موسوعة التفسير

سُورةُ المُطَفِّفينَ
الآيات (29-36)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

غريب الكلمات:

يَتَغَامَزُونَ: أي: يَغمِزُ بَعضُهم بَعضًا، ويُشِيرونَ بأَعْيُنِهم على وجهِ السُّخريةِ، والغَمزُ: الإشارةُ بالجَفنِ والحاجِبِ، ويكونُ الغمزُ أيضًا بمعنى العَيبِ، يُقالُ: غَمَزَه إذا عابه، و: ما في فُلانٍ غَمِيزةٌ، أي ما يُعابُ به [222] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/346)، ((المفردات)) للراغب (ص: 614)، ((تفسير البغوي)) (5/227)، ((تفسير القرطبي)) (19/267)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .
انْقَلَبُوا: أي: انصَرَفوا ورَجَعوا، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على صَرْفِ الشَّيءِ عن وجهٍ إلى وجهٍ، أو ردِّه مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [223] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681). .
فَكِهِينَ: أي: فَرِحينَ مَسرورينَ مُعْجَبِينَ باستِخفافِهم بالمؤمِنينَ، وأصلُ (فكه): يدُلُّ على طِيبٍ واستِطابةٍ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446)، ((تفسير القرطبي)) (19/267)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 701). .
ثُوِّبَ: أي: جُوزِيَ وأُثيبَ، وأصلُ (ثوب): يدُلُّ على عَودٍ ورُجوعٍ [225] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 520)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 444)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 455). .

 مشكل الإعراب :

قَولُه تعالى: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
قَولُه تعالى: هَلْ ثُوِّبَ ...: في محَلِّ هذه الجُملةِ الاستفهاميَّةِ أَوجُهٌ؛
أحَدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ بعدَ إسقاطِ حرفِ الجَرِّ الَّذي هو «إلى»، فهي مُعَلِّقةٌ لـ يَنْظُرُونَ قَبْلَها، أي: يَنظُرونَ هلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ.
الثَّاني: أنَّها في محَلِّ نَصبٍ مَقولٌ لقَولٍ مَحذوفٍ وَقَع حالًا مِن ضَميرِ يَنْظُرُونَ، أي: يَنظُرونَ مَقولًا لهم...
الثَّالثُ: أنَّها استِئْنافيَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ [226] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1277)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/727)، ((تفسير القرطبي)) (19/268)، ((تفسير الألوسي)) (15/285). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا ما كان يفعلُه الكُفَّارُ معَ المؤمنينَ: إنَّ الكفَّارَ كانوا في الدُّنيا يَضحَكونَ مِنَ المؤمِنينَ؛ استِهزاءً بهم، وإذا مَرُّوا بهم أشار بَعضُهم إلى بَعضٍ بأعيُنِهم؛ استِهزاءً بالمؤمِنينَ، واحتِقارًا لهم، وإذا انصَرَفَ أولئك المجرِمونَ إلى أهلِهم انصَرَفوا فَرِحينَ مَسرورينَ باستِخفافِهم بالمؤمِنينَ، وإذا رَأَوُا المؤمِنينَ قالوا: إنَّ هؤلاء لَضالُّونَ عن طَريقِ الحَقِّ. وما أرسَلَ اللهُ الكُفَّارَ وُكَلاءَ على المؤمِنينَ ليَحفَظوا أعمالَهم!
ثمَّ يُبشِّرُ اللهُ تعالى المؤمنينَ بأنَّ العاقِبةَ الطَّيِّبةَ لهم، فيقولُ: ففي اليَومِ الآخِرِ يَضحَكُ المُؤمِنونَ مِنَ الكُفَّارِ حِينَ يَرَونَهم وهم يُعَذَّبونَ، والمُؤمِنونَ في الجَنَّةِ على السُّرُرِ يَنظُرونَ إلى وجهِ الله الكريمِ وإلى ما أُعِدَّ لهم مِن النَّعيمِ، وإلى الكافِرينَ وهم يُعذَّبونَ، هل جُوزيَ الكُفَّارُ على ما كانوا يَفعَلونَه في الدُّنيا بالمؤمِنينَ؟!

