موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (73-77)

ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

لَنَاكِبُونَ: أي: لجائِرونَ، مُنحرِفون، مُعْرِضونَ؛ يقال: نَكَبَ عن كذا، أي: عدَل عنه ومالَ، وأصلُ (نكب): يدُلُّ على مَيْلٍ [668] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/240)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 299)، ((تفسير ابن جرير)) (17/91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/474) ((المفردات)) للراغب (ص: 822)، ((تفسير ابن كثير)) (5/486)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 242)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 914). .
لَلَجُّوا: أي: لَثَبَتُوا، ولتَمادَوْا، ولاستَمرُّوا، واللَّجاجُ: التَّمادي والعِنادُ في تعاطي الفِعلِ المزجورِ عنه، وأصل (لجج): يدُلُّ على تردُّدِ الشيءِ بَعضِه على بعضٍ، وترديدِ الشيءِ [669] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 736)، ((تفسير ابن كثير)) (5/486)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 801). .
طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِم وتَكبُّرِهم، وأصلُ الطُّغيان: مجاوزةُ الحَدِّ [670] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((تفسير القرطبي)) (12/142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .
يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويَجورونَ عَن الطَّرِيق، وأصلُ العَمَهِ: التردُّدُ في الأمْرِ مِن التحيُّرِ [671] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 588)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 14)، ((تفسير القرطبي)) (12/142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .
اسْتَكَانُوا: أي: خشَعوا وذَلُّوا، وخَضَعوا، وأصلُ الاستِكانةِ: إظهارُ الضَّعْفِ [672] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113، 299)، ((تفسير ابن جرير)) (17/92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 115). .
يَتَضَرَّعُونَ: أي: يَتذلَّلُون، ويَدْعُون في خشوعٍ، وأصلُ (ضرع): يَدُلُّ على لِينٍ في الشَّيءِ [673] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/92)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/395)، ((تفسير القرطبي)) (12/143)، ((تفسير ابن كثير)) (5/487)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 993). .
مُبْلِسُونَ: أي: مُتحيِّرون، ويائِسون مُلقون بأيديهم، والإبلاسُ: الحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، وأصلُ (بلس): يدلُّ على اليأسِ [674] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((تفسير ابن جرير)) (1/543)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 143)، ((تفسير القرطبي)) (12/143)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 347)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 875). قال الشنقيطي: (المبلِسُ: اسمُ فاعلِ الإبلاسِ، والإبلاسُ في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متقاربةٍ، هو في الحقيقةِ يُرادِفُ الوجومَ، والوجومُ هو: أن يكونَ الإنسانُ ساكِتًا منقطعًا لا يقدرُ أن يتكلَّمَ؛ لشدةِ اليأسِ مِن الخلاصِ مِن البلايا والدَّواهي التي وَقَع فيها). ((العذب النمير)) (1/259). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: إنَّك -يا محمَّدُ- تَدْعُو قَومَك إلى الإسلامِ؛ وهو الدِّينُ القويمُ، ولكِنَّ هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ مُنحَرِفونَ عن ذلك الصِّراطِ المُستقيمِ إلى غَيرِه.
ويبيِّنُ تعالى أنَّه لو رَحِمهم وكشَف عنهم ما أصابهم مِن ضُرٍّ في الدنيا، لَتَمادَوْا في الكُفرِ والعِنادِ والضلالِ الذي تجاوَزوا به الحدَّ، وهم يترَدَّدونَ متحيِّرينَ، لا يُفَرِّقونَ بينَ الحقِّ والباطلِ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه قد أخَذهم بالعذابِ في الدنيا؛ كإصابتِهم بالفقرِ والجوعِ وغيرِ ذلك، فما خَضَعوا لربِّهم، وما تَضَرَّعوا إليه سُبحانَه بالدُّعاءِ الخالِصِ لِيَكشِفَ عنهم البَلاءَ الَّذي حلَّ بهم، بلِ استَمرُّوا على جُحودِهم وعِنادِهم، حتَّى إذا فتَح الله عليهم بابًا مِنَ العذابِ الشَّديدِ إذا هم فيه نادِمونَ على ما فَعلوه مِن كفرٍ وتكذيبٍ بالحقِّ، آيِسُونَ مِن كلِّ نَجاةٍ!

