موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (46-48)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى ذِكرُه: أفلم يَسِرِ المُكَذِّبونَ مِن قُرَيشٍ في الأرضِ؛ لِيُشاهِدوا آثارَ المُهلَكِينَ، فتكونَ لهم قلوبٌ واعِيةٌ يَعقِلونَ بها فيتفَكَّرون ويَعتَبِرون، أو تكونَ لهم آذانٌ يَسمَعون بها سَماعَ تدبُّرٍ فيتَّعِظونَ؟! فإنَّ العمى ليس عَمى البَصَرِ، وإنَّما العَمى المُهْلِكُ لصاحبِه هو عَمى البَصيرةِ عن إدراكِ الحَقِّ والاعتِبارِ.
ويَستَعجِلُك -يا مُحَمَّدُ- كفَّارُ قُرَيشٍ بالعَذابِ الذي أنذَرْتَهم به جَزاءَ كُفرِهم، ولن يُخلِفَ اللهُ ما وعَدَهم به مِنَ العَذابِ، فلا بدَّ مِن وُقوعِه، وإنَّ يَومًا عِندَ اللهِ كمِقدارِ ألْفِ سَنةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِن سِنِي الدُّنيا.
 وكثيرٌ مِن القُرى كانت ظالِمةً بإصرارِ أهلِها على الكُفرِ، فأمهَلْتُهم ولم أعاجِلْهم بالعُقوبةِ فاغتَرُّوا، ثمَّ أخَذْتُهم بعَذابي في الدُّنيا، وإليَّ مَرجِعُهم بعدَ هَلاكِهم، فأُعَذِّبُهم بما يَستَحِقُّونَ.

تفسير الآيات:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مَن كذَّبَ الرُّسُلَ مِن الأُمَمِ الخاليةِ، وكان عِندَ العَرَبِ أشياءُ مِن أحوالِهم يَنقُلونَها، وهم عارِفونَ ببِلادِهم، وكثيرًا ما يَمُرُّونَ على كثيرٍ منها- قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا، فاحتَمَلَ أن يكونَ حَثًّا على السَّفَرِ لِيُشاهِدوا مصارِعَ الكُفَّارِ فيَعتَبِروا، أو يكونوا قد سافَروا وشاهَدوا فلم يَعتَبِروا، فجُعِلوا كأنْ لم يُسافِروا ولم يَرَوا [784] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/521). !
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا.
أي: أفلمْ يَسِرْ كُفَّارُ قُرَيشٍ في الأرضِ؛ لِيَنظُروا آثارَ الأُمَمِ المُكَذِّبةِ مِن قَبلِهم، فيتسَبَّبَ عن ذلك أن تكونَ لهم قلوبٌ واعِيةٌ يَعقِلونَ بها ما رأَوه في الآياتِ المَرئِيَّاتِ مِنَ الدَّلالةِ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وقُدرَتِه وغيرِ ذلك، فيتَفَكَّروا ويتَّعِظوا قبْلَ أن يَحُلَّ بهم ما أصاب أولئكَ القَومَ [785] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/595)، ((تفسير القرطبي)) (12/77)، ((تفسير ابن كثير)) (5/438)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/63)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/274). قال ابن عجيبة: (السَّيرُ في الأرضِ: إمَّا حِسِّيٌّ، أو معنويٌّ باعتبارِ سَماعِ أخبارها مِنَ الغيرِ، أو قراءتِها في الكُتُبِ؛ فقولُه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ: راجِعٌ للسيرِ الحِسيِّ، وقولُه: أَوْ آَذَانٌ للسَّيرِ المَعنويِّ). ((البحر المديد)) (3/541). ويُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/192). وقال ابنُ القيم: (كلُّ مَوضِعٍ أمَرَ اللهُ سُبحانَه فيه بالسَّيرِ في الأرضِ، سواءٌ كان السَّيرَ الحِسِّيَّ على الأقدامِ والدَّوابِّ، أو السَّيرَ المَعنويَّ بالتفَكُّرِ والاعتبارِ، أو كان اللَّفظُ يَعُمُّهما -وهو الصَّوابُ؛ فإنَّه يدُلُّ على الاعتِبارِ والحَذَرِ أن يَحُلَّ بالمُخاطَبينَ ما حَلَّ بأولئك). ((إعلام الموقعين)) (1/103). ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .
وقال سُبحانَه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [مُحَمَّد: 10].
أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.
أي: أو يتسبَّبَ عن سَيرِهم ورُؤيَتِهم آثارَ مَن سَبَقَهم مِن أُمَمِ الكُفرِ أن تكونَ لهم آذانٌ واعِيةٌ يَسمعَونَ بها سَماعَ تَدَبُّرٍ وعِظَةٍ، فيُمَيِّزوا بين الحَقِّ والباطِلِ، ويَعرِفوا أخبارَ الأُمَمِ الماضيةِ، وسَبَبَ هلاكِهم، فيَحذَروا أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصابَهم [786] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/595)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/274). ؟!
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
أي: لا تَعمى أبصارُ الكُفَّارِ؛ فأَعيُنُهم مُبصِرةٌ يَرَونَ بها المَرئيَّاتِ، ولكِنَّ قُلوبَهم هي التي تَعمَى عن رُؤيةِ الحَقائِقِ وإدراكِها، والانتِفاعِ بها، فهذا هو العمَى المُهلِكُ لصاحِبِه [787] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/595)، ((تفسير القرطبي)) (12/77)، ((تفسير ابن كثير)) (5/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541). .
كما قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: 72] .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكر سبحانَه أنَّ المُشرِكينَ كَذَّبوا رسولَه، وبالَغوا في تكذيبِه، وسلَّاه على ذلك بأنَّك لستَ ببِدْعٍ فى الرسُلِ؛ فكثيرٌ مِمَّن قبلَك منهم قد كُذِّبوا وأُوذُوا، فلا تبتَئِسْ بما يفعلونَ، واصبِرْ على ما تدعو إليه، ولا يضيرَنَّك ما يأتونَ وما يَذَرونَ- قفَّى على ذلك ببيانِ أنَّهم لاستهزائِهم به وشديدِ تَكذيبِهم كانوا يَستَعجِلونَه العذابَ [788] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/124). .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.
أي: ويَستَعجِلُك الكُفَّارُ -يا مُحَمَّدُ- بنُزولِ عَذابِ اللهِ عليهم جَزاءَ شِرْكِهم به، واللهُ لن يُخلِفَ ما وعَدَ به مِن ذلك، وهو واقِعٌ بهم حَتْمًا في وَقتِه المَحَدَّدِ [789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/596)، ((تفسير ابن كثير)) (5/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/275 - 277). وممن ذهب إلى أنَّ ذلك قد وقع عليهم يومَ بَدرٍ بقَتْلِهم: مقاتلٌ، وابنُ جريرٍ، والثعلبي، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/131)، ((تفسير ابن جرير)) (16/596)، ((تفسير الثعلبي)) (7/28)، ((تفسير البغوي)) (3/345)، ((تفسير الخازن)) (3/260)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 440). وذهب ابنُ كثيرٍ والسعدي إلى أنَّ ذلك واقعٌ بهم في الآخرةِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .
وقال سُبحانَه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .
وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
أي: هُم يَستَعجِلونكَ بالعذابِ، ولكنَّ اللهَ تعالى حليمٌ لا يَعجَلُ به؛ فإنَّ مِقدارَ ألْفِ سَنةٍ عِندَ خَلْقِه كيَومٍ واحدٍ عِندَه، فالطَّويلُ عِندَهم مِنَ الزَّمنِ قَصيرٌ عِندَه، وليس عذابُهم عِندَه ببعيدٍ، فلا بدَّ مِن وُقوعِه لا مَحالةَ، فهو على الانتقامِ قادرٌ، لا يَفوتُه شَيءٌ، ولا فَرْقَ بيْن وُقوعِ ما يَستَعجِلون به مِنَ العذابِ وتأخُّرِه في القُدرةِ، إلَّا أنَّه تَفضَّلَ بالإمهالِ؛ فلذلك لا يَعجَلُ بعقوبةِ مَن أرادَ عقوبتَه حتَّى يَبلُغَ غايةَ مُدَّتِه وإنْ تَطاوَلُوها، واستَبطَؤوا نُزولَ العذابِ، فإنَّ اللهَ يُمهِلُ المُدَدَ الطَّويلةَ ولا يُهمِلُ، حتَّى إذا أَخَذَ الظَّالِمينَ بعذابِه لمْ يُفْلِتْهُم [790] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/598، 599)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/433)، ((تفسير ابن كثير)) (5/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/66، 67)، ((تفسير القاسمي)) (7/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541). قيل: المعنى: إنَّ يومًا واحدًا مِن أيَّامِ العذابِ في الآخرةِ كألْفِ سَنةٍ مِمَّا يعُدُّونَ. وممَّن ذهب إلى هذا القول: السمرقنديُّ، والسمعانيُّ، والرازيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/464)، ((تفسير السمعاني)) (3/446)، ((تفسير الرازي)) (23/234). وقيل: المعنى: وإنَّ يَومًا عند رَبِّك من أيامِ الآخرةِ كألْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعُدُّونَ مِن أيَّامِ الدُّنيا. وممَّن ذهبَ إلى هذا القولِ: يحيى بنُ سلَّامٍ، وابنُ الجوزي، وابنُ جُزي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/383)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/243)، ((تفسير ابن جزي)) (2/43). قال الواحدي (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ أي: مِن أيَّام عذابِهم كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ؛ وذلك أنَّ يومًا مِن أيَّامِ الآخرةِ كألْفِ سَنَةٍ في الدُّنيا). ((الوجيز)) (ص: 736). وقيل: إنَّ اليومَ المذكورَ في الآيةِ هو يومٌ مِنَ الأيَّامِ السِّتَّةِ التي خَلَقَ اللهُ فيها السَّمواتِ والأرضَ، فكُلُّ يومٍ منها كألْفِ سَنَةٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مُقاتِلُ بنُ سُليمانَ، وأحمدُ بن حنبل. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/131)، ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 70). .
كما قال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدخُلُ فُقَراءُ المُسلمينَ الجَنَّةَ قَبلَ أغنيائِهم بنصفِ يومٍ، وهو خَمسُ مئةِ عامٍ)) [791] أخرجه الترمذي (2354) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11348)، وابن ماجه (4122)، وأحمد (9823) صححه الترمذي، وابن حبان في ((الصحيح)) (676)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9823)، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/138): رواته محتَجٌّ بهم في الصحيح، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/345): (مرفوعٌ، إسنادُه على شرطِ مسلمٍ)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2354): (حسن صحيح). .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّها عطْفٌ على جملةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج: 47] ، أو على جملةِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] ؛ باعتِبارِ ما تَضمَّنَه استعجالُهم بالعذاب مِنَ التَّعريضِ بأنَّهم آيسون منه؛ لتأخُّرِ وُقوعِه، فذُكِّروا بأنَّ أُمَمًا كثيرةً أُمهِلَتْ، ثمَّ حلَّ بها العذابُ [792] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/292، 293). .
وأيضًا لَمَّا دَلَّلَ اللهُ تعالى على نصْرِ أوليائِه، وقَسْرِ أعدائِه، بشَهادةِ تلك القُرى، وخَتَمَ بالتَّعجيبِ مِن استعجالِهم، مع ما شاهَدوا مِن إهلاكِ أمثالِهم، وأَعلَمَهم ما هو عليه مِنَ الأناةِ، واتِّساعِ العظَمةِ، وكِبَرِ المِقدارِ، عَطَفَ على فَكَأَيِّنْ -مُحذِّرًا مِن نَكالِه، بَعدَ طَويلِ إمهالِه- قولَه [793] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/67). :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).
