موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (192-209)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غَريبُ الكَلِماتِ:

زُبُرِ: أي: كتُبِ، جمعُ زَبورٍ، وهو: كلُّ كتابٍ ذي حِكمةٍ، مأخوذٌ مِن الزَّبْرِ، وهو الكِتابةُ والقِراءةُ .
الْأَعْجَمِينَ: الأعجَمُ: مَن في لِسانِه عُجمةٌ، عربيًّا كان أو غيرَ عربيٍّ، وأصلُ (عجم): يدُلُّ على سُكوتٍ وصَمتٍ .
سَلَكْنَاهُ: أي: أدخَلْناه، وأصلُ (سلك): يدُلُّ على نفوذِ شَيءٍ في شَيءٍ .
بَغْتَةً: أي: فجأةً، والبَغتُ: مُفاجأةُ الشَّيءِ مِن حيثُ لا يُحتسَبُ .
مُنْظَرُونَ: أي: مُؤخَّرٌ عنا العذابُ، وممدودٌ في آجالِنا، والنَّظَرُ: الانتظارُ. يُقالُ: نظرْتُه وانتظَرْتُه وأنْظَرْتُه، أي: أخَّرْتُه، وأصلُ (نظر): تأمُّلُ الشَّيءِ ومُعاينَتُه .
مَتَّعْنَاهُمْ: أي: عمَّرْناهم، وأصلُ الإمتاعِ: الإطالةُ، يُقالُ للشيءِ الطويلِ: ماتِعٌ، وأصلُ (متع): يدُلُّ على منفعةٍ، وامتدادِ مُدَّةٍ في خيرٍ .
مَا أَغْنَى: أي: ما نَفَعهم وما دفَعَ عنهم، يُقالُ: أغْناني كذا، وأغْنَى عنه كذا: إذا كفاه، وأصلُ (غني) هنا: يدُلُّ على الكِفايةِ .
ذِكْرَى: أي: تَذكيرٌ، والذِّكرى: كثرةُ الذِّكرِ، وهو أبلَغُ مِن الذِّكْرِ .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ الله تعالى مصدرَ القرآنِ، والنازلَ به، والنازلَ عليه، وحكمةَ الإنزالِ، واللغةَ التي نزَل بها، فيقولُ: وإنَّ القرآنَ وحْيٌ مُنزَّلٌ مِن اللهِ ربِّ العالَمينَ، نزَل به على قَلبِك -يا مُحمَّدُ- جِبريلُ الأمينُ على الوَحيِ؛ لِتُنذِرَ به النَّاسَ، بلُغةٍ عربيَّةٍ واضحةِ البيانِ.
ثمَّ يبيِّنُ سبحانَه ما يدُلُّ على صِدقِ هذا القرآنِ ومَن جاء به، فيقولُ: وإنَّ هذا القُرآنَ لَمذكورٌ خَبَرُه في كتُبِ الأنبياءِ السَّابقينَ. أوَلَمْ يكُنْ لهؤلاء المُشرِكين المكَذِّبينَ عَلامةً على صِحَّةِ ما جئْتَهم به -يا مُحمَّدُ- عِلمُ عُلَماءِ بني إسرائيلَ صِدْقَ ذلك، ووجودُه في كُتُبِهم؟!
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى جحودَ الكافرينَ وعنادَهم، فيقولُ: ولو نزَّلْنا هذا القُرآنَ على رجُلٍ أعجميٍّ لا يَنطِقُ بالعربيَّةِ، فقرأه على مُشرِكي قَومِك بغيرِ لغةِ العربِ؛ لَما آمَنوا به، ولَقالوا: ما نَفْقَهُ قولَه! كذلك أدخَلْنا القُرآنَ في قُلوبِ المُشرِكين، فكَذَّبوا به، ولا يؤمِنون به حتى يرَوُا العذابَ الأليمَ مِن الله، وهو آتِيهم فجأةً، فيقولونَ حينَ يَرَون العذابَ: هل نحن مؤخَّرون ومُمهَلونَ يا رَبَّنا؟!
أيَستعجِلُ هؤلاء المجرِمون بعذابِنا؟ أخبِرْني إنْ أمهَلْناهم يتمَتَّعون في الدُّنيا سِنينَ كثيرةً، ثمَّ جاءهم بعْدَ تمتُّعِهم تلك السِّنينَ عذابُ اللهِ الذي كانوا يُوعَدون به، فماذا ينفَعُهم تمتُّعُهم في الدُّنيا، وإمهالُنا لهم؟!
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سُنَّتَه التي لا تتخلَّفُ، فيقولُ: وما أهلَكْنا قريةً مِن القُرى الظَّالِمةِ إلَّا بعْدَ إرسالِ رسُلِ الله المُنذِرينَ لهم، بعَثْنا هؤلاء الرسُّلَ تذكِرةً لأهل القرى، وما كُنَّا ظالِمين لهم بعْدَما أقَمْنا الحُجَّةَ عليهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ختمَ سُبحانَه ما اقتصَّه مِن خبرِ الأنبياءِ؛ ذَكَرَ بعدَ ذلك ما يدُلُّ على نبوَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّم .
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192).
أي: وإنَّ القرآنَ وحْيٌ مِن اللهِ الذي ربَّى جميعَ العالَمينَ بنِعَمِه، وهداهم لمصالِحِهم برَحمتِه .
كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة: 77 - 80] .
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193).
أي: نزَل بالقُرآنِ جِبريلُ المؤتمَنُ على وَحيِ اللهِ إلى أنبيائِه؛ فهو لا يَزيدُ فيه ولا يَنقُصُ منه شيئًا .
كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] .
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) .
أي: نزَل جبريلُ بالقُرآنِ على قَلبِك -يا محمَّدُ- لِتَعِيَهُ وتحفَظَه، فتكونَ ممَّن يُنذِرُ النَّاسَ به .
