موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيتان (11-12)

ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

إِفْكٌ: أي: كَذِبٌ وبُهتانٌ، وقيل: الإفْكُ أسوأُ الكذبِ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه [152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 30)، ((تفسير ابن جرير)) (17/213)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 108)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 153، 990). .
إِمَامًا: أي: يأتَمُّون به ويَقتَدون ويَهتَدُون، والإمامُ: كلُّ ما ائْتَمَمْتَ به؛ إنسانًا أو كتابًا أو غيرَ ذلك، مُحِقًّا كان أو مُبطِلًا، وجمْعُه: أئِمَّةٌ، وأصلُ (أمم): الأصلُ، والمرجِعُ، والجماعةُ، والدِّينُ [153] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/133)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 98، 99)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/21)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6827)، ((المفردات)) للراغب (ص: 87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780). .
وَبُشْرَى: البُشرَى والبِشارةُ: الإخبارُ بما يَسُرُّ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ معَ حُسنٍ وجمالٍ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/6)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 129)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 91، 93). وقيل: البِشارةُ: اسمٌ لِخَبَرٍ يُغيِّرُ بَشَرةِ الوجهِ مُطْلَقًا، سارًّا كان أو مُحزِنًا، إلَّا أنَّه غلَب استِعمالُها في الأوَّلِ. يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 239). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ
(هَذَا): اسمُ إشارةٍ، في محَلِّ رَفعٍ مُبتدَأٌ. والمشارُ إليه: القرآنُ. كِتَابٌ: خبَرُ المبتدأِ مَرفوعٌ. مُصَدِّقٌ: نَعتٌ مَرفوعٌ، ومُتعَلَّقُه محذوفٌ، يعني: مُصَدِّقٌ للتَّوراةِ ولِما قبْلَه مِن الكُتُبِ.
لِسَانًا: في نَصبِه أوجُهٌ:
أحَدُها: أنَّه حالٌ مِن الضَّميرِ في مُصَدِّقٌ، أي: مَلفوظًا به على لسانِ العربِ؛ لِكَونِ القَومِ عربًا.
الثَّاني: أنَّه حالٌ مِن كِتَابٌ؛ لِتخَصُّصِه بالوَصفِ. وعَرَبِيًّا: صِفةٌ لـ لِسَانًا، وهو المُسوِّغُ لوُقوعِ الجامِدِ لِسَانًا حالًا.
الثَّالثُ: أنَّ عَرَبِيًّا هو الحالُ، و لِسَانًا تَوطِئةٌ للحالِ ذُكِرَت توكيدًا. والمعنى: مُصَدِّقٌ لِما بيْنَ يَدَيه عَرَبيًّا.
الرَّابعُ: أنَّ لِسَانًا مَفعولٌ به لاسمِ الفاعِلِ مُصَدِّقٌ، والمرادُ به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، على نيَّةِ حَذفِ مُضافٍ، أي: مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عَربيٍّ، أي: وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
قَوْله: وَبُشْرَى: مَعطوفٌ على كِتَابٌ أو مُصَدِّقٌ مَرفوعٌ. بمعنى: وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ وبُشرى للمُحسِنينَ، أو خبَرٌ لِمُبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه (هو). ويجوزُ أن يكونَ مَنصوبًا عَطفًا على محَلِّ لِيُنْذِرَ؛ لأنَّه مَفعولٌ لأجْلِه، تقديرُه: للإِنذارِ وللبُشرَى. أو هو مَنصوبٌ على المَصدَرِ، على معنى: لِيُنذِرَ الَّذين ظَلَموا ويُبَشِّرَ المُحسِنينَ بُشرَى [155] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/51)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/441)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/665)، ((البسيط)) للواحدي (20/173)، ((تفسير ابن عطية)) (5/95)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/665)، ((روح البيان)) لإسماعيل حقي (8/471)، ((تفسير الألوسي)) (13/172). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ شبهاتِ المشركينَ وأعذارِهم الواهيةِ في عدَمِ الإيمانِ، فيقولُ: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ عن المُؤمِنينَ: لو كان هذا القُرآنُ خَيرًا ما سبَقَنا إلى الإيمانِ به واتِّباعِه هؤلاء الفُقَراءُ المُستَضعَفونَ، ولَسَبَقْناهم إليه؛ فنحن أشرَفُ منهم! وإذ لم يَهتدِ المُشرِكونَ بالقُرآنِ فسيَقولونَ: هذا القُرآنُ كَذِبٌ مِن أخبارِ الأقدَمينَ!
