موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (65-70)

ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

مشكل الإعراب :

 قَولُه تعالى: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
قَولُه: إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ في هذا المصدَرِ وَجهانِ:
أحدُهما: أنَّه مع ما في حَيِّزِه في محلِّ رفعٍ نائِبُ فاعلٍ، أي: ما يُوحَى إلَيَّ إلَّا الإنذارُ، أو: إلَّا كَوني نَذيرًا مُبِينًا.
والثَّاني: أنَّه في مَحلِّ نَصبٍ أو جرٍّ على نزَع ِالخافِضِ. ونائِبُ الفاعِلِ على هذا الجارُّ والمجرورُ، أي: ما يُوْحى إلَيَّ إلَّا للإِنذارِ أو لِكَوني نَذيرًا. أو نائِبُ الفاعِلِ ضَميرُ ما يَدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: ما يُوْحى إلَيَّ ما لم أكُنْ أعلَمُه مِن اختِصامِ الملَأِ الأعلَى إلَّا للإِنذارِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُلقِّنًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم الرَّدَّ الَّذي يرُدُّ به على المشركينَ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك المُشرِكينَ: إنَّما أنا مُنذِرٌ أُنذِرُكم عَذابَ اللهِ، وما مِن مَعبودٍ بحَقٍّ إلَّا اللهُ الواحِدُ القَهَّارُ، خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بَيْنَهما مِنَ الخَلقِ، العزيزُ الَّذي لا يَغلِبُه شَيءٌ، الغَفَّارُ ذُنوبَ عِبادِه.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه أنْ يُبيِّنَ لهم أنَّ ما جاءهم به مِن عندِ ربِّه أمرٌ عظيمٌ، لا يَليقُ بعاقلٍ أنْ يُعرِضَ عنه، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: هذا القُرآنُ خَبَرٌ عَظيمٌ، أنتم مُنصَرِفونَ عنه، ما ليَ مِن عِلمٍ باختِلافِ الملائِكةِ في شَأنِ آدَمَ، فإنَّما يُوحَى إلَيَّ ما لم أكُنْ أعلَمُه مِن اختِصامِ الملأِ الأعلى؛ لأنِّي رَسولٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، أُنذِرُكم إنذارًا واضِحًا بَيِّنًا.

تفسير الآيات:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى في أوَّلِ السُّورةِ أنَّ مُحمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لَمَّا دعا النَّاسَ إلى أنَّه لا إلهَ إلَّا إلهٌ واحِدٌ، وإلى أنَّه رَسولٌ مُبِينٌ مِن عندِ الله، وإلى أنَّ القَولَ بالقيامةِ حَقٌّ؛ فأولئك الكُفَّارُ أظهَروا السَّفاهةَ، وقالوا: إنَّه ساحِرٌ كَذَّابٌ، واستَهزَؤوا بقَولِه، ثمَّ إنَّه تعالى ذَكَر قَصَصَ الأنبياءِ؛ لِيَصيرَ ذلك حامِلًا لمُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على التَّأسِّي بالأنبياءِ عليهم السَّلامُ في الصَّبرِ على سَفاهةِ القَومِ، ولِيَصيرَ ذلك رادِعًا للكُفَّارِ عن الإصرارِ على الكُفرِ والسَّفاهةِ، وداعيًا إلى قَبولِ الإيمانِ، ولَمَّا تَمَّم اللهُ تعالى ذلك الطَّريقَ؛ أردَفَه بطَريقٍ آخَرَ وهو شَرحُ نَعيمِ أهلِ الثَّوابِ، وشَرحُ عِقابِ أهلِ العِقابِ، فلمَّا تَمَّم اللهُ تعالى هذه البياناتِ؛ عاد إلى تقريرِ المَطالِبِ المذكورةِ في أوَّلِ السُّورةِ، وهي: تقريرُ التَّوحيدِ والنُّبُوَّةِ والبَعثِ .