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 97] .
وقال سُبحانَه: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] .
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195).
أي: بلُغةٍ عَربيَّةٍ واضحةِ المعاني .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] .
وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] .
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196).
أي: وإنَّ هذا القُرآنَ مَذكورٌ خبَرُه في كتُبِ الأنبياءِ السَّابقةِ المبشِّرةِ به، ممَّا يدُلُّ على صِحَّتِه .
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197).
أي: أوَلَمْ يكُنْ للمُشرِكين المكَذِّبين دَلالةً على صِحَّةِ ما جاء به الرَّسولُ مِن الوَحيِ؛ أنَّ العُلَماءَ مِن بني إسرائيلَ يَعلَمونَ صِدقَ ذلك، ويَجِدونَ ذِكرَه في كُتُبِهم التي يَدرُسونَها ؟!
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] .
وقال جلَّ وعزَّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10] .
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا فَرغَ مِن الاستِدلالِ بتعجيزِهم؛ فضَحَ نيَّاتِهم بأنَّهم لا يُؤمِنون به في كلِّ حالٍ .
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198).
أي: ولو نزَّلْنا القُرآنَ على رجُلٍ مِن الأعاجِمِ لا يُحسِنُ التحَدُّثَ بالعربيَّةِ .
كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44] .
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199).
أي: فقرَأ القُرآنَ على كُفَّارِ العَرَبِ بغيرِ لُغةِ العربِ، لَما آمَنوا بأنَّه مِن عندِ اللهِ، ولَقالوا: لا نَفْقَهُ قولَك !
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200).
أي: كذلك أدخَلْنا القُرآنَ في قُلوبِ المُشرِكين فكَذَّبوا به !
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201).
أي: لا يُؤمِنونَ بالقُرآنِ حتى يَرَوا عذابَ اللهِ فيُؤمِنوا به حينَ لا ينفَعُهم الإيمانُ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 57، 58].
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان إتيانُ الشَّرِّ فُجاءةً أشَدَّ، وكان أخْذُه لهم عَقِبَ رؤيتِهم له مِن غيرِ مُهلةٍ يحصلُ فيها نوعُ استعدادٍ أصلًا- دلَّ على ذلك مصَوِّرًا لحالِه بقولِه، دالًّا بالفاءِ على الأشَدِّيةِ والتَّعقيبِ :
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202).
أي: فيأتيَ المكَذِّبينَ بالقُرآنِ عَذابُ الله فَجأةً بلا مُقَدِّماتٍ، وهم لا يَشعُرونَ بمَجيئِه .
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ أنَّهم لا يُؤمِنون به حتى يَروُا العذابَ الأليمَ، وأنَّه يأتيهم العذابُ بغتةً؛ أتبعَه بما يكونُ منهم عندَ ذلك على وجهِ الحَسرةِ، فقال :
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203).
أي: فيقولَ المُجرِمونَ حينَ يأتيهم العَذابُ فَجأةً: هل نحن مؤخَّرون ومُمهَلُون لِنَتوبَ إلى اللهِ، فنُؤمِنَ ونعمَلَ صالِحًا ؟!
كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44].
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حقَّقَ سُبحانَه أنَّ حالَهم عندَ الأخذِ الجؤارُ بالذُّلِّ والصَّغارِ به؛ تسبَّبَ عنه ما يستَحِقُّون باستعجالِه مِن الإنكار .
وأيضًا لَمَّا أوعدَهم النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالعذابِ، قالوا: إلى متى تُوعِدُنا بالعَذابِ؟ ومتى هذا العذابُ؟ قال اللهُ تعالى :
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204).
أي: أيَستعجِلُ هؤلاء المُجرِمونَ بعَذابِنا الذي لا يَنْبغي أن يُستهانَ به ؟!
كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] .
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل: 71، 72].
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان استعجالُهم بالعذابِ مُقتَضيًا أنَّهم في مُهلةٍ منه ومُتعةٍ بالسَّلامةِ، وأنَّ ذلك يَغُرُّهم بأنَّهم في مَنجاةٍ مِن الوعيدِ الذي جاءَهم على لسانِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ جابههم بجُملةِ :
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)  .
أي: هَبْ أنَّ الأمرَ كما يعتَقِدونَ مِن طُولِ عَيشِهم، فأخبِرْني إنْ أمهَلْناهم وأبقَيناهم يتمتَّعونَ في الدُّنيا سِنينَ كَثيرةً .
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206).
أي: ثمَّ جاءهم بعْدَ تلك السِّنينَ الكثيرةِ عذابُ الله الذي كانوا يوعَدُون به على كُفرِهم وتَكذيبِهم .
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207).
أي: فماذا ينفَعُهم حينَها تمتُّعُهم في الدُّنيا، وتأخيرُنا عذابَهم سِنينَ كَثيرةً ؟!
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُؤتَى بأنعَمِ أهلِ الدُّنيا مِن أهلِ النَّارِ يومَ القيامةِ، فيُصبَغُ في النَّارِ صَبغةً، ثمَّ يُقالُ: يا ابنَ آدَمَ، هل رأيتَ خيرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا واللهِ يا رَبِّ! ويُؤتَى بأشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنيا مِن أهلِ الجنَّةِ، فيُصبَغُ صَبغةً في الجنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابنَ آدَمَ، هل رأيتَ بؤسًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بك شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيقولُ: لا واللهِ يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيتُ شِدَّةً قطُّ )) .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) .
أي: وما أهلَكْنا قريةً مِن القُرى الماضيةِ إلَّا بعْدَ قيامِ الحُجَّةِ على أهلِها بإرسالِ رسُلٍ يُنذِرونَهم سَخَطَ اللهِ وعَذابَه إنِ استمَرُّوا على كُفرِهم .
كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15].
وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا بيَّن أنَّ أولئك المُشركينَ المُستهزئينَ لا يُؤمِنونَ بالكتابِ ولا بالرَّسولِ حتَّى يرَوُا العذابَ الأليمَ حينَ لا تَنفعُهم الآياتُ؛ أتَى بهذه الآيةِ بَيانًا لِاستحقاقِهم العذابَ والاستئصالَ، وأنْ يُجْعَلوا نَكالًا وعِبرةً لغيرِهم، كما جَرَت سُنَّةُ اللهِ تعالى في الأممِ السَّالفةِ، والقرونِ الخاليةِ .
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209).
أي: بعَثْنا الرُّسُلَ المُنذِرينَ تذكرةً لأهلِ القُرى، وتنبيهًا لهم قبْلَ إهلاكِهم، وما كنَّا ظالِمين لهم بعدَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وإنذارِهم، والإعذارِ إليهم .
كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165].
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- يكفي في الزُّهدِ في الدُّنيا قَولُه تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ .
2- ما مضى مِن العُمُرِ وإنْ طالتْ أوقاتُه فقد ذهبتْ لَذَّاتُه، وبقيتْ تَبِعاتُه، وكأنَّه لم يكُنْ إذا جاء الموتُ وميقاتُه؛ قال الله عزَّ وجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ. تلا بعضُ السَّلَفِ هذه الآيةَ وبكى، وقال: (إذا جاء الموتُ لم يُغْنِ عن المرءِ ما كان فيه مِن اللذَّةِ والنَّعيمِ) !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَولُه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ «تنزيلُ»: مصدرٌ بمعنى اسمِ المفعولِ، أي: لَمُنَزَّلٌ؛ لأنَّ القرآنَ نفْسَه ليس تنزيلًا، بلِ التنزيلُ فِعلُ اللهِ، والقرآنُ عبارةٌ عن شيءٍ مُنَزَّلٍ، كما قال اللهُ تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [الفرقان: 1] .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ تأمَّلْ كيف اجتمعَتْ هذه الفضائلُ الفاخرةُ في هذا الكتابِ الكريمِ؛ فإنَّه أفضَلُ الكتُبِ، نَزَلَ به أفضلُ الملائكةِ، على أفضَلِ الخلْقِ، على أفضَلِ بَضْعةٍ فيه -وهي قلبُه-، على أفضلِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ، بأفضلِ الألسنةِ وأفصحِها وأوسَعِها، وهو اللسانُ العربيُّ المُبينُ .
3- قال الله تعالى: لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَولُه: رَبِّ الْعَالَمِينَ هذه الرُّبوبيَّةُ العامَّةُ إشارةٌ إلى أنَّه مِن مُقتضى ربوبيَّتِه أنْ يكونَ مُنَزِّلًا لعبادِه هذا الكتابَ المفيدَ لهم .
4- في قَولِه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ سؤالٌ: إنْ قيل: قال: عَلَى قَلْبِكَ، وهو إنما نَزَلَ عليه؟!
الجوابُ: أنَّه خصَّه بالذِّكرِ؛ لِيُؤَكِّدَ أنَّ ذلك المُنَزَّلَ محفوظٌ، والمُرسَلَ متمكِّنٌ مِن قلْبِه لا يجوزُ عليه التغيرُ، ولأنَّ القلبَ هو المخاطَبُ في الحقيقةِ؛ لأنَّه موضعُ التمييزِ والاختيارِ، وأمَّا سائرُ الأعضاءِ فمُسَخَّرةٌ له، ويدُلُّ على ذلك الكِتابُ والسُّنةُ؛ فمِن الكتابِ قَولُه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ، واستحقاقُ الجزاءِ ليس إلَّا على ما في القَلبِ؛ قال الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] .
ومِن السُّنةِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا وإنَّ في الجسَدِ مُضْغةً إذا صلَحَت صلَحَ الجَسدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجسَدُ كُلُّه، ألَا وهي القَلبُ )) ، ولأنَّ القَلبَ مَحَلُّ العَقلِ والفَهمِ، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج: 46] .
5- قولُه تعالى: الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريلُ عليه الصلاةُ والسلامُ، وقد وُصِفَ بالرُّوحِ؛ لأنَّه يَنْزِلُ بما فيه الحياةُ؛ وهو الوحيُ الذي به حياةُ القلوبِ .
6- قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ في قَولِه: الْأَمِينُ إشارةٌ إلى كَونِه معصومًا مِن كلِّ دَنَسٍ، فلا يُمكِنُ منه خيانةٌ . ووُصِفَ جبريلُ بالأمانةِ؛ لأنَّ المقامَ يقتضيه، وأمانةُ جبريلَ عليه الصلاةُ والسلامُ مِن عِدَّةِ أوجهٍ بالنسبةِ للقرآنِ:
أولًا: أمينٌ؛ بحيثُ لا يَنْزِلُ به إلَّا على مَن أُمِرَ به، وعلى هذا فيكونُ قولُ الرافضةِ -قَبَّحَهم اللهُ-: «إنْ جبريلَ أُمِر أن يَنزِلَ بالقرآنِ على عليٍّ؛ ولكنَّه خانَ فنَزَلَ به على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ» منافيًا لوصفِ جبريلَ عليه السلامُ بالأمانةِ!
ثانيًا: مقتضَى الأمانةِ أنْ يَنزِلَ به كما سَمِعه مِن اللهِ؛ لا يَزيدُ فيه ولا يَنقُصُ، ولا يُقَدِّمُ ولا يُؤَخِّرُ.
ثالثًا: أنْ يَنزِلَ به في الوقتِ الذي أُمِر بإنزالِه فيه؛ فلا يتأخَّرُ إذا أُوحيَ إليه به إلَّا بإذنِ اللهِ.