ثمَّ يُثْني الله تعالى على القرآنِ، ويُبيِّنُ تصديقَه للتَّوراةِ، فيقولُ: ومِن قَبْلِ هذا القُرآنِ التَّوراةُ الَّتي أُنزِلَت على موسى إمامًا لبني إسرائيلَ يأتَمُّونَ بما فيها، ورحمةً لهم، وهذا القُرآنُ كِتابٌ مُصَدِّقٌ للتَّوراةِ باللُّغةِ العَربيَّةِ على نحوٍ واضِحٍ فَصيحٍ؛ لِيُخوِّفَ القُرآنُ الَّذين ظَلَموا بشِركِهم أو عِصيانِهم، وهو بُشْرى بالخَيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ للمُحسِنينَ.

تفسير الآيتين:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذه شُبهةٌ أُخرى لِلقَومِ في إنكارِ نُبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم [156] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/12). ، وحِكايةُ خَطأٍ آخَرَ مِن أخْطاءِ حُجَجِ المُشرِكين الباطِلةِ، وهو خَطأٌ مَنْشَؤهُ الإعجابُ بأنفُسِهم، وغُرورُهم بدينِهم؛ فاستدَلُّوا على أنْ لا خَيرَ في الإسلامِ بأنَّ الَّذينَ ابتَدَروا الأخذَ به ضُعفاءُ القَومِ، وهم يَعُدُّونَهم مُنحَطِّينَ عنهم، فهمُ الَّذين قالوا: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53] ! ومُناسَبتُه لِمَا قبْلَه: أنَّه مِن آثارِ اسْتِكبارِهم؛ فناسَبَ قَولَه: وَاسْتَكْبَرْتُمْ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). [الأحقاف: 10] .
وأيضًا لَمَّا دَلَّ على أنَّ تَرْكَهم للإيمانِ إنَّما هو تَعمُّدٌ للظُّلمِ؛ استِكبارًا، عَطَف على قَولِهم: إنَّه سِحْرٌ. ما دَلَّ على الاستِكبارِ، فقال تعالى [158] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/139). :
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ عن المُؤمِنينَ بالقُرآنِ: لو كان هذا القُرآنُ خَيرًا ما سبَقَنا إلى الإيمانِ به واتِّباعِه هؤلاء المُستَضعَفونَ الفُقَراءُ الأذِلَّاءُ، ولَبَادَرْنا إليه قَبْلَهم؛ فنحن أشرَفُ منهم وأعَزُّ، وأكثَرُ أموالًا وأولادًا [159] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/139، 140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/21، 22)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/220). !
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53] .
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.
أي: وحينَ لا يَهتدي المُشرِكونَ بالقُرآنِ فإنَّهم سيَقولونَ: هذا القُرآنُ الَّذي جاء به محمَّدٌ كَذِبٌ مِن أخبارِ الأقدَمينَ [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/133)، ((تفسير القرطبي)) (16/190)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/140). !
كما قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ القَومَ طَعَنوا في صِحَّةِ القُرآنِ، وقالوا: لو كان خَيرًا ما سبَقَنا إليه هؤلاء! وكأنَّه تعالى قال: الَّذي يدُلُّ على صِحَّةِ القُرآنِ أنَّكم لا تُنازِعونَ في أنَّ اللهَ تعالى أنزَلَ التَّوراةَ على موسى عليه السَّلامُ، وجَعَل هذا الكِتابَ إمامًا يُقتدَى به، ثمَّ إنَّ التَّوراةَ مُشتَمِلةٌ على البِشارةِ بمَقْدَمِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا سَلَّمتُم كَونَ التَّوراةِ إمامًا يُقتدَى به، فاقبَلوا حُكْمَه في كَونِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم حَقًّا مِنَ اللهِ تعالى [161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/13). .
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً.
أي: ومِن قَبْلِ هذا القُرآنِ التَّوراةُ الَّتي أُنزِلَت على موسى إمامًا لبني إسرائيلَ يأتَمُّونَ بما فيها، ورحمةً لهم في الدُّنيا والآخِرةِ إنِ اتَّبَعوها [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/133)، ((تفسير القرطبي)) (16/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780). قال القرطبي: (في الكلامِ حَذفٌ، أي: فلم تَهتَدوا به؛ وذلك أنَّه كان في التَّوراةِ نَعتُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والإيمانُ به، فتركوا ذلك). ((تفسير القرطبي)) (16/191). .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 17، 18].
وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا.
أي: وهذا القُرآنُ مُصَدِّقٌ للتَّوراةِ ولِكُتبِ اللهِ السَّابقةِ، حالَ كَونِه لسانًا عربيًّا فَصيحًا واضحًا [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/135)، ((تفسير ابن عطية)) (5/95)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/142، 143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/23). ممَّن اختار أنَّ معنى مُصَدِّقٌ أي: للكُتُبِ الَّتي قَبْلَه: البغويُّ، والقرطبي، وابنُ جُزَي، والخازن، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/195)، ((تفسير القرطبي)) (16/191)، ((تفسير ابن جزي)) (2/276)، ((تفسير الخازن)) (4/130)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((تفسير العليمي)) (6/285)، ((تفسير الشوكاني)) (5/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780). قال السعدي: (كِتَابٌ مُصَدِّقٌ للكُتُبِ السَّابِقةِ؛ شَهِدَ بصِدقِها، وصَدَّقَها بمُوافَقتِه لها). ((تفسير السعدي)) (ص: 780). وممَّن اختار أنَّ معنى مُصَدِّقٌ أي: لكِتابِ موسى؛ التَّوراةِ، واقتصر عليها: ابنُ جرير، والسمعاني، وابن عطية، والرازي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/134، 135)، ((تفسير السمعاني)) (5/153)، ((تفسير ابن عطية)) (5/95)، ((تفسير الرازي)) (28/13). قال ابن عطية: (مُصَدِّقٌ معناه: للتَّوراةِ الَّتي تضَمَّنَت خبَرَه وأمْرَ مُحمَّدٍ، فجاء هو مُصَدِّقًا لذلك الإخبارِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/95). وقال ابنُ جرير: (على قَولِ مَن جَعَل اللِّسانَ نَصبًا على الحالِ، وجعَلَه مِن صِفةِ الكِتابِ: يَنبغي أن يكونَ تأويلُ الكلامِ: وهذا كِتابٌ بلِسانٍ عَربيٍّ مُصَدِّقٌ التَّوراةَ كِتابَ موسى بأنَّ مُحمَّدًا لله رَسولٌ، وأنَّ ما جاء به مِن عندِ اللهِ حَقٌّ). ((تفسير ابن جرير)) (21/134). وقال ابنُ جُزَي: (وقيل: لِسَانًا مَفعولٌ بـ مُصَدِّقٌ، أي: صَدَّق ذا لِسانٍ عَربيٍّ، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. واختار هذا ابنُ عطيَّةَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/276). قال ابن عطية: (فكان القُرآنُ بإعجازِه وأحوالِه البارِعةِ يُصَدِّقُ الَّذي جاء به. وهذا قَولٌ صَحيحُ المعنى جيِّدٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/96). .
كما قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48].
وقال سُبحانَه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] .
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا.
أي: لِيُخوِّفَ القُرآنُ الظالِمينَ، ويُحذِّرَهم مِن عذابِ اللهِ إنِ استمَرُّوا على ظُلمِهم [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/135)، ((تفسير السمرقندي)) (3/287)، ((تفسير القرطبي)) (16/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/25، 26). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالَّذين ظَلَموا: المُشرِكونَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والبغويُّ، وابنُ كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/19)، ((تفسير البغوي)) (4/195)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((تفسير العليمي)) (6/286). قال ابنُ عاشور: (والَّذِينَ ظَلَمُوا هم المُشرِكونَ؛ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، ويَلحَقُ بهم الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم مِنَ المؤمِنينَ؛ ولذلك قُوبِلَ بالمُحسِنينَ، وهم المُؤمِنونَ الأتقياءُ؛ لأنَّ المرادَ ظُلْمُ النَّفْسِ، ويُقابِلُه الإحسانُ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/26). وقال السعدي: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهم بالكُفرِ والفُسُوقِ والعِصيانِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 780). .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] .
وقال سُبحانَه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] .
وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ.
أي: وهذا القُرآنُ بُشرَى بالخَيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ للَّذين أحسَنوا في إيمانِهم وطاعتِهم لله [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 780)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/26). .