أي: وكَثيرٌ مِن القُرى أمهَلْتُ أهلَها، ولم أُعاجِلْهم بالعُقوبةِ، مع ظُلمِهم بالشِّركِ والعِصيانِ، ثُمَّ عاقَبْتُهم في الدُّنيا، ومَرجِعُهم في الآخرةِ إليَّ، فأُعَذِّبُهم فيها أيضًا؛ فلْيَحذَرْ هؤلاء الظَّالِمونَ مِن ذلك، ولا يَغتَرُّوا بإمهالِ اللهِ لهم [794] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/599)، ((تفسير القرطبي)) (12/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541). .
كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25-26] .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ المقصودُ منه ذِكرُ ما يتكامَلُ به ذلك الاعتِبارُ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ لها حَظٌّ عَظيمٌ في الاعتِبارِ، وكذلك استِماعُ الأخبارِ فيه مَدخَلٌ، ولكِنْ لا يَكمُلُ هذان الأمرانِ إلَّا بتدَبُّرِ القَلبِ؛ لأنَّ مَن عايَن وسَمِع، ثمَّ لم يتدبَّرْ ولم يَعتَبِرْ، لم ينتَفِعْ البتَّةَ، ولو تفكَّرَ فيما سَمِعَ لانتفَعَ؛ فلهذا قال: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [795] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/233). .
2- القَلبُ مِن شَأنهِ أن يُبصِرَ؛ فإنَّ بَصَرَه هو البَصَرُ، وعَماه هو العَمى، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [796] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/638). ، وعن قَتادَةَ في قولِه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ قالَ: (ما هذه الأبصارُ التي في الرؤوسِ؛ فإنَّها جعَلها الله منفعةً وبلغةً، وأمَّا البصرُ النافعُ فهو في القلبِ) [797] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2498). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، فسَتَرجِعُ إلى اللهِ فيُعَذِّبُها بذُنوبِها؛ فلْيَحذَرِ الظَّالِمونَ مِن حُلولِ عِقابِ اللهِ، ولا يغتَرُّوا بالإمهالِ [798] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 541). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ والفَهمِ في القلبِ [799] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/275)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/314). ، فقد أضاف العقلَ إلى القلبِ؛ لأنَّه محلُّه، كما أنَّ السمعَ محلُّه الأذنُ [800] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/77). ، ولا يُنكَرُ أنَّ للدماغِ اتِّصالًا بالقلبِ يُوجِبُ فسادَ العقلِ متى اختلَّ الدماغُ [801] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/127). قال شيخُ الإسلامِ بَعدَ أنْ ذَكَر الخلافَ في محَلِّ العقلِ: (والتَّحقيقُ: أنَّ الرُّوحَ التي هي النَّفْسُ لها تعلُّقٌ بهذا وهذا، وما يَتَّصِفُ مِنَ العقل به يَتعلَّقُ بهذا وهذا، لكنَّ مَبدأَ الفِكرِ والنَّظرِ في الدِّماغِ، ومَبدأَ الإرادةِ في القلبِ. والعقلُ يُرادُ به العِلمُ، ويُرادُ به العملُ، فالعِلمُ والعَملُ الاختياريُّ أصْلُه الإرادةُ، وأصلُ الإرادةِ في القلبِ، والمريدُ لا يكونُ مُريدًا إلَّا بَعد تَصوُّرِ المرادِ، فلا بدَّ أنْ يكونَ القلبُ مُتصوِّرًا، فيكون منه هذا وهذا، ويَبتدئُ ذلك مِنَ الدِّماغِ، وآثارُه صاعدةٌ إلى الدِّماغِ، فمنه المبتدأُ، وإليه الانتهاءُ. وكِلا القولَينِ له وجْهٌ صحيحٌ). ((مجموع الفتاوى)) (9/303، 304). .
