موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (49-51)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات :

سَعَوْا: السَّعْيُ: المشيُ السَّريعُ، ويُستعمَلُ للجِدِّ في الأمرِ، خيرًا كان أو شرًّا، يُقالُ: سعَى في الأمرِ: إذا جَدَّ فيه لقصدِ إصلاحِه أو إفسادِه [831] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 411)، ((تفسير ابن جزي)) (2/43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/283). .
مُعَاجِزِينَ: أي: مُشاقِّينَ مُعانِدينَ مُغالِبينَ، ومعنى المعاجَزةِ في اللُّغةِ: مُحاولةُ عَجْزِ المغالَبِ، يُريدُ كُلُّ واحدٍ أن يُظهِرَ عَجْزَ صَاحِبِه، وأصلُ (عجز): يدُلُّ على ضَعفٍ [832] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 294)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 445)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/232)، ((البسيط)) للواحدي (15/449)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 247)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 304). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: قُلْ -يا مُحَمَّدُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما أنا مُنذِرٌ لكم واضِحُ النِّذارةِ، فالذينَ آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ لهم عِندَ اللهِ مَغفِرةٌ لذُنوبِهم، ورِزقٌ حَسَنٌ، والذينَ سَعَوا في الكَيدِ لإبطالِ آياتِ القُرآنِ مُعانِدينَ، ظانِّينَ أنَّهم يُعجِزونَ اللهَ، أولئك هم أهلُ النَّارِ.

تفسير الآيات:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الاستِعجالُ لا يُطلَبُ مِنَ الرَّسولِ، وإنَّما يُطلَبُ مِنَ المُرسِلِ؛ أمَرَه اللهُ تعالى بأن يُديمَ لهم التَّخويفَ والإنذارَ، بقَوِله تعالى [833] يُنظر: ((تفسير الشرببني)) (2/558). :
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49).
أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ-: يا أيُّها النَّاسُ [834] قيل: المرادُ بهم هنا: مُشركو قريشٍ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/600)، ((تفسير القرطبي)) (12/78). وقيل: المرادُ بهم: جميعُ النَّاسِ. وممن قال بذلك: البقاعي، والسعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541). ، إنَّما أنا لكم نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ، أُخَوِّفُكم عذابَ اللهِ، ولا أملِكُ تَعجيلَ العَذابِ عن وَقتِه ولا تأخيرَه، وليس عليَّ حِسابُكم [835] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/600)، ((تفسير ابن عطية)) (4/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/281). وممَّن قال بأنَّ مُبِينٌ بمعنى بيِّنِ النِّذارةِ وظاهِرِها، في الجملةِ: مقاتلُ بن سليمان، وجلال الدين المحلي، والسعدي، واستظهره الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/131)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/281). قال ابن جرير: (مُبِينٌ يقول: أبيِّنُ لكم إنذاري ذلك، وأظهرُه). ((تفسير ابن جرير)) (16/600). وذهب القرطبيُّ والشوكانيُّ إلى أنَّ معنى مُبِينٌ أي: أُبَيِّنُ لكم ما تحتاجونَ إليه من أمرِ دينِكم. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/78)، ((تفسير الشوكاني)) (3/545). قال الشنقيطيُّ: (قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: مُبِينٌ الظَّاهِرُ أنَّه الوصفُ مِن «أبان» الرُّباعيَّةِ اللازمةِ التي بمعنى «بان»، والعربُ تقول: أبانَ فهو مُبِينٌ، بمعنى بانَ فهو بَيِّنٌ، مِن اللازمِ الذي ليس بمتعَدٍّ إلى المفعول... ويحتمِلُ أن يكونَ قَولُه في هذه الآيةِ: مُبِينٌ: اسمَ «أبان» المتعدية، والمفعولُ محذوفٌ؛ للتَّعميمِ، أي: مُبينٌ لكم في إنذاري كلَّ ما ينفَعُكم، وما يضُرُّكم؛ لِتَجتَلِبوا النَّفعَ، وتجتَنِبوا الضرَّ. والأولُ أظهَرُ، واللهُ تعالى أعلمُ). ((أضواء البيان)) (5/281). .