فهذه الأوصافُ الثلاثةُ مِن مقتضَى أمانةِ جبريلَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ .
7- قولُه تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ تقريرٌ لحقِّيَّةِ تلك القصصِ، وتنبيهٌ على إعجازِ القرآنِ، ونُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الإخبارَ عنها ممَّنْ لم يتعلَّمْها لا يكونُ إلَّا وَحْيًا مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ .
8- قَولُه تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ يَدخُلُ تحتَ الإنذارِ فيه: الدُّعاءُ إلى كلِّ واجبٍ مِن علمٍ وعَمَلٍ، والمنعُ مِن كلِّ قبيحٍ؛ لأنَّ في الوجهينِ جميعًا يَدخُلُ الخوفُ مِن العقابِ .
9- في قَولِه تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ تقريعٌ عظيمٌ لِمَن يَعرِفُ لسانَ العربِ ولا يؤمِنُ بالتَّنزيلِ .
10- في قَولِه تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ دَلالةٌ على وجوبِ فَهْمِ القرآنِ على ما يَقتَضيه ظاهرُه باللِّسانِ العربيِّ، إلَّا أنْ يمنعَ منه دَليلٌ شرعيٌّ .
11- قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فلُغةُ العَرَبِ أفصَحُ اللُّغاتِ وأوسَعُها لاحتمالِ المعاني الدَّقيقةِ الشَّريفةِ مع الاختِصارِ؛ فإنَّ ما في أساليبِ نَظمِ كَلامِ العَرَبِ مِن علاماتِ الإعرابِ، والتَّقديمِ والتأخيرِ، والكنايةِ وغيرِ ذلك، وما في سَعةِ اللُّغةِ مِن الترادُفِ، وأسماءِ المعاني المقَيَّدةِ، وما فيها من المحَسِّنات- ما يَلِجُ بالمعاني إلى العُقولِ سَهلةً مُتمَكِّنةً، فقدَّر اللهُ تعالى هذه اللُّغةَ أن تكونَ هي لُغةَ كتابِه الذي خاطبَ به النَّاسَ كافَّةً . ومِن الدعواتِ المستنكَرةِ في عَصرِنا الحاضرِ دعواتُ مَن يريدون أنْ يُذِيبوا اللغةَ العربيَّةَ، مطالبينَ بجَعْلِ اللُّغةِ العاميَّةِ مكانَ اللُّغةِ العربيةِ في المُكاتباتِ والمراسلاتِ وغيرِهما! وأقبَحُ مِن ذلك مَن يحاولون أنْ يَتكلَّموا باللُّغةِ الأعجميَّةِ في أكثرِ محادثاتِهم، ويَفتخرونَ بلغةِ الإنجليزِ وغيرِهم، وتجدُهم يَتَشَدَّقون بالكلامِ بها !
12- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ دليلٌ واضحٌ على عنايةِ اللهِ تعالى بهذا القُرآنِ وتشريفِه وتعظيمِه؛ حيثُ ذُكِرَ في كلِّ كتابٍ سَبَق .
13- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ دليلٌ على أنَّه لو جاء هذا الكتابُ لوَجَبَ على جميعِ مَن يَدِينون بالكتبِ السابِقةِ أنْ يؤمِنوا به .
14- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَلالةٌ على أنَّه ما كان مِن العِلْمِ المَوروثِ عن نبيِّنا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلنا أنْ نستشهِدَ عليه بما عندَ أهلِ الكتابِ .
15- في قَولِه تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ أنَّ الشَّرائعَ لا تَلزَمُ إلَّا بعدَ العِلمِ، وأنَّه ما دام الإنسانُ غيرَ عالِمٍ بالشَّرعِ فإنَّه لا يُكَلَّفُ به .
16- في قَولِه تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى لا يُعَذِّبُ أحدًا ولا يُهلِكُه إلَّا بذَنْبِه، وبعْدَ إرسالِ الرَّسولِ إليه .
17- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ إشارةٌ إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى قادِرٌ على أنْ يُعَذِّبَ المطيعَ وإن أطاعَ، فهذا ليس مُستحيلًا، ولكِنَّه تبارك وتعالى مُنَزَّهٌ عنه؛ لكَمالِ عَدْلِه، وهذا فيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ الذين يقولون: إنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى يَستحيلُ في حقِّه الظُّلمُ، يستحيلُ لِذاتِه، ومُحالٌ لذاتِه !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَوْدٌ إلى ما افتُتِحَتْ به السورةُ مِنَ التَّنويهِ بالقرآنِ، وكَوْنِه الآيةَ العُظمى بما اقتضاهُ قولُه: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 2] ؛ لتُختَتَمَ السورةُ بإطنابِ التَّنويهِ بالقُرآنِ، كما ابتُدِئَتْ بإجمالِ التَّنويهِ به، والتنبيهِ على أنَّه أعظَمُ آيةٍ اختارها اللهُ أنْ تكونَ معجزةَ أفضلِ المرسَلينَ؛ فضميرُ وَإِنَّهُ عائدٌ إلى معلومٍ مِنَ المقامِ -وهو القرآنُ- بعْدَ ذِكْرِ آياتِ الرسلِ الأوَّلينَ، أي: إنَّه ليس بكهانةٍ ولا سِحرٍ، بلْ هو مِن عِندِ اللهِ، وكأنَّه عاد أيضًا إلى ما افتتَحَ به السورةَ مِن إعراضِ المشركينَ عمَّا يأتيهم مِنَ الذِّكْرِ؛ ليتناسبَ المفتتَحُ والمختتَمُ؛ فبواوِ العطفِ اتَّصلتِ الجملةُ بالجُمَلِ التي قبْلَها، وبضميرِ القرآنِ اتَّصلَ غرضُها بغرضِ صدرِ السورةِ؛ فجُملةُ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ معطوفةٌ على الجُملِ التي قبْلَها المحكيَّةِ فيها أخبارُ الرسلِ المماثِلةِ أحوالُ أقوامِهم لحالِ قومِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما أيَّدَهُمُ اللهُ به مِنَ الآياتِ؛ ليُعْلَمَ أنَّ القرآنَ هو آيةُ اللهِ لهذه الأمَّةِ؛ فعطْفُها على الجُملِ التي مِثلُها عطْفُ القصَّةِ على القصَّةِ لتلك المناسَبةِ، ولكنَّ هذه الجملةَ مُتَّصلةٌ في المعنى بجُملةِ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 2] ؛ بحيثُ لولا ما فَصَلَ بيْنَها وبينَ الأخرى مِن طولِ الكلامِ لكانتْ معطوفةً عليها .