كما قال الله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 2] .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] أي: قالوا عن المؤمِنينَ بالقُرآنِ: لو كان القُرآنُ خَيرًا ما سَبَقَنا هؤلاء إليه -يَعْنُونَ: بِلالًا وعَمَّارًا، وصُهَيبًا وخَبَّابًا، وأشباهَهم وأقرانَهم مِنَ المُستَضعَفينَ والعَبيدِ والإماءِ- [166] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/278). ؛ فمِن عاداتِ أهلِ الجاهليَّةِ: الاستِدلالُ على بُطلانِ الشَّيءِ بسَبْقِ الضُّعَفاءِ إليه! كما قال اللهُ عن المُشرِكينَ: إنَّهم يقولونَ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وهذا مِن أبطَلِ الباطِلِ؛ لأنَّ الحَقَّ ليس اتِّباعُه مَوقوفًا على طَبَقةٍ مِن النَّاسِ، بل اتِّباعُ الحَقِّ مِنَّةٌ يَمُنُّ اللهُ بها على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه ويُوَفِّقُه لها، فالاستِدلالُ على الشَّيءِ بأنَّه حَقٌّ باتِّباعِ الأغنياءِ له أو ذَوِي الجاهِ، والاستِدلالُ على أنَّه باطِلٌ باتِّباعِ الضُّعَفاءِ: هذا مِعيارُ أهلِ الجاهِليَّةِ، لا يجوزُ أن يُتَّخَذَ مِيزانًا يُوزَنُ به مَعرِفةُ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ؛ ولهذا يقولُ العُلَماءُ: الحَقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، وإنَّما يُعرَفُ الرِّجالُ بالحَقِّ [167] يُنظر: ((شرح مسائل الجاهلية)) لصالح الفوزان (ص: 111). .
2- قال الله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، فيَنبغي للإنسانِ الدَّاعي إلى اللهِ تعالى أن يُعامِلَ النَّاسَ بما تُعامِلُ به الرُّسُلُ أقوامَها؛ فتارةً يُبَشِّرُ، وتارةً يُنذِرُ؛ لأنَّه إنْ سَلَك سبيلَ البِشارةِ دائِمًا أدخَلَ النَّاسَ في الإرجاءِ، وإنْ سَلَك سبيلَ الإنذارِ دائِمًا أدخَلَ النَّاسَ في القُنوطِ واليَأسِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/485). .
3- قِيل: لِلْمُحْسِنِينَ دُونَ (الَّذين أحْسَنوا)، بعْدَ قَولِه: الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: لِيُنذِرَ الَّذين وُجِدَ منهم الظُّلمُ، ويُبشِّرَ الَّذين ثَبَتوا واسْتَقاموا على الإحسانِ والإخلاصِ، إعلامًا بأنَّ الإنسانَ مُفتقِرٌ إلى ما يُهذِّبُ به نفْسَه ويُقوِّمُ أوَدَه -أي: عِوَجَه- كلَّ الافتقارِ؛ لأنَّ الاستقامةَ على الصِّراطِ السَّويِّ لا تُوجَدُ إلَّا في الأفرادِ؛ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] ، ومِن ثَمَّ عَلَّلَ بِشارةَ المُحسنينَ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [169] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/284، 285). [الأحقاف: 13، 14].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قد نَبَّهَ اللهُ سُبحانَه على أنَّ مَزاعِمَ المشركينَ كلَّها ناشِئةٌ عن كُفْرِهم واسْتِكبارِهم بقَولِه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقَولِه: وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الأحقاف: 10] ، وقَولِه: وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: 10] ، وقَولِه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ الآيةَ. وإذ قد كانتْ مَقالاتُهم راميةً إلى غَرَضٍ واحدٍ -وهو تَكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان تَوزيعُ أسْبابِها على مُختلِفِ المَقالاتِ مُشْعِرًا بأنَّ جَميعَها أسبابٌ لِجَميعِها [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/22). .
2- قال تعالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ فيَقولونَ في كُلِّ فِعلٍ وقَولٍ لم يَثبُت عن الصَّحابةِ: هو بِدعةٌ؛ لأنَّه لو كان خيرًا لَسَبَقونا إليه؛ لأنَّهم لم يَترُكوا خَصلةً مِن خِصالِ الخَيرِ إلَّا وقد بادَروا إليها [171] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/278). .
