موسوعة التفسير

سورةُ الإنسانِ
الآيات (19-22)

ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ
1- قَولُه تعالى: ثَمَّ اسمُ إشارةٍ للمَكانِ البَعيدِ بمعنى (هُناك) مَبنيٌّ على الفَتحِ في محَلِّ نَصبٍ؛ ظرفُ مكانٍ مُتعَلِّقٌ بـ رَأَيْتَ، ومفعولُ الرُّؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القَصدَ: وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ إلى ذلك المكانِ رَأَيْتَ كَيْتَ وكَيْتَ، فهو مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازِمِ. وقيل: التَّقديرُ: رأيتَ ما ثَمَّ، فـ «ما» مفعولٌ به، وهو اسمٌ مَوصولٌ حُذِفَ، وقامتَ صِلَتُه «ثَمَّ» مَقامَه، وهو قَولُ الكوفيِّينَ.
2- قَولُه تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ: في نَصبِ عَالِيَهُمْ أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، و ثِيَابُ مُبتدَأٌ مؤخَّرٌ، كأنَّه قيل: فوقَهم ثيابُ... الثَّاني: أنَّه حالٌ مِن الضَّميرِ في عَالِيَهُمْ في قَولِه تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الإنسان: 19] ، وهو اسمُ فاعلٍ، وثِيَابُ مرفوعٌ على الفاعليَّةِ به، أي: يَطوفُ عليهم وِلْدانٌ عاليًا للمَطُوفِ عليهم ثِيابٌ، ولم يؤنِّثْ «عالِيًا»؛ لأنَّ «الثِّيابَ» غيرُ حقيقيِّ التَّأنيثِ. وقيل غَيرُ ذلك .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ويَطوفُ على الأبرارِ في الجنَّةِ بالشَّرابِ أو غَيرِه أولادٌ صِغارٌ، إذا رأيتَهم ظَنَنْتَهم -لحُسْنِهم وانتِشارِهم لخِدمةِ الأبرارِ- لُؤلؤًا مُفَرَّقًا، وإذا نَظَرْتَ هناك في تِلكَ الجنَّةِ أبصَرْتَ نَعيمًا ومُلْكًا عَظيمًا، عليهم ثيابٌ مِن حريرٍ رقيقٍ أخضَرِ اللَّونِ، ومِن فَوقِها ثيابٌ مِن حريرٍ غَليظٍ له بَريقٌ ولَمَعانٌ، وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ، وسقاهم اللهُ شَرابًا طاهِرًا مُطَهِّرًا لهم مِن كُلِّ أذًى.
يُقالُ للأبرارِ: إنَّ هذا النَّعيمَ ثوابٌ لكم على ما عَمِلْتُموه في الدُّنيا، وكان سَعْيُكم بالأعمالِ الصَّالحةِ مَشكورًا مُتَقَبَّلًا.

تفسير الآيات:

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى ذكَرَ مَن يكونُ خادِمًا في تلك المجالِسِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ المَطوفَ به؛ لأنَّه الغايةُ المقصودةُ- وصَفَ الطَّائِفَ؛ لِما في طَوافِه مِن العَظَمةِ المشهودةِ؛ تصويرًا لِما هم فيه مِن المُلْكِ، بعدَما نَجَوا منه من الهُلْكِ .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ.
أي: ويَدورُ على الأبرارِ في الجنَّةِ بالشَّرابِ أو غَيرِه أولادٌ صِغارٌ على سنٍّ واحِدةٍ، فلا يَهرَمونَ ولا يموتونَ .
إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا.
أي: إذا رأيتَ أولئك الوِلدانَ ظَنَنْتهم -لحُسْنِهم وبَياضِهم وصَفاءِ لَونِهم، وكَثرتِهم وانتِشارِهم لخِدمةِ الأبرارِ- لُؤلؤًا مُفَرَّقًا .
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر تَفصيلَ أحوالِ أهلِ الجنَّةِ؛ أتْبَعَه بما يدُلُّ على أنَّ هناك أمورًا أعلى وأعظَمَ مِن هذا القَدْرِ المذكورِ .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر المخدومَ والخَدَمَ؛ شَرَع في ذِكْرِ المكانِ .
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20).
