موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (144-145)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات :

اصْطَفَيْتُكَ: أي: اخترْتُكَ، وأَصْلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ من كُلِّ شَوْبٍ .
مَوْعِظَةً: الموعظةُ هي التَّخويفُ، أو الزَّجْرُ المُقترِنُ بتخويفٍ، وهي أيضًا تذكيرٌ بالخيرِ وما يَرِقُّ له القلبُ .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
مِنْ كُلِّ جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ مِن مَوْعِظَةً، ومَوْعِظَةً مفعولٌ به منصوبٌ بالفعلِ (كتب)، وتَفْصِيلًا معطوفٌ على مَوْعِظَةً منصوبٌ، والتقديرُ: كتبْنا له في الألواح موعظةً مِن كُلِّ شَيءٍ وتَفصيلًا، ويجوزُ أن يكونَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في محلِّ نصبٍ، مفعولَ كَتَبْنَا ، وعليه فـ مَوْعِظَةً بَدَلٌ مِن محلِّ الجارِّ والمجرورِ، وتفصيلًا معطوفٌ منصوبٌ، والمعنى: كَتَبْنا له كلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيلَ يَحْتاجون إليه في دينِهم؛ مِن المواعِظِ، وتَفصيلِ الأحكامِ، وقيل: مفعولُ كَتَبْنا محذوفٌ دَلَّ عليه الفِعلُ، تقديرُه: وكَتَبْنا له مكتوبًا مِن كُلِّ شَيءٍ ، وانتصَبَ مَوْعِظةً وَتَفْصِيلًا على المفعولِ مِن أجلِه، أي: كَتَبْنا له ذلك المكتوبَ للاتِّعاظِ وللتَّفصيلِ، أو انتصَبَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا على الحالِ مِن الضَّميرِ المرفوعِ في قَولِه: وَكَتَبْنَا لَهُ أي: واعظينَ ومُفَصِّلينَ. وقيل غيرُ ذلك .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه قال لموسى: إنَّه اختارَه وفضَّلَه على أهلِ زمانِه، بإرسالِه إلى بني إسرائيلَ، وتكْليمِه إيَّاه بلا واسِطةٍ، وأمَرَه أنْ يأخُذَ ما آتاه من التَّوراةِ ويتمسَّكَ بها، وأنْ يكونَ من الشَّاكرينَ.
وأخبَرَ تعالى أنَّه كتَبَ له في الألواحِ المُشتمِلةِ على التَّوراةِ كُلَّ شيءٍ تحتاج إليه أُمَّتُه في دِينِها، موعظةً، وتفصيلًا لكلِّ شيءٍ ممَّا يُحتاجُ إلى تَبْيينِه، وأمَرَه أنْ يتمسَّكَ بما كُتِبَ له بقوَّةٍ، وأنْ يأمُرَ قومَه أنْ يَتمسَّكوا بأحسنِ ما في التَّوراةِ، ثم قال تعالى: سَأُرِيكُمْ دَارَ من عصاني، وخالف أمري.

تفسير الآيتين :

