موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (71-85)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ

غريب الكلمات:

فَقَعُوا: أي: فَخِرُّوا له، والوقوعُ: يدُلُّ على سُقوطِ شيءٍ [863] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((المقاييس)) لابن فارس (6/133)، ((المفردات)) للراغب (ص: 880)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 739). و(قعوا) فعلُ أمرٍ، والواوُ فاعلٌ. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/237). .
إِبْلِيسَ: هو أبو الشَّياطينِ، وأصْلُ الإبلاسِ: اليأسُ، والحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، ومِنه اشتُقَّ إبليسُ. وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ [864] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 23)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 97)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 143). .
رَجِيمٌ: أي: مَطرودٌ مِن رحمةِ اللهِ تعالَى، وأصلُ الرَّجمِ: الرَّميُ بالِحجارةِ، ثم تُؤخَذُ منه بقيَّةُ المعاني [865] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/31)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 346)، ((تفسير القرطبي)) (15/229). .
فَأَنْظِرْنِي: أي: أخِّرْني، وأصْلُ (نظر): يدُلُّ على تأمُّلِ الشَّيءِ ومُعايَنتِه [866] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/384)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/444)، ((المفردات)) للراغب (ص: 813)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 31، 108)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 201). .
لَأُغْوِيَنَّهُمْ: أي: لأُضِلَّنَّهم، ولأستَدْعِيَنَّهم إلى المعاصي، ولأُزَيِّنَنَّ لهم، والغَيُّ: الجَهلُ والانهِماكُ في الباطِلِ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإظلامِ الأمْرِ [867] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((تفسير ابن كثير)) (7/11). .

مشكل الإعراب :

 قَولُه تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
 فَالْحَقُّ مُبتدأٌ مَرفوعٌ، وخبَرُه محذوفٌ تَقديرُه (منِّي) أو (قَسَمي). أو الخبَرُ جملةُ القَسَمِ وجوابُه: لَأَمْلَأَنَّ، ويجوزُ أن يكونَ (الحقُّ) خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه (أنا)، أو (قَولي).
وَالْحَقَّ أَقُولُ (الواو) اعتراضيَّةٌ، (الحقَّ) مَفعولٌ به مُقدَّمٌ مَنصوبٌ. وجُملةُ وَالْحَقَّ أَقُولُ اعتراضيَّةٌ، لا محلَّ لها مِن الإعرابِ.
وجُملةُ: لَأَمْلَأَنَّ جوابُ قَسَمٍ مُقدَّرٍ لا مَحلَّ لها مِن الإعرابِ، وجملةُ القَسَمِ المقدَّرةِ (أُقْسِمُ بالحَقِّ) معَ الجوابِ في مَحلِّ رَفْعٍ، خبَرُ المبتدأِ، أو استئنافيةٌ لا محَلَّ لها [868] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1107)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/400)، ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لابن هشام (ص: 510)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (23/146). .

المعنى الإجمالي:

يُخبرُ تعالَى عن قولِه للمَلائِكةِ، ومعهم إبليسُ: إنِّي سأخلُقُ بَشَرًا مِن طِينٍ، فإذا اكتمَلَ خَلقُ آدَمَ، ونَفخْتُ فيه الرُّوحَ، فخِرُّوا له ساجِدينَ تَحيَّةً وتَكريمًا؛ فامتثَلَ الملائِكةُ كُلُّهم أمْرَ اللهِ، فسَجَدوا لآدَمَ إلَّا إبليسَ، تكبَّرَ عن السُّجودِ، وكان مِنَ الكافِرينَ.
قال اللهُ تعالَى: يا إبليسُ، ما منَعَك مِن السُّجودِ لِآدَمَ الَّذي خلَقْتُه بيَدَيَّ؟ أتكبَّرْتَ عن السُّجودِ له بغَيرِ حَقٍّ، أم كنتَ ممَّن علَا على غيرِه؟! فقال إبليسُ: أنا خيرٌ مِن آدَمَ؛ خلَقْتَني من نارٍ، وخلَقْتَه مِن طِينٍ!
فقال اللهُ تعالَى لإبليسَ: فاخرُجْ من الجنَّةِ؛ فإنَّك مَرجومٌ، وإنَّ عليك لَعنتي إلى يومِ القِيامةِ.
قال إبليسُ: رَبِّ فأخِّرْ أجَلي ولا تُعَذِّبْني إلى يومِ بَعثِ الخَلائِقِ.
فقال اللهُ له: فإنَّك مِن المُؤخَّرينَ إلى وَقتِ النَّفخةِ الأُولى؛ يومِ يموتُ الخلائِقُ أجمَعون.
فقال إبليسُ: فبِعزَّتِك -يا رَبِّ- لأُضِلَّنَّ آدَمَ وذُرِّيَّتَه أجمعينَ، إلَّا عِبادَك الذين أخلَصْتَهم لك وَحدَك، وعَصَمْتَهم مِنِّي.
قال اللهُ تعالى: فالحقُّ، وأنا أقولُ الحَقَّ، لأملأنَّ جهنَّمَ منك وممَّن تَبِعَك مِن بَني آدَمَ أجمَعينَ.

تفسير الآيات:

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا كانتْ قُرَيشٌ خالَفوا الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ؛ ذكَرَ حالَ إبليسَ؛ حيثُ خالَفَ أمْرَ اللهِ بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ، وما آلَ إليه مِنَ اللَّعنةِ والطَّردِ مِن رَحمةِ اللهِ؛ لِيَزدجِرَ عن ذلك مَن فيه شَيءٌ مِنهما [869] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/173). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه خُصومةَ الملائكةِ إجمالًا فيما تقدَّمَ؛ ذكَرَها هنا تَفصيلًا، فقال [870] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/510). :
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71).
أي: ما كان ليَ مِن عِلمٍ باختِصامِ الملأِ الأعْلَى حِينَ قال اللهُ تعالى للمَلائِكةِ: إنِّي سأخْلُقُ بَشَرًا [871] قال الشوكانيُّ: (بَشَرًا: أي: جِسمًا مِن جِنسِ البَشرِ مأخوذٌ مِن مُباشرتِه للأرضِ، أو مِن كونِه باديَ البشرةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/510). مِن طِينٍ، هو آدَمُ عليه السَّلامُ [872] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير القرطبي)) (15/227)، ((تفسير الشوكاني)) (4/510)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). .
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72).
أي: فإذا اكتَمَل خَلْقُ آدَمَ، وصار جَسَدًا تامًّا مُتقَنًا، ونَفخْتُ فيه الرُّوحَ التي هي مِن خَلقِي، فخِرُّوا على الأرضِ ساجِدينَ لآدَمَ؛ تَحيَّةً له وتَكريمًا وتَعظيمًا [873] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير القرطبي)) (15/227)، ((تفسير أبي حيان)) (6/476، 477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 234-236). قال النيسابوريُّ: (لا خِلافَ في أنَّ الإضافةَ في قَولِه تعالَى: رُوحِي للتَّشريفِ والتكريمِ، مِثلُ: ناقةِ اللهِ، وبيتِ اللهِ). ((تفسير النيسابوري)) (4/220). ويُنظر: ((الرُّوح)) لابن القيِّم (ص: 154 - 156). وقال الواحديُّ: (قال الكلبي: فخِرُّوا له ساجِدينَ سَجدةَ تحيَّةٍ، ولم تكُنْ سَجدةَ طاعةٍ، ونحوَ هذا قال جميعُ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (12/601). وقال ابنُ العربيِّ: (اتَّفَقت الأمَّةُ على أنَّ السُّجودَ لآدمَ عليه السلامُ لم يكُنْ سجودَ عِبادةٍ). ((أحكام القرآن)) (1/27)، ونقَل الرازي أيضًا الإجماعَ على ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (2/427). .
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73).
أي: فلمَّا خلَقَ اللهُ آدَمَ ونفَخَ فيه الرُّوحَ، سَجَد كلُّ الملائِكةِ لآدَمَ؛ امتِثالًا لأمْرِ اللهِ تعالَى [874] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير القرطبي)) (15/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). .
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74).
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ.
أي: إلَّا [875] قال الشوكانيُّ: (الاستِثناءُ مُتَّصِلٌ على تَقديرِ أنَّه كان متَّصِفًا بصفاتِ الملائكةِ، داخِلًا في عدادِهم، فغُلِّبوا عليه. أو مُنقَطِعٌ على ما هو الظَّاهِرُ مِن عدَمِ دُخولِه فيهم، أي: لكِنْ إبليسُ استكبَرَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/510). إبليسَ تَكبَّرَ عن السُّجودِ لآدَمَ؛ تعَظُّمًا وأنَفةً [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير القرطبي)) (15/227)، ((تفسير ابن كثير)) (7/81)، ((تفسير الشوكاني)) (4/510). .
كما قال تعالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
أي: وكان إبليسُ مِن الكافِرينَ [877] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير القرطبي)) (15/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير الشوكاني)) (4/510)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/301). قال الشوكاني: (كان استكبارُه استكبارَ كُفرٍ، فلذلك كان مِن الكافرينَ أي: صار مِنهم بمُخالَفَتِه لأمرِ اللَّهِ واستكبارِه عن طاعَتِه، أوْ كان مِن الكافرينَ في عِلْمِ اللَّهِ سُبحانَه). ((تفسير الشوكاني)) (4/510). ممن ذهَب إلى أنَّ المرادَ: كان قدْ سبَق في عِلمِ اللهِ أنَّه مِن الكافِرينَ: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/653)، ((تفسير ابن جرير)) (20/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباس. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/145). وممن ذهب إلى أن المعنى: صارَ مِن الكافِرينَ بإباء الأمرِ: النسفي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/164). قال ابن عاشور: (فعلُ «كانَ» الَّذي وَقَع في هذا الكلامِ حِكايةً لكفرِه الواقعِ في ذلك الوَقتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/301)، ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/174). وقال الزمخشري: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أُريدَ وُجودُ كُفرِه ذلك الوَقتَ، وإن لم يكُنْ قَبْلَه كافِرًا، لأنَّ «كانَ» مُطلَقٌ في جِنسِ الأوقاتِ الماضيةِ؛ فهو صالِحٌ لأيِّها شِئتَ، ويجوزُ أن يرادَ: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ في الأزمِنةِ الماضيةِ في عِلمِ اللهِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/105). وقال ابنُ كثير: (امتَثلَ الملائِكةُ كُلُّهم ذلك سوى إبليسَ، ولم يكنْ منهم جِنسًا، كان مِن الجِنِّ فخانه طَبعُه وجِبِلَّتُه أحوَجَ ما كان إليه، فاستَنكفَ عن السُّجودِ لآدَمَ، وخاصَمَ رَبَّه عزَّ وجلَّ فيه!). ((تفسير ابن كثير)) (7/81). .