أي: وإذا نَظَرْتَ هناك في تِلكَ الجنَّةِ أبصَرْتَ نَعيمًا ومُلْكًا عَظيمًا وسُلطانًا باهِرًا أعَدَّه اللهُ تعالى للأبرارِ .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ آخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولًا الجنَّةَ، وآخِرَ أهلِ النَّارِ خُروجًا مِنَ النَّارِ: رَجُلٌ يَخرُجُ حَبْوًا ، فيقولُ له رَبُّه: ادخُلِ الجنَّةَ. فيقولُ: رَبِّ، الجنَّةُ مَلْأَى. فيقولُ له ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فكُلُّ ذلك يُعيدُ عليه: الجنَّةُ مَلْأَى. فيقولُ: إنَّ لك مِثلَ الدُّنيا عَشْرَ مِرارٍ!)) .
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الدَّارَ وساكِنيها مِن مخدومٍ وخَدَمٍ؛ ذَكَر لِباسَهم .
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ.
أي: على أولئك الأبرارِ ثيابٌ مِن حريرٍ رقيقٍ أخضَرِ اللَّونِ، ومِن فَوقِها ثيابٌ مِن حريرٍ غَليظٍ له بَريقٌ ولَمَعانٌ .
وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ.
أي: وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ يَلبَسونَها في أيديهم زِينةً لهم .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تَبلُغُ الحِلْيةُ مِن المؤمِنِ حيثُ يَبلُغُ الوَضوءُ ) .
وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا.
أي: وسقَى اللهُ الأبرارَ شَرابًا بالِغَ الطَّهارةِ في نَفْسِه، لا كدَرَ فيه بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، مُطَهِّرًا لهم مِن كُلِّ أذًى أو سُوءٍ !
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22).
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً.
أي: يُقالُ للأبرارِ: إنَّ هذا النَّعيمَ الَّذي أُوتيتُموه في الجنَّةِ هو ثوابٌ لكم على ما عَمِلْتُموه في الدُّنيا مِن خَيرٍ .
وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا.
أي: وما عَمِلْتُم مِن خَيرٍ فإنَّ اللهَ يَشكُرُه لكم، فيَتقَبَّلُه منكم ولو كان قليلًا، ويُثيبُكم عليه ثَوابًا عَظيمًا .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ أحسَنُ مَن يُتَّخَذُ للخِدْمةِ الوِلْدانُ؛ لأنَّهم أخَفُّ حَرَكةً، وأسرَعُ مَشْيًا، ولأنَّ المخدومَ لا يتحَرَّجُ إذا أمَرَهم أو نهاهم .
2- قال الله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا هذا مِن تمامِ لَذَّةِ أهلِ الجنَّةِ؛ أن يكونَ خُدَّامَهم الوِلْدانُ المخَلَّدونَ، الَّذين تَسُرُّ رؤيتُهم، ويَدخُلونَ على مَساكِنِهم آمِنينَ مِن تَبِعَتِهم، ويَأتونَهم بما يَدْعُونَ وتَطلُبُه نُفوسُهم .
3- قَولُه تعالى: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا أي: إذا رأيتَهم في انتِشارِهم في قَضاءِ حَوائِجِ السَّادةِ، وكَثْرتِهم، وصَباحةِ وُجوهِهم، وحُسْنِ ألوانِهم وثيابِهم وحُلِيِّهم؛ حَسِبْتَهم لؤلؤًا مَنثورًا، ولا يكونُ في التَّشبيهِ أحسَنُ مِن هذا، ولا في المنظَرِ أحسَنُ مِن اللُّؤلُؤِ المنثورِ على المكانِ الحَسَنِ !
4- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًاأنَّ أهلَ الجَنَّةِ كلَّهم ملوكٌ فيها .
5- في قَولِه تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ دَلَّتْ لفظةُ: عَالِيَهُمْ على كَونِ ذلك اللِّباسِ ظاهِرًا بارِزًا يُجَمِّلُ ظواهِرَهم، ليس بمَنزِلةِ الشِّعارِ الباطِنِ، بل الَّذي يُلبَسُ فوقَ الثِّيابِ للزِّينةِ والجَمالِ .
6- في قَولِه تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا تأمَّلْ كيف جَمَعَ سُبحانَه لهم بَيْنَ نَوعَيِ الزِّينةِ الظَّاهِرةِ مِن اللِّباسِ والحُلِيِّ، كما جَمَعَ لهم بيْن الظَّاهرةِ والباطنةِ؛ فجَمَّلَ سُبحانَه البواطِنَ بالشَّرابِ الطَّهُورِ، والسَّواعِدَ بالأساورِ، والأبدانَ بثيابِ الحَريرِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ فيه سؤالٌ: قال تعالى في سورةِ (الكَهفِ): أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: 31] ، فكيف جَعَل تلك الأساوِرَ هاهنا مِن فِضَّةٍ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهما جنَّتانِ أوانيهما وجميعُ ما فيهما مِن فِضَّةٍ، وأُخْرَيانِ أوانيهما وجميعُ ما فيهما مِن ذَهَبٍ .