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) 
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا طلَبَ موسى عليه السَّلامُ الرُّؤيةَ ومُنِعَها، عدَّدَ عليه تعالى وُجوهَ نِعَمِه العظيمةِ عليه، وأمَرَه أنْ يَشتغِلَ بشُكْرِها، وهذه تَسليةٌ منه تعالى له .
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي
القراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: بِرِسَالَاتِي قراءتانِ:
قراءة بِرِسَالَتِي، قيل: على معنى أنَّ اللهَ تعالى أرسَلَه مرَّةً واحدةً بكلامٍ كثيرٍ .
قراءة بِرِسَالَاتِي، قيل: على معنى أنَّه تعالى أَوْحى إليه مرَّةً بَعْدَ أُخْرى .
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي
أي: قال اللهُ: يا موسى، إنِّي اخترْتُكَ وفضَّلْتُكَ على أهلِ زمانِكَ بسببِ إرْسالي لك إلى بني إسرائيلَ، وتَكْليمي إيَّاكَ بلا واسطةٍ، دونَ غيرِكَ مِنَ النَّاسِ .
كما قال سُبحانَه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] .
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ
أي: فَخُذْ ما أعطيْتُكَ من التَّوراةِ، وتمسَّكْ بها- يا موسى- واعمَلْ بما فيها مِنَ الأوامِرِ والنَّواهي .
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
أي: وكُنْ- يا موسى- مِنَ الشَّاكرينَ للهِ تعالى بطاعتِه على ما آتاكَ مِنَ الرِّسالةِ، وخَصَّكَ به من الكلامِ، ومَنَحَكَ من النِّعَمِ .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى أنَّه خَصَّ موسى عليه السَّلامُ بالرِّسالةِ، ذكَرَ في هذه الآيةِ تفصيلَ تلك الرِّسالةِ، فقال :
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
أي: وكتبْنا لموسى في ألواحِه - المُشتمِلةِ على التَّوراةِ - كلَّ شيءٍ تحتاجُ إليه أُمَّتُه في دينِها .
عن أبي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدمُ، أنتَ أبونا، خيَّبْتَنا وأخرجْتَنا منَ الجنَّةِ، فقالَ لَهُ آدمُ: أنتَ موسَى، اصطفاكَ اللهُ بِكَلامِهِ، وخطَّ لَكَ بيدِه، أتلومُني على أمْرٍ قدَّرَهُ اللهُ عليَّ قبلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: فحَجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى ))، وفي حديثِ ابنِ أبي عُمَرَ وابنِ عَبْدَةَ: ((قالَ أحدُهما: خَطَّ، وقالَ الآخَرُ: كتبَ لَكَ التَّوراةَ بيدِهِ)) .
وفي روايةٍ أُخْرى عن أبي هريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى عليهما السَّلامُ عِندَ ربِّهما، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدمُ الَّذي خلقَكَ اللهُ بيدِه، ونفخَ فيكَ من رُوحِهِ، وأَسْجَدَ لَكَ ملائِكَتَهُ، وأسكنَكَ في جنَّتِهِ،ثمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بخطيئتِكَ إلى الأرضِ، فقال آدمُ: أنتَ موسى الَّذي اصطفاكَ اللهُ برسالتِهِ، وبِكَلامِهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبيانُ كلِّ شيءٍ، وقرَّبَكَ نجيًّا، فبِكَمْ وجدْتَ اللهَ كتَبَ التَّوراةَ قبْلَ أن أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعينَ عامًا، قال آدمُ: فَهَل وجدْتَ فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قالَ: نَعَمْ، قال: أفتلومُني على أنْ عَمِلْتُ عملًا كتبَهُ اللهُ عليَّ أنْ أعمَلَهُ قبْلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَحجَّ آدمُ موسى )) .
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
أي: كتَبْنا لموسى في التَّوراةِ من كلِّ شيءٍ؛ تذكيرًا وتحذيرًا، وترغيبًا وترهيبًا لقومِه، ومَن أُمِر بالعملِ بما كُتِب في الألواحِ، وتبيينًا لكلِّ شيءٍ مِن الأمرِ والنَّهي، والحلالِ والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، والعقائدِ، والأخلاقِ، والآدابِ .
كما قال تعالى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 154] .
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ
أي: فقُلْنا: يا موسى، تَمَسَّكْ بما كتَبْنا لك في الألواحِ بِجِدٍّ واجتهادٍ، وصبرٍ وعزمٍ، ونشاطٍ على إقامةِ ما فيها .
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
أي: وَأْمُرْ- يا موسى- قومَكَ بني إسرائيلَ بأنْ يتمسَّكوا بأحسَنِ ما يجِدونَ في التَّوراةِ، فيعملوا بأوامِرِها، ويَترُكوا نواهيَها، ويتدبَّروا مواعِظَها .
ثمَّ توعَّدَ اللهُ مَنْ يُضيعُ العملَ بالتَّوراةِ من بني إسرائيلَ، فقال لهم مُهدِّدًا :
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
أي: سأُريكم دارَ مَن عَصاني وخالَفَ أَمْري .

الفوائد التربوية :

1- قولُه تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، أمْرُ اللهِ تعالى لموسى بأَخْذِ ما آتاه، والشُّكرِ على الاصطفاءِ والعطاءِ، هو أمْرُ التَّعليمِ والتَّوجيهِ لِمَا ينبغي أنْ تُقابَلَ به نِعمةُ اللهِ. والرُّسلُ- صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- قُدوةٌ للنَّاسِ، وللنَّاسِ فيهم أُسْوَةٌ، وعلى النَّاسِ أنْ يأخُذوا ما آتاهم اللهُ بالقَبولِ والقَناعةِ والرِّضا بعَطاءِ اللهِ والشُّكرِ عليه؛ استِزادةً من النِّعمةِ، وإصلاحًا للقلبِ، وتحرُّزًا من البَطَرِ، واتِّصالًا باللهِ، فقولُه تعالى: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأديبٌ وتقنيعٌ، وحَمْلٌ على جادَّةِ السَّلامةِ، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حالِه، فإنَّ جميعَ النِّعَمِ من عِندِه بمقدارٍ، وكُلَّ الأمورِ بمَرْأَى من اللهِ ومَسْمَعٍ .
2- الكتابُ الإلهيُّ يجِبُ أخْذُه بقوَّةٍ وإرادةٍ وجِدٍّ وعزيمةٍ؛ لتنفيذِ ما هَدَى إليه من الإصلاحِ، وتكوينِ الأُمَّةِ تكوينًا جديدًا صالحًا، ويتأكَّدُ ذلك في الدَّاعي إليه، والمُنفِّذِ له بقولِه وعملِه؛ ليكونَ لقومِه فيه أُسوةٌ حَسَنةٌ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُه تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي، الاصطِفاءُ: الاجتِباءُ، أي: فضَّلْتُك، ولم يَقُلْ: على الخَلْقِ؛ لأنَّ من هذا الاصطفاءِ أنَّه كلَّمَه، وقد كلَّمَ الملائكةَ، وأرسَلَه وأرسَلَ غيرَه، فالمرادُ: عَلَى النَّاسِ المرسَلِ إليهم .
قال الله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا لم يُعَدَّ فِعْلُ الأَخْذِ بالباءِ في قولِه: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ؛ لأنَّه مُستعمَلٌ في معنى التَّلقِّي والحِفْظِ؛ لأنَّه أَهَمُّ من الأخْذِ بمعنى التَّمسُّكِ والعملِ؛ فإنَّ الأوَّلَ حَظُّ وَلِيِّ الأمْرِ، والثَّانِيَ حَظُّ جميعِ الأُمَّةِ .
قولُ اللهِ تعالى: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ: الإِراءَةُ مِن (رأى) البَصَريَّةِ؛ لأنَّها عُدِّيَتْ إلى مَفعولَيْنِ فقط، وأُوثِرَ فِعْلُ: سَأُرِيكُمْ دونَ نَحْوِ: (سَأُدْخِلُكم)؛ لأنَّ اللهَ مَنَعَ مُعظَمَ القومِ الَّذينَ كانوا مع موسى مِن دُخولِ الأرضِ المقدَّسةِ لَمَّا امتَنَعوا من قِتالِ الكَنْعَانِيِّينَ وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ في هذه الآيةِ.