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75).
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
أي: قال اللهُ: يا إبليسُ، أيُّ شَيءٍ مَنَعَك من السُّجودِ لِلَّذي كرَّمتُه بخَلْقِه بيَدَيَّ [878] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/145)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/261، 262)، ((تفسير الشوكاني)) (4/510)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). قال أبو الحسن الأشعريُّ: (أجمَعوا على أنَّه عزَّ وجَلَّ يَسمَعُ ويَرى، وأنَّ له تعالى يَدينِ مَبسوطتَينِ... وأنَّ يَديهِ تعالى غيرُ نِعمتِه). ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 127). وقال البغويُّ: (كلُّ ما جاء مِن هذا القَبيلِ في الكِتابِ أو السُّنَّةِ -كاليَدِ، والإصبعِ، والعينِ، والمجيءِ، والإتيانِ- فالإيمانُ بها فَرضٌ، والامتِناعُ عن الخَوضِ فيها واجِبٌ؛ فالمُهتدي مَن سلَك فيها طريقَ التَّسليمِ، والخائِضُ فيها زائِغٌ، والمنكِرُ مُعَطِّلٌ، والمكَيِّفُ مُشَبِّهٌ). ((شرح السنة)) (15/257). ويُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) للأشعري (ص: 125 - 128)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للَّالَكائي (3/457)، ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (2/118)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/362 - 370). ؟
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.
أي: هل تَعظَّمتَ عن السُّجودِ لآدمَ، وحدَث لك الاستِكبارُ الآنَ، فتركتَ السُّجودَ له، أمْ كُنتَ كذلك مِن قَبلُ مِن المتكبِّرينَ العالِينَ، ممَّنْ لا يَليقُ أنْ تُكلَّفَ مِثلَ هذا؛ لعلوِّ مكانِك [879] ممَّن اختارَ المعنى المذكورَ في الجُملةِ: ابنُ جَرير، وابنُ عطيَّة، والرازي، والثعالبي، وابن جُزَي، وابن عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/145)، ((تفسير ابن عطية)) (4/515)، ((تفسير الرازي)) (26/413)، ((تفسير ابن جزي)) (2/213)، ((تفسير الثعالبي)) (5/76)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 239). والاستِفهامُ هنا على وَجهِ التوبيخِ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/213). وممَّن اختار أنَّ المعنى: أستكبرْتَ وتعظَّمْتَ بنفْسِك عن السُّجودِ لآدمَ، أمْ كُنتَ مِن القومِ الذين يَتكبَّرون، فتكبَّرتَ عن السُّجودِ؛ لكونِك منهم؟ ممَّن اختاره في الجُملةِ: السمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والخازن، والعليمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/454)، ((تفسير البغوي)) (4/77)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/583)، ((تفسير الخازن)) (4/48)، ((تفسير العليمي)) (6/46). قال البقاعيُّ: (أَسْتَكْبَرْتَ أي: طلَبْتَ أن تكونَ أعلَى منه وأنت تعلَمُ أنَّك دونَه؟! فأنتَ بذلك ظالِمٌ، فكُنتَ مِن المُستكبِرينَ العَريقينَ في وَصْفِ الظُّلمِ؛ فإنَّ مَن اجتَرَأ على أدناه أوشَكَ أن يَصِلَ إلى أعلاه. أَمْ كُنْتَ أي: مِمَّا لك مِن الجبِلَّةِ الرَّاسِخةِ مِنَ الْعَالِينَ أي: الكُبَراءِ المُستَحِقِّينَ للكِبرِ، وأنا لا أعلَمُ ذلك فنقَصْتُك مِن مَنزِلتِك، فكنتُ جائِرًا في أمري؟!). ((نظم الدرر)) (16/422). .
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76).
أي: قال إبليسُ مُجيبًا ربَّه: أنا خيرٌ مِن آدَمَ؛ لأنَّك خلَقْتَني مِن نارٍ، وخلَقْتَ آدَمَ مِن طِينٍ؛ فلَمْ أسجُدْ له [880] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/145، 146)، ((الهداية)) لمكي (10/6288)، ((تفسير ابن كثير)) (7/81، 82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). .
كما قالَ تعالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77).
أي: قال اللهُ لإبليسَ: فاخرُجْ مِن الجَنَّةِ [881] ممَّن اختار القولَ المذكورَ؛ أنَّ المرادَ: الخروجُ مِن الجنَّةِ: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والزمخشريُّ، والقرطبيُّ، والخازن، والبقاعيُّ، والعُلَيميُّ، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/654)، ((تفسير ابن جرير)) (20/146)، ((تفسير الزمخشري)) (4/107)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((تفسير الخازن)) (4/48)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/424)، ((تفسير العليمي)) (6/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305). وقيل: المرادُ: الخروجُ مِنَ السَّماءِ. وممَّن ذهب إلى ذلك: ابن أبي زمنين، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/100)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 240). وقال السعديُّ: (مِن السَّماءِ والمَحلِّ الكريمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 717). وقيل: مِنْهَا: أي: مِن زُمرةِ الملائكةِ وجُملتِهم. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/189)، ((تفسير أبي السعود)) (7/237). ؛ فإنَّك مَرجومٌ [882] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/146)، ((تفسير الزمخشري)) (4/107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). قيل: المرادُ بـ رَجِيمٌ: أي: مَلعونٌ، وممَّن اختارَ هذا القولَ: مقاتلُ بن سليمان، والزَّجَّاج، ومكي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/654)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/180)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6288). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلفِ: قَتادة، والضَّحَّاك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/146). وقال ابنُ جَرير: (مرجومٌ بالقولِ، مشتومٌ ملعونٌ). ((تفسير ابن جرير)) (20/146)، ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/583). وقيل: المرادُ: مطرودٌ. وممَّن ذهَب إلى ذلك: البغوي، والزمخشري، والنَّسَفي، والخازن، وجلال الدِّين المَحلي، والعُلَيمي، وابن عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/78)، ((تفسير الزمخشري)) (4/107)، ((تفسير النسفي)) (3/165)، ((تفسير الخازن)) (4/48)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 605)، ((تفسير العليمي)) (6/46)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 240). وقيل: المراد: مَرجومٌ بالكواكِبِ والشُّهُبِ. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/229). واختارَ الشوكانيُّ أنَّ المرادَ: مَرجومٌ بالكواكبِ، مَطرودٌ مِن كلِّ خيرٍ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/511). .
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78).
أي: وإنَّ طَرْدي وإبعادي لك مِن رَحمتي: مُستَمِرٌّ وحاقٌّ عليك إلى يَومِ القِيامةِ؛ إذ يُجازَى العِبادُ، ويُلاقِي فيه إبليسُ جَزاءَه [883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/424-425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 241). .
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79).
أي: قال إبليسُ: رَبِّ فأخِّرْ أجَلي وأمْهِلْني ولا تُعَذِّبْني إلى اليَومِ الذي تَبعَثُ فيه خَلْقَك [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((تفسير الشوكاني)) (4/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). قال القرطبي: (أراد الملعونُ ألَّا يموتَ، فلم يُجَبْ إلى ذلك، وأُخِّرَ إلى وَقتٍ مَعلومٍ، وهو يومٌ يموتُ الخَلقُ فيه، فأُخِّرَ إليه؛ تهاونًا به). ((تفسير القرطبي)) (15/229). .
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80).
أي: قال اللهُ لإبليسَ: فإنَّك مِنَ المؤخَّرينَ المُمهَلينَ [885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((الهداية)) لمكي (10/6289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717). .
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81).
أي: إلى اليَومِ الذي يَموتُ فيه الخلائِقُ، وهو وَقتُ النَّفخةِ الأُولى [886] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/654)، ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((تفسير السمعاني)) (4/455)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/426-427)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 241). .
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82).
أي: قال إبليسُ: فبعِزَّتِك [887] الباءُ في قولِه فَبِعِزَّتِكَ يحتَمِلُ أن تكونَ للقَسَمِ، ويحتَمِلُ أن تكونَ للاستِعانةِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 241-242). ممَّن اختارَ أنَّ هذا قَسَمٌ بعِزَّةِ الله تعالى: الزمخشريُّ، وابنُ عطية، والقُرطبيُّ، وابن جُزي، وأبو السُّعود، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/108)، ((تفسير ابن عطية)) (4/516)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((تفسير ابن جزي)) (2/214)، ((تفسير أبي السعود)) (7/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/306). لأُضِلَّنَّ آدَمَ وذُرِّيَّتَه أجمَعينَ [888] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((تفسير أبي السعود)) (7/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/306)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 241-242). .
كما قال تعالَى حكايةً عن إبليسَ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16، 17].
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللَّامِ: اسمُ مَفعولٍ مِن أخلَصَ، بمعنى: أنَّ اللهَ تعالَى أخلَصَهم لعِبادتِه، واختارَهم، فصاروا مُخلَصينَ [889] قرأ بها نافع، وعاصم، وحمزة، والكِسائي، وأبو جعفر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظرُ لِمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((الحُجة)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حُجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 359). .
2- قِراءةُ: الْمُخْلِصِينَ بكَسرِ اللَّامِ: اسمُ فاعِلٍ مِن أخلَصَ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا للهِ دِينَهم، وأعمالَهم مِنَ الشِّركِ والرِّياءِ [890] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((تفسير ابن جرير)) (14/68)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 358). .
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83).
أي: إلَّا عِبادَك الذين أخلَصْتَهم لعِبادتِك، وعصَمْتَهم مِنِّي، فلا أستطيعُ إغواءَهم [891] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/147)، ((تفسير القرطبي)) (15/229)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/427). .
كما قالَ الله تباركَ وتعالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99، 100].