وأيضًا فهذا راجِعٌ إلى قَولِه: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ، وإلى قَولِه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] ، فلَمَّا ابتَدَرهمُ الجَوابُ عن ذلك التَّكذيبِ بأنْ نَظَّرَ حالَهم بحالِ الأُمَمِ المُكذِّبةِ مِن قَبلِهم، ولِتَنظيرِ حالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحالِ الأنبياءِ الَّذين صَبَروا، واستَوعَبَ ذلك بما فيه مَقنَعٌ؛ عادَ الكَلامُ إلى تَحقيقِ مَقامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قَومِه، فأمَرَه اللهُ أنْ يَقولَ: إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ مُقابِلَ قَولِهم: هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ، وأنْ يَقولَ: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ مُقابِلَ إنكارِهمُ التَّوحيدَ كقَولِهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك المُشرِكينَ: إنَّما أنا مُنذِرٌ أُنذِرُكم عذابَ اللهِ على كُفرِكم به .
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
أي: وما مِن مَعبودٍ تَصلُحُ له العِبادةُ إلَّا اللهُ الواحِدُ الَّذي لا شَريكَ له، القَهَّارُ الَّذي قهَرَ كُلَّ شَيءٍ بقُدرتِه .
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ ذِكرَ كَونِه سُبحانَه قَهَّارًا مُشعِرٌ بالتَّرهيبِ والتَّخويفِ، فلمَّا ذَكَر ذلك أردَفَه بما يدُلُّ على الرَّجاءِ والتَّرغيبِ .
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا.
أي: خالِقُ ومالِكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بَيْنَهما مِنَ الخَلقِ، المُتصَرِّفُ في ذلك كُلِّه .
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
أي: العَزيزُ ذو القَدْرِ العَظيمِ، الَّذي يَغلِبُ كُلَّ شَيءٍ ولا يَغلِبُه شَيءٌ، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ؛ الغَفَّارُ الَّذي يَستُرُ ذُنوبَ عِبادِه، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها .
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك المُكَذِّبينَ: هذا القُرآنُ -المُشتَمِلُ على توحيدِ اللهِ، وإثباتِ رِسالتي، ووُقوعِ البَعثِ والجَزاءِ بعدَ الموتِ، وغيرِ ذلك- خبَرٌ عَظيمٌ .
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68).
أي: أنتم مُنصَرِفونَ عن تَصديقِه، وقَبولِه، وتَدَبُّرِه، والعمَلِ به .
كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30] .
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69).
أي: لولا وَحيُ اللهِ إلَيَّ لَمَا عَلِمْتُ باختِلافِ الملائِكةِ في السَّماءِ في شأنِ آدَمَ ؛ فإخباري بذلك دَليلٌ واضِحٌ على صِدقِ نُبُوَّتي، وأنَّ القُرآنَ حَقٌّ مِن عندِ للهِ تعالى .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 30 - 34].
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قُرَيشٍ: ما يُوحي اللهُ إلَيَّ ما لم أكُنْ أعلَمُه مِن اختِصامِ الملَأِ الأعلى إلَّا لأنِّي نَذيرٌ لكم ظاهِرُ النِّذارةِ، أُنذِرُكم بما يُوحَى إلَيَّ إنذارًا واضِحًا لا لَبْسَ فيه .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ إثباتُ القَهْرِ التَّامِّ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه تعالى: الْقَهَّارُ، وهذا يَستَلزِمُ للمُؤمِنِ به أن يَخافَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ مِن قَهرِه، ويَستَلزِمُ أيضًا تقويةَ المؤمِنِ الواثقِ باللهِ في قَهْرِ أعدائِه؛ لأنَّك إذا وَثِقتَ بأنَّ اللهَ هو القَهَّارُ، وأنَّ اللهَ معك لِكَونِك أتَيْتَ بالأوصافِ الَّتي تَستوجِبُ مَعيَّةَ اللهِ لك؛ فإنَّ هذا يُقَوِّيك على عَدُوِّك، وتَعلَمُ أنَّ هذا العَدُوَّ لا بُدَّ أنْ يكونَ مَقهورًا بقَهْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ هذا الَّذي يجِبُ ويَستَحِقُّ أن يُعبَدَ دونَ مَن لا يَخلُقُ ولا يَرزُقُ، ولا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يَملِكُ مِن الأمرِ شَيئًا، وليس له قُوَّةُ الاقتِدارِ، ولا بيَدِه مَغفِرةُ الذُّنوبِ والأوزارِ .