- قولُه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ فيه التأكيدُ بـ (إنَّ) وَلامِ الابتداءِ؛ لرَدِّ إنكارِ المنكِرينَ، و(التنزيلُ) مصدرٌ بمعنى المفعولِ؛ للمُبالَغةٍ في الوصفِ، حتَّى كأنَّ المنزَّلَ نفْسُ التنزيلِ .
2- قولُه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ بيانٌ لتنزيلِ ربِّ العالَمينَ، أي: كان تنزيلُه على هذه الكيفيَّةِ .
3- قولُه تعالى: عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فيه توجيهُ الخِطابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ في التنويهِ بالقرآنِ تسليةً له على ما يُلاقيهِ مِن إعراضِ الكافرينَ عن قَبولِه وطاعتِهم فيه .
- وعبَّر بحرفِ الاستِعلاءِ (على) في قولِه: عَلَى قَلْبِكَ؛ للدَّلالةِ على التَّمكُّنِ مِمَّا سُمِّيَ بقَلْبِ النَّبيِّ .
- قولُه: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ مُتعلِّقٌ بـ نَزَلَ بِهِ، أي: أنزلَه لتُنذِرَهم بما في تضاعيفِه مِنَ العُقوباتِ الهائلةِ، وجاء النَّظْمُ الكريمُ بهذا، ولم يُعبِّرْ مثلًا بقولِه: (لتكونَ مُنذِرًا)؛ للدَّلالةِ على انتظامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سلكِ أولئك المنذِرينَ المشهورينَ في حقِّيَّةِ الرِّسالةِ، وتقرُّرِ وقوعِ العذابِ المُنذَرِ .
- وأيضًا قولُه: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عِلَّةٌ في التنزيلِ أو النُّزولِ، اقتُصِرَ عليها؛ لأنَّ ذلك أزْجَرُ للسامعِ، وإنْ كان القرآنُ نزلَ للإنذارِ والتبشيرِ ، ولأنَّها أخصُّ بغرضِ السورةِ؛ فإنَّها افتُتِحَتْ بذِكْرِ إعراضِهم وبإنذارِهم .
4- قولُه تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
- قولُه: بِلِسَانٍ عَرَبِي أي: نزَّلَه باللِّسانِ العربيِّ؛ فالأصلُ التعريفُ فيه، وأنَّه للعهْدِ، وأُوثِرَ التنكيرُ في التنزيلِ؛ ليُؤْذِنَ بالتعظيمِ والتفخيمِ .
- وقولُه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ هو أيضًا مُتعلِّقٌ بـ نَزَلَ بِهِ، وتأخيرُه؛ للاعتناءِ بأمْرِ الإنذارِ، وللإيماءِ إلى أنَّ مدارَ كونِه مِن جُملةِ المنذِرينَ المذكورينَ عليهِمُ السلامُ مُجرَّدُ إنزالِه عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا إنزالُه باللِّسانِ العربيِّ .
5- قولُه تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ تنويهٌ آخَرُ بالقرآنِ بأنَّه تُصدِّقُه كُتبُ الأنبياءِ الأوَّلينَ بموافقتِها لِمَا فيه، وخاصَّةً في إخبارِه عن الأُمَمِ وأنبيائِها .
6- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تنويهٌ ثالثٌ بالقرآنِ، وحُجَّةٌ على التنويهِ الثاني به الذي هو شهادةُ كُتبِ الأنبياءِ له بالصِّدقِ، بأنَّ علماءَ بَني إسرائيلَ يَعلَمونَ ما في القرآنِ ممَّا يَختصُّ بعِلمِهم؛ فباعتبارِ كَوْنِ هذه الجملةِ تنويهًا آخَرَ بالقرآنِ عُطِفَتْ على الجملةِ التي قبْلَها، ولولا ذلك لكان مقتضى كونِها حُجَّةً على صِدقِ القرآنِ ألَّا تُعطَفَ .
- وأيضًا قولُه: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تقريرٌ لكونِه دليلًا على صِحَّةِ القرآنِ أو نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وهو بيانٌ لعِنادِهم، وتقريرٌ بأنَّ كلًّا مِنَ القصصِ مُستقِلَّةٌ .
- وهمزةُ الاستفهامِ في قولِه: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً للإنكارِ والنفيِ، والواوُ للعطفِ على مُقَدَّرٍ يَقتضيهِ المقامُ؛ كأنَّهُ قيل: أَغَفَلُوا عن ذلك، ولم يكُنْ لهم آيةٌ دالَّةٌ على أنَّه تنزيلٌ مِن ربِّ العالَمينَ، وأنَّه في زُبُرِ الأوَّلينَ؟! على أنَّ لَهُمْ مُتعلِّقٌ بالكونِ، قُدِّم على اسمِه وخبرِه؛ للاهتمامِ به، أو بمحذوفٍ هو حالٌ مِن آَيَةً، قُدِّمَتْ عليها؛ لكونِها نكِرةً، و آَيَةً خبرٌ للكونِ قُدِّمَ على اسمِه الذي هو قولُه تعالى: أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ للاعتناءِ والتشويقِ إلى المؤخَّرِ .