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: فَالْحَقُّ بالرَّفعِ. قيل: بمعنى: فاللهُ الحَقُّ، أو فأنا الحَقُّ، أو فهذا الحَقُّ، أو فالحَقُّ منِّي، أو فوَعدُ اللهِ هو الحَقُّ، أو فالحَقُّ قَسَمي [892] قرأ بها عاصمٌ، وحمزةُ، وخلف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (20/148)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 307)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/333)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (6/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/427)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/306). .
2- قِراءةُ: فَالْحَقَّ بالنَّصبِ. قيل: بمعنَى: حقًّا لأملَأنَّ جَهنَّمَ. وقيل: التَّقديرُ: فيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ. وقيل: نُصِبَ على الإغراءِ، أي: فاتَّبِعوا الحَقَّ، أو الْزَموا الحَقَّ [893] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (20/148)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 307)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/333)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (6/87، 88). .
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84).
أي: قال اللهُ: فالحقُّ [894] كلمةُ فَالْحَقُّ مرفوعةٌ؛ إمَّا لأنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديره: أنا الحقُّ، أو: قولي الحقُّ، أو تكونُ مبتدأً لخبرٍ محذوفٍ تقديرُه فالحقُّ منِّي، أو يكونُ الخبرُ لَأَمْلَأَنَّ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/517)، ((تفسير الشوكاني)) (4/512). وممَّن اختار أنَّ التقدير: فأنا الحَقُّ: الزجَّاج، والسمعانيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/342)، ((تفسير السمعاني)) (4/455) وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/149). وممَّن اختار أنَّ التقديرَ: فالحقُّ منِّي: البغوي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/78). وممَّن اختار أنَّ قولَه: فَالْحَقُّ مبتدأٌ ضُمِّن معنى القسَمِ، وجوابُه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ...، ويكونُ في هذا الجوابِ كفايةٌ عن خَبرِ المبتدأِ: ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 243). وذكر البقاعيُّ -بِناءً على قِراءةِ الرفعِ هذه- أنَّ قولَه: (فَالْحَقُّ يكونُ هو المقسمَ به، أي: فالحقُّ قَسَمي، والجوابُ لَأَمْلَأَنَّ وما بينَهما اعتراضٌ مبيِّنٌ أنَّ هذا ممَّا لا يُخلَفُ أصلًا). ((نظم الدرر)) (16/427). ، وأنا أقولُ الحَقَّ [895] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/148)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/342)، ((تفسير القرطبي)) (15/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/307). قال القرطبي: (ولا اختلافَ في الثَّاني [أي قوله: وَالْحَقَّ] في أنَّه منصوبٌ بـ أَقُولُ). ((تفسير القرطبي)) (15/230). .
كما قال تعالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85).
أي: لَأملَأنَّ جَهنَّمَ مِن جِنسِك مِن الشَّياطينِ [896] ممَّن قال بالمعنى المذكورِ: الزمخشريِ، والرازي، والرَّسْعني، والبيضاوي، والنَّسَفي، والبقاعي، والشوكاني، وابن عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/108)، ((تفسير الرازي)) (26/415)، ((تفسير الرسعني)) (6/518)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35)، ((تفسير النسفي)) (3/166)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/427-428)، ((تفسير الشوكاني)) (4/512)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 243). ونحوُ المعنى المذكورِ قولُ مَن قال: إنَّ معنى مِنْكَ أي: مِن نفْسِك ومِن ذُرِّيتِك- وممَّن قال به: مكي، وابنُ الجوزي، والقرطبي، والعُليمي. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6291)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/583)، ((تفسير القرطبي)) (15/230)، ((تفسير العليمي)) (6/48). -يا إبليسُ- وممَّن تَبِعَك مِن بَني آدَمَ أجمَعينَ [897] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/150)، ((الوسيط)) للواحدي (3/567)، ((تفسير القرطبي)) (15/230)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35). .
كما قال اللهُ تعالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [الإسراء: 63] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ المقصودُ مِن ذِكرِ هذه القِصَّةِ: تَنبيهُ بَني آدَمَ في هذا المقامِ علَى شَرفِ أبيهم آدَمَ، وتَبيينُ عداوةِ عدوِّهم إبليسَ لهم، وما هو مُنطوٍ عليه مِنَ الحسَدِ لهم ولأبيهم آدَمَ؛ ليَحْذَروه، ولا يتَّبعوا طرائقَه [898] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/391). ، والمَنعُ مِن الحَسَدِ والكِبرِ؛ وذلك لأنَّ إبليسَ إنَّما وقَعَ فيما وقَعَ فيه بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ، والكُفَّارُ إنَّما نازَعوا مُحمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بسبَبِ الحسَدِ والكِبرِ [899] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/409). .
2- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ كانتْ نَزعةُ الكِبرِ والعِصيانِ كامِنةً في جِبِلَّة إبليسَ، ولم يكُنْ مِن الملأِ الذي كان معهم مُثيرٌ لِما سكَنَ في نفْسِه مِن طَبعِ الكِبرِ والعِصيانِ، فلمَّا طرأَ على ذلك الملأِ مَخلوقٌ جديدٌ، وأُمِرَ أهلُ الملأِ الأعْلَى بتَعظيمِه؛ كان ذلك مُوِريًا زِنادَ الكِبرِ في نفْسِ إبليسَ؛ فنشأَ عنه الكُفرُ باللهِ، وعِصيانُ أمْرِه، وهذا ناموسٌ خِلْقيٌّ جعَلَه اللهُ مَبدأً لهذا العالَمِ قبلَ تَعميرِه، وهو أنْ تكونَ الحوادِثُ والمضائِقُ معيارَ الأخلاقِ والفَضيلةِ؛ فلا يُحكَمُ على نَفسٍ بتزكيةٍ أو ضِدِّها إلَّا بعدَ تَجربتِها، ومُلاحَظةِ تصَرُّفاتِها عند حُلولِ الحوادِثِ بها [900] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/301-302). .
3- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ مَن قَدَّمَ العَقلَ على السَّمعِ فإنَّما هو مُتَّبعٌ لخُطواتِ الشَّيطانِ؛ لأنَّ الشَّيطانَ قَدَّمَ ما يَدَّعي أنَّه عَقلٌ على السَّمعِ، فأخطأَ في ذلك؛ فهكذا كلُّ مَن قَدَّمَ العَقلَ على السَّمعِ، سواءٌ في العِلمِيَّاتِ -وهي عِلمُ العقائدِ- أو في العَمَليَّاتِ؛ فإنَّه مُشابِهٌ لإبليسَ، مُتَّبعٌ لخُطُواتِه، واعلَمْ أنَّ كُلَّ بَليَّةٍ تَقَعُ مِن تحريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، والاستكبارِ عن عِبادةِ اللهِ، وغيرِ ذلك: فأصلُها مِن إبليسَ [901] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 248). .
4- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ أنَّ مِن أسبابِ الإعانةِ أنْ يَستعينَ الإنسانُ بما يُناسِبُ المقامَ مِن أسماءِ اللهِ وصِفاتِه؛ لأنَّه لم يَقُلْ: «فبِمَغفِرتِك لأُغوينَّهم»؛ لأنَّه يُريدُ أنْ يَتَسَلَّطَ، والسُّلطةُ يُناسِبُها مِن الصِّفاتِ «العِزَّةُ» دونَ «المغفرةِ» [902] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 251). .
5- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ إبليسَ وَعَدَ -مُتَوسِّلًا بعِزَّةِ اللهِ- أنْ يُغويَ جميعَ بني آدمَ، ويَتفرَّعُ عن هذه الفائدةِ أنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِن إبليسَ ووَساوسِه، فإذا وَجَدْتَ في نَفْسِك تأخُّرًا في الخَيرِ فاستَعِذْ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، وإذا وَجدْتَ في نَفْسِك إقدامًا على الشَّرِّ فاستَعِذْ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ؛ قال تعالَى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 251). [البقرة: 268] .
6- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ اللهَ تعالَى وَعَدَ جَهنَّمَ بمَلئِها، ويَتفرَّعُ عن هذه الفائدةِ الحذَرُ الشَّديدُ مِن أنْ يكونَ الإنسانُ مِن أهلِ جَهنَّمَ -نعوذُ باللهِ منها- وفي الصَّحيحَينِ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تزالُ جَهنَّمُ يُلقَى فيها وتَقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ حتى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قَدَمَه؛ فيَنزَوي [904] فيَنزَوي: أي: فيَجتمِعُ ويَنقبِضُ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/369). بعضُها إلى بَعضٍ، وتقولُ: قَطْ قَطْ [905] قَطْ قَطْ: أي: حَسْبي حَسْبي، قد اكتفَيتُ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/369). ) [906] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 252). والحديث أخرجه البُخاريُّ (7384)، ومسلمٌ (2848) واللفظ له، مِن حديثِ أنسِ بنِ مالِكٍ رَضي اللهُ عنه. .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ إثباتُ الكَلامِ للهِ عزَّ وجلَّ، وإثباتُ أنَّ كلامَه بصَوتٍ مَسموعٍ تَسمَعُه الملائكةُ، كما في هذه القِصَّةِ، وإثباتُ أنَّه بحَرفٍ، أي: بحُروفٍ مُتتابِعةٍ يَتبَعُ بَعضُها بَعضًا؛ لِقَولِه: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، وكُلُّ هذا تأكيدٌ لِمَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وفي هذا أيضًا إثباتُ أنَّ الكَلامَ يتعلَّقُ بمَشيئتِه سُبحانَه [907] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 244). .
2- صَحَّ أنْ يَقولَ لهم: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا، وما عَرَفوا ما البَشَرُ، ولا عَهِدوا به قَبلُ، ووَجهُه: أنْ يَكونَ قد قال لهم: إنِّي خالِقٌ خَلْقًا مِن صِفَتِه كَيْتَ وكَيْتَ، ولكِنَّه حين حَكاه اقتَصَرَ على الاسمِ.
وقيلَ: ولَعَلَّ ما جرَى عِندَ وُقوعِ المَحكيِّ ليس هذا الاسمَ الذي لم يُخلَقْ مُسَمَّاهُ حِينَئذٍ، فَضلًا على تَسميَتِه به، بلْ عِبارةٌ كاشِفةٌ عن حالِه، وإنَّما عَبَّرَ عنه بهذا الاسمِ عِندَ الحِكايةِ [908] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/105)، ((تفسير أبي حيان)) (9/173)، ((تفسير أبي السعود)) (7/235). .
