موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (73-77)

ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

لَنَاكِبُونَ: أي: لجائِرونَ، مُنحرِفون، مُعْرِضونَ؛ يقال: نَكَبَ عن كذا، أي: عدَل عنه ومالَ، وأصلُ (نكب): يدُلُّ على مَيْلٍ .
لَلَجُّوا: أي: لَثَبَتُوا، ولتَمادَوْا، ولاستَمرُّوا، واللَّجاجُ: التَّمادي والعِنادُ في تعاطي الفِعلِ المزجورِ عنه، وأصل (لجج): يدُلُّ على تردُّدِ الشيءِ بَعضِه على بعضٍ، وترديدِ الشيءِ .
طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِم وتَكبُّرِهم، وأصلُ الطُّغيان: مجاوزةُ الحَدِّ .
يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويَجورونَ عَن الطَّرِيق، وأصلُ العَمَهِ: التردُّدُ في الأمْرِ مِن التحيُّرِ .
اسْتَكَانُوا: أي: خشَعوا وذَلُّوا، وخَضَعوا، وأصلُ الاستِكانةِ: إظهارُ الضَّعْفِ .
يَتَضَرَّعُونَ: أي: يَتذلَّلُون، ويَدْعُون في خشوعٍ، وأصلُ (ضرع): يَدُلُّ على لِينٍ في الشَّيءِ .
مُبْلِسُونَ: أي: مُتحيِّرون، ويائِسون مُلقون بأيديهم، والإبلاسُ: الحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، وأصلُ (بلس): يدلُّ على اليأسِ .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: إنَّك -يا محمَّدُ- تَدْعُو قَومَك إلى الإسلامِ؛ وهو الدِّينُ القويمُ، ولكِنَّ هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ مُنحَرِفونَ عن ذلك الصِّراطِ المُستقيمِ إلى غَيرِه.
ويبيِّنُ تعالى أنَّه لو رَحِمهم وكشَف عنهم ما أصابهم مِن ضُرٍّ في الدنيا، لَتَمادَوْا في الكُفرِ والعِنادِ والضلالِ الذي تجاوَزوا به الحدَّ، وهم يترَدَّدونَ متحيِّرينَ، لا يُفَرِّقونَ بينَ الحقِّ والباطلِ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه قد أخَذهم بالعذابِ في الدنيا؛ كإصابتِهم بالفقرِ والجوعِ وغيرِ ذلك، فما خَضَعوا لربِّهم، وما تَضَرَّعوا إليه سُبحانَه بالدُّعاءِ الخالِصِ لِيَكشِفَ عنهم البَلاءَ الَّذي حلَّ بهم، بلِ استَمرُّوا على جُحودِهم وعِنادِهم، حتَّى إذا فتَح الله عليهم بابًا مِنَ العذابِ الشَّديدِ إذا هم فيه نادِمونَ على ما فَعلوه مِن كفرٍ وتكذيبٍ بالحقِّ، آيِسُونَ مِن كلِّ نَجاةٍ!

تفسير الآيات:

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا زيَّفَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى طَريقةَ القَومِ؛ أتبَعَه ببَيانِ صِحَّةِ ما جاء به الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أعقَبَ تَنزيهَ الرَّسولِ عمَّا افتراهُ المُشرِكونَ عليه، بتَنزيهِ الإسلامِ عمَّا وَسَمُوه به مِنَ الأباطيلِ، والتَّنزيهِ بإثباتِ ضِدِّ ذلك؛ وهو أنَّه صِراطٌ مُستقيمٌ، أي: طريقٌ لا الْتِواءَ فيه، ولا عَقَباتٍ .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كانتْ عَظَمةُ المَلِكِ مُقْتضِيةً لِتَقبُّلِ ما أتَى به، والتَّشرُّفِ به على أيِّ حالٍ كان؛ نبَّهَ على أنَّه حقٌّ، يُكسِبُ قَبولُه الشَّرفَ لو لم يكُنْ مِن عندِ المَلِكِ؛ فكيف إذا كان مِن عِندِه؟! فكيف إذا كان مَلِكَ المُلوكِ ومالِكَ المُلْكِ؟! فكيف إذا كان الآتِي به خالِصةَ العِبادِ، وأشرَفَ الخلْقِ؟! كما قام عليه الدَّليلُ بنَفْيِ هذه المطاعِنِ كلِّها، فقال عاطِفًا على أَتَيْنَاهُمْ [المؤمنون: 71] :
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
أي: وإنَّك -يا محمَّدُ- لَتَدْعُو مُشركي قَومِك إلى طَريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، وهو دِينُ الإسلامِ .
كما قال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67] .
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74).
أي: وإنَّ المُكذِّبينَ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ لَمُنحرِفونَ عن طَريقِ الحَقِّ المُستقيمِ، المُوصِلِ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه، فصائِرونَ إلى النَّارِ .
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75).
أي: ولو رَحِمْنا هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، ورفَعْنا ما أصابَهم مِن عذابِ الدُّنيا مِن قَحْطٍ وجَدْبٍ وفَقرٍ؛ لَتَمادَوْا واستَمرُّوا في كُفرِهم وضَلالِهم الَّذي تَجاوَزوا فيه الحَدَّ، وهم يَتردَّدونَ حيَارى لا يُميِّزونَ الحقَّ مِنَ الباطِلِ .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّها استِدلالٌ على مَضمونِ قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: 75] ، بسابِقِ إصرارِ المُشرِكينَ على الشِّركِ، والإعراضِ عن الالْتِجاءِ إلى اللهِ، وعدَمِ الاتِّعاظِ بأنَّ ما حَلَّ بهم مِن العذابِ هو جَزاءُ شِرْكِهم .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
أي: ولقدْ أصَبْناهم بعَذابِ الدُّنيا -كإصابتِهم بالجُوعِ وغَيرِه- فما خَضَعوا لربِّهم بالانقيادِ لأوامِرِه، واجتِنابِ نواهِيهِ، وما دَعَوْه بخُشوعٍ وتذَلُّلٍ وافتِقارٍ؛ لِيَرفَعَ عنهم البلاءَ الذي أصابَهم !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94- 95] .