كما قال تعالى: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص: 70] .
فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يَجِبُ أن يقولَ للكافِرينَ: أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ أردَفَ ذلك بأنْ أمَرَه بوَعْدِهم ووَعيدِهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إنَّما يكونُ مُنذِرًا بذِكرِ الوَعدِ للمُطيعينَ، والوَعيدِ للعاصينَ [836] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/235). .
فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50).
أي: فالذين آمَنوا بكُلِّ ما وجب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ لهم مِنَ اللهِ سَترٌ لذُنوبِهم، وتَجاوُزٌ عن مُؤاخَذتِهم بها، ولهم رِزْقٌ حَسَنٌ [837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/600)، ((تفسير ابن عطية)) (4/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/441)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/281). ممَّن قال بأنَّ الرِّزقَ الكريمَ لهم في الجنَّة: ابنُ جرير، وابن عطية، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/600)، ((تفسير ابن عطية)) (4/128)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/281). قال ابنُ كثير: (قال محمَّدُ بنُ كَعبٍ القُرَظي: إذا سَمِعتَ اللهَ تعالى يقولُ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فهو الجنَّةُ). ((تفسير ابن كثير)) (5/441). وقيل: المرادُ: رِزقٌ في الدُّنيا، ورزقٌ في الآخرة. وممَّن قال بذلك: البقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13 67، 68)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/295). إلَّا أنَّ ابنَ عاشور جعَلَ رِزقَ الدُّنيا مَعنويًّا. وقولُه: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فيه وَصْفُ الرِّزقِ بالكريمِ، وهو يَجمَعُ وَفْرَتَه وصَفاءَه مِن المُكدِّراتِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/294). .
كما قال تعالى: ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سبأ: 4] .
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ مُعَجِّزِينَ بتشديدِ الجِيمِ، قيل معناه: مُبَطِّئينَ مُثَبِّطينَ، أي: يُثَبِّطونَ النَّاسَ عن اتِّباعِ الحَقِّ. وقيل: معناه: يَنسُبونَ المؤمنينَ إلى العَجزِ [838] قرأ بها: ابنُ كثير، وأبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/327). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 254)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/284)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 481). .
2- قِراءةُ مُعَاجِزِينَ بالتَّخفيفِ والألف، قيل: معناه: مُعانِدينَ. وقيل: معناه: ظانِّينَ أنَّهم يَغلِبونَ الرَّسولَ وأتباعَه. وقيل معناه: يَحسَبونَ أنَّهم يَفوتونَنا لإنكارِهم البَعثَ والثَّوابَ والعِقابَ، فلا نَقدِرُ على إعادتِهم ومُعاقَبَتِهم [839] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/327). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 254)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/185)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/284). قال ابنُ جريرٍ: (الصَّوابُ مِن القول في ذلك أنْ يُقالَ: إنَّهما قِراءتانِ مَشهورتان؛ قد قَرأَ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِنَ القرَّاءِ، مُتقارِبَتَا المعنى؛ وذلك أنَّ مَن عَجَّزَ عن آياتِ اللهِ، فقد عاجزَ اللهَ، ومِن معاجزةِ اللهِ التَّعجيزُ عن آياتِ اللهِ، والعملُ بمعاصيه، وخلافِ أمْرِه. وكان مِن صِفَةِ القومِ الذين أَنزلَ اللهُ هذه الآياتِ فيهم أنَّهم كانوا يُبطِّئون الناسَ عن الإيمانِ باللهِ، واتِّباعِ رسولِه، ويُغالِبون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَحسَبون أنَّهم يُعجِزونه، ويَغلِبونه، وقد ضَمِن اللهُ له نصْرَه عليهم، فكان ذلك مُعاجزتَهمُ اللهَ. فإذْ كان ذلك كذلك، فبأيِّ القِراءتَينِ قَرأَ القارئُ فمُصيبٌ الصَّوابَ في ذلك. وأمَّا المُعاجَزةُ فإنَّها المُفاعَلةُ، مِنَ العَجْزِ، ومعناه: مغالبةُ اثنَينِ أحدِهما صاحبَه، أيُّهما يُعجِزُه فيَغلِبُه الآخرُ ويَقهَرُه. وأمَّا التَّعجيزُ: فإنَّه التَّضعيفُ، وهو التَّفعيلُ مِنَ العَجْزِ). ((تفسير ابن جرير)) (16/602). !