3- في قَولِه تعالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ إثباتُ أنَّ أصلَ بني آدمَ هو الطِّينُ؛ ولهذا جاءتْ طبائِعُ بني آدمَ وألوانُهم مُختلِفةً كاختِلافِ الأرضِ، أو كاختِلافِ تُربةِ الأرضِ؛ فيها السَّهلُ واللَّيِّنُ، والأحمرُ والأبيضُ والأسودُ، والحَزْنُ والصَّعْبُ؛ لأنَّهم خُلِقُوا مِن هذه التُّربةِ، فصارَ اختلافُهم كاختِلافِ الأصلِ الذي خُلِقُوا منه [909] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 244). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فيه سؤالٌ: ذكَر هاهنا أنَّه خلَق البشرَ مِن طِينٍ، وقد جاء في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وكقَولِه تعالَى: كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59] وقولِه: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [الصافات: 11] .
والجوابُ: أنَّه ذكَرَ أطوارَ ذلك التُّرابِ، فذكَرَ طَورَه الأوَّلَ بقَولِه: مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ بُلَّ فصارَ طِينًا لازِبًا، ثم خُمِّرَ فصار حمَأً مسنونًا، ثمَّ يَبِسَ فصار صَلصالًا كالفَخَّارِ [910] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 131). ، فثبَت أنَّه لا منافاةَ بينَ الكلِّ [911] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/409)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (9/173، 174). .
5- في قولِه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ إثباتُ الأفعالِ للهِ تعالَى، وبيانُ أنَّ أفعالَه تَتعلَّقُ بمَشيئتِه؛ لأنَّ «إذا» شَرطيةٌ تُفيدُ المُستقبَلَ [912] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 244). .
6- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ يدُلُّ على تَفخيمِ شأنِ آدَمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه تعالَى خلَقَ ما خلَقَ مِن الكَونَينِ (العلويِّ والسفليِّ)، والجنَّةِ والنَّارِ، والعَرشِ والكُرسيِّ، والملائِكةِ، ولم يَقُلْ في صِفةِ شَيءٍ منها ما قاله في صِفةِ آدَمَ -عليه السَّلامُ- وأولادِه، ولم يأمُرْ بالسُّجودِ لِشَيءٍ غَيرِه [913] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/419). .
7- في قَولِه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ جوازُ تعليقِ الأمرِ بالشَّرطِ، أي: إذا جازَ تعليقُ الأمرِ بالشرطِ؛ فإنَّ المأمورَ به يمكنُ أنْ يَنْفُذَ فيه الشَّرطُ؛ ولهذا قال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ لِضُبَاعَةَ بنتِ الزبيرِ -وقد اشتكَتْ إليه عِندَ إرادةِ الحجِّ- قال: ((حُجِّي واشترطي، قولي: اللهمَّ مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَنِي )) [914] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 245). والحديث أخرجه البخاري (5089) واللفظ له، ومسلم (1207) من حديثِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها. .
8- في قَولِه تعالَى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي تَشريفُ الرُّوحِ التي نُفِخَتْ في آدَمَ عليه السَّلامُ، وهذا تَشريفٌ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ هو الذي نَفَخَها، ولم يأمُرْ أحدًا مِن الملائِكةِ بنَفخِها.
والثَّاني: أنَّ اللهَ أضاف هذه الرُّوحَ إلى نَفسِه المُقَدَّسةِ [915] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 245). .
9- قَولُ اللهِ تعالَى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فيه سُؤالٌ: كيف ساغ السُّجودُ لِغَيرِ اللهِ تعالى؟
الجوابُ: أنَّ السَّجدةَ كانتْ لآدمَ عليه السَّلامُ تَعظيمًا له وتَحِيَّةً له، كالسَّلامِ منهم عليه، وقدْ أجْمَع المسلمونَ على أنَّ ذلك السُّجودَ ليس سُجودَ عِبادةٍ [916] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (2/427). .
وأيضًا فالأصلُ أنَّ سُجودَ الملائِكةِ لآدَمَ كان على الجَبهةِ، ولَمَّا وقَع ذلك امتِثالًا لأمْرِ اللهِ كان طاعةً مِن الطَّاعاتِ، كما أنَّ قَتْلَ النَّفسِ بغيرِ حَقٍّ مِن كَبائرِ الذُّنوبِ، لكِنْ لَمَّا أُمِرَ إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذَبحِ ابنِه فامتَثَل أمْرَ اللهِ، وشَرَع في تنفيذِ الذَّبحِ؛ صار طاعةً [917] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 88-89). .
10- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ في قَولِه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ جوازُ تَوَجُّهِ الأمْرِ -الخِطابِ- إلى العُمومِ، وإنْ كان فيهم مِن غَيرِ جِنسِهم؛ فإنَّ إبليسَ -بلا شَكٍّ- مِن غيرِ الملائِكةِ أصلًا ونِهايةً، لكِنَّه كان فيهم؛ فصَحَّ أنْ يَتَوَجَّه الخِطابُ إليه، وهذا ظاهِرٌ. لو أنَّك أمَرْتَ جماعةً بالسُّجودِ وفيهم مَن ليس منهم، ولكِنَّه على صِفتِهم ويَعمَلُ بعَمَلِهم، فتَخَلَّفَ، لا بُدَّ أنْ تَلومَه؛ لأنَّ الخِطابَ مُوَجَّهٌ للجَميعِ [918] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 246). .
11- قولُه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فيه أنَّ الاستكبارَ عن أمْرِ اللهِ كُفْرٌ؛ فمعنَى قولِه: اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أي: جزاءً لاستكبارِه كان مِن الكافِرين [919] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 246). ؟
12- في قَولِه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ أنَّ كلامَ اللهِ تعالَى يَتعلَّقُ بمَشيئتِه؛ حيثُ صَدَّرَ هذا القولَ بعْدَ استِكبارِ إبليسَ وتَركِه السُّجودَ [920] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 247). .
13- قَولُ الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ قد يَستَدِلُّ به مَن رأى أنَّ (لا) في قَولِه تعالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] زائدةٌ؛ حيثُ سقَطَتْ هنا، والقِصَّةُ واحِدةٌ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (16/454). .
14- قال تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ كُلُّ مَن رَدَّ نُصوصَ الوَحيِ بالأقيِسَةِ فسَلَفُه في ذلك إبليسُ [922] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/33). .
15- قَولُه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فيه إثباتُ اليَدَينِ للهِ تعالَى؛ لِقَولِه تعالَى: بِيَدَيَّ، وهذه صِيغةُ تَثنيةٍ تُفيدُ أنَّ للهِ تعالَى يَدينِ اثنتَينِ تَليقُ بجلالِه [923] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 247). .
16- في قَولِه تعالَى: بِيَدَيَّ الرَّدُّ على أهلِ التَّعطيلِ الذين قالوا: إنَّ المرادَ باليَدِ النِّعمةُ أو القوَّةُ؛ وذلك أنَّ النِّعمةَ أو القُوَّةَ لا تأتي بصِيغةِ التَّثنيةِ؛ لأنَّ صِيغةَ التَّثنيةِ تدُلُّ على الحَصرِ؛ وقوةُ اللهِ غيرُ مَحصورةٍ، ونِعَمُه أيضًا غيرُ محصورةٍ؛ قال تعالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [924] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 247). قال ابنُ القيِّم: (لا ريبَ أنَّ العرَبَ تقولُ: لفُلانٍ عِندي يَدٌ، وقال عُروةُ بنُ مَسعودٍ للصِّدِّيقِ: «لولا يدٌ لك عندي لم أَجْزِك بها لأجَبْتُك». ولكِنْ وقوعُ اليدِ في هذا التركيبِ الذي أضاف سُبحانَه فيه الفِعلَ إلى نفْسِه، ثمَّ تعدَّى الفِعلَ إلى اليَدِ بالباءِ التي هي نظيرُ: كَتبتُ بالقَلَمِ، وهي اليَدُ، وجَعْلُ ذلك خاصَّةً خَصَّ بها صَفيَّه آدَمَ دونَ البشَرِ، كما خَصَّ المسيحَ بأنَّه نَفَخ فيه مِن رُوحِه، وخَصَّ موسى بأنَّه كَلَّمه بلا واسِطةٍ: فهذا مِمَّا يُحيلُ تأويلَ اليَدِ في النَّصِّ بالنِّعمةِ، وإنْ كانتْ في تركيبٍ آخَرَ تَصلُحُ لذلك؛ فلا يلزَمُ مِن صلاحِيةِ اللَّفظِ لِمعنًى ما في تركيبٍ صلاحيتُه له في كلِّ تركيبٍ). ((الصواعق المرسلة)) (1/193). [النحل: 18] .
17- في قَولِه تعالى: بِيَدَيَّ أنَّ يَدَ اللهِ تعالى لا تُماثِلُ أيديَ المخلوقينَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أضافَها إلى نَفسِه، والمضافُ يكونُ حَسَبَ المضافِ إليه، فكما أنَّ ذاتَ اللهِ مُقَدَّسةٌ لا تُماثِلُ ذواتِ المَخلوقينَ كذلك صِفاتُه [925] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 247). .
