موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (71-85)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ

غريب الكلمات:

فَقَعُوا: أي: فَخِرُّوا له، والوقوعُ: يدُلُّ على سُقوطِ شيءٍ .
إِبْلِيسَ: هو أبو الشَّياطينِ، وأصْلُ الإبلاسِ: اليأسُ، والحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، ومِنه اشتُقَّ إبليسُ. وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ .
رَجِيمٌ: أي: مَطرودٌ مِن رحمةِ اللهِ تعالَى، وأصلُ الرَّجمِ: الرَّميُ بالِحجارةِ، ثم تُؤخَذُ منه بقيَّةُ المعاني .
فَأَنْظِرْنِي: أي: أخِّرْني، وأصْلُ (نظر): يدُلُّ على تأمُّلِ الشَّيءِ ومُعايَنتِه .
لَأُغْوِيَنَّهُمْ: أي: لأُضِلَّنَّهم، ولأستَدْعِيَنَّهم إلى المعاصي، ولأُزَيِّنَنَّ لهم، والغَيُّ: الجَهلُ والانهِماكُ في الباطِلِ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإظلامِ الأمْرِ .

مشكل الإعراب :

 قَولُه تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
 فَالْحَقُّ مُبتدأٌ مَرفوعٌ، وخبَرُه محذوفٌ تَقديرُه (منِّي) أو (قَسَمي). أو الخبَرُ جملةُ القَسَمِ وجوابُه: لَأَمْلَأَنَّ، ويجوزُ أن يكونَ (الحقُّ) خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه (أنا)، أو (قَولي).
وَالْحَقَّ أَقُولُ (الواو) اعتراضيَّةٌ، (الحقَّ) مَفعولٌ به مُقدَّمٌ مَنصوبٌ. وجُملةُ وَالْحَقَّ أَقُولُ اعتراضيَّةٌ، لا محلَّ لها مِن الإعرابِ.
وجُملةُ: لَأَمْلَأَنَّ جوابُ قَسَمٍ مُقدَّرٍ لا مَحلَّ لها مِن الإعرابِ، وجملةُ القَسَمِ المقدَّرةِ (أُقْسِمُ بالحَقِّ) معَ الجوابِ في مَحلِّ رَفْعٍ، خبَرُ المبتدأِ، أو استئنافيةٌ لا محَلَّ لها .

المعنى الإجمالي:

يُخبرُ تعالَى عن قولِه للمَلائِكةِ، ومعهم إبليسُ: إنِّي سأخلُقُ بَشَرًا مِن طِينٍ، فإذا اكتمَلَ خَلقُ آدَمَ، ونَفخْتُ فيه الرُّوحَ، فخِرُّوا له ساجِدينَ تَحيَّةً وتَكريمًا؛ فامتثَلَ الملائِكةُ كُلُّهم أمْرَ اللهِ، فسَجَدوا لآدَمَ إلَّا إبليسَ، تكبَّرَ عن السُّجودِ، وكان مِنَ الكافِرينَ.
قال اللهُ تعالَى: يا إبليسُ، ما منَعَك مِن السُّجودِ لِآدَمَ الَّذي خلَقْتُه بيَدَيَّ؟ أتكبَّرْتَ عن السُّجودِ له بغَيرِ حَقٍّ، أم كنتَ ممَّن علَا على غيرِه؟! فقال إبليسُ: أنا خيرٌ مِن آدَمَ؛ خلَقْتَني من نارٍ، وخلَقْتَه مِن طِينٍ!
فقال اللهُ تعالَى لإبليسَ: فاخرُجْ من الجنَّةِ؛ فإنَّك مَرجومٌ، وإنَّ عليك لَعنتي إلى يومِ القِيامةِ.
قال إبليسُ: رَبِّ فأخِّرْ أجَلي ولا تُعَذِّبْني إلى يومِ بَعثِ الخَلائِقِ.
فقال اللهُ له: فإنَّك مِن المُؤخَّرينَ إلى وَقتِ النَّفخةِ الأُولى؛ يومِ يموتُ الخلائِقُ أجمَعون.
فقال إبليسُ: فبِعزَّتِك -يا رَبِّ- لأُضِلَّنَّ آدَمَ وذُرِّيَّتَه أجمعينَ، إلَّا عِبادَك الذين أخلَصْتَهم لك وَحدَك، وعَصَمْتَهم مِنِّي.
قال اللهُ تعالى: فالحقُّ، وأنا أقولُ الحَقَّ، لأملأنَّ جهنَّمَ منك وممَّن تَبِعَك مِن بَني آدَمَ أجمَعينَ.

تفسير الآيات:

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا كانتْ قُرَيشٌ خالَفوا الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ؛ ذكَرَ حالَ إبليسَ؛ حيثُ خالَفَ أمْرَ اللهِ بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ، وما آلَ إليه مِنَ اللَّعنةِ والطَّردِ مِن رَحمةِ اللهِ؛ لِيَزدجِرَ عن ذلك مَن فيه شَيءٌ مِنهما .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه خُصومةَ الملائكةِ إجمالًا فيما تقدَّمَ؛ ذكَرَها هنا تَفصيلًا، فقال :
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71).
أي: ما كان ليَ مِن عِلمٍ باختِصامِ الملأِ الأعْلَى حِينَ قال اللهُ تعالى للمَلائِكةِ: إنِّي سأخْلُقُ بَشَرًا مِن طِينٍ، هو آدَمُ عليه السَّلامُ .
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72).
أي: فإذا اكتَمَل خَلْقُ آدَمَ، وصار جَسَدًا تامًّا مُتقَنًا، ونَفخْتُ فيه الرُّوحَ التي هي مِن خَلقِي، فخِرُّوا على الأرضِ ساجِدينَ لآدَمَ؛ تَحيَّةً له وتَكريمًا وتَعظيمًا .
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73).
أي: فلمَّا خلَقَ اللهُ آدَمَ ونفَخَ فيه الرُّوحَ، سَجَد كلُّ الملائِكةِ لآدَمَ؛ امتِثالًا لأمْرِ اللهِ تعالَى .
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74).
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ.
أي: إلَّا إبليسَ تَكبَّرَ عن السُّجودِ لآدَمَ؛ تعَظُّمًا وأنَفةً .
كما قال تعالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
أي: وكان إبليسُ مِن الكافِرينَ .
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75).
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
أي: قال اللهُ: يا إبليسُ، أيُّ شَيءٍ مَنَعَك من السُّجودِ لِلَّذي كرَّمتُه بخَلْقِه بيَدَيَّ ؟
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.
أي: هل تَعظَّمتَ عن السُّجودِ لآدمَ، وحدَث لك الاستِكبارُ الآنَ، فتركتَ السُّجودَ له، أمْ كُنتَ كذلك مِن قَبلُ مِن المتكبِّرينَ العالِينَ، ممَّنْ لا يَليقُ أنْ تُكلَّفَ مِثلَ هذا؛ لعلوِّ مكانِك .
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76).
أي: قال إبليسُ مُجيبًا ربَّه: أنا خيرٌ مِن آدَمَ؛ لأنَّك خلَقْتَني مِن نارٍ، وخلَقْتَ آدَمَ مِن طِينٍ؛ فلَمْ أسجُدْ له .
كما قالَ تعالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77).
أي: قال اللهُ لإبليسَ: فاخرُجْ مِن الجَنَّةِ ؛ فإنَّك مَرجومٌ .