الثَّاني: أنَّ قولَه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ هذا في صِفةِ الأبرارِ، وأمَّا المقرَّبونَ فكما قال: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج: 23] .
الثَّالثُ: أنَّه لا مُنافاةَ بيْن الأمْرَينِ؛ فلَعلَّهم يُسَوَّرونَ بالجِنسَينِ؛ إمَّا على المُعاقَبةِ، أو على الجَمعِ، كما تفعَلُ النِّساءُ في الدُّنيا.
الرَّابعُ: أنَّ الطِّباعَ مُختَلِفةٌ، فرُبَّ إنسانٍ يكونُ استِحسانُه لبياضِ الفِضَّةِ فوقَ استِحسانِه لصُفرةِ الذَّهَبِ؛ فاللهُ تعالى يُعطي كُلَّ أحدٍ ما تكونُ رَغبتُه فيه أتَمَّ، ومَيْلُه إليه أشَدَّ. وقيل غَيرُ ذلك .
8- قولُه تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا استدَلَّ بعضُ العلماءِ بمفهومِ المُخالَفةِ في هذه الآيةِ على أنَّ الخمرَ نجِسةُ العَينِ؛ لأنَّ وصْفَه لشَرابِ أهلِ الجنَّةِ بأنَّه طَهورٌ يُفهَمُ منه أنَّ خمرَ الدُّنيا ليست كذلك، وممَّا يؤيِّدُ هذا أنَّ كلَّ الأوصافِ الَّتي مدَحَ بها تعالى خمرَ الآخرةِ مَنفيَّةٌ عن خمرِ الدُّنيا . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
9- الفرْقُ بيْنَ «سقَى» و«أسقى»: أنَّ «سَقَى» لِمَا لا كُلْفةَ معَه في السُّقْيا؛ ولهذا أوْرَدَه تعالى فِي شَرابِ الجَنَّةِ، فقال: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. و«أَسْقَى» لِمَا فيه كُلْفةٌ؛ ولهذا أوْرَدَه في شَرابِ الدُّنْيا، فقال: وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [المرسلات: 27] ، لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] ؛ لأنَّ السُّقْيا في الدُّنيا لا تَخْلُو مِن الكُلْفةِ أبَدًا .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا
- وُصِفَ الوِلدانُ بأنَّهم مُخَلَّدُونَ؛ للاحتِراسِ ممَّا قد يُوهِمُه اشتِقاقُ وِلْدَانٌ مِن أنَّهم يَشِبُّون ويَكتهِلون، أي: لا تَتغيَّرُ صِفاتُهم، فهُمْ وِلدانٌ دَومًا، وإلَّا فإنَّ خُلودَ الذَّواتِ في الجنَّةِ مَعلومٌ، فما كان ذِكرُه إلَّا لأنَّه تَخليدٌ خاصٌّ .
- والحِكمةُ في تَشبيهِ الوِلدانِ باللُّؤلؤِ المَنثورِ دونَ المَنظومِ: أنَّه تعالَى أراد تَشبيهَهُم -لحُسنِهم وانتشارِهم في الخِدمةِ- باللُّؤلؤِ الَّذي لم يُثقَبْ، وهو أشدُّ صَفاءً، وأحسَنُ مَنظرًا ممَّا ثُقِبَ؛ لأنَّه إذا ثُقِب نَقَص صَفاؤه ومائيَّتُه، وما لم يُثقَبْ لا يكونُ إلَّا مَنثورًا . وقيل: شُبِّهوا باللُّؤلؤِ الرَّطبِ إذا نُثِرَ مِن صَدَفِه؛ لأنَّه أحسَنُ وأكثَرُ ماءً .
وقيل: في كَونِه منثورًا فائدتان؛ إحداهُما: الدَّلالةُ على أنَّهم غيرُ معطَّلينَ، بل مَبثوثونَ في خِدمتِهم وحوائجِهم. والثَّانيةُ: أنَّ اللُّؤلؤَ إذا كان منثورًا -ولا سيَّما على بِساطٍ مِن ذهبٍ أو حريرٍ- كان أحسَنَ لِمَنظرِه، وأبهى مِن كَونِه مجموعًا في مكانٍ واحدٍ .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: مِثلَ أحوالِ المُلكِ الكبيرِ المُتنعِّمِ ربُّه، وفائدةُ هذا التَّشبيهِ تَقريبُ المُشبَّهِ لمَداركِ العُقولِ .