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَف سُبحانَه كَرامةَ الأبرارِ في الآخِرةِ؛ ذَكَر بعْدَ ذلك قُبْحَ مُعامَلةِ الكُفَّارِ معهم في الدُّنيا في استِهزائِهم وضَحِكِهم، ثمَّ بَيَّن أنَّ ذلك سيَنقَلِبُ على الكُفَّارِ في الآخِرةِ، والمقصودُ منه تسليةُ المؤمِنينَ وتقويةُ قُلوبِهم [227] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/94). .
وأيضًا بعْدَ أنْ ذكَرَ حالَ المُشرِكين على حِدةٍ، وذكَرَ حالَ المُسلِمينَ على حِدةٍ، أَعقَبَ بما فيه صِفةٌ لعاقِبةِ المُشرِكين في مُعامَلتِهم للمُؤمِنينَ في الدُّنيا؛ ليَعلَموا جَزاءَ الفَريقَينِ مَعًا [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/210). .
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29).
أي: إنَّ الكُفَّارَ كانوا في الدُّنيا يَضحَكونَ مِنَ المؤمِنينَ؛ استِهزاءً بهم، وسُخْريةً منهم، واحتِقارًا لهم [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/225)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 106). قال السمعاني: (قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا هم الكفَّارُ. وقيل: هذا في قومٍ مخصوصينَ مِن قريشٍ، منهم أبو جهلٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ، والنَّضرُ بنُ الحارثِ وغيرُهم). ((تفسير السمعاني)) (6/184). .
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 212] .
وقال سُبحانَه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 109 - 111] .
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30).
أي: وإذا مَرُّوا بهم في طَريقِهم تغامَزَ أولئك المجرِمونَ، فأشار بَعضُهم إلى بَعضٍ بأعيُنِهم؛ استِهزاءً بالمؤمِنينَ، واحتِقارًا لهم [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((الوسيط)) للواحدي (4/449)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916). قال ابنُ عاشور: (ضميرُ مَرُّوا يجوزُ أن يعودَ إلى الَّذِينَ أَجْرَمُوا، فيكونَ ضَميرُ بِهِمْ عائِدًا إلى الَّذِينَ آَمَنُوا، ويجوزُ العَكسُ، والمعنى: وإذا مَرَّ المؤمنونَ بالَّذين أجرَموا وهم في مجالِسِهم يتغامَزُ المجرِمونَ حينَ مرورِ المؤمنينَ، أو: وإذا مَرَّ الَّذين أجرموا بالَّذين آمَنوا وهم في عَمَلِهم وفي عُسْرِ حالِهم يتغامَزُ المجرِمونَ حينَ مُرورِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 211). ومِمَّن قال بأنَّ المؤمنينَ هم مَن يمُرُّونَ على المجرمينَ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن عطية، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 449)، ((تفسير ابن عطية)) (5/454)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/331)، ((تفسير الشوكاني)) (5/489). ومِمَّن قال بأنَّ المجرِمينَ هم الَّذين يمُرُّونَ على المؤمنينَ: مكِّيٌّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8143)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353). وذهب ابنُ عثيمينَ إلى أنَّ الآيةَ تَشملُ كِلا المعنيَينِ، فيَحصُلُ أنَّ المجرِمينَ يَمُرُّونَ على المؤمِنينَ، ويَحصُلُ العَكسُ، وفي كلٍّ يَتغامَزُ المجرِمونَ بالمؤمنينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 106). .
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَفَهم في مَواضِعِ التَّرَدُّدِ والتَّقَلُّبِ؛ وصَفَهم في المنازِلِ [231] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/331). :
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31).