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77).
أي: حتَّى إذا فتَحْنا عليهم عَذابًا شديدًا، إذا هم في ذلك العَذابِ الشَّديدِ نادِمونَ على ما صدَرَ منهم مِن كُفْرٍ وتَكذيبٍ بالحَقِّ، آيِسُونَ مِن حُصولِ الخَيرِ والفَرَجِ والنَّجاةِ !

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآياتِ الكريماتِ والتي قبْلَها كلَّ سَببٍ مُوجِبٍ للإيمانِ، وذكَرَ الموانِعَ، وبيَّنَ فَسادَها، واحدًا بَعْدَ واحدٍ، فذكَر مِنَ الموانِعِ: أنَّ قُلوبَهم في غَمرةٍ، وأنَّهم لم يَدَّبَّروا القولَ، وأنَّهم اقْتَدَوا بآبائِهم، وأنَّهم قالوا برسولِهم جِنَّةٌ، وذكَرَ مِنَ الأُمورِ المُوجِبةِ لإيمانِهم: تَدبُّرَ القُرآنِ، وتَلقِّيَ نعمةِ اللهِ بالقَبولِ، ومعرفةَ حالِ الرَّسولِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكمالِ صدقِه وأمانتِه، وأنَّه لا يسألُهم عليه أجْرًا، وإنَّما سعيُه لنفعِهم ومصلحتِهم، وأنَّ الَّذي يَدْعوهم إليه صِراطٌ مُستقيمٌ، سَهْلٌ على العاملينَ لِاستقامَتِه، مُوصِلٌ إلى المقصودِ مِن قُربٍ، حَنيفيَّةٌ سَمْحةٌ؛ حَنيفيَّةٌ في التَّوحيدِ، سَمْحةٌ في العمَلِ، فدَعوتُك إيَّاهم إلى الصِّراطِ المُستقيمِ مُوجِبٌ لمَن يُرِيدُ الحقَّ أنْ يَتَّبِعَك؛ لأنَّه ممَّا تَشهَدُ العُقولُ والفِطَرُ بحُسْنِه، ومُوافقَتِه للمصالِحِ، فأين يَذْهَبون إنْ لم يُتابِعوك ؟!
2- اللهُ تعالى يَبْتلي عبْدَه؛ لِيَسمَعَ شَكواهُ وتَضرُّعَه ودُعاءَه، وقد ذَمَّ سُبحانَه مَن لم يَتضرَّعْ إليه ولم يَستكِنْ له وقْتَ البلاءِ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، والعبْدُ أضعَفُ مِن أنْ يَتجلَّدَ على رَبِّه، والرَّبُّ تعالى لم يُرِدْ مِن عَبْدِه أنْ يَتجلَّدَ عليه، بلْ أراد منه أنْ يَستكينَ له ويَتضرَّعَ إليه، وهو تَعالى يَمقُتُ مَن يَشْكوهُ إلى خلْقِه، ويُحِبُّ مَن يَشْكُو ما به إليه. وقيلَ لِبَعضِهم: كيف تَشْتَكي إليه ما ليس يَخْفَى عليه؟ فقال: ربِّي يَرْضَى ذُلَّ العبْدِ إليه .
3- المُؤمِنُ مَن يَستكينُ قَلْبُه لِرَبِّه، ويَخشَعُ له ويَتواضَعُ، ويُظهِرُ مَسْكنَتَه وفاقَتَه إليه في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ؛ أمَّا في حالةِ الرَّخاءِ: فإظهارُ الشُّكرِ، وأمَّا في حالِ الشِّدَّةِ: فإظهارُ الذُّلِّ والعُبوديَّةِ، والفاقةِ والحاجةِ إلى كشْفِ الضُّرِّ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ؛ فذَمَّ مَن لا يَستكينُ لِرَبِّه عِندَ الشِّدَّةِ، وكان النَّبيُّ يَخرُجُ عندَ الاستِسقاءِ مُتواضِعًا مُتخشِّعًا مُتمسْكِنًا .

