موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (124-127)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه إذا ما أنزَلَ سُورةً مِن القُرآنِ على نبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمِنَ المُنافِقينَ مَن يَقول لِغَيرِه؛ احتقارًا لِمَا أنزَلَ اللهُ: أيُّكم زادَتْه هذه السُّورةُ إيمانًا، ويبَيِّنُ تعالى أنَّ المُؤمِنينَ زادَتْهم السُّورةُ إيمانًا إلى إيمانِهم، وهم يَستَبشِرونَ، وأمَّا الذين في قُلوبِهم شَكٌّ ونِفاقٌ، فزادَتْهم كُفرًا وشَكًّا إلى كُفرِهم وشَكِّهم، وماتوا وهم كافِرونَ.
أَوَلا يرى المُنافِقونَ أنَّهم يُختَبَرونَ في كلِّ عامٍ مرَّةً أو مرَّتينِ، ثم لا يتوبونَ، ولا هم يتَّعِظونَ؟!
ويُخبِرُ تعالى أنَّه إذا أَنزَلَ سورةً من القُرآنِ، فيها فَضْحُ أسرارِ المُنافِقينَ، نظر بعضُهم إلى بعضٍ، وقالوا: هل يَراكم أحَدٌ ينقُلُ كَلامَكم إلى محمَّدٍ، فيَطَّلِع على أسرارِنا؟! ثم انصَرَفوا عن الإيمانِ والعمَلِ بما سَمِعوا في السُّورةِ، ولم يَهتَدُوا مع إخبارِ القُرآنِ بأسرارِهم، صرَفَ اللهُ قُلوبَهم؛ بسببِ أنَّهم قومٌ لا يَفهَمونَ.

تفسير الآيات:

وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124).
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا.
أي: وإذا أنزَلَ اللهُ سُورةً مِن القُرآنِ على نبيِّه مُحَمَّدٍ، فمِنَ المُنافِقينَ مَن يقولُ لِغَيرِه ؛ احتقارًا لِمَا أنزَلَ اللهُ: أيُّكم زادَتْه هذه السُّورةُ إيمانًا باللهِ وبآياتِه ؟!
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
أي: فأمَّا المُؤمِنونَ فزادَتْهم السُّورةُ- التي أنزَلَها اللهُ- إيمانًا إلى إيمانِهم وهم فَرِحونَ بفَضْلِ اللهِ، وما أنزَلَ عليهم في القُرآنِ مِن الهُدى والرَّحمةِ، والوَعدِ بالخَيرِ في الدُّنيا والآخرةِ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58] .
وقال سُبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125).
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ.
أي: وأمَّا الذينَ في قُلوبِهم شكٌّ ونِفاقٌ، فزادَتْهم السُّورةُ- التي أنزَلَها اللهُ- كُفرًا إلى كُفرِهم، وشَكًّا إلى شَكِّهم .
كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .
وقال سُبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ.
أي: ومات المُنافِقون وهم مُصِرُّونَ على كُفرِهم، لم يتوبوا إلى اللهِ .
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الذينَ في قُلوبِهم مَرَضٌ يموتونَ وهم كافِرونَ، وذلك يدُلُّ على عذابِ الآخرةِ؛ بيَّنَ أنَّهم لا يتخَلَّصونَ في كلِّ عامٍ مَرَّةً أو مرَّتَينِ من عذابِ الدُّنيا .
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ أَوَلَا تَرَوْنَ بالتَّاءِ، ويكونُ الخِطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، بمعنى: أوَلَا تَرَونَ- أيُّها المُؤمِنونَ- أنَّ المُنافِقين يُفتَنونَ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ ؟!
2- قراءةُ أَوَلَا يَرَوْنَ بالياءِ، ويكونُ الضَّميرُ عائدًا على المُنافِقينَ، بمعنى: أوَلا يَرى المُنافِقونَ أنَّهم يُفتَنونَ في كلِّ عامٍ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ ؟!