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51).
أي: والذينَ سَعَوْا فِي إبطالِ آياتِ القُرآنِ ورَدِّها، مُعانِدينَ ومُشاقِّينَ لله وظانِّينَ أنَّهم يُعجِزونَ اللهَ فلا يَقدِرُ عليهم، أو يَغلِبونَ أولياءَه فلا يَنصُرُهم؛ أولئك في الآخرةِ سُكَّانُ الجَحيمِ [840] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/601، 602)، ((تفسير ابن عطية)) (4/128)، ((تفسير الرازي)) (23/235)، ((تفسير القرطبي)) (12/78، 79)، ((تفسير ابن كثير)) (5/441)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/295)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/282). قال الشِّنقيطي: (الظَّاهِرُ بحَسَبِ الوَضعِ العربيِّ في قراءة الجمهورِ مُعَاجِزِينَ: هو اقتِضاءُ طَرَفينِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ لا يُعدَلُ عنه إلَّا لدليلٍ يجِبُ الرجوعُ إليه، والمفاعلةُ تقتضي الطَّرفَينِ إلَّا لدليلٍ يَصرِفُ عن ذلك، واقتِضاءُ المفاعلةِ الطَّرفينِ في الآيةِ مِن طَريقَينِ: الأولى: هي ما قاله ابنُ عَرَفةَ مِن أنَّ معنى مُعَاجِزِينَ في الآية: أنَّهم يُعاجِزونَ الأنبياءَ وأتباعَهم، فيُحاوِلُ كُلُّ واحدٍ منهما إعجازَ الآخَرِ، فالأنبياءُ وأتباعُهم يُحاوِلونَ إعجازَ الكُفَّارِ وإخضاعَهم لِقَبولِ ما جاء عن اللهِ تعالى، والكُفَّارُ يُقاتِلونَ الأنبياءَ وأتباعَهم ويُمانِعونَهم؛ لِيُصَيِّروهم إلى العَجزِ عن أمرِ الله، وهذا الوجهُ ظاهِرٌ، كما قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217] ؛ وعليه فمَفعولُ مُعَاجِزِينَ محذوفٌ، أي: مُعاجِزينَ الأنبياءَ وأتباعَهم، أي: مُغالِبينَ لهم؛ لِيُعجِزوهم عن إقامةِ الحَقِّ. الطريقةُ الثانيةُ: هي التي ذكَرْناها آنفًا عن الزَّجَّاجِ أنَّ معنى مُعاجِزينَ: ظانِّينَ أنَّهم يُعجِزونَ رَبَّهم، فلا يَقدِرُ عليهم؛ لِزَعمِهم أنَّه لا يَقدِرُ على بَعثِهم بعد الموتِ... والوجهُ الأوَّلُ أظهرُ). ((أضواء البيان)) (5/282). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ: 5] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [سبأ: 38] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] .