الفوائد العلمية واللطائف:

قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ هذا تَعذيبٌ لهم في الدُّنيا؛ لِيَتضرَّعوا إليه ولِيَتُوبوا، وذَكَر سُبحانَه هنا أنَّه أخَذَهم بالعذابِ، ولم يقُلْ: بالذُّنوبِ؛ كأنَّه -واللهُ أعلَمُ- ضمَّنَ ذلك معنَى: جذَبْناهم إلينا؛ لِيُنِيبوا ولِيَتوبوا، ويَسْتَكينوا ويَتضرَّعوا، وإذا قال: فأخَذَهم اللهُ بذنوبِهم، يكونُ قد أهلَكَهم، فأخَذَهم إليه بالإهلاكِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- فيه تَعريضٌ بالَّذين اعْتَقَدوا خِلافَ ذلك. والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ في لَتَدْعُوهُمْ باعتِبارِ أنَّه مَسوقٌ للتَّعريضِ بالمُنكِرينَ على ما دَعاهم إليه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك التَّوكيدُ في قولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وُصِفُوا بذلك؛ تَشنيعًا لهم بما هُم عليهِ مِن الانهماكِ في الدُّنيا، وزَعْمِهم أنْ لا حياةَ إلَّا الحياةُ الدُّنيا، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكمِ؛ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخَوفَ ما فيها مِن الدَّواهي مِن أَقْوى الدَّواعي إلى طَلبِ الحقِّ وسُلوكِ سَبيلِه .
- والتَّعريفُ في الصِّرَاطِ للجِنْسِ، أي: هم ناكِبونَ عن الصِّراطِ مِن حيثُ هو؛ حيث لم يَتطلَّبوا طَريقَ نَجاةٍ، فهم ناكِبونَ عنِ الطَّريقِ، بَلْهَ الطَّريقَ المُستقيمَ؛ ولذلك لم يكُنِ التَّعريفُ في قولِه: عَنِ الصِّرَاطِ للعهْدِ بالصِّراطِ المذكورِ؛ لأنَّ تَعريفَ الجِنْسِ أتَمُّ في نِسْبَتِهم إلى الضَّلالِ؛ بقَرينةِ أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ الَّتي هي غايةُ العامِلِ مِن عمَلِه، فهُم إذَنْ ناكِبونَ عن كلِّ صِراطٍ مُوصِّلٍ؛ إذ لا هِمَّةَ لهم في الوُصولِ .
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ على أنَّ معنَى الآيةِ: إنَّ هؤلاء -وَصِفَتُهم أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ- لَناكِبُونَ؛ ففيه: إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ حيث عَدَلَ عن أنْ يَقولَ: (وإنَّهم عن الصِّراطِ لناكِبون)؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ مُنكِرَ الحَشرِ ناكبٌ عن الصِّراطِ المُستقيمِ الَّذي هو دِينُ الإسلامِ، وأنَّ مَبْنى دِينِ الإسلامِ على الإيمانِ باليومِ الآخِرِ. أو المعنى: أنَّ كلَّ مَن لا يُؤمِنُ بالآخِرةِ فهو عن القَصدِ ناكِبٌ؛ فعلى هذا لا يكونُ مِن إقامةِ المُظهَرِ مُقامَ المُضْمرِ، بلِ الجُملةُ تَذييلٌ؛ فيَدخُلُ هؤلاء دُخولًا أوَّلِيًّا في هذا المقامِ .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
- قولُه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ (لو) هنا داخِلةٌ على الفِعْلِ الماضي المُرادِ منه الاستِقبالُ بقَرينةِ المَقامِ؛ إذ المَقامُ للإنذارِ والتَّأييسِ مِن الإغاثةِ عندَ نُزولِ العذابِ الموعودِ به، وليس مَقامَ اعتذارٍ مِن اللهِ عن عدَمِ استجابَتِه لهم، أو عن إمساكِ رَحمَتِه عنهم؛ لِظُهورِ أنَّ ذلك لا يُناسِبُ مَقامَ الوعيدِ والتَّهديدِ .
4- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ استئنافٌ مَسوقٌ للاستشهادِ على مَضمونِ الشَّرطيَّةِ في قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. واللَّامُ في (لَقَدْ) جَوابُ قَسمٍ مَحذوفٍ، أي: وباللهِ لقد أخَذْناهُم بالعذابِ .
- قولُه: وَمَا يَتَضَرَّعُونَ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قَبلَه، أي: وليس مِن عادَتِهم التَّضرُّعُ إليه تعالى . أو هو مَعطوفٌ على اسْتَكَانُوا، ولمْ تُراعَ المُوافَقةُ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه في كَونِهما ماضيينِ أو مُضارعينِ؛ وذلك لأنَّ اسْتَكَانُوا على ظاهِرِه؛ لأنَّه مُرتَّبٌ على قولِه: أَخَذْنَاهُمْ، وأمَّا يَتَضَرَّعُونَ فعُدولٌ عنِ الظَّاهرِ؛ لِتَوخِّي الاستمرارِ على عدَمِ التَّضرُّعِ والدَّوامِ عليه .
- وقولُه: فِي طُغْيَانِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ يَعْمَهُونَ، قُدِّمَ عليه؛ للاهتِمامِ بذِكْرِه، ولرِعايةِ الفاصلةِ .
5- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- فَتْحُ البابِ في قولِه: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا فيه تَمثيلٌ لِمُفاجأَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كان مَحْجوزًا عنه؛ شُبِّهَت هَيئةُ إصابَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كانوا في سَلامةٍ وعافيةٍ بهَيئةِ ناسٍ في بَيتٍ مُغلَقٍ عليهم، ففُتِحَ عليهم بابُ البيتِ مِن عَدُوٍّ مَكروهٍ. أو شُبِّهَت هَيئةُ تَسليطِ العذابِ عليهم بهَيئةِ بابٍ اختُزِنَ فيه العَذابُ، فلمَّا فُتِحَ البابُ انهالَ العَذابُ عليهم .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث وُصِفَ البابُ هنا بكونِه ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ دونَ أنْ يُضافَ (باب) إلى (عذاب)، فيُقالُ: (بابَ عذابٍ)، كما قال تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر: 13] ؛ لأنَّ ذَا عَذَابٍ يُفِيدُ مِن شِدَّةِ انتِسابِ العذابِ إلى البابِ ما لا تُفِيدُه إضافةُ (بابٍ) إلى (عذابٍ)، ولِيتأتَّى بذلك وَصْفُ (عذاب) بـ شَدِيدٍ، بخِلافِ قولِه: سَوْطَ عَذَابٍ؛ فقدِ اسْتُغْنِيَ عن وَصْفِه بـ (شديد) بأنَّه مَعمولٌ لفِعْلِ (صَبَّ) الدَّالِّ على الوَفرةِ .