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78).
أي: وإنَّ طَرْدي وإبعادي لك مِن رَحمتي: مُستَمِرٌّ وحاقٌّ عليك إلى يَومِ القِيامةِ؛ إذ يُجازَى العِبادُ، ويُلاقِي فيه إبليسُ جَزاءَه .
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79).
أي: قال إبليسُ: رَبِّ فأخِّرْ أجَلي وأمْهِلْني ولا تُعَذِّبْني إلى اليَومِ الذي تَبعَثُ فيه خَلْقَك .
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80).
أي: قال اللهُ لإبليسَ: فإنَّك مِنَ المؤخَّرينَ المُمهَلينَ .
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81).
أي: إلى اليَومِ الذي يَموتُ فيه الخلائِقُ، وهو وَقتُ النَّفخةِ الأُولى .
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82).
أي: قال إبليسُ: فبعِزَّتِك لأُضِلَّنَّ آدَمَ وذُرِّيَّتَه أجمَعينَ .
كما قال تعالَى حكايةً عن إبليسَ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16، 17].
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللَّامِ: اسمُ مَفعولٍ مِن أخلَصَ، بمعنى: أنَّ اللهَ تعالَى أخلَصَهم لعِبادتِه، واختارَهم، فصاروا مُخلَصينَ .
2- قِراءةُ: الْمُخْلِصِينَ بكَسرِ اللَّامِ: اسمُ فاعِلٍ مِن أخلَصَ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا للهِ دِينَهم، وأعمالَهم مِنَ الشِّركِ والرِّياءِ .
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83).
أي: إلَّا عِبادَك الذين أخلَصْتَهم لعِبادتِك، وعصَمْتَهم مِنِّي، فلا أستطيعُ إغواءَهم .
كما قالَ الله تباركَ وتعالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99، 100].
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: فَالْحَقُّ بالرَّفعِ. قيل: بمعنى: فاللهُ الحَقُّ، أو فأنا الحَقُّ، أو فهذا الحَقُّ، أو فالحَقُّ منِّي، أو فوَعدُ اللهِ هو الحَقُّ، أو فالحَقُّ قَسَمي .
2- قِراءةُ: فَالْحَقَّ بالنَّصبِ. قيل: بمعنَى: حقًّا لأملَأنَّ جَهنَّمَ. وقيل: التَّقديرُ: فيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ. وقيل: نُصِبَ على الإغراءِ، أي: فاتَّبِعوا الحَقَّ، أو الْزَموا الحَقَّ .
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84).
أي: قال اللهُ: فالحقُّ ، وأنا أقولُ الحَقَّ .
كما قال تعالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85).
أي: لَأملَأنَّ جَهنَّمَ مِن جِنسِك مِن الشَّياطينِ -يا إبليسُ- وممَّن تَبِعَك مِن بَني آدَمَ أجمَعينَ .
كما قال اللهُ تعالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [الإسراء: 63] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ المقصودُ مِن ذِكرِ هذه القِصَّةِ: تَنبيهُ بَني آدَمَ في هذا المقامِ علَى شَرفِ أبيهم آدَمَ، وتَبيينُ عداوةِ عدوِّهم إبليسَ لهم، وما هو مُنطوٍ عليه مِنَ الحسَدِ لهم ولأبيهم آدَمَ؛ ليَحْذَروه، ولا يتَّبعوا طرائقَه ، والمَنعُ مِن الحَسَدِ والكِبرِ؛ وذلك لأنَّ إبليسَ إنَّما وقَعَ فيما وقَعَ فيه بسَبَبِ الحَسَدِ والكِبرِ، والكُفَّارُ إنَّما نازَعوا مُحمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بسبَبِ الحسَدِ والكِبرِ .
2- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ كانتْ نَزعةُ الكِبرِ والعِصيانِ كامِنةً في جِبِلَّة إبليسَ، ولم يكُنْ مِن الملأِ الذي كان معهم مُثيرٌ لِما سكَنَ في نفْسِه مِن طَبعِ الكِبرِ والعِصيانِ، فلمَّا طرأَ على ذلك الملأِ مَخلوقٌ جديدٌ، وأُمِرَ أهلُ الملأِ الأعْلَى بتَعظيمِه؛ كان ذلك مُوِريًا زِنادَ الكِبرِ في نفْسِ إبليسَ؛ فنشأَ عنه الكُفرُ باللهِ، وعِصيانُ أمْرِه، وهذا ناموسٌ خِلْقيٌّ جعَلَه اللهُ مَبدأً لهذا العالَمِ قبلَ تَعميرِه، وهو أنْ تكونَ الحوادِثُ والمضائِقُ معيارَ الأخلاقِ والفَضيلةِ؛ فلا يُحكَمُ على نَفسٍ بتزكيةٍ أو ضِدِّها إلَّا بعدَ تَجربتِها، ومُلاحَظةِ تصَرُّفاتِها عند حُلولِ الحوادِثِ بها .
3- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ مَن قَدَّمَ العَقلَ على السَّمعِ فإنَّما هو مُتَّبعٌ لخُطواتِ الشَّيطانِ؛ لأنَّ الشَّيطانَ قَدَّمَ ما يَدَّعي أنَّه عَقلٌ على السَّمعِ، فأخطأَ في ذلك؛ فهكذا كلُّ مَن قَدَّمَ العَقلَ على السَّمعِ، سواءٌ في العِلمِيَّاتِ -وهي عِلمُ العقائدِ- أو في العَمَليَّاتِ؛ فإنَّه مُشابِهٌ لإبليسَ، مُتَّبعٌ لخُطُواتِه، واعلَمْ أنَّ كُلَّ بَليَّةٍ تَقَعُ مِن تحريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، والاستكبارِ عن عِبادةِ اللهِ، وغيرِ ذلك: فأصلُها مِن إبليسَ .
4- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ أنَّ مِن أسبابِ الإعانةِ أنْ يَستعينَ الإنسانُ بما يُناسِبُ المقامَ مِن أسماءِ اللهِ وصِفاتِه؛ لأنَّه لم يَقُلْ: «فبِمَغفِرتِك لأُغوينَّهم»؛ لأنَّه يُريدُ أنْ يَتَسَلَّطَ، والسُّلطةُ يُناسِبُها مِن الصِّفاتِ «العِزَّةُ» دونَ «المغفرةِ» .
5- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ إبليسَ وَعَدَ -مُتَوسِّلًا بعِزَّةِ اللهِ- أنْ يُغويَ جميعَ بني آدمَ، ويَتفرَّعُ عن هذه الفائدةِ أنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِن إبليسَ ووَساوسِه، فإذا وَجَدْتَ في نَفْسِك تأخُّرًا في الخَيرِ فاستَعِذْ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، وإذا وَجدْتَ في نَفْسِك إقدامًا على الشَّرِّ فاستَعِذْ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ؛ قال تعالَى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة: 268] .
6- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ اللهَ تعالَى وَعَدَ جَهنَّمَ بمَلئِها، ويَتفرَّعُ عن هذه الفائدةِ الحذَرُ الشَّديدُ مِن أنْ يكونَ الإنسانُ مِن أهلِ جَهنَّمَ -نعوذُ باللهِ منها- وفي الصَّحيحَينِ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تزالُ جَهنَّمُ يُلقَى فيها وتَقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ حتى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قَدَمَه؛ فيَنزَوي بعضُها إلى بَعضٍ، وتقولُ: قَطْ قَطْ ) .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ إثباتُ الكَلامِ للهِ عزَّ وجلَّ، وإثباتُ أنَّ كلامَه بصَوتٍ مَسموعٍ تَسمَعُه الملائكةُ، كما في هذه القِصَّةِ، وإثباتُ أنَّه بحَرفٍ، أي: بحُروفٍ مُتتابِعةٍ يَتبَعُ بَعضُها بَعضًا؛ لِقَولِه: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، وكُلُّ هذا تأكيدٌ لِمَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وفي هذا أيضًا إثباتُ أنَّ الكَلامَ يتعلَّقُ بمَشيئتِه سُبحانَه .
2- صَحَّ أنْ يَقولَ لهم: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا، وما عَرَفوا ما البَشَرُ، ولا عَهِدوا به قَبلُ، ووَجهُه: أنْ يَكونَ قد قال لهم: إنِّي خالِقٌ خَلْقًا مِن صِفَتِه كَيْتَ وكَيْتَ، ولكِنَّه حين حَكاه اقتَصَرَ على الاسمِ.
وقيلَ: ولَعَلَّ ما جرَى عِندَ وُقوعِ المَحكيِّ ليس هذا الاسمَ الذي لم يُخلَقْ مُسَمَّاهُ حِينَئذٍ، فَضلًا على تَسميَتِه به، بلْ عِبارةٌ كاشِفةٌ عن حالِه، وإنَّما عَبَّرَ عنه بهذا الاسمِ عِندَ الحِكايةِ .
3- في قَولِه تعالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ إثباتُ أنَّ أصلَ بني آدمَ هو الطِّينُ؛ ولهذا جاءتْ طبائِعُ بني آدمَ وألوانُهم مُختلِفةً كاختِلافِ الأرضِ، أو كاختِلافِ تُربةِ الأرضِ؛ فيها السَّهلُ واللَّيِّنُ، والأحمرُ والأبيضُ والأسودُ، والحَزْنُ والصَّعْبُ؛ لأنَّهم خُلِقُوا مِن هذه التُّربةِ، فصارَ اختلافُهم كاختِلافِ الأصلِ الذي خُلِقُوا منه .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فيه سؤالٌ: ذكَر هاهنا أنَّه خلَق البشرَ مِن طِينٍ، وقد جاء في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وكقَولِه تعالَى: كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59] وقولِه: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [الصافات: 11] .
والجوابُ: أنَّه ذكَرَ أطوارَ ذلك التُّرابِ، فذكَرَ طَورَه الأوَّلَ بقَولِه: مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ بُلَّ فصارَ طِينًا لازِبًا، ثم خُمِّرَ فصار حمَأً مسنونًا، ثمَّ يَبِسَ فصار صَلصالًا كالفَخَّارِ ، فثبَت أنَّه لا منافاةَ بينَ الكلِّ .
5- في قولِه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ إثباتُ الأفعالِ للهِ تعالَى، وبيانُ أنَّ أفعالَه تَتعلَّقُ بمَشيئتِه؛ لأنَّ «إذا» شَرطيةٌ تُفيدُ المُستقبَلَ .
6- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ يدُلُّ على تَفخيمِ شأنِ آدَمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه تعالَى خلَقَ ما خلَقَ مِن الكَونَينِ (العلويِّ والسفليِّ)، والجنَّةِ والنَّارِ، والعَرشِ والكُرسيِّ، والملائِكةِ، ولم يَقُلْ في صِفةِ شَيءٍ منها ما قاله في صِفةِ آدَمَ -عليه السَّلامُ- وأولادِه، ولم يأمُرْ بالسُّجودِ لِشَيءٍ غَيرِه .
7- في قَولِه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ جوازُ تعليقِ الأمرِ بالشَّرطِ، أي: إذا جازَ تعليقُ الأمرِ بالشرطِ؛ فإنَّ المأمورَ به يمكنُ أنْ يَنْفُذَ فيه الشَّرطُ؛ ولهذا قال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ لِضُبَاعَةَ بنتِ الزبيرِ -وقد اشتكَتْ إليه عِندَ إرادةِ الحجِّ- قال: ((حُجِّي واشترطي، قولي: اللهمَّ مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَنِي )) .
8- في قَولِه تعالَى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي تَشريفُ الرُّوحِ التي نُفِخَتْ في آدَمَ عليه السَّلامُ، وهذا تَشريفٌ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ هو الذي نَفَخَها، ولم يأمُرْ أحدًا مِن الملائِكةِ بنَفخِها.
والثَّاني: أنَّ اللهَ أضاف هذه الرُّوحَ إلى نَفسِه المُقَدَّسةِ .
9- قَولُ اللهِ تعالَى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فيه سُؤالٌ: كيف ساغ السُّجودُ لِغَيرِ اللهِ تعالى؟
الجوابُ: أنَّ السَّجدةَ كانتْ لآدمَ عليه السَّلامُ تَعظيمًا له وتَحِيَّةً له، كالسَّلامِ منهم عليه، وقدْ أجْمَع المسلمونَ على أنَّ ذلك السُّجودَ ليس سُجودَ عِبادةٍ .
وأيضًا فالأصلُ أنَّ سُجودَ الملائِكةِ لآدَمَ كان على الجَبهةِ، ولَمَّا وقَع ذلك امتِثالًا لأمْرِ اللهِ كان طاعةً مِن الطَّاعاتِ، كما أنَّ قَتْلَ النَّفسِ بغيرِ حَقٍّ مِن كَبائرِ الذُّنوبِ، لكِنْ لَمَّا أُمِرَ إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذَبحِ ابنِه فامتَثَل أمْرَ اللهِ، وشَرَع في تنفيذِ الذَّبحِ؛ صار طاعةً .
10- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ في قَولِه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ جوازُ تَوَجُّهِ الأمْرِ -الخِطابِ- إلى العُمومِ، وإنْ كان فيهم مِن غَيرِ جِنسِهم؛ فإنَّ إبليسَ -بلا شَكٍّ- مِن غيرِ الملائِكةِ أصلًا ونِهايةً، لكِنَّه كان فيهم؛ فصَحَّ أنْ يَتَوَجَّه الخِطابُ إليه، وهذا ظاهِرٌ. لو أنَّك أمَرْتَ جماعةً بالسُّجودِ وفيهم مَن ليس منهم، ولكِنَّه على صِفتِهم ويَعمَلُ بعَمَلِهم، فتَخَلَّفَ، لا بُدَّ أنْ تَلومَه؛ لأنَّ الخِطابَ مُوَجَّهٌ للجَميعِ .
11- قولُه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فيه أنَّ الاستكبارَ عن أمْرِ اللهِ كُفْرٌ؛ فمعنَى قولِه: اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أي: جزاءً لاستكبارِه كان مِن الكافِرين ؟
12- في قَولِه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ أنَّ كلامَ اللهِ تعالَى يَتعلَّقُ بمَشيئتِه؛ حيثُ صَدَّرَ هذا القولَ بعْدَ استِكبارِ إبليسَ وتَركِه السُّجودَ .
13- قَولُ الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ قد يَستَدِلُّ به مَن رأى أنَّ (لا) في قَولِه تعالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] زائدةٌ؛ حيثُ سقَطَتْ هنا، والقِصَّةُ واحِدةٌ .