3- في قَولِه تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أنَّه متى عَظُمَ هذا النَّبأُ العَظيمُ عَظُمَ مَن يأخُذُ بهذا النَّبأِ؛ لأنَّه أساسٌ ومِنهاجٌ وطَريقٌ، فإذا عَظُمَ عَظُمَ الآخِذُ به؛ ولهذا كانت الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ عَظيمةً مَرموقةً مَهِيبةً حينَ كانت آخِذةً به .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ أنَّه ينبغي في الكلامِ مُراعاةُ الحالِ؛ حيثُ إنَّ المقامَ هنا مَقامُ تهديدٍ؛ فلهذا اقتَصَرَ على الإنذارِ فقط؛ مع أنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة: 119] .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ أنَّ الأسماءَ لا تُغَيِّرُ المُسَمَّياتِ؛ فإنَّ هناك مَن يُسَمَّى إلهًا، ولكِنَّه حَقًّا ليس بإلهٍ! ويَتفَرَّعُ عن هذه الفائدةِ أنَّنا لو سَمَّينا الشَّيءَ المُحَرَّمَ باسمٍ حَلالٍ؛ فإنه لا يَتغَيَّرُ الحُكْمُ فيه؛ ولهذا جاء في الحديثِ: ((أنه يَشْرَبُ الخَمرَ أناسٌ يُسَمُّونَها بغيرِ اسمِها! )) ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الأسماءَ لا تُغَيِّرُ المُسَمَّياتِ والحقائِقَ .
3- في قَولِه تعالى: الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قَرَنَ سُبحانَه العِزَّةَ بالمَغفِرةِ؛ وإذا اجتمعتِ العِزَّةُ والمَغفِرةُ حَصَلَ مِن ذلك مَعنًى مُرَكَّبٌ مِن اجتماعِهما، وهو أكمَلُ ممَّا لو انفردَ أحدُهما، ولا شكَّ أنَّ غَلَبةَ المغفرةِ على العِزَّةِ فيها نَقصٌ، وغَلَبةَ العِزَّةِ على المغفرةِ فيها نَقصٌ، فإذا اجتَمَعا جميعًا صار هذا أكمَلَ، أي: أنَّ عِزَّتَه وغَلَبتَه وقَهرَه لا تخلو مِن المَغفِرةِ، بخلافِ مَن يَتَّصِفُ بالعِزَّةِ مِن المخلوقِين؛ فإنَّه في الغالبِ تكونُ عِزَّتُه تَغْلِبُ مَغفِرتَه، أو مَنِ اتَّصَفَ بالمغفرةِ، فتَجِدُ عندَه ضَعفًا وليس عِندَه عِزَّةٌ . وأيضًا قرَن بيْنَهما سبحانَه لبيانِ أنَّ مغفرتَه صادرةٌ عن عزَّةٍ لا عن عجزٍ، كما حكَى تعالى عن عيسَى عليه السَّلامُ قولَه: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] .
4- قَولُه تعالى حكايةً عن نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى فيه نَفيُ عِلْمِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالغَيبِ، سَواءٌ كان مُستقبَلًا أم حاضِرًا ولكِنَّه غائِبٌ عنه، فالآيةُ فيها نَفيُ عِلمٍ بمَلَأٍ مَوجودٍ لكِنَّه غائِبٌ عنه، فإذا كان لا يَعلَمُ الغائبَ الموجودَ فالغائِبُ عنه المُنتَظَرُ مِن بابِ أَولَى .
5- في قَولِه تعالى: بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى بيانُ عُلُوِّ مَرتبةِ الملائكةِ، كما أنَّ مَكانَهم كذلك عالٍ؛ لأنَّهم في السَّمَواتِ، كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
6- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فيه سُؤالٌ: الملائِكةُ لا يجوزُ أن يُقالَ: إنَّهم اختَصَموا بسَبَبِ قَولِهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] ؛ فإنَّ المُخاصَمةَ مع اللهِ كُفرٌ؟
الجوابُ: أنَّه لا شَكَّ أنَّه جرَى هناك سُؤالٌ وجَوابٌ، وذلك يُشابِهُ المُخاصَمةَ والمُناظَرةَ؛ فلهذا السَّبَبِ حَسُنَ إطلاقُ لَفظِ المخاصَمةِ عليه ، وقيل غيرُ ذلك .