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّ العملَ لا ينفعُ إلَّا إذا كان صالحًا، والصالحُ ما تضمَّن شيئينِ: الإخلاصَ لله، واتِّباعَ شريعتِه [841] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/437). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُبَيِّنُ أنَّ مَن جمَعَ بينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، فاللهُ تعالى يجمَعُ له بينَ المَغفِرةِ والرِّزقِ الكَريمِ [842] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/235). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فيه سؤالٌ: إنْ قيل: إنَّ النبيَّ -عليه السَّلامُ- في هذه الآيةِ بَشَّرَ المؤمِنين أوَّلًا، وأَنذَرَ الكافرين ثانيًا، فكان القياسُ أنْ يُقالَ: قُلْ يا أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا لكم بَشيرٌ ونَذيرٌ؟
والجواب مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
منها: أنه عبَّرَ بقولِه: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ولم يقُلْ: (إنَّما أنا لكم بَشيرٌ ونَذيرٌ) مع أنَّه ذكَرَ الفريقينِ بعْدَهُ؛ لأنَّ الحديثَ مَسوقٌ إلى المُشركينَ. ويَا أَيُّهَا النَّاسُ نِداءٌ لهم، وهم الَّذين قِيلَ فيهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، ووُصِفُوا بالاستعجالِ. وإنَّما ذُكِرَ المُؤمِنون هنا وما أعَدَّ اللهُ لهم مِن الثَّوابِ؛ ليُغاظَ المُشرِكون بذلك، ولِيُحرِّضَهم على نَيلِ هذه الرُّتبةِ الجليلةِ. ومنها: أنَّ فيه إيجازًا بالحَذْفِ، والتَّقديرُ: بَشيرٌ ونَذيرٌ [843] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/164)، ((تفسير البيضاوي)) (4/75)، ((تفسير أبي حيان)) (7/523)، ((تفسير أبي السعود)) (6/112). .
ومنها: أنَّه يَحتمِل أنَّ الآيةَ واردةٌ لبَيانِ ما يَترتَّبُ على الإنذارِ؛ مِن انتفاعِ مَن قَبِلَه، وهَلاكِ مَن رَدَّهُ، فكأنَّه قيل: أنذِرْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكَفَرةَ وبالِغْ فيه؛ فمَن قَبِلَ منك وآمَنَ فلهُ الثَّوابُ، ومَن دام على ما كان في إبطالِ ما جِئْتَ به وسَعى فيه، فقد أدَّيْتَ حَقَّك؛ فقاتِلْهم ليُعَذِّبَهم اللهُ تعالى في الدُّنيا بالقتْلِ، وفي الآخرةِ بالجحيمِ؛ فلا يكونُ ذِكْرُ المُؤمنينَ لاغتمامِهم [844] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/506). .
ومنها: أنَّ النِّذارةَ هي المقصودُ الأَعظَمُ مِنَ الدَّعوةِ؛ لأنَّه لا يُقدِمُ عليها إلَّا المؤَيَّدون برُوحٍ مِنَ الله [845] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/67). .
2- السَّعْيُ يُطْلَقُ على العملِ في الأمرِ لإفسادِه وإصلاحِه، ومِن استعمالِه في الإفسادِ قولُه تعالَى هنا: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا، ومِنْ إطلاقِ السَّعيِ في العملِ للإصلاحِ قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 22] ، وقولُه: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى الآيةَ [عبس: 8-9] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ. ومِن إطلاقِ السَّعيِ على الخيرِ والشَّرِّ مَعًا قولُه تعالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إلى قولِه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [846] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/283).   لليل: 4-11].

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
- قولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ استِئنافٌ، وافتِتاحُه بـ قُلْ؛ للاهتمامِ به، وافتتاحُ المَقولِ بنِداءِ النَّاسِ؛ لِلَفْتِ ألْبابِهم إلى الكَلامِ. وفيه تَثبيتٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَسليةٌ له فيما يَلْقاهُ منهم [847] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/293، 294). .
- وقَصْرُ النَّبيِّ على صِفَةِ النِّذارةِ في قولِه: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ قَصْرٌ إضافيٌّ، أي: لسْتُ طالِبًا نِكايَتَكم، ولا تَزلُّفًا إليكم؛ فمَن آمَن فلِنفْسِه، ومَن عَمِيَ فعليها [848] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/524)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/294). .