18- قَولُه تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ فيه استِعمالُ الحَصْرِ -أو كما يقولون: السَّبرُ والتَّقسيمُ [926] السَّبْرُ والتَّقسيمُ: هو حصْرُ الأوصافِ في الأصلِ المَقيسِ عليه وإبطالُ بعضِها ممَّا لا يَصلُحُ للتَّعليلِ، فيَتعيَّنُ الباقي للعِلِّيَّةِ. والتَّقسيمُ يكونُ قبْلَ السَّبرِ؛ لأنَّه تَعدادُ الأوصافِ الَّتي يُتَوهَّمُ صَلاحيتُها للتَّعليلِ ثمَّ يَسْبُرُها، أي: يَختبِرُها ليميزَ الصَّالحَ للتَّعليلِ مِن غيرِه. يُنظر: ((الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب)) للبابرتي (2/530)، ((التحبير شرح التحرير)) للمرداوي (7/3352). - في المناظَرةِ والمجادَلةِ؛ فمعنَى الآيةِ: هل أنتَ استكبَرْتَ في نَفسِك، وأنتَ لستَ أهلًا للعُلُوِّ؟ أو كنتَ عاليًا في أصلِكَ حتى تَمتَنِعَ عن السُّجودِ؟ أمْ أنتَ أكبَرُ وفي مَرتبةٍ عاليةٍ أعْلى مِن آدمَ حتى تَمتَنِعَ عن السُّجودِ [927] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 247). ؟
19- حُجَّةُ إبليسَ في قولِه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هي حُجَّةٌ باطلةٌ؛ لأنَّه عارضَ النصَّ بالقِياسِ [928] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/5). وذكَر ابنُ تيميةَ أنَّ حُجةَ إبليس فاسدةٌ بالعقلِ، وذلك مِن خَمسةِ وجوهٍ: أحدُها: أنَّه ادَّعَى أنَّ النارَ خيرٌ مِن الطينِ! وهذا قدْ يُمْنَعُ؛ فإنَّ الطينَ فيه السَّكينةُ والوقارُ والاستقرارُ والثباتُ والإمساكُ ونحو ذلك؛ وفي النارِ الخِفَّةُ والحِدَّةُ والطَّيْشُ! والطِّينُ فيه الماءُ والترابُ. الثاني: أنَّه -وإنْ كانتِ النارُ خيرًا مِن الطِّينِ- فلا يجبُ أنْ يكونَ المخلوقُ مِن الأفضلِ أفضلَ؛ فإنَّ الفرعَ قد يَخْتَصُّ بما لا يكونُ في أصلِه، وهذا الترابُ يُخْلَقُ منه مِن الحيوانِ والمعادنِ والنباتِ ما هو خيرٌ منه، والاحتجاجُ على فَضْلِ الإنسانِ على غيرِه بفضلِ أصلِه على أصلِه! حُجَّةٌ فاسدةٌ احتجَّ بها إبليسُ، وهي حُجَّةُ الذين يَفْخَرون بأنسابهم. الثالثُ: أنه -وإنْ كان مخلوقًا مِن طِينٍ- فقد حَصَلَ له بنفخِ الرُّوحِ المُقَدَّسَةِ فيه ما شَرُفَ به؛ فلهذا قال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فعَلَّق السُّجودَ بأنْ يُنْفَخَ فيه مِن رُوحِه، فالموجِبُ للتفضيلِ هذا المعنى الشريفُ الذي ليس لإبليسَ مثلُه. الرابعُ: أنه مخلوقٌ بيدي اللهِ تعالى، كما قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. الخامسُ: أنَّه لو فُرِضَ أنَّه أَفْضَلُ؛ فقد يُقالُ: إكرامُ الأفضلِ للمفضولِ ليس بمُستنكَرٍ! يُنظر: ((المصدر السابق)). قال الشوكاني: (علَّل ما ادَّعاه مِن كَونِه خَيرًا منه، بقَولِه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وفي زَعمِه أنَّ عُنصُرَ النَّارِ أشرَفُ مِن عنصُرِ الطِّينِ! وذهَبَ عنه أنَّ النَّارَ إنَّما هي بمنزلةِ الخادِمِ لعُنصُرِ الطِّينِ؛ إن احتِيجَ إليها استُدعِيَت كما يُستدعَى الخادِمُ، وإن استُغنِيَ عنها طُرِدَت، وأيضًا فالطِّينُ يَستولي على النَّارِ فيُطفِئُها، وأيضًا فهي لا تُوجَدُ إلَّا بما أصلُه مِن عُنصُرِ الأرضِ؛ وعلى كُلِّ حالٍ فقد شَرُفَ آدَمُ بشَرَفٍ وكَرُمَ بكَرامةٍ لا يُوازيها شَيءٌ مِن شَرَفِ العناصِرِ؛ وذلك أنَّ اللهَ خلَقَه بيَديه، ونَفَخَ فيه مِن رُوحِه! والجواهِرُ في أنفُسِها مُتجانِسةٌ، وإنَّما تَشُرُف بعارِضٍ مِن عوارِضِها). ((تفسير الشوكاني)) (4/511). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/304، 305)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/33)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/121). .
20- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ الإنسانَ قدْ يَعمَى عن الحَقِّ، فيَستَدِلُّ بما هو حُجَّةٌ عليه، يَظُنُّ أنَّه حُجَّةٌ له؛ وذلك أنَّ أهلَ العلمِ ذكَروا في هذا المقامِ بيانَ أنَّ ما خُلِقَ منه آدَمُ خَيرٌ ممَّا خُلِقَ منه إبليسُ [929] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 240، 248). .
21- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ إبليسَ أعلَمُ بحَقائِقِ صِفاتِ اللهِ تعالَى مِن كَثيرٍ مِن أهلِ التَّعطيلِ؛ فالذين فَسَّروا اليدَ بالقُوَّةِ هنا لو كان تَفسيرُهم صَحيحًا لقال إبليسُ: «يا رَبِّ، وأنا خلَقْتَني بيدَيكَ»؛ لأنَّ اللهَ خَلَقَ إبليسَ بقُوَّتِه كما خَلَقَ آدَمَ، لكِنَّ إبليسَ فَهِمَ أنَّ المرادَ باليدِ غيرُ القُوَّةِ؛ ولهذا لم يَنْقُضْ فَضيلةَ آدمَ بأنَّه هو خُلِقَ بيَدِ اللهِ [930] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 249). .
22- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ احتُجَّ به في مَسألةِ أنَّ الكُلَّ بقَضاءِ اللهِ، فهو إخبارٌ مِن اللهِ تعالى بأنَّ إبليسَ لا يُؤمِنُ، فلو آمَنَ لانقلبَ خبَرُ اللهِ الصِّدقُ كَذِبًا، وهو مُحالٌ؛ فكان صُدورُ الإيمانِ منه مُحالًا مع أنَّه أُمِرَ به [931] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/416). .
23- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أنَّ اللهَ قد يُقَدِّرُ أسبابَ الشَّرِّ لحِكمةٍ، وذلك بإجابةِ دُعاءِ إبليسَ أنْ يُنظِرَه إلى يومِ الوَقتِ المعلومِ، وإبليسُ لا شكَّ أنَّه مَبدَأُ كُلِّ شَرٍّ، ولكِنَّ اللهَ تعالى أبقاه لحِكمةٍ عَظيمةٍ، ولولا بقاءُ إبليسَ ما وُجِدَ عاصٍ في الأرضِ، وإذا انتفَى العِصيانُ صارَ الناسُ أُمَّةً واحِدةً، ولم يكنِ الإيمانُ مَزيَّةً، ولم يكنْ جِهادٌ، ولا أمرٌ بالمعروفِ، ولا نهيٌ عن المُنكَرِ، ولو كان النَّاسُ أُمَّةً واحدةً لتَعطَّلَ كثيرٌ مِن شَعائرِ الإسلامِ؛ فكان مِن الحِكمةِ بقاءُ إبليسَ، وبقاءُ ما يَدعو إليه إبليسُ [932] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 250). .
24- في قَولِه تعالى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ إنْ قال قائِلٌ: فهل أحَدٌ مُنظَرٌ إلى ذلك اليومِ سِوى إبليسَ، فيُقالَ له: إنَّك منهم؟
 الجوابُ: نعمْ، مَن لم يَقبِضِ اللهُ رُوحَه مِن خَلْقِه إلى ذلك اليَومِ مِمَّن تقومُ عليه السَّاعةُ؛ فهُم مِن المُنظَرينَ بآجالِهم إليه؛ ولذلك قيل لإبليسَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف: 15] ، بمعنى: إنَّك مِمَّن لا يُميتُه اللهُ إلَّا ذلك اليومَ [933] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/91). .
25- قال تعالى حكايةً عن إبليسَ: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ والعِزَّةُ: القَهرُ والسُّلطانُ، وعِزَّةُ اللهِ هي العِزَّةُ الكامِلةُ التي لا تَختَلُّ حَقيقَتُها، ولا يَتَخلَّفُ سُلطانُها. وأقسَمَ الشَّيطانُ بعِزَّةِ اللهِ؛ تَحقيقًا لقِيامِه بالإغواءِ دُونَ تَخلُّفٍ، وإنَّما أقسَمَ على ذلك وهو يَعلَمُ عَظمةَ هذا القَسَمِ؛ لِأنَّه وَجَدَ في نَفْسِه أنَّ اللهَ أقدَرَه على القِيامِ بالإغواءِ والوَسوَسةِ، وقد قال في سُورةِ (الحِجرِ): رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، وقَسَمُ إبليسَ بها ناشِئٌ عن عِلْمِه بأنَّه لا يَستَطيعُ الإغواءَ إلَّا لِأنَّ اللهَ أقدَرَه، ولولا ذلك لم يَستَطِعْ نَقضَ قُدرةِ اللهِ تَعالى [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/306). .
26- في قَولِه تعالَى عن إبليسَ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ دَلالةٌ على أنَّ لَفظَ «الغَيِّ» إذا أُطلِقَ تناولَ كلَّ مَعصيةٍ للهِ [935] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/167). .
27- قَولُ اللهِ تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يدُلُّ على أنَّ إبليسَ لا يُغوي عِبادَ اللهِ المُخلَصينَ، وقال تعالَى في صِفةِ يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] ؛ فيُستفادُ مِن مَجموعِ هاتينِ الآيتَينِ أنَّ إبليسَ ما أغْوَى يوسُفَ عليه السَّلامُ، وذلك يدُلُّ على كذِبِ ما نُسِبَ إلى يوسُفَ عليه السَّلامُ مِن القَبائِحِ [936] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/415). .
28- قَولُ اللهِ تعالَى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي: الذين أخلَصَهم اللهُ تعالَى لطاعتِه، فأخلَصوا قَصْدَهم لها، وعُرِفَ مِن الاستِثناءِ أنَّهم قَليلٌ، وأنَّ الغُواةَ هم الأصلُ [937] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/427). .