تفسير الآيات:

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا زيَّفَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى طَريقةَ القَومِ؛ أتبَعَه ببَيانِ صِحَّةِ ما جاء به الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [675] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/287). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أعقَبَ تَنزيهَ الرَّسولِ عمَّا افتراهُ المُشرِكونَ عليه، بتَنزيهِ الإسلامِ عمَّا وَسَمُوه به مِنَ الأباطيلِ، والتَّنزيهِ بإثباتِ ضِدِّ ذلك؛ وهو أنَّه صِراطٌ مُستقيمٌ، أي: طريقٌ لا الْتِواءَ فيه، ولا عَقَباتٍ [676] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/98). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كانتْ عَظَمةُ المَلِكِ مُقْتضِيةً لِتَقبُّلِ ما أتَى به، والتَّشرُّفِ به على أيِّ حالٍ كان؛ نبَّهَ على أنَّه حقٌّ، يُكسِبُ قَبولُه الشَّرفَ لو لم يكُنْ مِن عندِ المَلِكِ؛ فكيف إذا كان مِن عِندِه؟! فكيف إذا كان مَلِكَ المُلوكِ ومالِكَ المُلْكِ؟! فكيف إذا كان الآتِي به خالِصةَ العِبادِ، وأشرَفَ الخلْقِ؟! كما قام عليه الدَّليلُ بنَفْيِ هذه المطاعِنِ كلِّها، فقال عاطِفًا على أَتَيْنَاهُمْ [677] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/169، 170). [المؤمنون: 71] :
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73).
أي: وإنَّك -يا محمَّدُ- لَتَدْعُو مُشركي قَومِك إلى طَريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، وهو دِينُ الإسلامِ [678] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/91)، ((تفسير القرطبي)) (12/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/98). .
كما قال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67] .
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74).
أي: وإنَّ المُكذِّبينَ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ لَمُنحرِفونَ عن طَريقِ الحَقِّ المُستقيمِ، المُوصِلِ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه، فصائِرونَ إلى النَّارِ [679] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/91)، ((تفسير القرطبي)) (12/142)، ((تفسير ابن كثير)) (5/486)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/344، 345). .
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75).
أي: ولو رَحِمْنا هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، ورفَعْنا ما أصابَهم مِن عذابِ الدُّنيا مِن قَحْطٍ وجَدْبٍ وفَقرٍ؛ لَتَمادَوْا واستَمرُّوا في كُفرِهم وضَلالِهم الَّذي تَجاوَزوا فيه الحَدَّ، وهم يَتردَّدونَ حيَارى لا يُميِّزونَ الحقَّ مِنَ الباطِلِ [680] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/345). وقال ابنُ جزي (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ ... الآيةَ: قال الأكثرونَ: نزلَتْ هذه الآيةُ حينَ دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قريشٍ بالقحطِ فنالهم الجوعُ حتَّى أكلوا الجلودَ وغيرَها، فالمعنى رحِمناهم بالخِصبِ، وكشَفنا ما بهم مِن ضرِّ الجوعِ والقحطِ: لتَمَادَوا على طغيانِهم. وفي هذا عندي نظرٌ؛ فإنَّ الآيةَ مكِّيَّةٌ باتِّفاقٍ، وإنَّما دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على قريشٍ بعدَ الهجرةِ حسَبما ورَد في الحديثِ. وقيل: المعنى: لو رحِمْناهم بالردِّ إلى الدُّنيا لعادُوا لِمَا نُهُوا عنه، وهذا القولُ لا يلزمُ عليه ما لزِم على الآخَرِ، ولكنَّه خرَج عن معنَى الآيةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/55). .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّها استِدلالٌ على مَضمونِ قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: 75] ، بسابِقِ إصرارِ المُشرِكينَ على الشِّركِ، والإعراضِ عن الالْتِجاءِ إلى اللهِ، وعدَمِ الاتِّعاظِ بأنَّ ما حَلَّ بهم مِن العذابِ هو جَزاءُ شِرْكِهم [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/100). .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
أي: ولقدْ أصَبْناهم بعَذابِ الدُّنيا -كإصابتِهم بالجُوعِ وغَيرِه- فما خَضَعوا لربِّهم بالانقيادِ لأوامِرِه، واجتِنابِ نواهِيهِ، وما دَعَوْه بخُشوعٍ وتذَلُّلٍ وافتِقارٍ؛ لِيَرفَعَ عنهم البلاءَ الذي أصابَهم [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/92)، ((تفسير القرطبي)) (12/143)، ((تفسير ابن كثير)) (5/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/345). !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94- 95] .