2- قال تعالى لمُكَذِّبي الرُّسُلِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، ذكَر ذلك بعدَ قَولِه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 42-45] ، ثمَّ قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الآيةَ، ثمَّ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، فذكَرَ إهلاكَ مَن أهلَكَ، وإملاءَه لِمَن أملَى؛ لئلَّا يغتَرَّ المغتَرُّ فيقولَ: نحن لم يُهلِكْنا [802] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/614). !
3- قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، وِزانُ هذه الآيةِ وِزانُ قولِه آنِفًا: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ [الحج: 45] إلخ، إلَّا أنَّ الأُولى قُصِد منها كثرةُ الأُمَمِ التي أُهلِكَتْ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ مِن ذِكرِ قَومِ نوحٍ ومَن عُطِف عليهم أنَّ الهلاكَ لمْ يَتجاوَزْهم؛ ولذلك اقتُصِر فيها على ذِكرِ الإهلاكِ دون الإمهالِ. وهذه الآيةُ القصدُ منها التَّذكيرُ بأنَّ تأخيرَ الوعيدِ لا يقتَضي إبطالَه؛ ولذلك اقتُصِر فيها على ذِكرِ الإمهالِ، ثمَّ الأخذِ بَعدَه المناسبِ للإملاءِ، مِن حيثُ إنَّه دُخولٌ في القبضةِ بَعدَ بُعْدِه عنها [803] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/292، 293). ويُنظر أيضًا ما تقدَّم في بلاغةِ الآياتِ في هذه الآية: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ (ص: 259). .
4- مَن نظَرَ إلى الأشياءِ بغَيرِ قَلبٍ، أو استمَعَ إلى كَلِماتِ أهلِ العِلمِ بغَيرِ قَلبٍ؛ فإنَّه لا يَعقِلُ شَيئًا؛ فمدارُ الأمرِ على القَلبِ، وعند هذا تَستبينُ الحِكمةُ في قَولِه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، حتى لم يذكُرْ هنا العينَ، كما في آياتٍ أُخرى، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179] ؛ وذلك لأنَّ سِياقَ الكَلامِ هنا في أمورٍ غائبةٍ وحِكمةٍ مَعقولةٍ مِن عواقِبِ الأمورِ لا مجالَ لنَظَرِ العَينِ فيها، ومِثلُه قَولُه تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ [804] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/311).  لفرقان: 44].
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فيه سؤالٌ: ظاهِرُ هذه الآيةِ أنَّ الأبصارَ لا تَعمى، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على عَمى الأبصارِ؛ كقَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 23] ، وكقَولِه تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61] ؟
الجوابُ: أنَّ التَّمييزَ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وبين الضَّارِّ والنَّافِعِ، وبين القَبيحِ والحَسَنِ، لَمَّا كان كُلُّه بالبصائرِ لا بالأبصارِ، صار العَمى الحقيقيُّ هو عمَى البصائِرِ لا عمَى الأبصارِ، فصِحَّةُ العَينَينِ لا تُفيدُ معَ عَدَمِ العَقلِ كما هو ضروريٌّ، وقَولُه: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يعني بصائِرَهم، أو أعمى أبصارَهم عن الحَقِّ، وإن رأت غَيرَه [805] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 158). .
6- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فيه أنَّ الوعدَ يُطْلَقُ في الخيرِ والشَّرِّ؛ لأنَّ ظاهرَ الآيةِ الذي لا يَجوزُ العُدولُ عنه: ولن يُخلِفَ اللهُ وعْدَه في حُلولِ العذابِ الذي يَستَعجِلونك به لهم؛ لأنَّه مُقترنٌ بقولِه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، فتَعلُّقُه به هو الظَّاهرُ، وقد أُطلِق الوعدُ في القرآنِ على التَّوعُّدِ بالنَّارِ والعذابِ، كقولِه تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [806] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/276).   لحج: 72].