7- في قَولِه تعالى: نَذِيرٌ مُبِينٌ أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يكونَ في شريعةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ شَيءٌ مَجهولٌ أبدًا، بل كلُّ ما جاء به فهو بَيِّنٌ، لكنَّ الجَهلَ أمرٌ نِسبيٌّ؛ قد يكونُ المجهولُ شيئًا مُعَيَّنًا لبَعضِ النَّاسِ، وهو بَيِّنٌ مَعلومٌ لأُناسٍ آخَرينَ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ ردٌّ لقولِهم: هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ؛ فإنَّ الإنذارَ ينافي السحرَ والكذِبَ. وقد يُقالُ: المرادُ إنَّما أنا رسولٌ منذرٌ لا ساحرٌ كذَّابٌ، وفيه مِن الحسنِ ما فيه؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ مِن وصفَيِ الرسالةِ والإنذارِ يُنافي كلَّ واحدٍ مِن وصفَيِ السِّحرِ والكذبِ، لكنْ منافاةُ الرسالةِ للسحرِ أظهرُ .
- وفي إبهامِ مُنْذِرٌ تَفخيمُ أمْرِ ما يُنذِرُ به .
- قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ذِكرُ صِفةِ (الواحِد) تأكيدٌ لِمَدلولِ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ؛ إيماءً إلى رَدِّ إنكارِهم، وذِكرُ صِفةِ القَهَّارِ تَعريضٌ بتَهديدِ المُشرِكينَ بأنَّ اللهَ قادِرٌ على قَهرِهم، أيْ: غَلبِهم .
2- قولُه تعالَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ
- في هذه الأوصافِ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ تَقريرٌ لِلتَّوحيدِ، ووَعدٌ لِلمُوحِّدينَ، ووَعيدٌ لِلمُشرِكينَ، وتَثنيةُ ما يُشعِرُ بالوَعيدِ مِن وَصفَيِ القَهرِ والعِزَّةِ، وتَقديمُهما على وَصفِ المَغفِرةِ؛ لِتَوفيةِ مَقامِ الإنذارِ حَقَّه .
- وفي قَولِه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ تَصريحٌ بعُمومِ رُبوبيَّتِه تعالى، وأنَّه لا شَريكَ له في شَيءٍ منها .
- ووَصفُ العَزيزِ في قَولِه: الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ تَمهيدٌ لِلوَصفِ بالغَفَّارِ، أيْ: الغَفَّارُ عن عِزَّةٍ ومَقدِرةٍ، لا عن عَجزٍ ومَلَقٍ، أو مُراعاةِ جانِبٍ مُساوٍ، والمَقصودُ مِن وَصفِ الغَفَّارِ هنا استِدعاءُ المُشرِكينَ إلى التَّوحيدِ بَعدَ تَهديدِهم بمُفادِ وَصفِ القَهَّارِ؛ لِكَيْ لا يَيئسوا مِن قَبولِ التَّوبةِ بسَبَبِ كَثرةِ ما سِيقَ إليهم مِنَ الوَعيدِ؛ جَريًا على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ، والعكس .
3- قولُه تعالَى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ فيه إعادةُ الأمْرِ بالقَولِ هنا مُستأنَفًا، والعُدولُ عنِ الإتيانِ بحَرفٍ يَعطِفُ المَقولَ -أعني: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ- على المَقولِ السَّابِقِ -أعني: أَنَا نَذِيرٌ [ص: 65] -؛ عُدولٌ يُشعِرُ بالاهتِمامِ بالمَقولِ هنا؛ كيْ لا يُؤتَى به تابِعًا لِمَقولٍ آخَرَ، فيَضعُفَ تَصدِّي السَّامِعينَ لِوَعيِه، ولِلإيذانِ بأنَّ المَقولَ أمْرٌ جَليلٌ له شَأنٌ خَطيرٌ، لا بُدَّ مِنَ الاعتِناءِ به أمْرًا وائْتِمارًا .
- وأيضًا جُملةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ... يَجوزُ أنْ تَكونَ في مَوقِعِ الاستِئنافِ الابتِدائيِّ؛ انتِقالًا مِن غَرَضِ وَصفِ أحوالِ أهلِ المَحشَرِ إلى غَرَضِ قِصَّةِ خَلقِ آدَمَ، وشَقاءِ الشَّيطانِ، فيَكونَ ضَميرُ هُوَ ضَميرَ شَأنٍ يُفَسِّرُه ما بَعْدَه، وما يُبَيَّنُ به ما بعْدَه مِن قَولِه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ص: 71] ، جُعِل هذا كالمُقدِّمةِ لِقِصَّةِ خَلقِ آدَمَ؛ تَشويقًا لِتَلقِّيها، فيَكونَ المُرادُ بالنَّبَأِ نَبَأَ خَلْقِ آدَمَ وما جَرى بعْدَه، ويَكونَ ضَميرُ يَخْتَصِمُونَ عائِدًا إلى (المَلأِ الأعلى)؛ لِأنَّ المَلَأَ جَماعةٌ، ويُرادُ بالاختِصامِ -على قولٍ- الاختِلافُ الَّذي جَرى بيْنَ الشَّيطانِ وبيْنَ مَن بَلَّغَ إليه مِنَ المَلائِكةِ أمْرَ اللهِ بالسُّجودِ لِآدَمَ، فالمَلائِكةُ همُ المَلَأُ الأعلى، وكان الشَّيطانُ بَيْنَهم؛ فعُدَّ منهم قبْلَ أنْ يُطرَدَ مِنَ السَّماءِ.