7- قولُه تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ في لفظِ (البعضِ) إشارةٌ إلى كونِ ذلك واحدًا مِن عُرْضِ تلك الطَّائفةِ كائنًا مَن كان .
8- قولُه تعالى: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ
- أظهَرَ اللهُ بُهتانَهم في هذه الآيةِ بأنَّهم إنَّما قالوا ذلك حيثُ جاءهم بالقرآنِ رسولٌ عربيٌّ، وأنَّه لو جاءهم بهذا القرآنِ رسولٌ أعجميٌّ لا يَعرِفُ العربيَّةَ بأنْ أوحى اللهُ بهذه الألفاظِ إلى رسولٍ لا يفهمُها، ولا يُحسِنُ تأليفَها، فقرأَهُ عليهم، وفي قراءتِه وهو لا يُحسِنُ اللُّغةَ أيضًا خارِقُ عادةٍ؛ لو كان ذلك لَمَا آمَنوا بأنَّه رسولٌ، مع أنَّ ذلك خارِقٌ للعادةٍ -وذلك على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ-؛ فزيادةُ قولِه: عَلَيْهِمْ زيادةُ بيانٍ في خَرْقِ العادةِ، يعني: أنَّ المشركينَ لا يُريدونَ ممَّا يُلْقُونَه مِنَ المطاعِنِ البحثَ عن الحقِّ، ولكنَّهم أصَرُّوا على التكذيبِ، وطَفِقوا يتحمَّلونَ أعذارًا لتكذيبِهم؛ جُحودًا للحقِّ، وتستُّرًا مِنَ اللائِمينَ .
- وجُملةُ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ معطوفةٌ على جُملةِ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194] إلى قولِه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]؛ لأنَّ قولَه: عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: 194] أفاد أنَّه أُوتِيَه مِن عِندِ اللهِ، وأنَّه ليس مِن قوْلِ النبيِّ، لا كما يقولُ المشركونَ: تَقَوَّلَهُ [الطور: 33].
9- قولُه تعالى: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ جملةٌ مستأنَفةٌ بيانيَّةٌ، أي: إنْ سألتَ عن استمرارِ تكذيبِهم بالقرآنِ في حينِ أنَّه نزَلَ بلسانٍ عربيِّ مُبينٍ، فلا تعجَبْ؛ فكذلك السُّلوكِ سَلَكْناهُ في قُلوبِ المشركينَ؛ فهو تشبيهٌ للسُّلوكِ المأخوذِ مِن (سَلَكْنَاهُ) بنفْسِه لغرابتِه، أي: هو سلوكٌ لا يُشبِهُه سُلوكٌ، وهو أنَّه دخَلَ قُلوبَهم بإبانتِه، وعرَفوا دلائلَ صِدقِه مِن أخبارِ علماءِ بَني إسرائيلَ، ومع ذلك لم يؤمِنوا به ، وذلك على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآية.
- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ تقدَّمَ نظيرُ أوَّلِ هذه الآيةِ في سورةِ (الحِجْرِ)، إلَّا أنَّ آيةَ (الحِجْرِ) قيل فيها: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ [الحجر: 12] ، وفي هذه الآيةِ قيل: سَلَكْنَاهُ؛ فوجْهُ اختيارِ المضارعِ في آيةِ (الحِجْرِ): أنَّهُ دالٌّ على التجدُّدِ؛ لئلَّا يُتَوَهَّمَ أنَّ المقصودَ إبلاغٌ مضَى؛ وهو الذي أُبْلِغَ لِشِيَعِ الأوَّلينَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهم؛ فيُتَوَهَّمَ أنَّهمُ المرادُ بالمجرمينَ مع أنَّ المرادَ كفَّارُ قريشٍ، وأمَّا هذه الآيةُ فلَمْ يَتَقَدَّمْ فيها ذِكْرٌ لغيرِ كفَّارِ قريشٍ؛ فناسَبَها حكايةُ وقوعِ هذا الإبلاغِ مُنذُ زمنٍ مضى؛ وهم مُستمِرُّونَ على عدمِ الإيمانِ .
- وعبَّر عَنِ المشركينَ بـ الْمُجْرِمِينَ؛ لأنَّ كُفرَهم بعْدَ نُزولِ القرآنِ إجرامٌ .
10- قولُه تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
- جملةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مستأنَفةٌ، مَسوقةٌ لبيانِ أنَّهم لا يتأثَّرونَ بأمثالِ تلك الأمورِ الداعيةِ إلى الإيمانِ به، بلْ يَستمِرُّونَ على ما هُمْ عليه. وقيل: موقعُ هذه الجملةِ مِن قولِه: سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ موقعُ الموضِّحِ والمُلخِّصِ؛ لأنَّه مَسوقٌ لثباتِه مُكذَّبًا مجحودًا في قُلوبِهم؛ فأُتْبِعَ بما يُقرِّرُ هذا المعنى مِن أنَّهم لا يَزالونَ على التكذيبِ به وجُحودِه حتَّى يُعايِنوا الوعيدَ. ويجوزُ أنْ يكونَ حالًا، أي: سَلَكْناهُ فيها غيرَ مُؤْمَنٍ به .
- والغايةُ في حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ تهديدٌ بعذابٍ سيحُلُّ بهم، وحثٌّ على المبادَرةِ بالإيمانِ قبْلَ أنْ يحُلَّ بهِمُ العذابُ .