14- قال تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ كُلُّ مَن رَدَّ نُصوصَ الوَحيِ بالأقيِسَةِ فسَلَفُه في ذلك إبليسُ .
15- قَولُه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فيه إثباتُ اليَدَينِ للهِ تعالَى؛ لِقَولِه تعالَى: بِيَدَيَّ، وهذه صِيغةُ تَثنيةٍ تُفيدُ أنَّ للهِ تعالَى يَدينِ اثنتَينِ تَليقُ بجلالِه .
16- في قَولِه تعالَى: بِيَدَيَّ الرَّدُّ على أهلِ التَّعطيلِ الذين قالوا: إنَّ المرادَ باليَدِ النِّعمةُ أو القوَّةُ؛ وذلك أنَّ النِّعمةَ أو القُوَّةَ لا تأتي بصِيغةِ التَّثنيةِ؛ لأنَّ صِيغةَ التَّثنيةِ تدُلُّ على الحَصرِ؛ وقوةُ اللهِ غيرُ مَحصورةٍ، ونِعَمُه أيضًا غيرُ محصورةٍ؛ قال تعالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18] .
17- في قَولِه تعالى: بِيَدَيَّ أنَّ يَدَ اللهِ تعالى لا تُماثِلُ أيديَ المخلوقينَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أضافَها إلى نَفسِه، والمضافُ يكونُ حَسَبَ المضافِ إليه، فكما أنَّ ذاتَ اللهِ مُقَدَّسةٌ لا تُماثِلُ ذواتِ المَخلوقينَ كذلك صِفاتُه .
18- قَولُه تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ فيه استِعمالُ الحَصْرِ -أو كما يقولون: السَّبرُ والتَّقسيمُ - في المناظَرةِ والمجادَلةِ؛ فمعنَى الآيةِ: هل أنتَ استكبَرْتَ في نَفسِك، وأنتَ لستَ أهلًا للعُلُوِّ؟ أو كنتَ عاليًا في أصلِكَ حتى تَمتَنِعَ عن السُّجودِ؟ أمْ أنتَ أكبَرُ وفي مَرتبةٍ عاليةٍ أعْلى مِن آدمَ حتى تَمتَنِعَ عن السُّجودِ ؟
19- حُجَّةُ إبليسَ في قولِه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هي حُجَّةٌ باطلةٌ؛ لأنَّه عارضَ النصَّ بالقِياسِ .
20- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ الإنسانَ قدْ يَعمَى عن الحَقِّ، فيَستَدِلُّ بما هو حُجَّةٌ عليه، يَظُنُّ أنَّه حُجَّةٌ له؛ وذلك أنَّ أهلَ العلمِ ذكَروا في هذا المقامِ بيانَ أنَّ ما خُلِقَ منه آدَمُ خَيرٌ ممَّا خُلِقَ منه إبليسُ .
21- في قَولِه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنَّ إبليسَ أعلَمُ بحَقائِقِ صِفاتِ اللهِ تعالَى مِن كَثيرٍ مِن أهلِ التَّعطيلِ؛ فالذين فَسَّروا اليدَ بالقُوَّةِ هنا لو كان تَفسيرُهم صَحيحًا لقال إبليسُ: «يا رَبِّ، وأنا خلَقْتَني بيدَيكَ»؛ لأنَّ اللهَ خَلَقَ إبليسَ بقُوَّتِه كما خَلَقَ آدَمَ، لكِنَّ إبليسَ فَهِمَ أنَّ المرادَ باليدِ غيرُ القُوَّةِ؛ ولهذا لم يَنْقُضْ فَضيلةَ آدمَ بأنَّه هو خُلِقَ بيَدِ اللهِ .
22- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ احتُجَّ به في مَسألةِ أنَّ الكُلَّ بقَضاءِ اللهِ، فهو إخبارٌ مِن اللهِ تعالى بأنَّ إبليسَ لا يُؤمِنُ، فلو آمَنَ لانقلبَ خبَرُ اللهِ الصِّدقُ كَذِبًا، وهو مُحالٌ؛ فكان صُدورُ الإيمانِ منه مُحالًا مع أنَّه أُمِرَ به .
23- في قَولِه تعالَى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أنَّ اللهَ قد يُقَدِّرُ أسبابَ الشَّرِّ لحِكمةٍ، وذلك بإجابةِ دُعاءِ إبليسَ أنْ يُنظِرَه إلى يومِ الوَقتِ المعلومِ، وإبليسُ لا شكَّ أنَّه مَبدَأُ كُلِّ شَرٍّ، ولكِنَّ اللهَ تعالى أبقاه لحِكمةٍ عَظيمةٍ، ولولا بقاءُ إبليسَ ما وُجِدَ عاصٍ في الأرضِ، وإذا انتفَى العِصيانُ صارَ الناسُ أُمَّةً واحِدةً، ولم يكنِ الإيمانُ مَزيَّةً، ولم يكنْ جِهادٌ، ولا أمرٌ بالمعروفِ، ولا نهيٌ عن المُنكَرِ، ولو كان النَّاسُ أُمَّةً واحدةً لتَعطَّلَ كثيرٌ مِن شَعائرِ الإسلامِ؛ فكان مِن الحِكمةِ بقاءُ إبليسَ، وبقاءُ ما يَدعو إليه إبليسُ .
24- في قَولِه تعالى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ إنْ قال قائِلٌ: فهل أحَدٌ مُنظَرٌ إلى ذلك اليومِ سِوى إبليسَ، فيُقالَ له: إنَّك منهم؟
 الجوابُ: نعمْ، مَن لم يَقبِضِ اللهُ رُوحَه مِن خَلْقِه إلى ذلك اليَومِ مِمَّن تقومُ عليه السَّاعةُ؛ فهُم مِن المُنظَرينَ بآجالِهم إليه؛ ولذلك قيل لإبليسَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف: 15] ، بمعنى: إنَّك مِمَّن لا يُميتُه اللهُ إلَّا ذلك اليومَ .
25- قال تعالى حكايةً عن إبليسَ: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ والعِزَّةُ: القَهرُ والسُّلطانُ، وعِزَّةُ اللهِ هي العِزَّةُ الكامِلةُ التي لا تَختَلُّ حَقيقَتُها، ولا يَتَخلَّفُ سُلطانُها. وأقسَمَ الشَّيطانُ بعِزَّةِ اللهِ؛ تَحقيقًا لقِيامِه بالإغواءِ دُونَ تَخلُّفٍ، وإنَّما أقسَمَ على ذلك وهو يَعلَمُ عَظمةَ هذا القَسَمِ؛ لِأنَّه وَجَدَ في نَفْسِه أنَّ اللهَ أقدَرَه على القِيامِ بالإغواءِ والوَسوَسةِ، وقد قال في سُورةِ (الحِجرِ): رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، وقَسَمُ إبليسَ بها ناشِئٌ عن عِلْمِه بأنَّه لا يَستَطيعُ الإغواءَ إلَّا لِأنَّ اللهَ أقدَرَه، ولولا ذلك لم يَستَطِعْ نَقضَ قُدرةِ اللهِ تَعالى .
26- في قَولِه تعالَى عن إبليسَ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ دَلالةٌ على أنَّ لَفظَ «الغَيِّ» إذا أُطلِقَ تناولَ كلَّ مَعصيةٍ للهِ .