2- قولُه تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فرَّعَ على الأمْرِ بالقولِ تَقْسيمَ النَّاسِ في تَلقِّي هذا الإنذارِ المأْمورِ الرَّسولُ بتَبْليغِه إلى مُصدِّقٍ ومُكذِّبٍ؛ لِبَيانِ حالِ كِلَا الفريقينِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ تَرغيبًا في الحالةِ الحُسْنى، وتَحذيرًا مِن الحالةِ السُّوأَى [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/294). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قال هنا: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وقال بَعْدَه بآياتٍ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ[الحج: 56]؛ فاختلَفَ الجزاءُ مع اتِّفاقِ وَصْفِهم بالإيمانِ وعمَلِ الصَّالحاتِ؛ فوقَعَ في الأوَّلِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وفي الثَّاني: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ؛ قيل: ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ الأُولى إخبارٌ لهم عندَ دُعائِهم قبْلَ أنْ يُؤمِنوا، ولَمَّا ذَكَرَ في الآيةِ الأُولى حالَهم في الدَّارِ الأُخرى بعْدَ انصرامِ الدُّنيا، وحُصولِ اتِّصافِهم بالإيمانِ وأعمالِ الطَّاعاتِ، أُخْبِروا فيها بالحاصلِ مِن المَغفرةِ، وبُيِّنَ لهم الرِّزقُ الكريمُ، وأنَّه نَعيمُ الجنَّةِ والخُلودُ الأبدِيُّ فيها؛ فالآيةُ الأُولى تَضمَّنَت وَعْدَهم إنْ آمَنُوا، وذلك عندَ دُعائِهم إلى الإيمانِ، ثمَّ أُخْبِروا ثانيًا بالحاصِلِ لهم؛ بَيانًا لِمَضمونِ البِشارةِ الأُولى، وإخْبارًا لهم بغايةِ الجَزاءِ؛ فالآيةُ الثَّانيةُ بَيانٌ وتَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في الأُولى، مُرَتَّبٌ عليه وآتٍ بعْدَه بما يجِبُ فيما يأْتي فيه الإجمالُ والتَّفصيلُ، فكأنَّهم قالوا: ما الرِّزقُ الكريمُ؟ فقيل لهم: جنَّاتُ النَّعيمِ؛ فورَدَ كلٌّ مِن الآيتينِ على ما يُناسِبُ ويُلائِمُ [850] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/361، 362). .
3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
- قولُه: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا أي: والَّذين استمَرُّوا على الكُفْرِ، وعبَّر عن الاستمرارِ بالسَّعيِ في الآياتِ؛ لأنَّه أخَصُّ مِن الكُفْرِ، وذلك حالُ المُشركينَ المُتحدَّثِ عنهم. والكلامُ تَمثيلٌ؛ شُبِّهَت هَيئةُ تَفنُّنِهم في التَّكذيبِ بالقُرآنِ، وتَطلُّبِ المعاذيرِ لنَقضِ دَلائلِه مِن قولِهم: هو سِحرٌ، هو شِعرٌ، هو أساطيرُ الأوَّلينَ، هو قولُ مَجنونٍ، وتَعرُّضِهم بالمُجادَلاتِ والمُناقَضاتِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بهَيئةِ السَّاعي في طَريقٍ يُسابِقُ غيرَه؛ ليَفُوزَ بالوُصولِ [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/295). .
- قولُه: فِي آَيَاتِنَا في تَقديمِ المجرورِ المُؤْذِنِ بالاهتمامِ بنِذارتِهم: إشارةٌ إلى أنَّهم مُشرِفون على شَرٍّ عظيمٍ؛ فهم أحْرِياءُ بالنِّذارةِ [852] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/294). .
- قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فيه التَّصديرُ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُخبَرَ عنهم جَديرونَ بما سيَرِدُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن الحُكْمِ؛ لأجْلِ ما ذُكِرَ قبْلَه مِن الأوصافِ [853] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/296). .