أي: وإذا انصَرَفَ أولئك المجرِمونَ إلى أهلِهم في بُيوتِهم انصَرَفوا فَرِحينَ مَسرورينَ باستِخفافِهم بالمؤمِنينَ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((الوسيط)) للواحدي (4/449)، ((تفسير القرطبي)) (19/267، 268)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353، 354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/212، 213). قال السعدي: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ صباحًا أو مساءً انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي: مَسرورينَ مُغتَبِطينَ، وهذا مِن أعظَمِ ما يكونُ مِنَ الاغترارِ؛ أنَّهم جمَعوا بيْن غايةِ الإساءةِ والأمْنِ في الدُّنيا، حتَّى كأنَّهم قد جاءهم كتابٌ مِن اللهِ وعَهدٌ أنَّهم مِن أهلِ السَّعادةِ، وقد حَكَموا لأنفُسِهم أنَّهم أهلُ الهدى، وأنَّ المؤمنينَ ضالُّونَ؛ افتِراءً على الله، وتجَرُّؤًا على القَولِ عليه بلا عِلمٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 916). وقال ابن عاشور: (والمعنى: وإذا رَجَع الَّذين أجرَموا إلى بُيوتِهم وخَلَصوا مع أهلِهم تحَدَّثوا أحاديثَ الفُكاهةِ معهم بذِكْرِ المؤمِنينَ وذَمِّهم). ((تفسير ابن عاشور)) (30/212). وقال ابن عثيمين: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ إذا انقلَب المجرمونَ إلى أهلِهم انْقَلَبُوا فَكِهِينَ يعني: متفكِّهينَ بما نالوه مِن السُّخريةِ بهؤلاء المؤمنينَ، فهُم يَستَهزئونَ ويَسخَرونَ ويَتفَكَّهون بهذا؛ ظنًّا منهم أنَّهم نجَحوا وأنَّهم غلَبوا المؤمنينَ، ولكنَّ الأمرَ بالعكسِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 107). .
كما قال تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [القيامة: 33] .
وقال سُبحانَه: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 13] .
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر مُرورَهم بهم وتغامزَهم؛ ذَكَر مُطلَقَ رُؤيتِهم لهم وما يقولونَ فيهم [233] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/332)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/213). .
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32).
أي: وإذا رَأَوُا المؤمِنينَ قالوا: إنَّ هؤلاء لَضالُّونَ عن طَريقِ الحَقِّ، وفِعْلِ الصَّوابِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((تفسير ابن كثير)) (8/354)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/213)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 107). قال ابنُ عاشور: (مُرادُهم بالضَّلالِ: فَسادُ الرَّأيِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ لا يَعرِفونَ الضَّلالَ الشَّرعيَّ، أي: هؤلاء سَيِّئُو الرَّأيِ؛ إذ اتَّبَعوا الإسلامَ، وانسَلَخوا عن قَومِهم، وفَرَّطوا في نَعيمِ الحياةِ؛ طَمَعًا في نَعيمٍ بعدَ المَوتِ، وأقْبَلوا على الصَّلاةِ والتَّخَلُّقِ بالأخلاقِ الَّتي يَراها المُشرِكونَ أوهامًا وعَنَتًا؛ لأنَّهم بمَعزِلٍ عن مَقدِرةِ قَدْرِ الكَمالِ النَّفْسانيِّ، وما هَمُّهم إلَّا التَّلَذُّذُ الجُثمانيُّ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/213). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/332). !
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] .
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33).
أي: ولم يُرسِلِ اللهُ الكُفَّارَ وُكَلاءَ على المؤمِنينَ ليَحفَظوا أعمالَهم، ويَنشَغِلوا بمُراقَبتِهم، ويَحكُموا عليهم، بل كَلَّفَهم اللهُ بالإيمانِ، والانشغالِ بالأعمالِ الصَّالحةِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((الوسيط)) للواحدي (4/449)، ((تفسير القرطبي)) (19/268)، ((تفسير ابن كثير)) (8/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/214)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 107). .
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34).
أي: ففي اليَومِ الآخِرِ يَضحَكُ المُؤمِنونَ مِنَ الكُفَّارِ حينَ يَرَونَهم وهُم يُعَذَّبونَ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((الوسيط)) للواحدي (4/449)، ((تفسير ابن كثير)) (8/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 108). !
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35).