29- في قَولِه تعالى: وَالْحَقَّ أَقُولُ أنَّ كلَّ ما قَدَّرَه اللهُ تعالى فهو حَقٌّ -سواءٌ كان ملائمًا للبشرِ أو غيرَ ملائمٍ-، وجهُ ذلك: أنَّ كلَّ شيءٍ قَدَّرَه اللهُ كائنٌ بقوله: «كُنْ»، و «كُنْ» قولٌ، فإذا كان كُلُّ ما قاله اللهُ حَقًّا لَزِمَ أنْ يكونَ كلُّ ما قضاه حَقًّا، وهو كذلك، ولهذا قال النَّبِيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الخيرُ كلُّه في يديك؛ والشَّرُّ ليس إليك)) [938] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 252). والحديث أخرجه مسلم (771) مطوَّلًا، من حديثِ عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه. .
30- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ المرادُ: الجِنسُ، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ المرادُ: النَّاسُ الذين أقسَمْتَ أنْ تُغويَهم؛ ولهذا كانتِ النَّارُ دارًا لصِنفَينِ مِن المخلوقاتِ فقط، وهما الجِنُّ والإنسُ؛ فالملائكةُ ليسُوا مِن أهلِها، والوُحوشُ والحشَراتُ وغيرُها ليسوا مِن أهلِها [939] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 243). .
31- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ مَن لم يُكَلَّفْ في الدُّنيا مِن الصِّبيانِ والمجانينِ، ومَن مات في الفَترةِ: لا يُحكَمُ لهم بالنَّارِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه أقسَمَ أنَّه لا بُدَّ أنْ يَملَأَ جَهنَّمَ مِن إبليسَ وأتْباعِه -وأتْباعُه همُ العُصاةُ- ولا مَعصيةَ إلَّا بعدَ التَّكليفِ؛ فلو دَخَلَها الصَّبيُّ والمجنونُ لدَخَلَها مَن هو مِن غيرِ أتباعِه؛ فلم تَمتَلئْ منهم [940] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 643). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعالى نَبيَّه صَلَواتُ اللهِ عليه بأنْ يَقولَ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أيْ: هذا الذي أنبَأتُكم به مِن كَوْني رَسولًا مُنذِرًا، وأنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَريكَ له، وقَهَّارٌ ومالِكٌ لِلعالَمينَ، وعَزيزٌ غَفَّارٌ، وأدمَجَ فيه مَعنى العِبادةِ، وأنَّه تَعالى ما خَلَقَ الخَلقَ إلَّا لِيُعبَدَ ويُعرَفَ، وأرادَ أنْ يُعَظِّمَ ذلكَ؛ فأمَرَ نَبيَّه صَلَواتُ اللهِ عليه بأنْ يُعَظِّمَه ثانيًا ويَقولَ: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص: 69] ، أيْ: بفَضلِ هذا واختِصاصِه ببَني آدَمَ واختِصامِ المَلائِكةِ فيه، واغتِباطِهم لِلبَشَرِ، وما أُمِروا بالسُّجودِ لِآدَمَ إلَّا لِتِلكَ الكَراماتِ والفَضائِلِ، إلَّا أنَّ اللهَ تَعالى أعلَمَني بالوَحيِ وأمَرَني بالدَّعوةِ فيه، والإنذارِ لِمَنِ امتَنَعَ منه؛ فيَكونُ قَولُه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ مُستَطردًا لِحَديثِ الخُصومةِ في فَضائِلِ البَشَرِ؛ لِمَا فيه مِنَ التَّكرِمةِ لِآدَمَ مِن كَونِه مَسجودًا لِلمَلائِكةِ، واللهُ أعلَمُ [941] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/319). .
- وهو شُروعٌ في تَفصيلِ ما أُجمِلَ مِنَ الاختِصامِ، الذي هو ما جرَى بَينَهم مِنَ التَّقاوُلِ، وحيثُ كان تَكليمُه تَعالى إيَّاهم بواسِطةِ المَلَكِ صَحَّ إسنادُ الاختِصامِ إلى المَلائِكةِ، والقِصَّةُ التي دَخَلتْ (إذْ) عليها مُشتَمِلةٌ على تَقاوُلِ المَلائِكةِ وإبليسَ في خَلقِ آدَمَ عليه السَّلامُ، واستِحقاقِه لِلخِلافةِ والسُّجودِ، غَيرَ أنَّها اختُصِرتِ؛ اكتِفاءً بذلك، واقتِصارًا على ما هو المَقصودُ منها، وهو وَعظُ المُشرِكينَ وإنذارُهم على استِكبارِهم على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمِثلِ ما حاقَ بإبليسَ على استِكبارِه على آدَمَ عليه السَّلامُ [942] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/34)، ((تفسير أبي السعود)) (7/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/301). .
- قَولُه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ فيه التَّعرُّضُ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِتَشريفِه، والإيذانِ بأنَّ وَحيَ هذا النَّبَأِ إليه تَربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والكافُ وارِدٌ باعتِبارِ حالِ الآمِرِ؛ لِكَونِه أدَلَّ على كَونِه وَحيًا مُنزَّلًا مِن عِندِه تَعالى، كما في قَولِه تَعالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، دُونَ حالِ المَأمورِ، وإلَّا لَقيلَ: رَبِّي؛ لِأنَّه داخِلٌ في حَيِّزِ الأمْرِ [943] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/235). .
- وفي قَولِه: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا ما ليسَ في صِيغةِ المُضارِعِ؛ مِنَ الدَّلالةِ على أنَّه تَعالَى فاعِلٌ له البَتَّةَ، مِنْ غَيرِ صارِفٍ يَلويهِ، ولا عاطِفٍ يَثْنيهِ [944] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/235). .
- قولُه: مِنْ طِينٍ نَعتٌ لِكَلِمةِ بَشَرًا، وقد أغْنى بهذا الوَصفِ عنِ النُّعوتِ البَشريَّةِ كُلِّها، وتِلك هي بَراعةُ الإيجازِ [945] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/381). .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
- فَإِذَا سَوَّيْتُهُ التَّسويةُ: تعديلُ ذاتِ الشيءِ، وقدْ أُطلِقتْ هنا على اعتِدالِ العناصِرِ فيه واكتمالِها بحيثُ صارتْ قابلةً لنَفْخِ الرُّوحِ [946] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/44). .
- قَولُه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي إضافةُ الرُّوحِ إلى اللهِ؛ لِشَرَفِ الإنسانِ وطَهارَتِه [947] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/34). .
3- قولُه تعالَى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
- اللَّامُ في الْمَلَائِكَةُ لِلاستِغراقِ، دَخَلتْ على صِيغةِ الجَمعِ؛ فتُفيدُ الشُّمولَ، ثم أكَّدَ بقَولِه: كُلُّهُمْ؛ لِدَفعِ تَوهُّمِ غَيرِ الشُّمولِ والإحاطةِ، وأَجْمَعُونَ لِلاجتِماعِ، فأفادَا مَعًا أنَّهم سَجَدوا عن آخِرِهم، ما بَقِيَ منهم مَلَكٌ إلَّا سَجَدَ، وأنَّهم سَجَدوا جَميعًا في وَقتٍ واحِدٍ، غَيرَ مُتَفرِّقينَ في أوقاتٍ، على أنَّ مُطلَقَ الأمْرِ في هذا المَقامِ لا يُفيدُ إلَّا الفَورَ [948] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/105)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/320)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/382). .
- قَولُه: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، أيْ: فخَلَقَه فسَوَّاه فنَفَخَ فيه الرُّوحَ، فسَجَدَ له المَلائِكةُ كلُّهمْ، بحيثُ لم يَبْقَ منهم أحَدٌ إلَّا سَجَدَ أَجْمَعُونَ، أيْ: بطَريقِ المَعيَّةِ، بحَيثُ لم يَتأخَّرْ في ذلك أحَدٌ منهم عن أحَدٍ، ولا اختِصاصَ لِإفادةِ هذا المَعنى بالحاليَّةِ، بلْ يُفيدُ التَّأكيدَ أيضًا. وقيلَ: أُكِّدَ بتَأكيدَيْنِ؛ مُبالَغةً في التَّعميمِ هذا [949] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/236). .
4- قولُه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وَقَعَ في سُورةِ (الحِجرِ): إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [الحجر: 31] ، وفي هذه السُّورةِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ، فيَكونُ ما في هذه الآيةِ يُبيِّنُ الباعِثَ على الإبايةِ، ووَقَعتْ هنا زِيادةُ: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وهي بَيانٌ لِكَونِ المُرادِ في سُورةِ (الحِجرِ) مِن قَولِه: أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] ، الإبايةَ مِنَ الكَونِ مِنَ السَّاجِدينَ للهِ، أيْ: المُنَزِّهينَ اللهَ عنِ الظُّلمِ والجَهلِ [950] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/105)، ((تفسير أبي حيان)) (9/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/301). .
- قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ استِثناءٌ مُتَّصِلٌ؛ لِمَا أنَّه كانَ جِنِّيًّا مُفرَدًا مَغمورًا بأُلوفٍ مِنَ المَلائِكةِ، مَوصُوفًا بصِفاتِهم، فغُلِّبُوا عليه، ثم استُثنيَ استِثناءَ واحدٍ منهم، أو مُنقَطِعٌ. وقولُه تعالَى: اسْتَكْبَرَ على الأوَّلِ استِئنافٌ مُبيِّنٌ لِكَيفيَّةِ تَركِ السُّجودِ المَفهومِ مِنَ الاستِثناءِ؛ فإنَّ تَركَه يحتمِلُ أنْ يَكونَ لِلتَّأمُّلِ والتَّروِّي، وبه يَتحَقَّقُ أنَّه لِلإباءِ والاستِكبارِ، وعلى الثَّاني يَجوزُ اتِّصالُه بما قَبلَه، أيْ: لكِنَّ إبليسَ استَكبَرَ [951] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/105)، ((تفسير أبي السعود)) (7/236)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/382). .
- قَولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الآيةُ مِن الاحتِباكِ [952] الاحْتِباك: هو الحذْفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذْفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القُرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذكَرَ فِعلَ الاستِكبارِ أولًا دَليلًا على فِعلِ الكُفرِ ثانيًا، ووَصَف الكُفرَ ثانيًا دَليلًا على وَصْفِ الاستِكبارِ أوَّلًا، وسِرُّ ذلك: أنَّ ما ذكَرَه أقعَدُ في التَّحذيرِ بأنَّ مَن وقَع منه كِبرٌ جرَّه إلى الكُفرِ [953] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/421). .