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.
أي: أوَلا يرى المُنافِقونَ أنَّ اللهَ يَختَبِرُهم في بعضِ الأعوامِ مرَّةً، وفي بعض الأعوامِ مرَّتينِ ؟!
ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ.
أي: ثمَّ لا يتوبونَ عن ذُنوبِهم رغمَ البلاءِ الذي يُصيبُهم اللهُ به في كلِّ عامٍ، ولا هم يتَّعِظونَ فيَرجِعونَ إلى الله !!
كما قال تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76] .
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن مخازي المُنافِقينَ، وهو أنَّه كُلَّما نزَلَت سورةٌ مُشتَمِلةٌ على ذِكرِ المُنافِقينَ، وشَرْحِ فَضائِحِهم، وسَمِعوها- تأَذَّوا مِن سَماعِها، ونظَرَ بَعضُهم إلى بعضٍ نظَرًا مَخصوصًا دالًّا على الطَّعنِ في تلك السُّورةِ، والاستهزاءِ بها، وتحقيرِ شَأنِها .
وأيضا فإنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ ما يَحدُثُ مِن المُنافِقينَ مِن القَولِ استهزاءً؛ أتبَعَه- تأكيدًا لزيادةِ كُفرِهم، وتوضيحًا لِتَصويرِه- ما يحدُثُ مِن فِعلِهم استهزاءً مِن الإيمانِ، والتَّغامُزِ بالعُيونِ .
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ.
أي: وإذا أنزَلَ اللهُ سُورةً مِن القُرآنِ فيها فضحُ أسرارِ المُنافِقينَ، نظَرَ بَعضُهم إلى بعضٍ وقالوا خُفيةً أو بالإشارةِ المُفِهمةِ : هل يراكم أحَدٌ إذا خلوتُم، ودبَّرتُم أُمورَكم، فينقُلُ كَلامَكم إلى محمَّدٍ، ويُطلِعُه على أسرارِنا ؟!
ثُمَّ انصَرَفُواْ.
أي: ثمَّ انصرَفَ المُنافِقونَ عن الاهتداء بما سَمِعوا في السُّورةِ التي أنزَلَها اللهُ على رسولِه، ولم يَهتَدوا مع إخبارِ القُرآنِ بأسرارِهم .
وقيل: المعنى: ثم انصرَف المنافقونَ مِن عندِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم .
صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون.
أي: صرَفَ اللهُ قُلوبَ المُنافِقين عن الانتفاعِ بتلك السُّورةِ، وصَرَفَهم عن الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وخَذَلَهم وأضلَّهم؛ بسبَبِ أنَّهم قومٌ لا يَفهَمونَ كِتابَ اللهِ، ويتكبَّرونَ عن سَماعِ آياتِه والعمَلِ بها .
كما قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22-23] .
وقال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المُنافِقون: 7].

الفوائد التربوية :

1- ينبغي للمُؤمِنِ أن يتفقَّدَ إيمانَه ويتعاهَدَه، فيُجَدِّدَه وينَمِّيَه؛ ليكونَ دائمًا في صعودٍ؛ فالإيمانُ يَزيدُ ويَنقُصُ، قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .
2- قَولُ الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يدلُّ على أنَّ الرُّوحَ لها مَرَضٌ، فمَرَضُها الكُفرُ والأخلاقُ الذَّميمةُ، وصِحَّتُها الإيمانُ والعِلمُ والأخلاقُ الفاضِلةُ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ الآيةُ ذامَّةٌ لهم على عدَمِ التَّوبةِ بإصابةِ المصائِبِ؛ لعَدَمِ تذَكُّرِ أنَّه سبحانه ما أصابَهم بها إلَّا بذُنوبِهم .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ هذه الآيةُ مِن أكبَرِ الدَّلائِلِ على أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ، كما هو مذهَبُ أكثَرِ السَّلَفِ والخَلَفِ مِن أئمَّةِ العُلَماءِ، بل قد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ ، فالآيةُ حجةٌ على المرجئةِ فيما ينكرونَه مِن زيادةِ الإيمان ونقصِه، وهذا نَصُّ القرآنِ ينطقُ بزيادتِه .