3- في قولِه تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ تَنْبيهٌ منه سُبحانَه لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَمادِيهم في العِنادِ، وإقناطٌ له عن إيمانِهم، وتَسْليةٌ عن طَعْنِهم، وأنَّهم حِينَ لم يَهْتَدوا بهذا الكلامِ المُنصِفِ ظَهَرَ عِنادُهم، فأعْلَمَ أنَّهم لا يَهْتَدون بعْدَ ذلك أبدًا، ويَستمِرُّ منْهم حِينًا بعْدَ حِينٍ الطَّعنُ في القُرآنِ؛ فتارةً يقولونَ: أساطيرُ الأوَّلينَ، وأُخرى: إنَّه سِحرٌ مُبينٌ، وإفكٌ قَديمٌ، وأمْثالُ ذلك [172] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/283). .
4- في قولِه تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إبْطالٌ لِإحالتِهم أنْ يُوحِيَ اللهُ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بأنَّ الوحْيَ سُنَّةٌ إلهيَّةٌ سابقةٌ مَعلومةٌ، أشْهَرُه كِتابُ مُوسى، أي: التَّوراةُ، وهمْ قد بَلَغَتْهم نُبوَّتُه مِن اليَهودِ [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/24). .
5- قال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا هذا ثَناءٌ عَظيمٌ على القُرآنِ بأنَّه احتوَى على كُلِّ ما في الكُتُبِ السَّماويَّةِ، وجاء مُغْنيًا عنها، ومُبَيِّنًا لِما فيها، والتَّصديقُ يُشعِرُ بأنَّه حاكِمٌ على ما اختُلِفَ فيه منها [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/25). .
6- قال تعالى: لِسَانًا عَرَبِيًّا فزادَ اللهُ القُرآنَ ثَناءً بكَونِه لِسانًا عَرَبيًّا، أي: لُغةً عَربيَّةً؛ فإنَّها أفصَحُ اللُّغاتِ، وأنفَذُها في نُفوسِ السَّامِعينَ، وأحَبُّ اللُّغاتِ لِلنَّاسِ؛ فإنَّها أشرَفُ وأبلَغُ وأفصَحُ مِن اللُّغةِ الَّتي جاء بها كِتابُ مُوسى عليه السَّلامُ، ومِن اللُّغةِ الَّتي تَكلَّمَ بها عِيسى عليه السَّلامُ ودَوَّنَها أتْباعُه أصحابُ الأناجيلِ [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/25). .
7- قال الله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ، فلَمَّا عبَّرَ عن الكُفَّارِ بالَّذين ظَلَموا عبَّرَ عن المؤمِنينَ بالمُحسِنينَ؛ لِيُقابِلَ بلَفظِ الإحسانِ لَفظَ الظُّلمِ [176] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/438). .
8- قال الله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ فالرِّسالاتُ منحصِرةٌ في شيئينِ، لا ثالثَ لهما؛ وهما: البِشارةُ والإنذارُ؛ لأنَّ النَّاسَ يَنقسِمون بالنِّسبةِ للرِّسالاتِ إلى قِسمَينِ: مطيعٍ فله البِشارةُ، وعاصٍ فله الإنذارُ [177] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/251). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُتَّصِلٌ بقَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الأحقاف: 10] ، على مَعْنى: أخْبِروني إنِ اجْتَمَعَ كَونُ القُرآنِ مِن عِندِ اللهِ مع كُفْرِكُم به، واجتَمَعَ شَهادةُ أعلَمِ بني إسرائيلَ على نُزولِ مِثلِه، وإيمانُه به مع اسْتِكْبارِكم عنه وعن الإيمانِ به؛ ألَسْتُم ظالِمينَ [178] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/283). ؟
- واللَّامُ في قَولِه: لِلَّذِينَ آَمَنُوا لامُ التَّعليلِ مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ، هو حالٌ مِن الَّذِينَ كَفَرُوا، تَقديرُه: مُخصِّصينَ أو مُريدِين [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/21). .
- قولُه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ العامِلُ في (إذ) مَحْذوفٌ؛ لِدَلالةِ الكلامِ عليه، وتَقديرُه: وإذْ لم يَهْتَدوا به ظهَرَ عِنادُهم، فسَيَقولون: هذا إفكٌ قَديمٌ، وقولُه: فَسَيَقُولُونَ مُسبَّبٌ عن الجوابِ المَحذوفِ [180] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/301)، ((تفسير البيضاوي)) (5/113)، ((تفسير أبي حيان)) (9/437)، ((تفسير أبي السعود)) (8/81). .