7- قولُه تعالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ مِقدارَ اليومِ عندَ اللَّهِ ألْفُ سنَةٍ، وكذلك قولُه تعالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] . وقدْ جاءَتْ آيةٌ أخرَى تدُلُّ على خلافِ ذلك، هي قولُه تعالَى في سورةِ (المعارج): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الآيةَ [المعارج: 4] .
وللجمعِ بيْنَهما وجهانِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أن يومَ الألْفِ في سُورةِ (السجدة) هو مِقدارُ سَيرِ الأمْرِ وعُروجِه إليه تعالى، ويومَ الألْفِ في سُورةِ (الحجِّ) هو أحَدُ الأيَّامِ السِّتَّةِ الَّتي خلَقَ اللهُ فيها السَّمواتِ، ويومَ الخمسينَ ألْفًا في سورة (المعارج) هو يومُ القيامةِ [807] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/93). .
الوجهُ الثاني: أنَّ المُرادَ بها جَميعِها يوم القيامةِ، وأنَّ الاختلافَ باعتبارِ حالِ المُؤمِن والكافِرِ، بدليلِ قولِه: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [808] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/94)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 158).  لمدثر: 9-10].

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
- قولُه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ على القولِ بأنَّ الفاءَ عطْفٌ على الكلامِ السَّابقِ؛ فالهمزةُ دخَلَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه لمَزيدِ الإنكارِ، أي: كأيِّنْ مِن قَريةٍ أهْكَلْناها فهي ظالمةٌ، فلم يَسِيروا في الأرضِ، فيَعْتَبِروا [809] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/162)، ((تفسير البيضاوي)) (4/74)، ((تفسير أبي حيان)) (7/521)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/500)، ((تفسير أبي السعود)) (6/111). .
- والاستفهامُ في أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ تَعجُّبيٌّ مِن حالِهم في عدَمِ الاعتبارِ بمَصارِعِ الأُمَمِ المُكذِّبةِ لأنبيائِها، والتَّعجُّبُ مُتعلِّقٌ بمَن سافَروا منهم ورَأَوا شيئًا مِن تلك القُرى المُهْلَكةِ وبمَن لم يُسافِروا؛ فإنَّ شأْنَ المُسافرينَ أنْ يُخبِروا القاعدينَ بعجائبِ ما شاهَدوهُ في أسفارِهم، كما يُشِيرُ إليه قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛ فالمقصودُ بالتَّعجُّبِ هو حالُ الَّذين سارُوا في الأرضِ، ولكنْ جُعِل الاستفهامُ داخِلًا على نَفْيِ السَّيرِ؛ لأنَّ سيرَ السَّائرينَ منهم لمَّا لم يُفِدْهم عِبْرةً وذِكْرَى جُعِلَ كالعدَمِ؛ فكان التَّعجُّبُ مِن انتفائِه؛ فالكلامُ جارٍ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ [810] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/287). .
- قولُه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ... في ذِكْرِ الآذانِ اكتفاءٌ عن ذِكْرِ الأبصارِ؛ إذ يُعْلَمُ أنَّ القُلوبَ الَّتي تَعقِلُ إنَّما طَريقُ عِلْمِها مُشاهَدةُ آثارِ العذابِ والاستئصالِ، كما أشار إليه قولُه بعْدَ ذلك: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [811] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/288، 289). . وقيل: لأنَّ سِياقَ الكَلامِ هنا في أمورٍ غائبةٍ وحِكمةٍ مَعقولةٍ مِن عواقِبِ الأمورِ، لا مجالَ لنَظَرِ العَينِ فيها [812] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/311). .
- والفاءُ في جُملةِ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ تَفريعٌ على جَوابِ النَّفيِ في قولِه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، وفَذْلَكةٌ [813] تقدَّم تعريفُها (ص: 54). للكلامِ السَّابقِ، وتَذييلٌ له بما في هذه الجُملةِ من العُمومِ. وحَرْفُ التَّوكيدِ (إنَّ) لغَرابةِ الحُكْمِ، لا لأنَّه ممَّا يُشَكُّ فيه [814] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/289). .
- والقَصرُ المُستفادُ مِن النَّفيِ وحَرفِ الاستدراكِ (لكنْ) في قولِه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ قَصرٌ ادِّعائيٌّ [815] تقدَّم تعريفُه (ص: 82). ؛ للمُبالَغةِ بجَعْلِ فَقْدِ حاسَّةِ البصَرِ المُسمَّى بالعَمى كأنَّه غيرُ عَمًى، وجَعْلِ عدَمِ الاهتداءِ إلى دَلالةِ المُبْصَراتِ مع سَلامةِ حاسَّةِ البصرِ هو العَمى؛ مُبالَغةً في استحقاقِه لهذا الاسمِ [816] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/290). .
- وقولُه: الَّتِي فِي الصُّدُورِ صِفَةٌ لـ الْقُلُوبُ، تُفِيدُ تَوكيدًا لِلَفْظِ القُلوبِ؛ فهو لزِيادةِ التَّقريرِ والتَّشخيصِ، ويُفِيدُ هذا الوصْفُ -وراءَ التَّوكيدِ- تَعريضًا بالقومِ المُتحدَّثِ عنهم بأنَّهم لم يَنتفِعوا بأفئدتِهم مع شِدَّةِ اتِّصالِها بهم؛ إذ هي قارَّةٌ في صُدورِهم [817] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/162)، ((تفسير البيضاوي)) (4/74)، ((تفسير أبي حيان)) (7/521، 522)، ((تفسير أبي السعود)) (6/111)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 385)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/290)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/446). .
2- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عطْفٌ على جُملةِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ... [الحج: 42] عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ؛ فإنَّ مِن تَكذيبِهم أنَّهم كذَّبوا بالوعيدِ، وقالوا: لو كان محمَّدٌ صادِقًا في وَعيدِه لعُجِّلَ لنا وَعيدُه؛ فكانوا يَسألونَه التَّعجيلَ بنُزولِ العذابِ استهزاءً [818] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/290). .
- وحُكِيَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بصِيغَةِ المُضارِعِ؛ للإشارةِ إلى تَكريرِهم ذلك تَجْديدًا منهم للاستهزاءِ، وتَهكُّمًا وإنكارًا على المُسلمينَ. والخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمقصودُ: إبلاغُه إيَّاهم [819] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/291). .
- قولُه: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فيه تأْنيسٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمنينَ؛ لئلَّا يَستبْطِئوه [820] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/291). . وأضاف الوعْدَ إليه تعالى؛ لأنَّ رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو المُخبِرُ به عن اللهِ تعالى [821] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/522). . قيل: المُرادُ بوَعْدِه تعالى ما جُعِل لهَلاكِ كلِّ أُمَّةٍ مِن مَوعدٍ مُعيَّنٍ وأجَلٍ مُسمًّى، كما في قولِه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [العنكبوت: 53] ؛ فتكونُ الجُملةُ الأُولى مُبيِّنةً لبُطلانِ الاستعجالِ به ببَيانِ استحالةِ مَجيئِه قبْلَ وَقْتِه الموعودِ، والجُملةُ الأخيرةُ بَيانًا لبُطلانِه ببَيانِ ابتنائِه على استطالةِ ما هو قَصيرٌ عندَهُ تعالى؛ فلا يكونُ في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تَعرُّضٌ لإنكارِهم الَّذي دَسُّوه تحتَ الاستعجالِ، بل يكونُ الجوابُ مَبْنيًّا على ظاهرِ مَقالِهم، ويُكْتَفى في رَدِّ إنكارِهم ببَيانِ عاقبةِ مَن قَبْلَهم مِن أمثالِهم [822] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/112). .