2- الفرَحُ باللهِ وبِرَسولِه، وبالإيمانِ وبالسنَّةِ، وبالعِلم وبالقُرآنِ: من أعلى مَقاماتِ العارِفينَ؛ قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وقال: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] فالفرَحُ بالعِلمِ والإيمانِ والسنَّةِ، دليلٌ على تعظيمِه عند صاحِبِه، ومحَبَّتِه له، وإيثارِه له على غَيرِه، فإنَّ فرَحَ العَبدِ بالشَّيءِ عند حصولِه له: على قَدْرِ مَحَبَّتِه له، ورَغبَتِه فيه. فمَن ليس له رغبةٌ في الشَّيءِ لا يُفرِحُه حُصولُه له، ولا يَحزُنُه فَواتُه؛ فالفَرَحُ تابِعٌ للمحبَّةِ والرَّغبةِ .
3- دلَّ قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ على أنَّ الهُدى تخلَّفَ عنهم؛ لأنَّ المحَلَّ الذي سيتأثَّرُ به غيرُ قابلٍ له- وهو القَلبُ- فمَرَضُ قُلوبِهم كان هو المانِعَ مِن الهُدى .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
قولُه: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ... هذه الآيةُ زِيدَت فيها (مَا) عَقِبَ (إِذَا)؛ للتَّأكيدِ، أي: لِتَأكيدِ مَعْنى (إذا) وهو الشَّرطُ؛ لأنَّ هذا الخبَرَ لِغَرابتِه كان خَليقًا بالتَّأكيدِ، ولأنَّ المنافِقين يُنكِرون صُدورَه مِنهم .
قولُه: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا الاستفهامُ في قولِهم: أَيُّكُمْ قالوه إنكارًا واستهزاءً بالمؤمنِينِ، واعتقادِهم زيادةَ الإيمانِ بزِيادةِ العِلمِ الحاصِلِ بالوحيِ والعَملِ به؛ فتتَضَّمنُ مَعنى إنكارِ أن يَكونَ نُزولُ سُوَرِ القرآنِ يَزيدُ سامِعيها إيمانًا؛ توَهُّمًا مِنهم بأنَّ ما لا يَزيدُهم إيمانًا لا يَزيدُ غيرَهم إيمانًا يَقيسون على أحوالِ قُلوبِهم .
والفاءُ في قولِه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا...؛ للتَّفريعِ على حِكايةِ استِفْهامِهم بِحَملِه على ظاهرِ حالِه، وصَرفِه عن مَقصِدِهم مِنه. وتلك طريقةُ الأسلوبِ الحكيمِ، وهو: تلَقِّي المخاطَبِ بغَيرِ ما يتَرقَّبُ؛ بحَمْلِ كلامِه على خِلافِ مُرادِه لِنُكتةٍ، وهي هنا إبطالُ ما قصَدوه مِن نَفيِ أن تَكونَ السُّورةُ تَزيدُ أحَدًا إيمانًا قياسًا على أحوالِ قُلوبِهم؛ فأُجيبَ استِفْهامُهم بهَذا التَّفصيلِ المتفرِّعِ عليه، فأثبَت أنَّ للسُّورةِ زيادةً في إيمانِ بعضِ النَّاسِ، وأكثرَ مِن الزِّيادةِ، وهو حُصولُ البِشْرِ لهم، وارتُقِيَ في الجوابِ عن مَقصدِهم مِن الإنكارِ بأنَّ السُّورةَ ليسَت منفيًّا عنها زيادةٌ في إيمانِ بعضِ النَّاسِ فقط، بل الأمرُ أشدُّ؛ إذ هي زائدةٌ في كُفرِهم، فالقِسمُ الأوَّلُ المؤمِنون: زادَتْهم إيمانًا، وأكسَبَتْهم بُشْرى، فحَصَل مِن السُّورةِ لهم نَفْعانِ عَظيمانِ، والقِسْمُ الثَّاني الَّذين في قُلوبِهم مرَضٌ: زادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهم، وماتوا وهم كافِرون .
2- قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ
قولُه: وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ في جانبِ المنافِقين، قُوبِلَ به قولُه: وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ في جانبِ المؤمِنين؛ تَحسينًا بالازدِواجِ، بحيثُ كانَت للسُّورةِ فائِدَتانِ للمُؤمِنين، ومُصيبَتان على المنافِقين؛ فجعَل موتَهم على الكُفرِ- المتسبَّبَ على زيادةِ السُّورةِ في كُفرِهم- بمَنزلةِ مصيبةٍ أخرى غيرِ الأولى، وإن كانَت في الحقيقةِ زيادةً في المصيبَةِ الأولى .
3- قولُه تعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
قولُه: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ... فيه تَقديمُ همزةِ الاستِفْهامِ على حرْفِ العطفِ؛ على طريقةِ تَصْديرِ أدَواتِ الاستِفْهامِ، والتَّصديرُ للتَّنبيهِ على أنَّ الجملةَ في غرَضِ الاستِفْهامِ، والاستفهامُ هنا إنكارٌ وتعجُّبٌ؛ لعدَمِ رُؤيتِهم فِتنَتَهم، فلا تَعقُبُها توبتُهم، ولا تُذكِّرُهم أمرَ ربِّهم، والغرَضُ مِن هذا الإنكارِ هو الاستدلالُ على ازدِياد كُفرِ المنافِقين، وتَمكُّنِه كلَّما نزَلَت سُورةٌ مِن القرآنِ بإيرادِ دليلٍ واضحٍ يَنزِلُ مَنزِلةَ المحسوسِ المرئيِّ؛ حتَّى يتوجَّهَ الإنكارُ على مَن لا يَراه .
4- قولُه تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ
قولُه: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ بيانٌ لجملةِ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ لأنَّ النَّظرَ تَفاهَموا به فيما هو سرٌّ بينَهم؛ فلمَّا كان النَّظرُ نظرَ تَفاهُمٍ صحَّ بيانُ جُملتِه بما يدُلُّ على الاستِفْهامِ التَّعجُّبيِّ، ففي هذا النَّظْمِ إيجازُ حذفٍ بديعٌ دلَّت عليه القرينةُ، والتَّقديرُ: وإذا ما أُنزِلَت سورةٌ فيها فَضيحةُ أمْرِهم، نظَر بعضُهم إلى بعضٍ بخائِنَةِ الأعيُنِ، مُستَفهِمين مُتعجِّبين مِن اطِّلاعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على أسرارِهم، أي: هل يَراكم مِن أحدٍ إذا خلَوتُم، ودبَّرتُم أمورَكم؛ لأنَّهم بكُفرِهم لا يَعتَقِدون أنَّ اللهَ أَطْلَعَ نبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على دَخيلةِ أمرِهم .
قولُه: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مُستأنَفٌ استِئنافًا بيانيًّا ، وصيغتُه خبرٌ، غرَضُه الدُّعاءُ عليهم بِصَرفِ قُلوبِهم عمَّا في قلوبِ أهلِ الإيمانِ .
وأيضًا في قولِه: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ حُسْنُ ترتيبٍ، حيث ذكَر أوَّلًا ما يَحدُثُ عنهم مِن القولِ على سَبيلِ الاستِهْزاءِ، ثمَّ ذكَر ثانيًا ما يَصدُرُ مِنهم مِن الفعلِ على سَبيلِ الاستِهزاءِ وهو الإيماءُ والتَّغامُزُ بالعُيونِ إنكارًا للوحيِ .