27- قَولُ اللهِ تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يدُلُّ على أنَّ إبليسَ لا يُغوي عِبادَ اللهِ المُخلَصينَ، وقال تعالَى في صِفةِ يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] ؛ فيُستفادُ مِن مَجموعِ هاتينِ الآيتَينِ أنَّ إبليسَ ما أغْوَى يوسُفَ عليه السَّلامُ، وذلك يدُلُّ على كذِبِ ما نُسِبَ إلى يوسُفَ عليه السَّلامُ مِن القَبائِحِ .
28- قَولُ اللهِ تعالَى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي: الذين أخلَصَهم اللهُ تعالَى لطاعتِه، فأخلَصوا قَصْدَهم لها، وعُرِفَ مِن الاستِثناءِ أنَّهم قَليلٌ، وأنَّ الغُواةَ هم الأصلُ .
29- في قَولِه تعالى: وَالْحَقَّ أَقُولُ أنَّ كلَّ ما قَدَّرَه اللهُ تعالى فهو حَقٌّ -سواءٌ كان ملائمًا للبشرِ أو غيرَ ملائمٍ-، وجهُ ذلك: أنَّ كلَّ شيءٍ قَدَّرَه اللهُ كائنٌ بقوله: «كُنْ»، و «كُنْ» قولٌ، فإذا كان كُلُّ ما قاله اللهُ حَقًّا لَزِمَ أنْ يكونَ كلُّ ما قضاه حَقًّا، وهو كذلك، ولهذا قال النَّبِيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الخيرُ كلُّه في يديك؛ والشَّرُّ ليس إليك)) .
30- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ المرادُ: الجِنسُ، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ المرادُ: النَّاسُ الذين أقسَمْتَ أنْ تُغويَهم؛ ولهذا كانتِ النَّارُ دارًا لصِنفَينِ مِن المخلوقاتِ فقط، وهما الجِنُّ والإنسُ؛ فالملائكةُ ليسُوا مِن أهلِها، والوُحوشُ والحشَراتُ وغيرُها ليسوا مِن أهلِها .
31- في قَولِه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ مَن لم يُكَلَّفْ في الدُّنيا مِن الصِّبيانِ والمجانينِ، ومَن مات في الفَترةِ: لا يُحكَمُ لهم بالنَّارِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه أقسَمَ أنَّه لا بُدَّ أنْ يَملَأَ جَهنَّمَ مِن إبليسَ وأتْباعِه -وأتْباعُه همُ العُصاةُ- ولا مَعصيةَ إلَّا بعدَ التَّكليفِ؛ فلو دَخَلَها الصَّبيُّ والمجنونُ لدَخَلَها مَن هو مِن غيرِ أتباعِه؛ فلم تَمتَلئْ منهم !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعالى نَبيَّه صَلَواتُ اللهِ عليه بأنْ يَقولَ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أيْ: هذا الذي أنبَأتُكم به مِن كَوْني رَسولًا مُنذِرًا، وأنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَريكَ له، وقَهَّارٌ ومالِكٌ لِلعالَمينَ، وعَزيزٌ غَفَّارٌ، وأدمَجَ فيه مَعنى العِبادةِ، وأنَّه تَعالى ما خَلَقَ الخَلقَ إلَّا لِيُعبَدَ ويُعرَفَ، وأرادَ أنْ يُعَظِّمَ ذلكَ؛ فأمَرَ نَبيَّه صَلَواتُ اللهِ عليه بأنْ يُعَظِّمَه ثانيًا ويَقولَ: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص: 69] ، أيْ: بفَضلِ هذا واختِصاصِه ببَني آدَمَ واختِصامِ المَلائِكةِ فيه، واغتِباطِهم لِلبَشَرِ، وما أُمِروا بالسُّجودِ لِآدَمَ إلَّا لِتِلكَ الكَراماتِ والفَضائِلِ، إلَّا أنَّ اللهَ تَعالى أعلَمَني بالوَحيِ وأمَرَني بالدَّعوةِ فيه، والإنذارِ لِمَنِ امتَنَعَ منه؛ فيَكونُ قَولُه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ مُستَطردًا لِحَديثِ الخُصومةِ في فَضائِلِ البَشَرِ؛ لِمَا فيه مِنَ التَّكرِمةِ لِآدَمَ مِن كَونِه مَسجودًا لِلمَلائِكةِ، واللهُ أعلَمُ .
- وهو شُروعٌ في تَفصيلِ ما أُجمِلَ مِنَ الاختِصامِ، الذي هو ما جرَى بَينَهم مِنَ التَّقاوُلِ، وحيثُ كان تَكليمُه تَعالى إيَّاهم بواسِطةِ المَلَكِ صَحَّ إسنادُ الاختِصامِ إلى المَلائِكةِ، والقِصَّةُ التي دَخَلتْ (إذْ) عليها مُشتَمِلةٌ على تَقاوُلِ المَلائِكةِ وإبليسَ في خَلقِ آدَمَ عليه السَّلامُ، واستِحقاقِه لِلخِلافةِ والسُّجودِ، غَيرَ أنَّها اختُصِرتِ؛ اكتِفاءً بذلك، واقتِصارًا على ما هو المَقصودُ منها، وهو وَعظُ المُشرِكينَ وإنذارُهم على استِكبارِهم على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمِثلِ ما حاقَ بإبليسَ على استِكبارِه على آدَمَ عليه السَّلامُ .
- قَولُه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ فيه التَّعرُّضُ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِتَشريفِه، والإيذانِ بأنَّ وَحيَ هذا النَّبَأِ إليه تَربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والكافُ وارِدٌ باعتِبارِ حالِ الآمِرِ؛ لِكَونِه أدَلَّ على كَونِه وَحيًا مُنزَّلًا مِن عِندِه تَعالى، كما في قَولِه تَعالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، دُونَ حالِ المَأمورِ، وإلَّا لَقيلَ: رَبِّي؛ لِأنَّه داخِلٌ في حَيِّزِ الأمْرِ .
- وفي قَولِه: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا ما ليسَ في صِيغةِ المُضارِعِ؛ مِنَ الدَّلالةِ على أنَّه تَعالَى فاعِلٌ له البَتَّةَ، مِنْ غَيرِ صارِفٍ يَلويهِ، ولا عاطِفٍ يَثْنيهِ .
- قولُه: مِنْ طِينٍ نَعتٌ لِكَلِمةِ بَشَرًا، وقد أغْنى بهذا الوَصفِ عنِ النُّعوتِ البَشريَّةِ كُلِّها، وتِلك هي بَراعةُ الإيجازِ .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
- فَإِذَا سَوَّيْتُهُ التَّسويةُ: تعديلُ ذاتِ الشيءِ، وقدْ أُطلِقتْ هنا على اعتِدالِ العناصِرِ فيه واكتمالِها بحيثُ صارتْ قابلةً لنَفْخِ الرُّوحِ .
- قَولُه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي إضافةُ الرُّوحِ إلى اللهِ؛ لِشَرَفِ الإنسانِ وطَهارَتِه .