- قولُه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عَطْفٌ على جُملةِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ؛ فإنَّ اللهَ تَوعَّدَهم بالعذابِ، وهو صادِقٌ على عَذابِ الدُّنيا والآخرةِ، وهم إنَّما استَعْجَلوا عذابَ الدُّنيا تَهكُّمًا وكِنايةً عن إيقانِهم بعدَمِ وُقوعِه بلازمٍ واحدٍ، وإيماءً إلى عدَمِ وُقوعِ عَذابِ الآخرةِ بلازمَينِ؛ فرَدَّ اللهُ عليهم رَدًّا عامًّا بقولِه: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وكان ذلك تَثبيتًا للمُؤمنينَ، ثمَّ أعقَبَه بإنذارِهم بأنَّ عذابَ الآخرةِ لا يفلِتونَ منه أيضًا، وهو أشَدُّ العذابِ؛ فقولُه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالوعيدِ، وهذا اليومُ هو يومُ القيامةِ [823] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/291). ، على قولٍ في التفسيرِ.
- والخِطابُ في قولِه: مِمَّا تَعُدُّونَ على القولِ بأنَّه خِطابٌ للَّذين يَستعجِلون العذابَ؛ فيكونُ فيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ [824] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/112). .
3- قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ عطَفَ هذه الجُملةَ بالواوِ؛ بينما عطَفَ الجُملةَ الأُولى بالفاءِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا؛ لأنَّ الأُولى بدَلٌ مِن قولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، وهذه الجُملةُ وَكَأَيِّنْ ... في حُكْمِ ما تقدَّمَها مِن الجُملتينِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ؛ لبَيانِ أنَّ المُتوعَّدَ به يَحِيقُ بهم لا مَحالةَ، وأنَّ تأْخيرَه لِعادَتِه تعالى [825] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/163)، ((تفسير البيضاوي)) (4/74)، ((تفسير أبي حيان)) (7/523)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/293). .
- قولُه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا أي: وكم مِن أهْلِ قَريةٍ، فحُذِفَ المُضافُ، وأُقِيمَ المُضافُ إليه مُقامَهُ، وأرجَعَ الضَّمائرَ (لها- وهي - ظالمة- أخذتها) والأحكامَ إلى القريةِ؛ مُبالَغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ [826] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/74)، ((تفسير أبي السعود)) (6/112). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث تكرَّرَ التَّكثيرُ بـ(كأيِّن) في القُرى؛ لإفادةِ مَعنًى غيرِ ما جاءت له الأُولى؛ لأنَّه ذكَرَ فيها القُرى الَّتي أهْلَكَها دونَ إملاءٍ وتأْخيرٍ، بل أعقَبَ الإهلاكُ التَّذكيرَ، وهذه الآيةُ لمَّا كان تعالى قد أمهَلَ قُريشًا حتَّى استعجَلَتْ بالعذابِ، جاءت بالإهلاكِ بعْدَ الإملاءِ؛ تَنبيهًا على أنَّ قُريشًا وإنْ أمْلى تعالى لهم وأمْهَلَهم فإنَّه لا بُدَّ مِن عَذابِهم، فلا يَفْرَحوا بتأْخيرِ العَذابِ عنهم [827] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/523)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/292، 293). .
- وجُملةُ: أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ حاليَّةٌ مُفِيدةٌ لكَمالِ حِلْمِه تعالى، ومُشعِرةٌ بطَريقِ التَّعريضِ بظُلْمِ المُستعجِلينَ [828] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/112). .
- قولُه: وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، ومُصرِّحٌ بما أفادهُ ذلك بطَريقِ التَّعريضِ مِن أنَّ مآلَ أمْرِ المُستعجِلينَ أيضًا ما ذُكِرَ مِن الأخْذِ الوَبيلِ [829] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/293). .
- وتَقديمُ المَجرورِ (إليَّ) للحَصرِ الحقيقيِّ، أي: لا يَصيرُ النَّاسُ إلَّا إلى اللهِ، وهو يَقْتضي أنَّ المصيرَ إليه كائنٌ لا مَحالةَ؛ فهو كِنايةٌ عن عدَمِ الإفلاتِ [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/293). .