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77).
أي: حتَّى إذا فتَحْنا عليهم عَذابًا شديدًا، إذا هم في ذلك العَذابِ الشَّديدِ نادِمونَ على ما صدَرَ منهم مِن كُفْرٍ وتَكذيبٍ بالحَقِّ، آيِسُونَ مِن حُصولِ الخَيرِ والفَرَجِ والنَّجاةِ [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/95)، ((تفسير البغوي)) (3/372)، ((تفسير ابن عطية)) (4/152)، ((تفسير القرطبي)) (12/143)، ((تفسير البيضاوي)) (4/93)، ((تفسير ابن كثير)) (5/487)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 556)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/103). واختلَفَ المفسِّرون في المُرادِ بالعذابِ الشَّديدِ هنا؛ فقيل: هو الجوعُ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ ابن سليمان، وابن جرير، والبيضاوي، والنسفي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/163)، ((تفسير ابن جرير)) (17/95)، ((تفسير البيضاوي)) (4/93)، ((تفسير النسفي)) (2/476). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير مجاهد)) (ص: 487)، ((تفسير ابن جرير)) (17/95)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/268). قال ابنُ عطية: (العذابُ الشديدُ، إمَّا يوم بدرٍ بالسيوفِ كما قال بعضُهم، وإمَّا توعُّدٌ بعذابٍ غيرِ معيَّنٍ، وهو الصوابُ؛ لِما ذكرناه مِن تقدُّم بدرٍ للمجاعةِ، ورُويَ عن مجاهدٍ أنَّ العذابَ والبابَ الشديدَ هو كلُّه مجاعةُ قريشٍ. وهذا حسَنٌ، كأنَّ الأخذَ كان في صدرِ الأمرِ ثم فُتح البابُ عندَ تناهيهِ حيثُ أُبلسِوا وجاء أبو سفيانَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/152). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/93). وقيل: المرادُ: عذابُ الآخرةِ، كما ينبئُ عنه التَّهويلُ بفتحِ البابِ، والوصفِ بالشِّدَّةِ. وممَّن قال بذلك: أبو السعودِ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/146). قال ابن كثير: (أي: حتَّى إذا جاءهم أمرُ اللهِ وجاءتْهم السَّاعةُ بَغتةً، وأخَذَهم مِن عقابِ اللهِ ما لم يكونوا يحتَسِبونَ). ((تفسير ابن كثير)) (5/487). وقيل: المُرادُ بالعذابِ الشَّديدِ: عذابُ السَّيفِ يومَ بدْرٍ. وممَّن قال بذلك: يحيى بنُ سلام، وابن أبي زمنين، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/412)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/103). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/94)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/268). قال السعدي: (لكنْ وراءَهم العذابُ الذي لا يُردُّ، وهو قولُه: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ؛ كالقتلِ يومَ بدرٍ وغيرِه، إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ آيِسونَ مِن كلِّ خيرٍ، قد حضرهم الشرُّ وأسبابُه، فلْيَحْذَروا قبْلَ نزولِ عذابِ الله الشديدِ، الذي لا يُرَدُّ، بخلافِ مجرَّدِ العذابِ؛ فإنَّه ربَّما أقلع عنهم، كالعقوباتِ الدنيويَّةِ التي يؤدِّبُ الله بها عبادَه، قال تعالى فيها: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 556). !