ويَجوزُ أنْ تَكونَ الجملةُ تَذييلًا لِلَّذي سَبَقَ مِن قَولِه: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ [ص: 49] إلى هنا، تَذييلًا يُشعِرُ بالتَّنويهِ به، وبطَلَبِ الإقبالِ على التَّدبُّرِ فيه، والاعتِبارِ به، وعليه يَكونُ ضَميرُ هُوَ ضَميرًا عائِدًا إلى الكَلامِ السَّابِقِ على تأويلِه بالمَذكورِ؛ فلذلك أُتيَ لِتَعريفِه بضَميرِ المُفرَدِ .
4- قولُه تعالَى: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ استِئنافٌ لِلَفتِ انتِباهِهم، ولِلنَّعيِ عليهم سُوءَ صَنيعِهم بالنَّبَأِ العَظيمِ، وتَوبيخٌ وتَحميقٌ لِلمُعرِضينَ عن النَّبَأِ العَظيمِ؛ ببَيانِ أنَّهم لا يَقدُرونَ قَدْرَه الجَليلَ، حيثُ يُعرِضونَ عنه مع عَظَمَتِه، وكَونِه مُوجِبًا لِلإقبالِ الكُلِّيِّ عليه، وتَلَقِّيه بحُسنِ القَبولِ .
- وجيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ في قَولِه: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ؛ لِإفادةِ إثباتِ إعراضِهم، وتَمكُّنِه منهم، فأمَّا إعراضُهم عنِ النَّبَأِ بمَعناه الأوَّلِ -خبَرُ الحشْرِ وما أُعِدَّ فيه للمُتَّقينَ مِن حُسنِ مآبٍ، وللطَّاغينَ مِن شرِّ مآبٍ- فظاهِرٌ؛ لِأنَّه طالما أنذَرَهم بعَذابِ الآخِرةِ ووَصَفه، فلم يَكتَرِثوا بذلك، ولا ارعَوَوْا عن كُفرِهم، وأمَّا إعراضُهم عن النَّبَأِ بمَعناه الثَّاني -نبَأُ خَلْقِ آدَمَ وما جَرى بعدَه- فتأويلُ تَمكُّنِه مِن نُفوسِهم عَدَمُ استِعدادِهم لِلاعتِبارِ بمَغزاهُ مِن تَحقُّقِ أنَّ ما هم فيه هو وَسوَسةٌ مِنَ الشَّيطانِ؛ قَصدًا لِلشَّرِّ بهم .
- ولعلَّ هذه الآيةَ مِن هذه السُّورةِ هي أوَّلُ ما نزَلَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ذِكرِ قصَّةِ خلْقِ آدَمَ، وسُجودِ الملائكةِ، وإباءِ إبليسَ مِن السُّجودِ؛ فإنَّ هذه السُّورةَ في تَرتيبِ نُزولِ سُوَرِ القُرآنِ -إنْ ثبَت- لا يُوجَدُ ذِكرُ قِصَّةِ آدَمَ في سُورةٍ نَزَلتْ قَبْلَها؛ فذلك وَجهُ التَّوطئةِ لِلقِصَّةِ بأساليبِ العِنايةِ والاهتِمامِ مِمَّا خَلا غَيرُها عن مِثلِه، وبأنَّها نَبَأٌ كانوا مُعرِضينَ عنه .