- ولَمَّا كانتْ (إذ) ظَرْفًا للزَّمنِ الماضي، وأُضِيفَت هنا إلى جُملةٍ واقِعةٍ في الزَّمنِ الماضي -كما يَقْتضيهِ النَّفْيُ بحَرْفِ (لمْ)- تَعيَّنَ أنَّ الإخبارَ عنه بأنَّهم سَيَقولون: هذا إفْكٌ، أنَّهم يَقولونَه في المُستقبَلِ، وهو مُؤْذِنٌ بأنَّهم كانوا يَقولون ذلك فيما مضَى أيضًا؛ لأنَّ قَولَهم ذلك مِن تَصاريفِ أقْوالِهم الضَّالَّةِ المَحْكيَّةِ عنهم في سُوَرٍ أُخرى نَزَلَتْ قبْلَ هذه السُّورةِ، فعُبِّرَ عن وُقوعِها ثُمَّ دَوامِها بصِيغةِ الاستِقبالِ فَسَيَقُولُونَ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/23)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/173). .
- وحيثُ قُدِّم الظَّرفُ في الكلامِ على عامِلِه أُشرِبَ معنى الشَّرطِ، وهو إشرابٌ واردٌ في الكلامِ، وكثيرٌ في (إذ)؛ ولذلك دخَلَتِ الفاءُ في جَوابِه هنا في قَولِه: فَسَيَقُولُونَ. ويَجوزُ أنْ تكونَ (إذ) للتَّعليلِ، وتَتعلَّقُ (إذ) بـ (يَقولون)، وإنَّما انتظَمَتِ الجُملةُ هكذا؛ لإفادةِ هذه الخُصوصيَّاتِ البَلاغيَّةِ؛ فالواوُ للعطْفِ، والمعطوفُ في مَعنى شَرْطٍ، والفاءُ لِجَوابِ الشَّرطِ، وأصْلُ الكَلامِ: وسَيَقولون: هذا إفكٌ قَديمٌ؛ إذْ لمْ يَهْتدُوا به [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/23). .
2- قولُه تعالَى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ أُتْبِعَ إبطالُ تُرُّهاتِهم الطَّاعنةِ في القُرآنِ بهذا الكلامِ المُفيدِ زِيادةَ الإبطالِ لِمَزاعِمِهم بالتَّذكيرِ بنَظيرِ القُرآنِ ومَثيلٍ له مِن كُتُبِ اللهِ تعالَى هو مَشْهورٌ عِندَهم، وهو التَّوراةُ، مع التَّنويهِ بالقُرآنِ ومَزِيَّتِه، والنَّعْيِ عليهم؛ إذ حَرَموا أنفُسَهم الانتفاعَ بها؛ فعُطِفَت هذه الآيةُ على الَّتي قبْلَها لِارْتباطِها بها في إبْطالِ مَزاعِمِهم، وفي أنَّها ناظِرةٌ إلى قَولِه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [183] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/82)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/24). [الأحقاف: 10] .
- وتَقديمُ وَمِنْ قَبْلِهِ لِلاهتِمامِ بهذا الخبَرِ؛ لأنَّه مَحلُّ القصْدِ مِن الجُملةِ [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/24). .
- وعُبِّرَ عن التَّوراةِ بأنَّها كِتَابُ مُوسَى بطَريقِ الإضافةِ دُونَ الاسمِ العَلَمِ -وهو التَّوراةُ-؛ لِمَا تُؤذِنُ به الإضافةُ إلى اسمِ مُوسى مِن التَّذكيرِ بأنَّه كِتابٌ أُنزِلَ على بَشَرٍ، كما أُنزِلَ القُرآنُ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تَلْميحًا إلى مَثارِ نَتيجةِ قِياسِ القُرآنِ على كِتابِ مُوسى بالمُشابَهةِ في جَميعِ الأحوالِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/24). .