3- قولُه تعالَى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
- اللَّامُ في الْمَلَائِكَةُ لِلاستِغراقِ، دَخَلتْ على صِيغةِ الجَمعِ؛ فتُفيدُ الشُّمولَ، ثم أكَّدَ بقَولِه: كُلُّهُمْ؛ لِدَفعِ تَوهُّمِ غَيرِ الشُّمولِ والإحاطةِ، وأَجْمَعُونَ لِلاجتِماعِ، فأفادَا مَعًا أنَّهم سَجَدوا عن آخِرِهم، ما بَقِيَ منهم مَلَكٌ إلَّا سَجَدَ، وأنَّهم سَجَدوا جَميعًا في وَقتٍ واحِدٍ، غَيرَ مُتَفرِّقينَ في أوقاتٍ، على أنَّ مُطلَقَ الأمْرِ في هذا المَقامِ لا يُفيدُ إلَّا الفَورَ .
- قَولُه: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، أيْ: فخَلَقَه فسَوَّاه فنَفَخَ فيه الرُّوحَ، فسَجَدَ له المَلائِكةُ كلُّهمْ، بحيثُ لم يَبْقَ منهم أحَدٌ إلَّا سَجَدَ أَجْمَعُونَ، أيْ: بطَريقِ المَعيَّةِ، بحَيثُ لم يَتأخَّرْ في ذلك أحَدٌ منهم عن أحَدٍ، ولا اختِصاصَ لِإفادةِ هذا المَعنى بالحاليَّةِ، بلْ يُفيدُ التَّأكيدَ أيضًا. وقيلَ: أُكِّدَ بتَأكيدَيْنِ؛ مُبالَغةً في التَّعميمِ هذا .
4- قولُه تعالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وَقَعَ في سُورةِ (الحِجرِ): إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [الحجر: 31] ، وفي هذه السُّورةِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ، فيَكونُ ما في هذه الآيةِ يُبيِّنُ الباعِثَ على الإبايةِ، ووَقَعتْ هنا زِيادةُ: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وهي بَيانٌ لِكَونِ المُرادِ في سُورةِ (الحِجرِ) مِن قَولِه: أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] ، الإبايةَ مِنَ الكَونِ مِنَ السَّاجِدينَ للهِ، أيْ: المُنَزِّهينَ اللهَ عنِ الظُّلمِ والجَهلِ .
- قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ استِثناءٌ مُتَّصِلٌ؛ لِمَا أنَّه كانَ جِنِّيًّا مُفرَدًا مَغمورًا بأُلوفٍ مِنَ المَلائِكةِ، مَوصُوفًا بصِفاتِهم، فغُلِّبُوا عليه، ثم استُثنيَ استِثناءَ واحدٍ منهم، أو مُنقَطِعٌ. وقولُه تعالَى: اسْتَكْبَرَ على الأوَّلِ استِئنافٌ مُبيِّنٌ لِكَيفيَّةِ تَركِ السُّجودِ المَفهومِ مِنَ الاستِثناءِ؛ فإنَّ تَركَه يحتمِلُ أنْ يَكونَ لِلتَّأمُّلِ والتَّروِّي، وبه يَتحَقَّقُ أنَّه لِلإباءِ والاستِكبارِ، وعلى الثَّاني يَجوزُ اتِّصالُه بما قَبلَه، أيْ: لكِنَّ إبليسَ استَكبَرَ .
- قَولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الآيةُ مِن الاحتِباكِ : ذكَرَ فِعلَ الاستِكبارِ أولًا دَليلًا على فِعلِ الكُفرِ ثانيًا، ووَصَف الكُفرَ ثانيًا دَليلًا على وَصْفِ الاستِكبارِ أوَّلًا، وسِرُّ ذلك: أنَّ ما ذكَرَه أقعَدُ في التَّحذيرِ بأنَّ مَن وقَع منه كِبرٌ جرَّه إلى الكُفرِ .
5- قولُه تعالَى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ
- في قَولِه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَبَّرَ عن آدَمَ باسمِ (ما) المَوصولةِ، وهو حينَئذٍ إنسانٌ؛ لِأنَّ سُجودَ المَلائِكةِ لِآدَمَ كان بَعدَ خَلقِه وتَعليمِه الأسماءَ، كما في سُورةِ البَقَرةِ . وقيل: كأنَّه يقولُ سبحانَه: لِمَ عصيتني وتَكَبَّرْتَ على ما لم تَخْلُقْه وخلقتُه أنا وشَرَّفْتُه؛ وأمَرْتُك بالسُّجودِ له؟ فهذا موضِعُ «ما»؛ لأنَّ معناها أبلغُ؛ ولفْظُها أعَمُّ، وهو في الحُجَّةِ أوقعُ؛ وللعُذرِ والشُّبهةِ أَقْطَعُ، فلو قال: ما منَعَك أنْ تسجُدَ لـ «مَن» خلقتُ؟ لكان استِفهامًا مجرَّدًا مِن تَوبيخٍ وتَبكيتٍ، ولَتُوُهِّمَ أنَّه وَجَب السُّجودُ له مِن حيثُ كان يَعْقِلُ؛ ولعلَّه موجودٌ في ذاتِه وعيْنِه! وليس المرادُ كذلك، وإنَّما المرادُ توبيخُه وتبكيتُه على ترْكِ سُجودِه لِمَا خَلَقَ اللهُ وأَمَرَه بالسُّجودِ له؛ ولهذا عَدَلَ عن اسمِ آدمَ العَلَمِ معَ كونِه أخَصَّ؛ وأتَى بالاسمِ الموصولِ الدَّالِّ على أنَّ جِهةَ التشريفِ المقتضيةَ لسجودِه له؛ كونُه خَلَقه بيديه، وأنتَ لو وضعتَ مكانَ «ما» لفظةَ «مَن» لَمَا رأيتَ هذا المعنى المذكورَ في الصِّلَةِ! وأنَّ «ما» جِيءَ بها وصلةً إلى ذِكْرِ الصِّلَةِ، فتأمَّلْ ذلك؛ فلا معنى -إذنْ- للتعيين بالذِّكْرِ! إذْ لو أُرِيْدَ التعيينُ لكان بالاسمِ العَلَمِ أَوْلَى وأَحْرَى .
- والهَمزةُ في قَولِه: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، للإنكارِ التَّوبيخيِّ، وقيلَ: لِلتَّقريرِ، ويَحتَمِلُ أنْ تَكونَ الجُملةُ إخبارًا، خُوطِبَ بذلك على سَبيلِ التَّقريعِ، والمَعنى: بلْ أنتَ مِنَ العالينَ عِندَ نَفسِكَ؛ استِخفافًا به، وفيه مَزيدٌ مِنَ الإنكارِ على إبليسَ، ومَزيدٌ مِنَ التَّوبيخِ، فجَمَعه وأدخَلَه في زُمرةِ العالينَ ؟
6- قولُه تعالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هذا إبداءٌ لِلمانِعِ مِنَ السُّجودِ، أيْ: لو كانَ مَخلوقًا مِن نارٍ لَمَا سَجَدْتُ له؛ لأنَّه مَخلوقٌ مِثلي؛ فكيف أسجُدُ لِمَن هو دُوني؛ لِأنَّه مِن طِينٍ، والنارُ تَغلِبُ الطِّينَ وتأكُلُه؟ وقد جَرَتِ الجُملةُ الثانيةُ مِنَ الأُولى -وهي خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ- مَجرى المَعطوفِ عَطْفَ البَيانِ مِنَ المَعطوفِ عليه في البَيانِ والإيضاحِ؛ فهي دَليلٌ على المانِعِ لإبليسَ مِنَ السُّجودِ في ظَنِّه، ولم يَرِدْ في القُرآنِ أنَّ اللهَ رَدَّ عليه هذا التَّأصيلَ؛ لأنَّه أحقَرُ مِن ذلك، فلَعَنَه وطَرَدَه؛ لأنَّه ادَّعى باطِلًا، وعَصَى رَبَّه استِكبارًا، وطَردُه أجمَعُ؛ لإبطالِ عِلْمِه، ودَحْضِ دَليلِه .