بلاغة الآيتين:

قوله: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
قوله: يَا مُوسَى النِّداءُ فيه للتأنيسِ، وإزالةِ الرَّوعِ .
وقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ: فيه تأكيدُ الخبرِ للاهتمامِ به؛ إذ ليسَ محلًّا للإنكارِ؛ والاصطفاءُ افتعالٌ مبالغةً في الإصفاءِ أيضًا .
والإخبارُ عن كُنْ بقولِه: مِنَ الشَّاكِرِينَ: أبلغُ مِن أنْ يُقال: (كن شاكرًا)؛ لأنَّ هذه الصِّيغةَ تُفيدُ كونَه مَعدودًا في زُمرةِ الشَّاكِرينَ، ومَعروفًا إسهامُه لهم في الشُّكرِ .
وحذف مُتعلَّق الشُّكْرِ في قولِه تعالى: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يدُلُّ على عُمومِه، كما أنَّ صِيغةَ الصِّفةِ منه تدُلُّ على التَّمكُّنِ منه والرُّسوخِ فيه، والمعنى: كُنْ من الرَّاسِخينَ في الشُّكرِ لنِعمتي بها عليك وعلى قومِكَ .
قوله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ عرَّفَ (الألواحَ) لِعَظَمَتِها؛ تَنْبيهًا على أنَّها لجَلالةِ ما اخْتَصَّتْ به كأنَّها المُخْتَصَّةُ بهذا الاسمِ .
قوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
قوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ فيه تمثيلٌ لحالةِ العزمِ على العملِ بما في الألواحِ، بمنتهَى الجدِّ والحِرص دون تأخيرٍ ولا تساهُلٍ، ولا انقطاعٍ عند المشقَّةِ ولا مَللٍ- بحالةِ القويِّ الذي لا يَستعصي عليه عملٌ يُريده .
وفي قوله: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا جُزِمَ الفِعلُ يَأْخُذُوا جوابًا لقولِه: وَأْمُرْ تَحقيقًا لحُصولِ امتثالِهم عندَما يأمرُهم .
وقوله: بِأَحْسَنِهَا وصْفٌ مَسلوبُ المفاضَلةِ، مقصودٌ به المبالغةُ في الحُسنِ؛ فإضافتُها إلى ضَميرِ الألواحِ على معنَى اللام، أي: بالأحسنِ الذي هو لها، وهو جميعُ ما فيها؛ لظُهورِ أنَّ ما فيها من الشرائع ليس بَينَه تفاضُلٌ بين أحسن ودُون الأحسن، بل كلُّه مَرتبةٌ واحدةٌ فيما عُيِّن له ، وهذا على أحدِ الأوجهِ في هذه الآيةِ.
قوله: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ فيه تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى قَومِه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بطريقِ الالتفاتِ؛ لاستِرعاءِ الاهتمامِ، وحملًا لهم على الجِدِّ في الامتثالِ بما أُمِروا به؛ إمَّا على نهجِ الوعيدِ والترهيبِ على أنَّ المرادَ بـدَارَ الفَاسِقِينَ دِيارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم؛ فإنَّ رُؤيتَها- وهي الخاليةُ عن أهلِها- خاوية على عُروشِها، موجبةٌ للاعتبارِ والانزجارِ عن مِثلِ أعمالِ أهلِها؛ كيلَا يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بأولئك. وإمَّا على نهجِ الوَعدِ والتَّرغيبِ على أنَّ المرادَ بـدَارَ الفَاسِقِينَ إمَّا أرضُ مصرَ خاصَّةً، أو مع أرضِ الجَبابرةِ والعمالقةِ بالشَّامِ ، وهذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ هذه الآيةِ.