- قولُه: إِمَامًا وَرَحْمَةً الإمامُ: هو الشَّيءُ الَّذي يجعلُه العاملُ مِقياسًا لعَملِ شَيءٍ آخَرَ، ويُطلَقُ إطلاقًا شائعًا على القُدوةِ، وعُبِّرَ بالإمامِ عن كِتابِ مُوسى؛ لأنَّه يُرشِدُ إلى ما يجِبُ عَمَلُه؛ فهو كمَن يُرشِدُ ويَعِظُ، ومُوسى إمامٌ أيضًا بمَعنى القُدْوةِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/24). .
- والرَّحمةُ: اسْمُ مَصدرٍ لِصِفةِ الرَّاحِمِ، ووَصْفُ الكِتابِ بالرَّحمةِ؛ لِكَونِه سَببًا في نفْعِ المُتَّبِعينَ؛ لِمَا تَضمَّنَه مِن أسبابِ الخَيرِ في الدُّنيا والآخرةِ. ووَصْفُ الكِتابِ بالمَصدرِ (رَحْمة) مُبالَغةٌ في التَّعبيرِ، ومُوسى أيضًا رَحمةٌ لرسالتِه، كما وُصِفَ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه رَحمةٌ لِلعالَمينَ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/24، 25). .
- وقولُه: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ ... إلخ هو المَقيسُ على كِتابِ مُوسَى، والإشارةُ إلى القُرآنِ؛ لأنَّه حاضِرٌ بالذِّكرِ، فهو كالحاضِرِ بالذَّاتِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/25). .
- وأُطلِقَ مُصَدِّقٌ، ولم يَقُلْ: (مُصدِّقٌ له)، أي: لِكِتابِ مُوسَى، وحُذِفَ مَفعولُه؛ تَعْميمًا؛ لِيَشملَ جَميعَ الكُتبِ السَّماويَّةِ، وإيذانًا بأنَّه مُصدِّقٌ لها كلِّها، ولا سيَّما نفْسِه؛ لِكَونِه مُعجِزًا نازِلًا بلِسانٍ عَربيٍّ مُبِينٍ، تُحُدِّيَ به العرَبُ العَرْباءُ، فأُفْحِموا، ومع ذلك أنَّه نَذيرٌ لِلَّذِين ظَلَموا، بَشيرٌ لِلمُحسِنينَ [189] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/25). .
- قولُه: لِسَانًا عَرَبِيًّا أُدمِجَ لَفظُ لِسَانًا؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ المُرادَ بعَربيَّتِه عَربيَّةُ ألْفاظِه لا عَربيَّةُ أخْلاقِه وتَعاليمِه؛ لأنَّ أخْلاقَ العرَبِ يَومَئذٍ مُختلِطةٌ مِن مَحاسِنَ ومَساوِئَ، فلمَّا جاء الإسلامُ نَفى عنها المَساوِئَ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/25). .
- وقولُه: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بـ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ؛ لأنَّ ما سَبَقه مُشتمِلٌ على الإنذارِ والبِشارةِ، والأحسَنُ أنْ يَتعلَّقَ بما في كِتابٍ مِن مَعنى الإرشادِ المُشتمِلِ على الإنذارِ والبِشارةِ؛ لِيَكونَ لِيُنْذِرَ عِلَّةً لِلْكتابِ باعتبارِ صِفتِه وحالِه [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/25، 26). .
- وعلى قِراءةِ لِتُنذِرَ بالمُثنَّاةِ الفوقيَّةِ [192] يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/372). ، على أنَّه خطابٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيَحصُلُ وَصْفُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه مُنذِرٌ، ووَصْفُ كِتابِه بأنَّه بُشْرَى، وفيه احْتِباكٌ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/26). الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). .
- وفي قولِه: وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ قيل: لِلْمُحْسِنِينَ ولمْ يُقَلْ: (لِلْعادلينَ) بعْدَ قَولِه: الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ لِيَكونَ ذَرِيعةً إلى البِشارةِ بقولِه: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13] لِمَن قال: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [194] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/284). .
- قولُه: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ هذا النَّظمُ يَجعَلُ الجُملةَ بمَنزِلةِ الاحْتِراسِ [195] الاحتراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ، والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتمالَ. أو: الإتيانُ في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم التَّكميلَ. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 195)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/84)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). والتَّتْميمِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/26). والتَّتميمُ: هو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصودِ، أو لزيادةٍ حسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِح مِن الكلامِ نقَص معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/212، 213)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) للعصام (2/94)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 196)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/44)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/88). .