أي: والمُؤمِنونَ في الجَنَّةِ على السُّرُرِ الَّتي أُرخِيَ عليها السُّتُورُ المُزيَّنةُ يَنظُرونَ إلى وَجهِ رَبِّهم الكريمِ، وإلى ما أُعِدَّ لهم مِن النَّعيمِ، وإلى الكافِرينَ وهم يُعذَّبونَ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/33)، ((تفسير ابن كثير)) (8/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/215)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 108). قيل: المرادُ بقوله هنا: يَنْظُرُونَ: نَظَرُهم إلى اللهِ تعالى. وممَّن قال به: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/354). قال ابنُ القيم: (فأطلَقَ النَّظَرَ، ولم يُقَيِّدْه بمَنظورٍ دونَ مَنظورٍ، وأعلى ما نظَروا إليه وأجَلُّه وأعظَمُه هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، والنَّظَرُ إليه أجَلُّ أنواعِ النَّظَرِ وأفضَلُها، وهو أعلى مراتِبِ الهِدايةِ؛ فقابَلَ بذلك قَولَهم: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ؛ فالنَّظَرُ إلى الرَّبِّ سُبحانَه مُرادٌ مِن هذَينِ الموضِعَينِ [أي قولِه: يَنْظُرُونَ هنا وفي الآيةِ «23»] ولا بُدَّ؛ إمَّا بخُصوصِه، وإمَّا بالعُمومِ والإطلاقِ، ومَن تأمَّلَ السِّياقَ لم يَجِدِ الآيتَينِ تحتَمِلانِ غيرَ إرادةِ ذلك، خُصوصًا أو عُمومًا). ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (1/33). وقال السعدي: (يَنْظُرُونَ إلى ما أعَدَّ اللهُ لهم مِن النَّعيمِ، ويَنظُرونَ إلى وَجهِ رَبِّهم الكريمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 916). وقيل: المرادُ: أنَّهم يُشاهِدونَ الكُفَّارَ في العذابِ والإهانةِ، وممَّن قال به: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، والرازي، والرَّسْعَني، والبِقاعي، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/626)، ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1185)، ((تفسير البغوي)) (5/227)، ((تفسير الرازي)) (31/95)، ((تفسير الرسعني)) (8/545)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/334)، ((تفسير العليمي)) (7/318)، ((تفسير الشوكاني)) (5/489)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/227)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/109). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: يَنظُرونَ إلى ما أُوتوا مِن النَّعيمِ، وما أُعِدَّ لهم مِن الثَّوابِ، وما حلَّ بالمجرِمين مِن عذابِ الجحيمِ: القاسميُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/436)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 108). .
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36).
أي: هل جُوِزيَ الكُفَّارُ على ما كانوا يَفعَلونَه في الدُّنيا حينَ يُعَذِّبُهم اللهُ في النَّارِ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/229)، ((تفسير القرطبي)) (19/268)، ((تفسير ابن كثير)) (8/354)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 108). ؟!

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ إلى آخِرِ السِّياقِ: أنَّه إذا كان هذا حالَ بَعضِ الَّذين أجرَموا مع بَعضِ ضَعَفةِ المُؤمِنينَ، وكذلك حالُ بَعضِ الأُمَمِ مع رُسُلِها؛ فإنَّ الدَّاعِيةَ إلى اللهِ تعالى يجِبُ عليه ألَّا يَتأثَّرَ بسُخريةِ أحدٍ منه، وأن يَعلَمَ أنَّه على سَنَنِ غَيرِه مِنَ الدُّعاةِ إلى اللهِ تعالى، وأنَّ اللهَ تعالى سيَنتَصِرُ له إمَّا عاجِلًا وإمَّا آجِلًا [239] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/464). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ فيه عِظةٌ شَديدةٌ لِمَن يتضَحَّكُ مِنَ المؤمِنينَ، ومِمَّن يتَّخِذونَه ضُحْكةً؛ إذْ هو شيءٌ مِن أخلاقِ الكُفَّارِ، فإذا تشَبَّه بهم أهلُ الإيمانِ خِيفَ عليهم أن يَكونوا مِثْلَهم؛ كما في الحديثِ: ((مَن تَشَبَّه بقَومٍ فهو منهم)) [240] أخرجه أبو داودَ (4031) واللَّفظُ له، وأحمدُ (5114) مطوَّلًا مِن حديثِ ابنِ عُمرَ رضيَ الله عنهما. قال الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4031): (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (437)، وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (4/358)، وجوَّده ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (25/331)، وصحَّح إسنادَه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (1/359)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/121)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (10/282)، وقال الذهبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) (15/509): (إسنادُه صالحٌ). . وإنَّما يَضحَكونَ في الآخِرةِ -واللهُ أعلَمُ-؛ لأنَّه جزاءٌ لهم وعقوبةٌ لِما كان منهم إليهم في الدُّنيا، فيُصيبُهم مِن مَضَضِه ما كان يُصيبُ المؤمِنينَ في الدُّنيا؛ فصار كالاقتِصاصِ؛ فعلى المَضحوكِ منه أن يتَّقِيَ اللهَ، ولا يَضَعَ نَفْسَه هذا الموضِعَ، وعلى الضَّاحكِ أن يجتَنِبَه في الجِدِّ والهَزْلِ؛ لأنَّه مِن عظيمِ الذَّنْبِ وفِعلِ الظَّالِمينَ، ومَن قد نَسِيَ أمرَ مَعادِه، وما هو مُفْضٍ إليه [241] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/490، 491). .
3- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ قاعدةٌ ثابتةٌ لأتْباعِ الرُّسُلِ: «أنَّ أهلَ الباطلِ يُلَقِّبُون أهلَ الحقِّ بألقابِ السُّوءِ؛ تنفيرًا للنَّاسِ عن قَبُولِهم»، واللهُ تبارك وتعالى قد جَعَل لكلِّ نبيٍّ عدوًّا مِن المجرِمينَ، والعدوُّ مِن المجرِمينَ عَدوٌّ للنَّبيِّ بوَصْفِه، بدليلِ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبْلَ أنْ تأتيَه الرِّسالةُ هو عندَ العربِ الصَّادقُ الأمينُ، ويَرون أنَّه مِن أفضلِ بني هاشِمٍ، وأقوَمِهم بالعَدْلِ؛ فلمَّا جاء بالحَقِّ صار عندَهم الخائِنَ الكذوبَ! فإذا كان هؤلاء المجرِمون يُعادُونَ الرُّسُلَ بوصْفِهم؛ فمعنى ذلك أنَّ هذه المُعاداةَ ستنتقلُ إلى مَن تابَعَ هؤلاء الرُّسُلَ؛ لأنَّ المعنى الَّذي حَصَلَتْ به العداوةُ موجودٌ أيضًا في أتْباعِ الرُّسُلِ، ونستفيدُ مِن هذا: طَمْأَنةَ أتْباعِ الرُّسُلِ، وتثبيتَهم على أنَّهم سيَنالُهم مِن ألقابِ السُّوءِ ومِن المُعاداةِ مِثلُ ما نال الرُّسُلَ؛ فعليهم أنْ يُقابِلوا ذلك بالصَّبرِ والثَّباتِ والقوَّةِ، لا أنْ يَنخَذِلوا، بل عليهم أنْ يَكونوا كما كان مَتبوعُهم الَّذي أَمَرَه اللهُ قائلًا: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 232). [الأحقاف: 35] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ أنَّ المجرمَ في أكثرِ القرآنِ: الكافِرُ، وقد حقَّقَه في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [243] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/490). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ تحريمُ السُّخْريةِ بالمُؤمِنينَ، والضَّحِكِ منهم، والتَّغامُزِ عليهم [244] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 284). .
3- قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، أهلُ الرَّجُلِ: زَوجُه وأبناؤه، وذُكِرَ الأهلُ هنا؛ لأنَّهم يُنبسَطُ إليهم بالحديثِ؛ فلذلك قيل: إِلَى أَهْلِهِمُ دونَ (إلى بُيوتِهم) [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/212). .
4- قولُه تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، أي: رَجَعوا مُلْتَذِّينَ بذِكرِهم بالسُّوءِ والسُّخريةِ منهم، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانوا لا يَفعَلون ذلك بمَرأًى مِن المارِّينَ بهم، ويَكتَفون حِينَئذٍ بالتَّغامُزِ [246] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/129). .
5- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تأمَّلْ كيف قابَلَ سُبحانَه ما قاله الكُفَّارُ في أعدائِهم في الدُّنيا وسَخِروا به منهم، بضِدِّه في القيامةِ؛ فإنَّ الكُفَّارَ كانوا إذا مَرَّ بهم المؤمِنونَ يَتغامَزونَ ويَضحَكونَ منهم: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، فقال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ؛ مُقابَلةً لتَغامُزِهم وضَحِكِهم منهم [247] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/32). ، فأفادت فاءُ السَّببيَّةِ في قولِه: فَالْيَوْمَ أنَّ استِهزاءَهم بالمُؤمِنين في الدُّنيا كان سَببًا في جَزائِهم بِما هو مِن نَوعِه في الآخِرةِ؛ إذ جعَلَ اللهُ الَّذين آمنوا يَضحَكون مِن المُشرِكين، فكان جَزاءً وِفاقًا [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/214). .
6- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ أنَّ المؤمِنينَ يُسَرُّونَ بعَذابِ أعداءِ اللهِ، فعذابُهم رحمةٌ للمؤمِنينَ [249] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/227). .
7- قَولُ مَن قال: «إنَّ الثَّوابَ في اللُّغةِ يختَصُّ بجَزاءِ الخَيرِ بالخَيرِ» غيرُ صوابٍ، بل يُطلَقُ الثَّوابُ أيضًا على جزاءِ الشَّرِّ بالشَّرِّ، ومنه قَولُه تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [250] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/273). ، فالثَّوابُ هو المُجازاةُ على العمَلِ؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ، حتَّى الإثابةُ على الشَّرِّ تُسَمَّى ثوابًا [251] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/319). . وقيل: جُوِّز حملُه عليه هنا على أنَّ المرادَ التَّهكُّمُ [252] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/284). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ كلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لتَسلِيةِ المُؤمِنينَ، وتَقويةِ قُلوبِهم بِما أُعِدَّ للأبْرارِ في الجَنَّةِ [253] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/417). .
وقيل: هو حِكايةٌ لبَعضِ قَبائحِ مُشرِكي قُرَيشٍ، وهو مِن جُملةِ القَولِ الَّذي يُقالُ يومَ القِيامةِ للفُجَّارِ المَحكيِّ بقَولِه تعالى: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] ؛ لأنَّه مُرتَبطٌ بقَولِه في آخِرِه: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ؛ جِيءَ بها تَمهيدًا لذِكرِ بَعضِ أَحوالِ الأبْرارِ في الجَنَّةِ [254] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/129)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/209). .
- وإذا كانتْ جُملةُ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] الآياتِ، مَحكيَّةً بالقَولِ الواقِعِ في قولِه تعالى: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] إلى هُنا؛ فجُملةُ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ مُتَّصلةٌ بها، والتَّعبيرُ عنهم بـ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ على طَريقةِ الالْتِفاتِ؛ إذ مُقتَضى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ لهم: إنَّكم كُنتم مِن الَّذين آمنوا تَضحَكون، وهكذا على طَريقِ الخِطابِ.
وإنْ كانتْ تلك الجُملةُ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وما بعْدَها اعتراضًا، فهذه الجُملةُ مَبدأُ كَلامٍ مُتَّصِلٍ بقَولِه: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ [المطففين: 16] واقِعٍ مَوقِعَ بَدَلِ الاشتِمالِ [255] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) لابن مالك (3/ 249). لمَضمونِ جُملةِ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ [المطففين: 16] ، باعتِبارِ ما جاءَ في آخِرِ هذا مِن قولِه: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ؛ فالتَّعبيرُ بـ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إذَنْ جارٍ على مُقتَضى الظَّاهِرِ، وليس بالْتِفاتٍ [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/209). .
- والافتِتاحُ بـ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بصورةِ الكَلامِ المُؤكَّدِ؛ لإفادةِ الاهتِمامِ بالكَلامِ، وذلك كَثيرٌ في افتِتاحِ الكَلامِ المُرادِ إعْلانُه؛ ليَتَوجَّهَ بذلك الافتِتاحِ جَميعُ السَّامِعينَ إلى استِماعِه؛ للإشْعارِ بأنَّه خبَرٌ مُهمٌّ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/210). .
- وعبَّرَ بالمَوصولِ وهذه الصِّلةِ: الَّذِينَ أَجْرَمُوا؛ للتَّنبيهِ على أنَّ ما أُخبِرَ به عنهم هو إجْرامٌ، وليَظهَرَ مَوقِعُ قولِه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/210). [المطففين: 36] .
- وتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ في قولِه: كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ إمَّا للقَصْرِ؛ إشْعارًا بغايةِ شَناعةِ ما فَعَلوا، أي: كانوا مِن الَّذين آمنوا يَضحَكون، مع ظُهورِ عدَمِ استِحقاقِهم لذلك. أو لِمُراعاةِ الفَواصِلِ [259] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/129). .
- ويُؤذِنُ تَركيبُ كَانُوا ... يَضْحَكُونَ بأنَّ الإجْرامَ -وهو ارتِكابُ الجُرْمِ، وهو: الإثمُ العَظيمُ- صِفةٌ مُلازِمةٌ لهم في الماضي. وصَوْغُ يَضْحَكُونَ بِصيغةِ المُضارعِ؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ ذلك منهم، وأنَّه دَيدَنٌ لهم [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/210). .