5- قولُه تعالَى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ استِئنافٌ مَسوقٌ لِتَحقيقِ أنَّه نَبَأٌ عَظيمٌ وارِدٌ مِن جِهتِه تَعالى بذِكرِ نَبَأٍ مِن أنبائِه على التَّفصيلِ مِن غَيرِ سابِقةِ مَعرفةٍ به، ولا مُباشَرةِ سَبَبٍ مِن أسبابِها المُعتادةِ؛ فإنَّ ذلك حُجَّةٌ بَيِّنةٌ دالَّةٌ على أنَّ ذلك بطَريقِ الوَحيِ مِن عِندِ اللهِ تَعالى، وأنَّ سائِرَ أنبائِه أيضًا كذلك . أو اعتِراضُ إبلاغٍ في التَّوبيخِ على الإعراضِ عن النَّبأِ العَظيمِ، وحُجَّةٌ على تَحقُّقِ النَّبأِ بسَببِ أنَّه مُوحًى به مِنَ اللهِ، وليس لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبيلٌ إلى عِلْمِه لولا وَحيُ اللهِ إليه به. وذِكرُ فِعلِ (كان) دالٌّ على أنَّ المَنفيَّ عِلمُه بذلك فيما مَضى مِنَ الزَّمَنِ قَبْلَ أنْ يُوحَى إليه بذلك .
- والباءُ في قَولِه: بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى؛ لِتَعديةِ عِلْمٍ لِتَضمينِه مَعنى الإحاطةِ، وهو استِعمالٌ شائِعٌ في تَعديةِ العِلْمِ.
ويَجوزُ على مَعنى أنَّ النَّبَأَ خلْقُ آدَمَ وما جَرى بعْدَه أنْ تَكونَ الباءُ ظَرفيَّةً، أيْ: ما كان لي عِلْمٌ كائِنٌ في المَلَأِ الأعلى، أيْ: ما كُنتُ حاضِرًا في المَلَأِ الأعلى؛ فهي كالباءِ في قَولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص: 44] .
- والمَلَأُ: الجَماعةُ ذاتُ الشَّأنِ، ووَصَفَه بالأعْلى في قولِه: بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى؛ لِأنَّ المُرادَ مَلَأُ السَّمَواتِ، وهمُ المَلائِكةُ .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ يَخْتَصِمُونَ في مَوضِعِ المُضيِّ؛ لِقَصدِ استِحضارِ الحالةِ .
6- قولُه تعالَى: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ اعتِراضٌ وُسِّطَ بيْنَ إجمالِ اختِصامِهم وتَفصِيلِه؛ تَقريرًا لِثُبوتِ عِلْمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَعيينًا لِسَبَبِه، إلَّا أنَّ بَيانَ انتِفائِه فيما سَبَقَ لَمَّا كان مُنبِئًا عن ثُبوتِه الآنَ، ومِنَ البَيِّنِ عَدَمُ مُلابَسَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بشَيءٍ مِن مَباديه المَعهودةِ؛ تَعيَّنَ أنَّه ليس إلَّا بطَريقِ الوَحيِ حَتمًا؛ فجَعَل ذلك أمْرًا مُسلَّمَ الثُّبوتِ، غَنيًّا عن الإخبارِ به قَصْدًا، وجَعَل مَصَبَّ الفائِدةِ والمَقصودَ إخبارَ ما هو داعٍ إلى الوَحيِ، ومُصحِّحٌ له؛ تَحقيقًا لِقَولِه: أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ [ص: 65] ، في ضِمنِ تَحقيقِ عِلْمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقِصَّةِ المَلَأِ الأعلَى .
- جملةُ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُبَيِّنةٌ لجُملةِ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، أي: ما عَلِمتُ بذلك النَّبأِ إلَّا بوَحيٍ مِنَ اللهِ، وإنَّما أَوْحى اللهُ إلَيَّ ذلك لِأكونَ نَذيرًا مُبِينًا.
- وهذه الجُملةُ قيل: رُكِّبَتْ مِن طَريقَينِ للقَصرِ: أحَدُهما طريقُ النَّفيِ والاستِثناءِ، والآخَرُ طريقُ (أنَّما) المَفتوحةِ الهمزةِ، المفيدةِ للحَصرِ، والَّذي يقتَضيه مقامُ الكلامِ هنا أنَّ المعنى للتَّعليلِ، والتَّقديرُ: إلَّا لأنَّما أنا نذيرٌ، أي: إلَّا لعِلَّةِ الإنذارِ، أي: ما أُوحيَ إلَيَّ نبأُ الملأِ الأعلى إلَّا لأُنذِرَكم به، أو معناه: ما يُوحى إلَيَّ إلَّا للإنذارِ، وليس لمجرَّدِ القَصَصِ، وهذه مُهمَّةُ الرُّسُلِ، وليس لهم أن يَدَّعُوا أنَّهم أكثَرُ مِن رُسُلٍ مُنذِرينَ، وإنْ شِئتَ جعَلْتَ المعنى: ما يُوحَى إلَيَّ إلَّا لأنِّي نذيرٌ مُبينٌ؛ فبان أنَّ سَبَبَ الوَحيِ إليه أنَّه نذيرٌ مُبينٌ للنَّاسِ .