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآياتِ الكريماتِ والتي قبْلَها كلَّ سَببٍ مُوجِبٍ للإيمانِ، وذكَرَ الموانِعَ، وبيَّنَ فَسادَها، واحدًا بَعْدَ واحدٍ، فذكَر مِنَ الموانِعِ: أنَّ قُلوبَهم في غَمرةٍ، وأنَّهم لم يَدَّبَّروا القولَ، وأنَّهم اقْتَدَوا بآبائِهم، وأنَّهم قالوا برسولِهم جِنَّةٌ، وذكَرَ مِنَ الأُمورِ المُوجِبةِ لإيمانِهم: تَدبُّرَ القُرآنِ، وتَلقِّيَ نعمةِ اللهِ بالقَبولِ، ومعرفةَ حالِ الرَّسولِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكمالِ صدقِه وأمانتِه، وأنَّه لا يسألُهم عليه أجْرًا، وإنَّما سعيُه لنفعِهم ومصلحتِهم، وأنَّ الَّذي يَدْعوهم إليه صِراطٌ مُستقيمٌ، سَهْلٌ على العاملينَ لِاستقامَتِه، مُوصِلٌ إلى المقصودِ مِن قُربٍ، حَنيفيَّةٌ سَمْحةٌ؛ حَنيفيَّةٌ في التَّوحيدِ، سَمْحةٌ في العمَلِ، فدَعوتُك إيَّاهم إلى الصِّراطِ المُستقيمِ مُوجِبٌ لمَن يُرِيدُ الحقَّ أنْ يَتَّبِعَك؛ لأنَّه ممَّا تَشهَدُ العُقولُ والفِطَرُ بحُسْنِه، ومُوافقَتِه للمصالِحِ، فأين يَذْهَبون إنْ لم يُتابِعوك [684] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 556). ؟!
2- اللهُ تعالى يَبْتلي عبْدَه؛ لِيَسمَعَ شَكواهُ وتَضرُّعَه ودُعاءَه، وقد ذَمَّ سُبحانَه مَن لم يَتضرَّعْ إليه ولم يَستكِنْ له وقْتَ البلاءِ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، والعبْدُ أضعَفُ مِن أنْ يَتجلَّدَ على رَبِّه، والرَّبُّ تعالى لم يُرِدْ مِن عَبْدِه أنْ يَتجلَّدَ عليه، بلْ أراد منه أنْ يَستكينَ له ويَتضرَّعَ إليه، وهو تَعالى يَمقُتُ مَن يَشْكوهُ إلى خلْقِه، ويُحِبُّ مَن يَشْكُو ما به إليه. وقيلَ لِبَعضِهم: كيف تَشْتَكي إليه ما ليس يَخْفَى عليه؟ فقال: ربِّي يَرْضَى ذُلَّ العبْدِ إليه [685] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 36). .