- قولُه: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ تَكريرُ فِعلِ انْقَلَبُوا مِن النَّسجِ الجَزِلِ في الكَلامِ؛ كان يَكْفي أنْ يُقالَ: (وإذا انقَلَبوا إلى أَهلِهم فَكِهوا)، أو (إذا انقَلَبوا إلى أَهلِهم كانوا فاكِهين)؛ وذلك لِما في إعادةِ الفِعلِ مِن زيادةِ تَقريرِ مَعناهُ في ذِهنِ السَّامِعِ؛ لأنَّه ممَّا يَنبَغي الاعتِناءُ به، ولزِيادةِ تَقريرِ ما في الفِعلِ مِن إفادةِ التَّجدُّدِ؛ حتَّى يَكونَ فيه استِحضارُ الحالةِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/212). .
- قولُه: فَكِهِينَ، وفي قراءةٍ فَاكِهِينَ [262] قرأها فَكِهِينَ أبو جعفرٍ وحفصٌ، وقرأها الباقونَ بإثباتِ ألِفِ فَاكِهِينَ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/354). اسمُ فاعِلِ فَاكِهٍ، وهو مِن (فَكِهَ) -مِن بابِ فَرِحَ- إذا مَزَحَ وتَحدَّثَ فأَضحَكَ، والمَعْنى: فاكِهينَ بالتَّحدُّثِ عن المُؤمِنينَ؛ فحُذِفَ مُتعَلَّقُ فَاكِهِينَ؛ للعِلمِ بأنَّه مِن قَبيلِ مُتعَلَّقاتِ الأفعالِ المَذكورةِ معه [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/213). .
- قولُه: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ فيه تأكيدُ الخبَرِ بحرفِ التَّأكيدِ (إِنَّ) ولامِ الابتِداءِ؛ لقَصْدِ تَحقيقِ الخَبَرِ، أي: نَسَبوا المُسلِمينَ ممَّن رَأَوهم ومِن غَيرِهم إلى الضَّلالِ بطَريقِ التَّأكيدِ [264] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/129)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/214). .
- قولُه: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، أي: قالوا ذلك، والحالُ أنَّهم ما أُرسِلوا مِن جِهةِ اللهِ تعالى مُوكَّلينَ بهم، يَحفَظون عليْهم أحوالَهم، ويُهَيْمِنون على أعمالِهم، ويَشهَدون برُشْدِهم وضَلالِهم، وهذا تَهكُّمٌ بهم، وإشْعارٌ بأنَّ ما اجَترَؤوا عليه مِن القَولِ مِن وَظائفِ مَن أُرسِلَ مِن جِهتِه تعالى؛ فإنَّ شِدَّةَ الحِرصِ على أنْ يَقولوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ كُلَّما رَأَوهم، يُشبِهُ حالَ المُرسَلِ ليَتتبَّعَ أحوالَ أحَدٍ، ومِن شأنِ الرَّسولِ الحِرصُ على التَّبليغِ، والخَبَرُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ بالمُشرِكين، أي: لم يَكونوا مُقيَّضينَ للرَّقابةِ عليهم، والاعتِناءِ بصَلاحِهم، فمَعْنى الحِفظِ هنا: الرَّقابةُ؛ ولذلك عُدِّيَ بحرفِ (على)؛ ليَتسلَّطَ النَّفيُ على الإرسالِ والحِفظِ ومَعْنى الاستِعلاءِ الَّذي أفادَه حرفُ (على) فيَنتَفيَ حالُهم المُمَثَّلُ. وقد جُوِّزَ أنْ يَكونَ ذلك مِن جُملةِ قولِ المُجرِمين، كأنَّهم قالوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، وما أُرسِلوا علينا حافِظينَ؛ إنْكارًا لصَدِّهم عن الشِّركِ، ودُعائِهم إلى الإسلامِ، وإنَّما قيلَ: (عليْهم)؛ نَقلًا له بالمَعنى، كما في قولِك: حَلَفَ لَيَفعَلَنَّ؛ لا بالعِبارةِ، كما في قولِك: حَلَفَ لأَفعَلَنَّ [265] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/130)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/214). .