- وقَولُه: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ادِّعاءٌ مِن إبليسَ -عليه اللَّعنةُ- لِشَيءٍ مُستَلزِمٍ لِمَنعِه مِنَ السُّجودِ على زَعمِه، وإشعارٌ بأنَّه لا يَليقُ أنْ يَسجُدَ الفاضِلُ لِلمَفضولِ كما يُعرِبُ عنه قَولُه: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 33] .
- وقَولُه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تَعليلٌ لِمَا ادَّعاهُ مِن فَضلِه علَيهِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ولقد أخطَأ اللَّعينُ حيثُ خَصَّ الفَضلَ بما مِن جِهةِ المادَّةِ والعُنصُرِ -مع أنَّ عنصرَ آدَمَ أفضَلُ-، وزَلَّ عنه ما مِن جِهةِ الفاعِلِ، كَمَا أنبَأ عَنْهُ قَولُه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وما مِن جِهةِ الصُّورةِ، كما نَبَّه عليه قَولُه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وما مِن جِهةِ الغايةِ، وهو مِلاكُ الأمْرِ؛ ولذلك أُمِرَ المَلائِكةُ بسُجودِهم عليهمُ السَّلامُ، حين ظَهَر لهم أنَّه أعلَمُ منهم بما يَدورُ عليه أمْرُ الخِلافةِ في الأرضِ، وأنَّ له خَواصَّ ليستْ لِغَيرِه .
7- قولُه تعالَى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
- ضَميرُ قَالَ عائِدٌ إلى اللهِ تَعالَى، على طَريقةِ حِكايةِ المُقاوَلاتِ، وفَرَّعَ أمْرَه بالخُروجِ مِنَ الجَنَّةِ بالفاءِ على ما تَقدَّمَه مِنَ السُّؤالِ والجَوابِ؛ لِأنَّ جَوابَه دَلَّ على كَونِ خُبثٍ في نَفْسِه بَدَتْ آثارُه في عَمَلِه، فلم يَصلُحْ لِمُخالَطةِ أهلِ المَلَأِ الأعلَى .
- وقَولُه: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ تَعليلٌ لِلأمْرِ بالخُروجِ، أيْ: مَطرودٌ مِن كُلِّ خَيرٍ وكَرامةٍ؛ فإنَّ مَن يُطرَدُ يُرجَمُ بالحِجارةِ، أو شَيطانٌ يُرجَمُ بالشُّهُبِ . وقيل غيرُ ذلك.
8- قولُه تعالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
- اللَّعنةُ: الإبعادُ مِن رَحمةِ اللهِ، وأُضيفَ إلى اللهِ لِتَشنيعِ مُتَعلَّقِها، وهو المَلعونُ؛ لِأنَّ المَلعونَ مِن جانِبِ اللهِ هو أشنَعُ مَلعونٍ. وتَقييدُ اللَّعنةِ بالإضافةِ مع إطلاقِها في قَولِه: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 35] ؛ لِمَا أنَّ لَعنةَ اللَّاعِنينَ مِنَ المَلائِكةِ والثَّقَلَينِ أيضًا مِن جِهتِه تَعالى، وأنَّهم يَدْعُونَ عليه بلَعنةِ اللهِ تَعالى، وإبعادِه مِنَ الرَّحمةِ .
- قَولُه: إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أيْ: إلى يَومِ الجَزاءِ والعُقوبةِ، وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كَمالِ فَظاعَتِها ليستْ جَزاءً لِجِنايَتِه، بل هي أُنموذجٌ لِمَا سَيَلقاه مُستَمِرًّا إلى ذلك اليَومِ، لكِنْ لا يَدُلُّ على أنَّ غايةَ لَعنةِ اللهِ تَعالى لِإبليسَ إلى يَومِ القِيامةِ، ثم تَنقَطِعُ عنه اللَّعنةُ بقيامِ القِيامةِ، وكيف تَنقَطِعُ وقدْ قال تَعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] ، وإبليسُ أظلَمُ الظَّلَمةِ؟ والمُرادُ أنَّ عليه اللَّعنةَ طُوالَ مُدَّةِ الدُّنيا، فإذا كان يَومُ القِيامةِ اقتَرَنَ له باللَّعنةِ مِن أنواعِ العَذابِ ما يَنسَى معه اللَّعنةَ؛ فكَأنَّها انقَطَعتْ. ويَتعَلَّقُ بذلك ثَلاثُ عِباراتٍ: يَوْمِ الدِّينِ وهو: يَومُ الجَزاءِ، ويَوْمِ يُبْعَثُونَ [الشعراء: 87] وهو يَومُ الحَشرِ، و يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] وهو الوَقتُ الذي فيه النَّفخةُ الأُولى، ولا ارتيابَ أنَّ إغواءَه إنَّما يَنتَهي إلى آخِرِ أيَّامِ التَّكليفِ، وهو الوَقتُ المَعلومُ؛ ولِهذا لَمَّا طَلَبَ الإغواءَ إلى يَومِ البَعثِ أُجيبَ إلى يَومِ الوَقتِ المَعلومِ، واختِصاصُ يَومِ الدِّينِ؛ لِأجْلِ أنَّ الجَزاءَ والعَذابَ إنَّما يُبتَدآنِ منه .
9- قولُه تعالَى: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
- قولُه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي، أيْ: أمهِلْني وأخِّرْني، والفاءُ مُتَعلِّقةٌ بمَحذوفٍ يَنسَحِبُ عليه الكَلامُ، أيْ: إذا جَعَلتَني رَجيمًا فأمهِلْني ولا تُمِتْني إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
- قَولُه: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وُرودُ الجَوابِ بالجُملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لِشُمولِ ما سَألَه لِآخَرينَ على وَجهٍ يُشعِرُ بكَونِ السَّائلِ تَبعًا لهم في ذلك؛ دَليلٌ واضِحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المُقَدَّرِ لهم أزَلًا، لا إنشاءً لإنظارٍ خاصٍّ به قد وَقَعَ إجابةً لِدُعائِه، وأنَّ استِنظارَه كانَ طَلَبًا لِتأخيرِ المَوتِ؛ إذْ بهِ يَتحقَّقُ كَونُه منهم، لا لِتأخيرِ العُقوبةِ كما قيلَ؛ فإنَّ ذلكَ مَعلومٌ مِن إضافةِ اليَومِ إلى الدِّينِ، أيْ: إنَّكَ مِن جُملةِ الذينَ أُخِّرَتْ آجالُهم أزَلًا حَسبَما تَقتَضيه حِكمةُ التَّكوينِ .