5- قولُه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ
- في قَولِه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَبَّرَ عن آدَمَ باسمِ (ما) المَوصولةِ، وهو حينَئذٍ إنسانٌ؛ لِأنَّ سُجودَ المَلائِكةِ لِآدَمَ كان بَعدَ خَلقِه وتَعليمِه الأسماءَ، كما في سُورةِ البَقَرةِ [954] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/303). . وقيل: كأنَّه يقولُ سبحانَه: لِمَ عصيتني وتَكَبَّرْتَ على ما لم تَخْلُقْه وخلقتُه أنا وشَرَّفْتُه؛ وأمَرْتُك بالسُّجودِ له؟ فهذا موضِعُ «ما»؛ لأنَّ معناها أبلغُ؛ ولفْظُها أعَمُّ، وهو في الحُجَّةِ أوقعُ؛ وللعُذرِ والشُّبهةِ أَقْطَعُ، فلو قال: ما منَعَك أنْ تسجُدَ لـ «مَن» خلقتُ؟ لكان استِفهامًا مجرَّدًا مِن تَوبيخٍ وتَبكيتٍ، ولَتُوُهِّمَ أنَّه وَجَب السُّجودُ له مِن حيثُ كان يَعْقِلُ؛ ولعلَّه موجودٌ في ذاتِه وعيْنِه! وليس المرادُ كذلك، وإنَّما المرادُ توبيخُه وتبكيتُه على ترْكِ سُجودِه لِمَا خَلَقَ اللهُ وأَمَرَه بالسُّجودِ له؛ ولهذا عَدَلَ عن اسمِ آدمَ العَلَمِ معَ كونِه أخَصَّ؛ وأتَى بالاسمِ الموصولِ الدَّالِّ على أنَّ جِهةَ التشريفِ المقتضيةَ لسجودِه له؛ كونُه خَلَقه بيديه، وأنتَ لو وضعتَ مكانَ «ما» لفظةَ «مَن» لَمَا رأيتَ هذا المعنى المذكورَ في الصِّلَةِ! وأنَّ «ما» جِيءَ بها وصلةً إلى ذِكْرِ الصِّلَةِ، فتأمَّلْ ذلك؛ فلا معنى -إذنْ- للتعيين بالذِّكْرِ! إذْ لو أُرِيْدَ التعيينُ لكان بالاسمِ العَلَمِ أَوْلَى وأَحْرَى [955] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/132). .
- والهَمزةُ في قَولِه: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، للإنكارِ التَّوبيخيِّ، وقيلَ: لِلتَّقريرِ، ويَحتَمِلُ أنْ تَكونَ الجُملةُ إخبارًا، خُوطِبَ بذلك على سَبيلِ التَّقريعِ، والمَعنى: بلْ أنتَ مِنَ العالينَ عِندَ نَفسِكَ؛ استِخفافًا به، وفيه مَزيدٌ مِنَ الإنكارِ على إبليسَ، ومَزيدٌ مِنَ التَّوبيخِ، فجَمَعه وأدخَلَه في زُمرةِ العالينَ [956] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/106، 107)، ((تفسير البيضاوي)) (5/34)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/325)، ((تفسير أبي حيان)) (9/174، 175)، ((تفسير أبي السعود)) (7/236)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/383). ؟
6- قولُه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هذا إبداءٌ لِلمانِعِ مِنَ السُّجودِ، أيْ: لو كانَ مَخلوقًا مِن نارٍ لَمَا سَجَدْتُ له؛ لأنَّه مَخلوقٌ مِثلي؛ فكيف أسجُدُ لِمَن هو دُوني؛ لِأنَّه مِن طِينٍ، والنارُ تَغلِبُ الطِّينَ وتأكُلُه؟ وقد جَرَتِ الجُملةُ الثانيةُ مِنَ الأُولى -وهي خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ- مَجرى المَعطوفِ عَطْفَ البَيانِ مِنَ المَعطوفِ عليه في البَيانِ والإيضاحِ؛ فهي دَليلٌ على المانِعِ لإبليسَ مِنَ السُّجودِ في ظَنِّه، ولم يَرِدْ في القُرآنِ أنَّ اللهَ رَدَّ عليه هذا التَّأصيلَ؛ لأنَّه أحقَرُ مِن ذلك، فلَعَنَه وطَرَدَه؛ لأنَّه ادَّعى باطِلًا، وعَصَى رَبَّه استِكبارًا، وطَردُه أجمَعُ؛ لإبطالِ عِلْمِه، ودَحْضِ دَليلِه [957] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/107)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/303). .
- وقَولُه: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ادِّعاءٌ مِن إبليسَ -عليه اللَّعنةُ- لِشَيءٍ مُستَلزِمٍ لِمَنعِه مِنَ السُّجودِ على زَعمِه، وإشعارٌ بأنَّه لا يَليقُ أنْ يَسجُدَ الفاضِلُ لِلمَفضولِ كما يُعرِبُ عنه قَولُه: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [958] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237). [الحجر: 33] .
- وقَولُه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تَعليلٌ لِمَا ادَّعاهُ مِن فَضلِه علَيهِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ولقد أخطَأ اللَّعينُ حيثُ خَصَّ الفَضلَ بما مِن جِهةِ المادَّةِ والعُنصُرِ -مع أنَّ عنصرَ آدَمَ أفضَلُ-، وزَلَّ عنه ما مِن جِهةِ الفاعِلِ، كَمَا أنبَأ عَنْهُ قَولُه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وما مِن جِهةِ الصُّورةِ، كما نَبَّه عليه قَولُه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وما مِن جِهةِ الغايةِ، وهو مِلاكُ الأمْرِ؛ ولذلك أُمِرَ المَلائِكةُ بسُجودِهم عليهمُ السَّلامُ، حين ظَهَر لهم أنَّه أعلَمُ منهم بما يَدورُ عليه أمْرُ الخِلافةِ في الأرضِ، وأنَّ له خَواصَّ ليستْ لِغَيرِه [959] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/383). .
7- قولُه تعالَى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
- ضَميرُ قَالَ عائِدٌ إلى اللهِ تَعالَى، على طَريقةِ حِكايةِ المُقاوَلاتِ، وفَرَّعَ أمْرَه بالخُروجِ مِنَ الجَنَّةِ بالفاءِ على ما تَقدَّمَه مِنَ السُّؤالِ والجَوابِ؛ لِأنَّ جَوابَه دَلَّ على كَونِ خُبثٍ في نَفْسِه بَدَتْ آثارُه في عَمَلِه، فلم يَصلُحْ لِمُخالَطةِ أهلِ المَلَأِ الأعلَى [960] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305). .
- وقَولُه: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ تَعليلٌ لِلأمْرِ بالخُروجِ، أيْ: مَطرودٌ مِن كُلِّ خَيرٍ وكَرامةٍ؛ فإنَّ مَن يُطرَدُ يُرجَمُ بالحِجارةِ، أو شَيطانٌ يُرجَمُ بالشُّهُبِ [961] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237). . وقيل غيرُ ذلك.
8- قولُه تعالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
- اللَّعنةُ: الإبعادُ مِن رَحمةِ اللهِ، وأُضيفَ إلى اللهِ لِتَشنيعِ مُتَعلَّقِها، وهو المَلعونُ؛ لِأنَّ المَلعونَ مِن جانِبِ اللهِ هو أشنَعُ مَلعونٍ. وتَقييدُ اللَّعنةِ بالإضافةِ مع إطلاقِها في قَولِه: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 35] ؛ لِمَا أنَّ لَعنةَ اللَّاعِنينَ مِنَ المَلائِكةِ والثَّقَلَينِ أيضًا مِن جِهتِه تَعالى، وأنَّهم يَدْعُونَ عليه بلَعنةِ اللهِ تَعالى، وإبعادِه مِنَ الرَّحمةِ [962] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/175)، ((تفسير أبي السعود)) (7/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305). .
- قَولُه: إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أيْ: إلى يَومِ الجَزاءِ والعُقوبةِ، وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كَمالِ فَظاعَتِها ليستْ جَزاءً لِجِنايَتِه، بل هي أُنموذجٌ لِمَا سَيَلقاه مُستَمِرًّا إلى ذلك اليَومِ، لكِنْ لا يَدُلُّ على أنَّ غايةَ لَعنةِ اللهِ تَعالى لِإبليسَ إلى يَومِ القِيامةِ، ثم تَنقَطِعُ عنه اللَّعنةُ بقيامِ القِيامةِ، وكيف تَنقَطِعُ وقدْ قال تَعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] ، وإبليسُ أظلَمُ الظَّلَمةِ؟ والمُرادُ أنَّ عليه اللَّعنةَ طُوالَ مُدَّةِ الدُّنيا، فإذا كان يَومُ القِيامةِ اقتَرَنَ له باللَّعنةِ مِن أنواعِ العَذابِ ما يَنسَى معه اللَّعنةَ؛ فكَأنَّها انقَطَعتْ. ويَتعَلَّقُ بذلك ثَلاثُ عِباراتٍ: يَوْمِ الدِّينِ وهو: يَومُ الجَزاءِ، ويَوْمِ يُبْعَثُونَ [الشعراء: 87] وهو يَومُ الحَشرِ، و يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] وهو الوَقتُ الذي فيه النَّفخةُ الأُولى، ولا ارتيابَ أنَّ إغواءَه إنَّما يَنتَهي إلى آخِرِ أيَّامِ التَّكليفِ، وهو الوَقتُ المَعلومُ؛ ولِهذا لَمَّا طَلَبَ الإغواءَ إلى يَومِ البَعثِ أُجيبَ إلى يَومِ الوَقتِ المَعلومِ، واختِصاصُ يَومِ الدِّينِ؛ لِأجْلِ أنَّ الجَزاءَ والعَذابَ إنَّما يُبتَدآنِ منه [963] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/108)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/327)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 490)، ((تفسير أبي السعود)) (7/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305). .
9- قولُه تعالَى: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
- قولُه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي، أيْ: أمهِلْني وأخِّرْني، والفاءُ مُتَعلِّقةٌ بمَحذوفٍ يَنسَحِبُ عليه الكَلامُ، أيْ: إذا جَعَلتَني رَجيمًا فأمهِلْني ولا تُمِتْني إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [964] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237). .