3- المُؤمِنُ مَن يَستكينُ قَلْبُه لِرَبِّه، ويَخشَعُ له ويَتواضَعُ، ويُظهِرُ مَسْكنَتَه وفاقَتَه إليه في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ؛ أمَّا في حالةِ الرَّخاءِ: فإظهارُ الشُّكرِ، وأمَّا في حالِ الشِّدَّةِ: فإظهارُ الذُّلِّ والعُبوديَّةِ، والفاقةِ والحاجةِ إلى كشْفِ الضُّرِّ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ؛ فذَمَّ مَن لا يَستكينُ لِرَبِّه عِندَ الشِّدَّةِ، وكان النَّبيُّ يَخرُجُ عندَ الاستِسقاءِ مُتواضِعًا مُتخشِّعًا مُتمسْكِنًا [686] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 115). ويُنظر في صفةِ خروجِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للاستسقاءِ ما رواه أبو داود (1165)، والترمذي (558)، والنسائي (1521)، وابن ماجه (1266) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذيُّ: (حسنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه النوويُّ في ((المجموع)) (5/66)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (5/143)، وحسَّنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/476)، والألبانيُّ في ((صحيح ابن ماجه)) (1053). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ هذا تَعذيبٌ لهم في الدُّنيا؛ لِيَتضرَّعوا إليه ولِيَتُوبوا، وذَكَر سُبحانَه هنا أنَّه أخَذَهم بالعذابِ، ولم يقُلْ: بالذُّنوبِ؛ كأنَّه -واللهُ أعلَمُ- ضمَّنَ ذلك معنَى: جذَبْناهم إلينا؛ لِيُنِيبوا ولِيَتوبوا، ويَسْتَكينوا ويَتضرَّعوا، وإذا قال: فأخَذَهم اللهُ بذنوبِهم، يكونُ قد أهلَكَهم، فأخَذَهم إليه بالإهلاكِ [687] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/135). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- فيه تَعريضٌ بالَّذين اعْتَقَدوا خِلافَ ذلك. والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ في لَتَدْعُوهُمْ باعتِبارِ أنَّه مَسوقٌ للتَّعريضِ بالمُنكِرينَ على ما دَعاهم إليه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك التَّوكيدُ في قولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [688] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/98). .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وُصِفُوا بذلك؛ تَشنيعًا لهم بما هُم عليهِ مِن الانهماكِ في الدُّنيا، وزَعْمِهم أنْ لا حياةَ إلَّا الحياةُ الدُّنيا، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكمِ؛ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخَوفَ ما فيها مِن الدَّواهي مِن أَقْوى الدَّواعي إلى طَلبِ الحقِّ وسُلوكِ سَبيلِه [689] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/145). .
- والتَّعريفُ في الصِّرَاطِ للجِنْسِ، أي: هم ناكِبونَ عن الصِّراطِ مِن حيثُ هو؛ حيث لم يَتطلَّبوا طَريقَ نَجاةٍ، فهم ناكِبونَ عنِ الطَّريقِ، بَلْهَ الطَّريقَ المُستقيمَ؛ ولذلك لم يكُنِ التَّعريفُ في قولِه: عَنِ الصِّرَاطِ للعهْدِ بالصِّراطِ المذكورِ؛ لأنَّ تَعريفَ الجِنْسِ أتَمُّ في نِسْبَتِهم إلى الضَّلالِ؛ بقَرينةِ أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ الَّتي هي غايةُ العامِلِ مِن عمَلِه، فهُم إذَنْ ناكِبونَ عن كلِّ صِراطٍ مُوصِّلٍ؛ إذ لا هِمَّةَ لهم في الوُصولِ [690] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/99). .
- قولُه: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ على أنَّ معنَى الآيةِ: إنَّ هؤلاء -وَصِفَتُهم أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ- لَناكِبُونَ؛ ففيه: إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ حيث عَدَلَ عن أنْ يَقولَ: (وإنَّهم عن الصِّراطِ لناكِبون)؛ لِيُؤْذِنَ بأنَّ مُنكِرَ الحَشرِ ناكبٌ عن الصِّراطِ المُستقيمِ الَّذي هو دِينُ الإسلامِ، وأنَّ مَبْنى دِينِ الإسلامِ على الإيمانِ باليومِ الآخِرِ. أو المعنى: أنَّ كلَّ مَن لا يُؤمِنُ بالآخِرةِ فهو عن القَصدِ ناكِبٌ؛ فعلى هذا لا يكونُ مِن إقامةِ المُظهَرِ مُقامَ المُضْمرِ، بلِ الجُملةُ تَذييلٌ؛ فيَدخُلُ هؤلاء دُخولًا أوَّلِيًّا في هذا المقامِ [691] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/612)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/98). .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
- قولُه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ (لو) هنا داخِلةٌ على الفِعْلِ الماضي المُرادِ منه الاستِقبالُ بقَرينةِ المَقامِ؛ إذ المَقامُ للإنذارِ والتَّأييسِ مِن الإغاثةِ عندَ نُزولِ العذابِ الموعودِ به، وليس مَقامَ اعتذارٍ مِن اللهِ عن عدَمِ استجابَتِه لهم، أو عن إمساكِ رَحمَتِه عنهم؛ لِظُهورِ أنَّ ذلك لا يُناسِبُ مَقامَ الوعيدِ والتَّهديدِ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/99). .
4- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ استئنافٌ مَسوقٌ للاستشهادِ على مَضمونِ الشَّرطيَّةِ في قولِه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. واللَّامُ في (لَقَدْ) جَوابُ قَسمٍ مَحذوفٍ، أي: وباللهِ لقد أخَذْناهُم بالعذابِ [693] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/146). .
- قولُه: وَمَا يَتَضَرَّعُونَ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قَبلَه، أي: وليس مِن عادَتِهم التَّضرُّعُ إليه تعالى [694] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/146). . أو هو مَعطوفٌ على اسْتَكَانُوا، ولمْ تُراعَ المُوافَقةُ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه في كَونِهما ماضيينِ أو مُضارعينِ؛ وذلك لأنَّ اسْتَكَانُوا على ظاهِرِه؛ لأنَّه مُرتَّبٌ على قولِه: أَخَذْنَاهُمْ، وأمَّا يَتَضَرَّعُونَ فعُدولٌ عنِ الظَّاهرِ؛ لِتَوخِّي الاستمرارِ على عدَمِ التَّضرُّعِ والدَّوامِ عليه [695] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/198)، ((تفسير أبي حيان)) (7/577)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/615)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/101)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/533). .
- وقولُه: فِي طُغْيَانِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ يَعْمَهُونَ، قُدِّمَ عليه؛ للاهتِمامِ بذِكْرِه، ولرِعايةِ الفاصلةِ [696] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/100). .
5- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- فَتْحُ البابِ في قولِه: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا فيه تَمثيلٌ لِمُفاجأَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كان مَحْجوزًا عنه؛ شُبِّهَت هَيئةُ إصابَتِهم بالعذابِ بَعدَ أنْ كانوا في سَلامةٍ وعافيةٍ بهَيئةِ ناسٍ في بَيتٍ مُغلَقٍ عليهم، ففُتِحَ عليهم بابُ البيتِ مِن عَدُوٍّ مَكروهٍ. أو شُبِّهَت هَيئةُ تَسليطِ العذابِ عليهم بهَيئةِ بابٍ اختُزِنَ فيه العَذابُ، فلمَّا فُتِحَ البابُ انهالَ العَذابُ عليهم [697] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/102). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث وُصِفَ البابُ هنا بكونِه ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ دونَ أنْ يُضافَ (باب) إلى (عذاب)، فيُقالُ: (بابَ عذابٍ)، كما قال تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر: 13] ؛ لأنَّ ذَا عَذَابٍ يُفِيدُ مِن شِدَّةِ انتِسابِ العذابِ إلى البابِ ما لا تُفِيدُه إضافةُ (بابٍ) إلى (عذابٍ)، ولِيتأتَّى بذلك وَصْفُ (عذاب) بـ شَدِيدٍ، بخِلافِ قولِه: سَوْطَ عَذَابٍ؛ فقدِ اسْتُغْنِيَ عن وَصْفِه بـ (شديد) بأنَّه مَعمولٌ لفِعْلِ (صَبَّ) الدَّالِّ على الوَفرةِ [698] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/102). .