- وقيل: يَجوزُ أنْ يَرتِفعَ قَولُه: أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ على معنَى: ما يُوحَى إلَيَّ إلَّا هذا، وهو أنْ أُنذِرَ وأُبَلِّغَ ولا أُفَرِّطَ في ذلك، أي: ما أُومَرُ إلَّا بهذا الأمرِ وحْدَه، وليس إلَيَّ غيْرُ ذلك؛ مِن علمِ ما يدورُ في الملأِ الأعلَى، ويَستَلزِمُ هذانِ الحَصرانِ حَصرًا ثالِثًا، وهو: أنَّ إخبارَ القُرآنِ وَحيٌ مِنَ اللهِ، وليس أساطيرَ الأوَّلينَ كما زَعَموا .
 - وقيل: وُرودَ هذَينِ الحَصرَينِ في الآيةِ كأنَّه صلَواتُ اللهِ عليه لم يُوحَ إليه إلَّا لاختِصاصِ النِّذارةِ، أو لم يؤمَرْ إلَّا باختِصاصِ الإنذارِ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ مُشرِكونَ، وكان الَّذي يُنكِرونَ عليه صلواتُ اللهِ عليه الإنذارَ والدَّعوةَ إلى التَّوحيدِ، كما مضَى مِن مُفتَتَحِ السُّورةِ إلى أنْ بلَغَ إلى قَولِه: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، فما أُوثِرَ اختِصاصُ الإنذارِ إلَّا لاختِصاصٍ مِنَ المُنذَرينَ، وبذا أمَرَهم، وكان الواجبُ قَلْعَ الشِّركِ، وإزالةَ ما يَنبَغي إزالتُه، فإذا أُزيلَ ذلك وبُدِّلَ بالإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ جازَ أنْ يُبَشَّروا، كما قال تعالى: قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 2] ، كأنَّه قال صلَواتُ اللهِ عليه: ما يوحَى الآنَ في شأنِكم إلَّا لِأنْ أُنذِرَكم، وأُوضحَ لكم حقيقةَ الأمرِ بما أوحَى الله إلَيَّ .
- وقيل: هذه الحصورُ: اثنانِ منها إضافيَّانِ ، وهما قصرُ ما يُوحى إليه على علَّةِ النِّذارةِ، وقصرُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم على صِفةِ النِّذارةِ، وكِلاهما قلبٌ لاعتقادِهم أنَّهم يَسمَعون القرآنَ لِيَتَّخِذوه لَعِبًا، واعتِقادِهم أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم ساحرٌ أو مجنونٌ، وعُلِم مِن هذا أنَّ ذِكرَ نَبأِ خَلْقِ آدَمَ قُصِد به الإنذارُ مِن كَيدِ الشَّيطانِ .
- قوله: يُوحَى بناه للمَفعولِ؛ لأنَّ ذلك كافٍ في تَنبيهِهم على مَوضعِ الإشارةِ في أنَّ دعواه إنَّما هي النبُوَّةُ لا الإلهيَّةُ .
- وقُرِئَ إِنَّمَا بالكَسرِ على الحِكايةِ ، وعلى تَقديرِ القَولِ، أيْ: ما يُوحَى إلَّا هذه الجُملةُ، والمعنى: أي: قَصْري على النِّذارةِ لا أنِّي أُنجِزُ ما يَتوعَّدُ به اللهُ؛ فـ أَنَّمَا مفعولُ يُوحَى القائِمُ مقامَ الفاعِلِ في القراءتَينِ، وإن اختَلَف التَّوجيهانِ؛ فالتَّقديرُ على قراءةِ الجَماعةِ بالفَتحِ: إلَّا الإنذارُ أو إلَّا كَوني نَذيرًا، وعلى قراءةِ الكَسرِ: إلَّا هذا القَولُ، وهو أنِّي أقولُ لكم كذا .