- قَولُه: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وُرودُ الجَوابِ بالجُملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لِشُمولِ ما سَألَه لِآخَرينَ على وَجهٍ يُشعِرُ بكَونِ السَّائلِ تَبعًا لهم في ذلك؛ دَليلٌ واضِحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المُقَدَّرِ لهم أزَلًا، لا إنشاءً لإنظارٍ خاصٍّ به قد وَقَعَ إجابةً لِدُعائِه، وأنَّ استِنظارَه كانَ طَلَبًا لِتأخيرِ المَوتِ؛ إذْ بهِ يَتحقَّقُ كَونُه منهم، لا لِتأخيرِ العُقوبةِ كما قيلَ؛ فإنَّ ذلكَ مَعلومٌ مِن إضافةِ اليَومِ إلى الدِّينِ، أيْ: إنَّكَ مِن جُملةِ الذينَ أُخِّرَتْ آجالُهم أزَلًا حَسبَما تَقتَضيه حِكمةُ التَّكوينِ [965] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/237، 238). .
- قولُه: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وَقتُ النَّفخةِ الأُولى، لا إلى وَقتِ البَعثِ الذي هو المَسؤولُ؛ فالفاءُ في قوله: فَإِنَّكَ ليستْ لِرَبطِ الإنظارِ نَفْسِه بالاستِنظارِ، بل لِرَبطِ الإخبارِ المَذكورِ به، كما في قَولِ مَن قال: (فإنْ تَرحَمْ فأنتَ لِذاكَ أهلٌ)؛ فإنَّه لا إمكانَ لِجَعلِ الفاءِ فيه لِرَبطِ ما له تَعالى مِنَ الأهليَّةِ القَديمةِ لِلرَّحمةِ بوُقوعِ الرَّحمةِ الحادِثةِ، بلْ هي لِرَبطِ الإخبارِ بتِلك الأهليَّةِ لِلرَّحمةِ بوُقوعِها هذا. وقد تُرِكَ التَّوقيتُ في سُورةِ (الأعرافِ)، كما تُرِكَ النِّداءُ والفاءُ في الاستِنظارِ والإنظارِ؛ تَعويلًا على ما ذُكِرَ هاهنا، وفي سُورةِ (الحِجرِ)، وإنْ خَطَرَ ببالكَ أنَّ كُلَّ وَجهٍ مِن وُجوهِ النَّظمِ الكَريمِ لا بُدَّ أنْ يَكونَ له مَقامٌ يَقتَضيه مُغايرٌ لِمَقامِ غَيرِه، وأنَّ ما حُكيَ مِنَ اللَّعينِ إنَّما صَدَرَ عنه مَرَّةً، وكذا جَوابُه لم يَقَعْ إلَّا دَفعةً، فمَقامُ الاستِنظارِ والإنظارِ إنِ اقتَضَى أحدَ الوُجوهِ المَحكيَّةِ فذلك الوَجهُ هو المُطابِقُ لِمُقتَضى الحالِ، والبالِغُ إلى رُتبةِ البَلاغةِ ودَرَجةِ الإعجازِ، وأمَّا ما عَداهُ مِنَ الوُجوهِ فهو بمَعزِلٍ مِن بُلوغِ طَبَقةِ البَلاغةِ، فَضلًا على العُروجِ إلى مَعارِجِ الإعجازِ [966] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/238). .
10- قولُه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
- الباءُ في قولِه: فَبِعِزَّتِكَ لِلقَسَمِ، والفاءُ لِتَفريعِ كَلامِه على أمْرِ اللهِ إيَّاه بالخُروجِ مِنَ الجَنَّةِ وعِقابِه إيَّاه باللَّعنةِ الدَّائِمةِ، وهذا التَّفريعُ مِن تَركيبِ كَلامِ مُتَكلِّمٍ على كَلامِ مُتكَلِّمٍ آخَرَ، وهو المُلقَّبُ بـ (عَطفِ التَّلقينِ) [967] عطْف التلقين: هو أن يُلقِّنَ المخاطَبُ المتكلِّمَ بالعطفِ. أو: هو عطْفُ المخاطَبِ كلامًا على ما وقَع في كلامِ المتكلِّمِ تنزيلًا لنفْسه في منزلةِ المتكلِّمِ يُكملُ له شيئًا ترَكَه المتكلِّمُ؛ إمَّا عن غفلةٍ، وإمَّا عن اقتصارٍ، فيُلقِّنُ المخاطَبُ المتكلِّمَ ما تَدارَكَه، بحيثُ يلتئمُ مِن الكلامينِ كلامٌ تامٌّ في اعتقاد المخاطَب. أو: هو عطفُ المتكلِّمِ كلامًا على كلامٍ صدَرَ مِن المخاطَب؛ إيماءً إلى أنَّ حقَّه أنْ يكونَ مِن بقيَّة كلامِه وألَّا يُغفلَه. يُنظر: ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (2/1189)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/704) و (24/165). في قَولِه تَعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] . وقيلَ: الفاءُ لِتَرتيبِ مَضمونِ الجُملةِ على الإنظارِ، ولا يُنافيه قولُه تعالَى: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] ؛ فإنَّ إغواءَه تَعالى إيَّاه أثَرٌ مِن آثارِ قُدرتِه تَعالى وعِزَّتِه، وحُكمٌ مِن أحكامِ قَهرِه وسَلطَنَتِه، فمَآلُ الإقسامِ بهما واحِدٌ، ولَعَلَّ اللَّعينَ أقسَمَ بهما جَميعًا، فحَكى تارةً قَسَمَه بأحَدِهما، وأُخرى بالآخَرِ، أيْ: فأُقسِمُ بعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أيْ: ذُرِّيَّةَ آدَمَ بتَزيينِ المَعَاصي لهم [968] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/305، 306). .
11- قولُه تعالَى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
- الفاءُ لِتَرتيبِ ما بَعدَها على ما قَبلَها، أيْ: فالحَقُّ قَسَمي، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [ص: 85] ، على أنَّ الحَقَّ إمَّا اسمُه تَعالَى، أو نَقيضُ الباطِلِ، عَظَّمَه اللهُ تَعالى بإقسامِه به، أو فأنا الحَقُّ، أو فقَوْلِي الحَقُّ، وقولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] حينَئِذٍ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحذوفٍ، أيْ: واللهِ لَأملَأنَّ... وقولُه تعالَى: وَالْحَقَّ أَقُولُ على كُلِّ تَقديرٍ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ على الوَجهَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِمَضمونِ الجُملةِ القَسَميَّةِ، وعلى الوَجهِ الثَّالثِ لِمَضمونِ الجُملةِ المُتقَدِّمةِ، أعني: فقَوْلي الحَقُّ، وقُوبِلَ تأكيدُ عَزمِ الشَّيطانِ الذي دَلَّ عليه قَولُه: فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] بتأكيدٍ مِثلِه، وهو لَفظُ (الحَقِّ) الدَّالِّ على أنَّ ما بَعدَه حَقٌّ ثابِتٌ لا يَتخَلَّفُ، ولم يَزِدْ في تأكيدِ الخَبَرِ على لَفظِ (الحَقِّ)؛ تَذكيرًا بأنَّ وَعدَ اللهِ تَعالى حَقٌّ لا يَحتاجُ إلى قَسَمٍ عليه؛ تَرَفُّعًا مِن جَلالِ اللهِ عن أنْ يُقابِلَ كَلامَ الشَّيطانِ بقَسَمٍ مِثلِه؛ ولذلك زادَ هذا المَعنى تَقريرًا بالجُملةِ المُعتَرِضةِ وهي: وَالْحَقَّ أَقُولُ. وَالْحَقَّ مَنصوبٌ على أنَّه مَفعولٌ لِمَا بَعدَه، وقُدِّمَ عليه؛ لِلقَصرِ، أو الاختِصاصِ، وهو بمَعنَى: لا أقولُ إلَّا الحَقَّ، أو هو على حِكايةِ لَفظِ المُقسَمِ به، ولا حاجةَ إلى القَسَمِ، ومَعناه التَّوكيدُ والتَّسديدُ [969] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/108)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35)، ((تفسير أبي حيان)) (9/176، 177)، ((تفسير أبي السعود)) (7/238، 239)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/306، 307). .
12- قولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
- (مِنْ) في قَولِه: مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ بَيانيَّةٌ، وهي هنا بَيانٌ لِمَا دَلَّ عليه لَأَمْلَأَنَّ مِن مِقدارٍ مُبهَمٍ، فبُيِّنَ بآيةِ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ، وكافُ الخِطابِ في قَولِه: مِنْكَ في مَعنى اسمِ الجِنسِ، أيْ: مِن جِنسِكَ الشَّياطينِ؛ إذْ لا تَكونُ ذاتُ إبليسَ مِلئًا لِجَهنَّمَ، وإذْ قدْ عَطَفَ عليه وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، أيْ: مَن تَبِعَكَ مِنَ الذين أغوَيتَهم مِن بَني آدَمَ، فلا جائِزَ أنْ يَبقى مَن عدا هذَيْنِ مِنَ الشَّياطينِ والجِنَّةِ غَيرُ مِلءٍ لِجَهنَّمَ [970] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/307). .
- ولَفظُ أَجْمَعِينَ لا يَخلو أنْ يُؤكَّدَ به الضَّميرُ في مِنْهُمْ أوِ الكافُ في مِنْكَ مع (مَنْ تَبِعَكَ)، ومَعناه: لَأملَأنَّ جَهنَّمَ مِنَ المَتبوعِينَ والتَّابِعينَ أجمَعينَ، لا أترُكُ منهم أحَدًا، أو: لَأمْلَأنَّها مِنَ الشَّياطينِ ومِمَّن تَبِعَهم مِن جَميعِ النَّاسِ، لا تَفاوُتَ في ذلك بَينَ ناسٍ وناسٍ بَعدَ وُجودِ الأتْباعِ منهم مِن أولادِ الأنبياءِ وغَيرِهم [971] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/108)، ((تفسير البيضاوي)) (5/35)، ((تفسير أبي حيان)) (9/177)، ((تفسير أبي السعود)) (7/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/307). .