتوكيدِ؛ لتحقيقِ هذا التسبُّبِ وتأكيدِه؛ لأنَّه محلُّ غرابةٍ [1711] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/106). .
وصِيغَ الإخبارُ عنهم بصِيغةِ وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ غَفلتِهم، وللتنبيهِ على أنَّ غَفلتَهم عن قصْدٍ، وكونِها دَأبًا لهم، وإنَّما تكون كذلك إذا كانوا قد الْتَزَموها، فأمَّا لو كانتْ عن غيرِ قَصدٍ؛ فإنَّها قد تَعترِيهم وقد تُفارِقُهم [1712] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/107). .
قوله: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هذه الجملةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، جَوابًا عن سؤالٍ ينشأُ عن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ إذ قدْ يقولُ سائلٌ: كيف تَحبَطُ أعمالُهم الصالحةُ؟ فأُجيبَ بأنَّهم جُوزوا كما كانوا يَعملون، والاستفهامُ بـهَلْ مُشرَبٌ معنى النَّفي [1713] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/108). .