- وفِعلُ (رَأيتَ) الأوَّلُ مُنزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازمِ، يدُلُّ على حُصولِ الرُّؤيةِ فقطْ، لا تَعلُّقِها بمَرئيٍّ، أي: إذا وجَّهْتَ نَظَرَك، و(رَأيتَ) الثَّاني جَوابُ (إذا)، أي: إذا فَتحْتَ عَينَك تَرى نَعيمًا، والتَّقييدُ بـ (إذا) أفاد معْنى الشَّرطيَّةِ؛ فدَلَّ على أنَّ رُؤيةَ النَّعيمِ لا تَتخلَّفُ عن بصَرِ المُبصِرِ هنالك، فأفادَ معْنى: لا تَرى إلَّا نَعيمًا، أي: بخِلافِ ما يرى في جِهاتِ الدُّنيا .
 وقيل: مَفعولُ فِعلِ الشَّرطِ مَحذوفٌ؛ حُذِفَ اقتِصارًا، والمعْنى: وإذا رمَيتَ ببَصرِك هناك. وقيل: التَّقديرُ: وإذا رَأيتَ ما ثَمَّ، فحُذِفَ (ما) .
3- قولُه تعالَى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا
- قولُه: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ هذه الأشياءُ مِن شِعارِ الملوكِ في عُرفِ الناسِ زَمانَئذٍ، فهذا مُرتبِطٌ بقولِه: وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان: 20] .
- قولُه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا عُطِفَ على وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ، وساغ عطْفُ الماضي على المُضارِعِ؛ لأنَّه مُستقبَلُ المَعنى، وللإيذانِ بتَحقيقِه .
- قولُه: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا احتِراسٌ ممَّا يُوهِمُه شُرْبُهم مِن الكأْسِ المَمزوجةِ بالكافورِ والزَّنجبيلِ مِن أنْ يكونَ فيها ما في أمْثالِها المعروفةِ في الدُّنيا، ومِن الغَولِ، وسُوءِ القولِ والهَذيانِ، فعُبِّرَ عن ذلك بكَونِ شَرابِهم طَهورًا بصِيغةِ المُبالَغةِ في الطَّهارةِ، وهي النَّزاهةُ مِن الخَبائثِ، أي: مُنزَّهًا عمَّا في غيرِه مِن الخَباثةِ والفَسادِ .
- وأُسنِدَ سَقْيُ الشَّرابِ إلى ربِّهم؛ إظهارًا لكَرامتِهم، أي: أمَر هو بسَقْيِهم، كما يُقالُ: أطْعَمَهم رَبُّ الدَّارِ وسَقاهم . أو أُسنِدَ سَقْيُه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه أُرِيدَ به نوعٌ آخَرُ يَفوقُ على النَّوعينِ المُتقدِّمَينِ .
4- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا هذا الكلامُ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ، والقولُ المحذوفُ يُقدَّرُ فِعلًا في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ الغائبِ في (سَقَاهُمْ)، نحْو: يُقالُ لهم، أو يقولُ لهم ربُّهم، أو يُقدَّرُ اسمًا هو حالٌ مِن ذلك الضَّميرِ، نحْو: مَقولًا لهم هذا اللَّفظُ، أو قائلًا لهم هذا اللَّفظَ. والإشارةُ إلى ما يكونُ حاضِرًا لَدَيهم مِن ألوانِ النَّعيمِ المَوصوفِ فيما مَضى مِن الآياتِ، والمقصودُ مِن ذلك الثَّناءُ على الأبرارِ بما أسْلَفوا مِن تَقْوى اللهِ، وتَكرِمتُهم بذلك، وتَنشيطُ أنفُسِهم بأنَّ ما أنْعَمَ به عليهمْ هو حَقٌّ لهم جَزاءً على عَمَلِهم .
- وإقحامُ فِعلِ كَانَ للدَّلالةِ على تَحقيقِ كَونِه جَزاءً، لا مَنًّا عليهم بما لم يَستحقُّوا .
- والإتيانُ بفِعلِ كَانَ في قولِه تعالى: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ كَونِه سَعْيًا مَشكورًا .