- وأيضًا تَقديمُ المَجرورِ على مُتعَلَّقِه في قولِه: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ؛ للاهتِمامِ بمُفادِ حرْفِ الاستِعلاءِ وبمَجرورِه، مع الرِّعايةِ على الفاصِلةِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/214). .
2- قولُه تعالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
- تَقديمُ (الْيَوْمَ) على يَضْحَكُونَ للاهتِمامِ به؛ لأنَّه يومُ الجَزاءِ العَظيمِ الأَبَديِّ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/214). .
- وفي قولِه: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ قُدِّمَ المُسنَدُ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ دونَ أنْ يُقالَ: (فاليَومَ يَضحَكُ الَّذين آمَنوا)؛ لإفادةِ الحَصْرِ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ [268] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). في مُقابَلةِ قولِه: كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] ، أي: زالَ استِهزاءُ المُشرِكين بالمُؤمِنينَ، فاليَومَ المُؤمِنونَ يَضحَكون مِن الكُفَّارِ، دُونَ العَكسِ [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). .
- وتَقديمُ مِنَ الْكُفَّارِ على مُتعَلَّقِه -وهو يَضْحَكُونَ- للاهتِمامِ بالمَضحوكِ منهم؛ تَعجيلًا لإساءتِهم عندَ سَماعِ هذا التَّقريعِ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). .
 وقيل: تَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ مِنَ الْكُفَّارِ للقَصْرِ؛ تَحقيقًا للمُقابَلةِ، أي: فاليَومَ هم مِن الكُفَّارِ يَضحَكون، لا الكُفَّارُ منهم كما كانوا يَفعَلون في الدُّنيا [271] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/130). .
- وقولُه: مِنَ الْكُفَّارِ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ، عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (منهم يَضحَكون)؛ لِما في الوَصفِ المُظهَرِ مِن الذَّمِّ للكُفَّارِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). .
- ومَفعولُ يَنْظُرُونَ مَحذوفٌ دَلَّ عليه قولُه: مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، تَقديرُه: يَنظُرونَهم، أي: يُشاهِدونَ المُشرِكينَ في العَذابِ والإهانةِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). . وذلك على قولٍ.
- قولُه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَذْلَكةٌ [274] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِمَا حُكِيَ مِنِ اعتِداءِ المُشرِكين على المُؤمِنينَ، وما تَرتَّبَ عليه مِن الجَزاءِ يَومَ القِيامةِ؛ فالمَعنى: فقدْ جُوزيَ الكُفَّارُ بما كانوا يَفعَلونَ، وهذا مِن تَمامِ النِّداءِ الَّذي يُعلَّقُ به يَوم القِيامةِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/215). .
- قولُه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ، أي: يَقولونَ: هل ثُوِّبَ؟ وهو استِفهامٌ بمعْنى التَّقريرِ للمؤمنينَ، أي: هلْ جُوزوا بها؟ فهو استفهامٌ تَقريريٌّ وتَعجيبٌ مِن عدَمِ إفلاتِهم منه بعْدَ دُهورٍ. والخِطابُ بهذا الاستِفهامِ مُوَجَّهٌ إلى غَيرِ مُعيَّنٍ، بلْ إلى كُلِّ مَن يَسمَعُ ذلك النِّداءَ يَومَ القِيامةِ [276] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/432)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/215، 216)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/418). .
- قولُه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، ليس الجَزاءُ هو مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، بل عبَّرَ عنه بهذه الصِّلةِ؛ لمُعادَلتِه شِدَّةَ جُرْمِهم على طَريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ، أو على حَذفِ مُضافٍ تَقديرُه: مِثلَ، أو جَزاءَ أو عِقابَ ما كانوا يَفعَلونَ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ على نَزْعِ الخافِضِ، وهو: (باءُ السَّبَبيَّةِ)، أي: بما كانوا يَفعَلون [277] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/432)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/216). .
- وفي هذه الجُملةِ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مُحسِّنُ بَراعةِ المَقطَعِ [278] براعةُ المقطعِ: أن يكونَ آخِرُ الكلامِ مُستعَذبًا حسَنًا؛ لتبقى لَذَّتُه في الأسماع، مُؤذنًا بالانتهاءِ، بحيث لا يبقى للنَّفْسِ تشَوُّفٌ إلى ما وراءَه. يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/563). ؛ لأنَّها جامِعةٌ لِما اشتَمَلَتْ عليه السُّورةُ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/216). .