- قولُه: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وَقتُ النَّفخةِ الأُولى، لا إلى وَقتِ البَعثِ الذي هو المَسؤولُ؛ فالفاءُ في قوله: فَإِنَّكَ ليستْ لِرَبطِ الإنظارِ نَفْسِه بالاستِنظارِ، بل لِرَبطِ الإخبارِ المَذكورِ به، كما في قَولِ مَن قال: (فإنْ تَرحَمْ فأنتَ لِذاكَ أهلٌ)؛ فإنَّه لا إمكانَ لِجَعلِ الفاءِ فيه لِرَبطِ ما له تَعالى مِنَ الأهليَّةِ القَديمةِ لِلرَّحمةِ بوُقوعِ الرَّحمةِ الحادِثةِ، بلْ هي لِرَبطِ الإخبارِ بتِلك الأهليَّةِ لِلرَّحمةِ بوُقوعِها هذا. وقد تُرِكَ التَّوقيتُ في سُورةِ (الأعرافِ)، كما تُرِكَ النِّداءُ والفاءُ في الاستِنظارِ والإنظارِ؛ تَعويلًا على ما ذُكِرَ هاهنا، وفي سُورةِ (الحِجرِ)، وإنْ خَطَرَ ببالكَ أنَّ كُلَّ وَجهٍ مِن وُجوهِ النَّظمِ الكَريمِ لا بُدَّ أنْ يَكونَ له مَقامٌ يَقتَضيه مُغايرٌ لِمَقامِ غَيرِه، وأنَّ ما حُكيَ مِنَ اللَّعينِ إنَّما صَدَرَ عنه مَرَّةً، وكذا جَوابُه لم يَقَعْ إلَّا دَفعةً، فمَقامُ الاستِنظارِ والإنظارِ إنِ اقتَضَى أحدَ الوُجوهِ المَحكيَّةِ فذلك الوَجهُ هو المُطابِقُ لِمُقتَضى الحالِ، والبالِغُ إلى رُتبةِ البَلاغةِ ودَرَجةِ الإعجازِ، وأمَّا ما عَداهُ مِنَ الوُجوهِ فهو بمَعزِلٍ مِن بُلوغِ طَبَقةِ البَلاغةِ، فَضلًا على العُروجِ إلى مَعارِجِ الإعجازِ .
10- قولُه تعالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
- الباءُ في قولِه: فَبِعِزَّتِكَ لِلقَسَمِ، والفاءُ لِتَفريعِ كَلامِه على أمْرِ اللهِ إيَّاه بالخُروجِ مِنَ الجَنَّةِ وعِقابِه إيَّاه باللَّعنةِ الدَّائِمةِ، وهذا التَّفريعُ مِن تَركيبِ كَلامِ مُتَكلِّمٍ على كَلامِ مُتكَلِّمٍ آخَرَ، وهو المُلقَّبُ بـ (عَطفِ التَّلقينِ) في قَولِه تَعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] . وقيلَ: الفاءُ لِتَرتيبِ مَضمونِ الجُملةِ على الإنظارِ، ولا يُنافيه قولُه تعالَى: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] ؛ فإنَّ إغواءَه تَعالى إيَّاه أثَرٌ مِن آثارِ قُدرتِه تَعالى وعِزَّتِه، وحُكمٌ مِن أحكامِ قَهرِه وسَلطَنَتِه، فمَآلُ الإقسامِ بهما واحِدٌ، ولَعَلَّ اللَّعينَ أقسَمَ بهما جَميعًا، فحَكى تارةً قَسَمَه بأحَدِهما، وأُخرى بالآخَرِ، أيْ: فأُقسِمُ بعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أيْ: ذُرِّيَّةَ آدَمَ بتَزيينِ المَعَاصي لهم .
11- قولُه تعالَى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
- الفاءُ لِتَرتيبِ ما بَعدَها على ما قَبلَها، أيْ: فالحَقُّ قَسَمي، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [ص: 85] ، على أنَّ الحَقَّ إمَّا اسمُه تَعالَى، أو نَقيضُ الباطِلِ، عَظَّمَه اللهُ تَعالى بإقسامِه به، أو فأنا الحَقُّ، أو فقَوْلِي الحَقُّ، وقولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] حينَئِذٍ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحذوفٍ، أيْ: واللهِ لَأملَأنَّ... وقولُه تعالَى: وَالْحَقَّ أَقُولُ على كُلِّ تَقديرٍ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ على الوَجهَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِمَضمونِ الجُملةِ القَسَميَّةِ، وعلى الوَجهِ الثَّالثِ لِمَضمونِ الجُملةِ المُتقَدِّمةِ، أعني: فقَوْلي الحَقُّ، وقُوبِلَ تأكيدُ عَزمِ الشَّيطانِ الذي دَلَّ عليه قَولُه: فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] بتأكيدٍ مِثلِه، وهو لَفظُ (الحَقِّ) الدَّالِّ على أنَّ ما بَعدَه حَقٌّ ثابِتٌ لا يَتخَلَّفُ، ولم يَزِدْ في تأكيدِ الخَبَرِ على لَفظِ (الحَقِّ)؛ تَذكيرًا بأنَّ وَعدَ اللهِ تَعالى حَقٌّ لا يَحتاجُ إلى قَسَمٍ عليه؛ تَرَفُّعًا مِن جَلالِ اللهِ عن أنْ يُقابِلَ كَلامَ الشَّيطانِ بقَسَمٍ مِثلِه؛ ولذلك زادَ هذا المَعنى تَقريرًا بالجُملةِ المُعتَرِضةِ وهي: وَالْحَقَّ أَقُولُ. وَالْحَقَّ مَنصوبٌ على أنَّه مَفعولٌ لِمَا بَعدَه، وقُدِّمَ عليه؛ لِلقَصرِ، أو الاختِصاصِ، وهو بمَعنَى: لا أقولُ إلَّا الحَقَّ، أو هو على حِكايةِ لَفظِ المُقسَمِ به، ولا حاجةَ إلى القَسَمِ، ومَعناه التَّوكيدُ والتَّسديدُ .
12- قولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
- (مِنْ) في قَولِه: مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ بَيانيَّةٌ، وهي هنا بَيانٌ لِمَا دَلَّ عليه لَأَمْلَأَنَّ مِن مِقدارٍ مُبهَمٍ، فبُيِّنَ بآيةِ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ، وكافُ الخِطابِ في قَولِه: مِنْكَ في مَعنى اسمِ الجِنسِ، أيْ: مِن جِنسِكَ الشَّياطينِ؛ إذْ لا تَكونُ ذاتُ إبليسَ مِلئًا لِجَهنَّمَ، وإذْ قدْ عَطَفَ عليه وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، أيْ: مَن تَبِعَكَ مِنَ الذين أغوَيتَهم مِن بَني آدَمَ، فلا جائِزَ أنْ يَبقى مَن عدا هذَيْنِ مِنَ الشَّياطينِ والجِنَّةِ غَيرُ مِلءٍ لِجَهنَّمَ .
- ولَفظُ أَجْمَعِينَ لا يَخلو أنْ يُؤكَّدَ به الضَّميرُ في مِنْهُمْ أوِ الكافُ في مِنْكَ مع (مَنْ تَبِعَكَ)، ومَعناه: لَأملَأنَّ جَهنَّمَ مِنَ المَتبوعِينَ والتَّابِعينَ أجمَعينَ، لا أترُكُ منهم أحَدًا، أو: لَأمْلَأنَّها مِنَ الشَّياطينِ ومِمَّن تَبِعَهم مِن جَميعِ النَّاسِ، لا تَفاوُتَ في ذلك بَينَ ناسٍ وناسٍ بَعدَ وُجودِ الأتْباعِ منهم مِن أولادِ الأنبياءِ وغَيرِهم .