11- قولُه تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
- معنى التعقيبِ بالفاءِ في قولِه: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ... فَيَقُولُوا ليس ترادُفَ رؤيةِ العذابِ ومفاجأتِه، وسؤالِ النظرةِ فيه في الوجودِ، وإنَّما المعنى ترتُّبُها في الشِّدَّةِ؛ كأنَّه قيل: لا يؤمنونَ بالقرآنِ حتَّى تكونَ رؤيتُهم للعذابِ، فما هو أشدُّ منها؛ وهو لُحوقُه بهم مفاجأةً، فما هو أشدُّ منه؛ وهو سؤالُهُمُ النظرةَ . وقيل: الأوْجَهُ أنْ تكونَ جُملةُ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بدَلَ اشتمالٍ مِن جملةِ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وأُدْخِلَتِ الفاءُ فيها لبيانِ صورةِ الاشتمالِ، أي: إنَّ رؤيةَ العذابِ مُشتمِلةٌ على حُصولِه بَغتةً، أي: يَرَوْنَه دَفْعةً دونَ سَبْقِ أشراطٍ له .
12- قولُه تعالى: فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ يقولونَ هذا تحسُّرًا على ما فات مِنَ الإيمانِ، وتمنِّيًا للإمهالِ لِتَلافي ما فرَّطوهُ؛ فالاستفهامُ في قولِه: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ للتحسُّرِ والتأسُّفِ، أُتْبِعَ قولُه: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بما يكونُ منهم عِندَ ذلك على وجهِ الحسرةِ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، كما يستغيثُ إليه المرءُ عِندَ تعذُّرِ الخلاصِ؛ لأنَّهم يعلمونَ في الآخرةِ أنْ لا ملجَأَ، لكنَّهم يقولونَ ذلك استرواحًا، أو يقولونَ: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ على جِهةِ التمنِّي منهم والرغبةِ؛ فـ (هَلْ) مُستعمَلةٌ في استفهامٍ مُرادٍ به التمنِّي، وجِيءَ بعْدَها بالجملةِ الاسميَّةِ الدالَّةِ على الثباتِ، أي: تَمَنَّوْا إنظارًا طويلًا يتمكَّنونَ فيه مِنَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ، أو يطلبونَ الرَّجْعةَ حينَ يَبْغَتُهم عذابُ الساعةِ، فلا يُجابون إليها .
- والفاءُ في قولِه: فَيَقُولُوا لإفادةِ التعقيبِ في الوجودِ، وهو صادقٌ بأسرعِ تعذيبٍ؛ فتكونُ خَطِرةً في نُفوسِهم قبْلَ أنْ يَهْلِكوا في الدُّنيا، أو يقولونَ ذلك ويُردِّدونَه يومَ القيامةِ حينَ يَرَوْنَ العذابَ، وحينَ يُلْقَوْنَ فيه .
13- قولُه تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ هذا تبْكيتٌ لهم بإنكارٍ وتهكُّمٍ، ومعنى التَّبكيتِ: أنَّه لمَّا قيلَ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ عقَّبَ ذلك بقولِه: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ؛ إسكاتًا لهم مع إنكارٍ وتهكُّمٍ، أي: كيف يَستعجِلونَ ما حالُه ما ذُكِرَ، وهي أنَّه ما يأْتيهم بَغتةً، ويسْأَلون عندَ ذلك الإمهالَ فلا يُمْهَلون؟! والعاقلُ لا يَستعجِلُ ما فيه دَمارُه. وهذا معنى التَّبكيتِ؛ لأنَّه كلامٌ جارٍ على العُرفِ والعادةِ، والعاقلُ لا يَدفَعُ الكلامَ المُنصِفَ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ هذا حِكايةَ توبيخٍ يُوبَّخون به عندَ استنظارِهم يَومَئذٍ، ويَسْتَعْجِلُونَ على هذا الوجْهِ مُضارِعٌ وقَعَ موقعَ الماضي على حِكايةِ الحالِ الماضيةِ في الدُّنيا، وكان مِن حَقِّ الظَّاهرِ: أفبِعذابِنا اسْتعجَلْتُم؟!
وفيه وجْهٌ آخرُ مُتَّصلٌ بما بعْدَه -أي: بقولِه: أَفَرَأَيْتَ-؛ وذلك أنَّ استعجالَهم بالعذابِ إنَّما كان لاعتِقادِهم أنَّه غيرُ كائنٍ ولا لَاحِقٍ بهم، وأنَّهم مُمَتَّعون بأعمارٍ طوالٍ في سلامةٍ وأمْنٍ؛ فقال تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أشَرًا وبطَرًا واستهزاءً، واتِّكالًا على الأملِ الطَّويلِ، ثمَّ قال: هَبْ أنَّ الأمرَ كما يَعتقِدون مِن تَمتيعِهم وتَعميرِهم، فإذا لَحِقَهم الوعيدُ بعْدَ ذلك ما يَنفعُهم حينَئذٍ ما مضى مِن طُولِ أعمارِهم، وطِيبِ مَعايشِهم. أي: أنْ يَتِمَّ الكلامُ عندَ قولِه: نَحْنُ مُنْظَرُونَ، ثمَّ يُبْتدَأُ مِن قولِه: أَفَبِعَذَابِنَا على تأويلِ: أتسْتهزِئون فتَستعجِلون بعذابِنا؟! فالفاءُ في أَفَبِعَذَابِنَا عطْفٌ على هذا المُقدَّرِ، وفي أَفَرَأَيْتَ للتَّسبيبِ، أي: استِهزاؤُهم ذلك سببٌ لَأنْ يُتعجَّبَ منهم، ويُقالَ لكلِّ سامعٍ: أرأيْتَ إنْ مَتَّعناهم سِنينَ؛ فإذَنِ الهمزةُ في أَفَرَأَيْتَ جِيء بها لمزيدِ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، وعلى الأوَّلِ الفاءُ في أَفَرَأَيْتَ عاطِفةٌ؛ عطَفَت (رأيتَ) على مُقدَّرٍ، أي: أُخبِرَ فيَتعجَّب؟ والهمزةُ غيرُ مُقْحمةٍ؛ فتكونُ الجُملةُ مُستقلَّةً .
- والفاءُ في قولِه: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ للعطفِ على مُقدَّرٍ يقْتضيهِ المقامُ، أي: أيكونُ حالُهم كما ذُكِرَ مِن الاستنظارِ عندَ نُزولِ العذابِ الأليمِ، فيَسْتعجلونَ بعذابِنا، وبيْنَهما مِن التَّنافي ما لا يَخْفى على أحدٍ، وأيَغْفُلون عن ذلك مع تحقُّقِه وتقرُّره فيَستعجلونَ... إلخ؟! وإنَّما قُدمِّ الجارُّ والمجرورُ (بعذابِنا)؛ للإيذانِ بأنَّ مصَبَّ الإنكارِ والتَّوبيخِ كونُ المُستعجَلِ به عذابَه تعالى، مع ما فيهِ مِن رِعايةِ الفواصلِ، وللاهتمامِ به في مَقامِ الإنذارِ، أي: ليس شأْنُ مِثلِه أنْ يُستعجَلَ؛ لفَظاعتِه .
- ونَشأَ عن قولِه: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَقديرُ جوابٍ عن تَكرُّرِ سُؤالِهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، حيثُ جعَلوا تأخُّرَ حُصولِ العَذابِ دَليلًا على انتفاءِ وُقوعِه؛ فأعقبَ ذلك بقولِه: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ؛ فالفاءُ في قولِه: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ تفيدُ تَعقيبَ الاستفهامِ عَقِبَ تَكرُّرِ قولِهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [يونس: 48] ونَحوِه، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التعجُّبِ مِن غُرورِهم، أي: أيستعجلونَ بعَذابِنا؟ فما تأخيرُه إلَّا تمتيعٌ لهم .
14- قولُه تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ
- قولُه: أَفَرَأَيْتَ لَمَّا كانَتِ الرُّؤيةُ مِن أقوى أسبابِ الإخبارِ بالشَّيءِ وأَشهرِها، شاعَ استعمالُ (أَرَأَيْتَ) في معنى (أَخْبِرْني)، والخِطابُ لكلِّ مَن يَصلُحُ له كائنًا مَن كانَ، والفاءُ لترتيبِ الاستخبارِ على قولِهم: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، وما بيْنَهما اعتراضٌ؛ للتوبيخِ والتبكيتِ، وهي متقدِّمةٌ في المعنى على الهمزةِ، وتأخيرُها عنها صورةً؛ لاقتضاءِ الهمزةِ الصَّدارةَ؛ أي فأخْبِرْني... .
- والاستفهامُ في أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ للتَّقريرِ .
- وجُملةُ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ مُعترِضةٌ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ دلَّ عليه ما سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ (رَأَيْتَ) .
15- قولُه تعالى: ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ معطوفٌ على جُملةِ الشرطِ المُعترِضةِ، و(ثُمَّ) فيه للترتيبِ والمُهْلةِ، أي: جاءهم بعْدَ سِنينَ، وفيه رمْزٌ إلى أنَّ العذابَ جَائِيهم، وحَالٌّ بهم لا مَحالةَ، و مَا كَانُوا يُوعَدُونَ موصولٌ وصِلتُه، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: يوعَدونَه .
16- قولُه تعالى: مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ
- على القولِ بأنَّ (ما) استفهاميَّةٌ؛ فالاستفهامُ في قولِه: مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مُستعمَلٌ في الإنكارِ والنفيِ، أي: لم يُغْنِ عنهم شيئًا. وقيل: إنَّ (ما) نافيةٌ، والأوَّلُ هو الأَوْلَى؛ لكونِه أوفَقَ لصورةِ الاستخبارِ، وأدلَّ على انتفاءِ الإغناءِ على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه؛ كأنَّ كلَّ مَن مِن شأنِه الخِطابُ قد كُلِّفَ أنْ يُخبِرَ بأنَّ تمتيعَهم ماذا أفادَهم؟ وأيُّ شيءٍ أغنى عنهم؟ فلَمْ يَقدِرْ أحدٌ على أنْ يُخبِرَ بشيءٍ مِن ذلك أصلًا .
- و مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ موصولٌ وصِلتُه، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: يُمَتَّعُونَه .
17- قوله تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ الاستثناءُ هنا استثناءٌ مِن أحوالٍ مَحذوفةٍ، والتَّقديرُ: وما أهلَكْنا مِن قريةٍ في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالٍ لها مُنذِرونَ .
- وفي قولِه: إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ عُبِّرَ عن الرُّسلِ بصِفةِ الإنذارِ؛ لأنَّه المُناسِبُ للتَّهديدِ بالإهلاكِ . وجُمِعَ مُنْذِرُونَ؛ لأنَّ مِنْ قَرْيَةٍ عامٌّ في القُرى الظَّالمةِ، كأنَّه قيلَ: وما أهلَكْنا القُرى الظَّالمةَ .
18- قولُه تعالى: ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
- قولُه: وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ فنُهلِكُ غيرَ الظَّالمينَ قبْلَ الإنذارِ، والتَّعبيرُ عن ذلك بنفْيِ الظَّالميَّةِ؛ لبَيانِ كَمالِ نَزاهتِه تعالى عن ذلك بتَصويرِه بصُورةِ ما يَستحيلُ صُدورُه عنه تعالى مِن الظُّلمِ .
- ومُفادُ جُملةِ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ الإعذارُ لكفَّارِ قُريشٍ، والإنذارُ بأنَّهم سيحُلُّ بهم هَلاكٌ. وحُذِفَ مفعولُ ظَالِمِينَ؛ لقَصْدِ تَعميمِه، كقولِه تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .