موسوعة التفسير

سورةُ المُرسَلاتِ
الآيات (25-28)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ

غريب الكلمات:

كِفَاتًا: الكِفَاتُ: السِّتْرُ، والوِعاءُ الجامِعُ للشَّيءِ، يُقالُ: كَفَتَ الشَّيءَ: إذا ضَمَّه وجَمَعَه، والكَفْتُ: الضَّمُّ والجَمْعُ، فالأرضُ تَكفِتُ -تَحفَظُ وتَستُرُ وتَضُمُّ- الأحياءَ على ظَهْرِها، وتَكفِتُ الأمواتَ في بَطْنِها، وأصلُ (كفت): يدُلُّ على جَمعٍ وضَمٍّ .
رَوَاسِيَ: أي: جِبالًا ثَوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدُلُّ على ثَباتٍ .
شَامِخَاتٍ: أي: عالياتٍ مُرتَفِعاتٍ، وكُلُّ عالٍ فهو شامِخٌ، وأصلُ (شمخ): يدُلُّ على تعَظُّمٍ وارتِفاعٍ .
فُرَاتًا: الفُراتُ: الماءُ الشَّديدُ العُذوبةِ .

مشكل الإعراب:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا
قَولُه تعالى: كِفَاتًا: هو مَصدَرُ كَفَت يَكْفِتُ: أي: ضَمَّ وجَمَع.
وأَحْيَاءً: مفعولٌ به للمصدَرِ كِفَاتًا، أي: تَكْفِتُ الأرضُ الأحياءَ والأمواتَ، أي: تَضُمُّهم أحياءً على ظَهْرِها، وأمواتًا في بَطْنِها. ويجوزُ نصبُ أَحْيَاءً على الحاليَّةِ مِن مفعولِ كِفَاتًا المحذوفِ؛ للعِلْمِ به، والتَّقديرُ: كِفَاتًا الإِنْسَ أحياءً وأمواتًا. وقيل غيرُ ذلك .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ وِعاءً يَضُمُّ ويَجمَعُ جَميعَ الخَلْقِ؛ الأحياءَ على ظَهْرِها، والأمواتَ في بَطْنِها؟ وجَعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثوابِتَ عَظيمةَ الارتِفاعِ، وأسْقَيْناكم ماءً عَذْبًا سائِغًا.
ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دَلَّ تعالى بابتِداءِ الخَلْقِ على تمامِ قُدرتِه؛ أتْبَعَه الدَّلالةَ بانتِهاءِ أمرِه وأثنائِه، وما دَبَّر فيهما مِن المَصالحِ، فقال :
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25).
أي: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ وِعاءً يَضُمُّ ويَجمَعُ جَميعَ الخَلْقِ ؟
أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26).
أي: تَجمَعُ وتَضُمُّ الأحياءَ على ظَهْرِها، والأمواتَ في بَطْنِها .
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27).
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ.
أي: وجَعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثَوابِتَ عَظيمةَ الارتِفاعِ .
كما قال تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15] .
وقال سُبحانَه: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات: 32، 33].
وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا.
أي: وأسْقَيْناكم ماءً عَذْبًا سائِغًا .
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48، 49].
وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68 - 70].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا استَدَلَّ به مَن قال: إنَّ النَّبَّاشَ يُقْطَعُ؛ لأنَّ بَطْنَ الأرضِ حِرْزٌ للكَفَنِ، فإذا نَبَش وأخَذَ منه فهو سارِقٌ ، فقد جُعِل القَبْرُ للمَيِّتِ كالبَيتِ للحَيِّ، فيكونُ حِرْزًا ، والسَّارِقُ مِن الحِرزِ يجبُ عليه القطعُ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا يدُلُّ على وُجوبِ مُواراةِ الميِّتِ ودَفْنِه ، وأنَّ دَفْنَ الميِّتِ فَرْضُ كفايةٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى امْتَنَّ على العِبادِ بجَعْلِ الأرضِ صالِحةً لدَفنِ الأمواتِ، فيُؤخَذُ مِنَ الآيةِ وُجوبُ الدَّفنِ في الأرضِ إلَّا إذا تعَذَّر ذلك؛ كالَّذي يموتُ في سفينةٍ بَعيدةٍ عن مراسي الأرضِ، أو لا تستطيعُ الإرساءَ، أو كان الإرساءُ يَضُرُّ بالرَّاكِبينَ، أو يُخافُ تَعَفُّنُ الجُثَّةِ؛ فإنَّها يُرمَى بها في البَحرِ وتُثَقَّلُ بشَيءٍ؛ لِتَرسُبَ إلى غريقِ الماءِ، وعليه فلا يجوزُ إحراقُ الميِّتِ كما يفعَلُ مجوسُ الهِندِ، وكان يَفعَلُه بعضُ الرُّومانِ، ولا وَضْعُه لكواسِرِ الطَّيرِ كما كان يَفعَلُ مجوسُ الفُرْسِ !
3- قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا قد تَصدَّى الكلامُ لإثباتِ البَعثِ بشَواهدَ ثلاثةٍ؛ أحدُها: بحالِ الأُمَمِ البائدةِ في انْقِراضِها، والثَّاني: بحالِ تَكوينِ الإنسانِ، والثَّالثُ: مَصيرُ الكلِّ إلى الأرضِ، وفي كلِّ ذلك إبطالٌ لإحالَتِهم وُقوعَ البعثِ؛ لأنَّهم زَعَموا استحالتَه، فأُبطِلَت دَعْواهم بإثباتِ إمكانِ البعثِ؛ فإنَّه إذ ثَبَتَ الإمكانُ بَطَلَت الاستِحالةُ، فلمْ يَبْقَ إلَّا النَّظرُ في أدِلَّةِ تَرجيحِ وُقوعِ ذلك المُمكنِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا
- الهمزةُ في أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّقريريِّ .
- وقَدَّم الأرضَ؛ لأنَّ أقرَبَ الأشياءِ إلينا مِن الأُمورِ الخارجيَّةِ: هو الأرضُ .
- وقدْ جاء هذا التَّقريرُ على سَننِ سابقَيْه في عدَمِ العطفِ؛ لأنَّه على طَريقةِ التَّكريرِ للتَّوبيخِ، وهو تَقريرٌ لهم بما أنْعَمَ اللهُ به عليهم مِن خلْقِ الأرضِ لهم بما فيها ممَّا فيه مَنافِعُهم، ومَحلُّ الامتِنانِ هو قولُه: أَحْيَاءً، وأمَّا قولُه: ‎وَأَمْوَاتًا فتَتميمٌ وإدماجٌ ؛ لأنَّ فيه مُشاهَدةَ المُلازَمةِ بيْنَ الأحياءِ والأمواتِ تدُلُّ على أنَّ الحياةَ هي المقصودُ مِن الخِلقةِ، وهذا تَقريرٌ لهم بالاعتِرافِ بالأحوالِ المُشاهَدةِ في الأرضِ، الدَّالَّةِ على تَفرُّدِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ .
- وتَنكيرُ أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا للتَّفخيمِ -مع أنَّها تَكفِتُ الأحياءَ والأمواتَ جميعًا-، كأنَّه قيل: تَكفِتُ أحياءً لا يُعَدُّون، وأمواتًا لا يُحصَرون، على أنَّ أحياءَ الإنسِ وأمواتَهم لَيسوا بجَميعِ الأحياءِ والأمواتِ. فالتنكير للتَّعظيمِ مُرادًا به التَّكثيرُ؛ ولذلك لم يُؤتَ بهما مُعرَّفَينِ باللَّامِ. وجُوِّز أنْ يكونَ للتبعيضِ بإرادةِ أحياءِ الإنسِ وأمواتِهم، وهم ليسوا بجميعِ الأحياءِ والأمواتِ، ولا ينافي ذلك التَّفخيمَ؛ نظرًا إلى أنَّه بعضٌ غيرُ محصورٍ، كثيرٌ في نفسِه. ويجوزُ أنْ يكونَ المعنى: تَكفِتُكم أحياءً وأمواتًا، فيَنتصِبَا على الحالِ مِن الضَّميرِ؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتُ الإنسِ. وقيلَ: هُو مصدرٌ نُعِتَ به للمُبالغةِ .
2- قولُه تعالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- قولُه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ جُمِعَ رَوَاسِيَ على فَواعِلَ؛ لوُقوعِه صِفةً لِمُذَكَّرٍ غيرِ عاقلٍ .
- ونُكِّرَ رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ومَاءً فُرَاتًا لإفادةِ التَّبعيضِ؛ لأنَّ في السَّماءِ جِبالًا؛ قال اللهُ تعالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] ، وفيها ماءٌ فُراتٌ كثيرٌ، بلْ هي مَنبَعُه ومَصبُّه. أو تَنوينُ شَامِخَاتٍ ومَاءً فُرَاتًا؛ للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ؛ لدَلالةِ ذلك على عَظيمِ القُدرةِ .
- وعُطِفَ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا لِمُناسَبةِ ذِكرِ الجِبالِ؛ لأنَّها تَنحدِرُ منها المياهُ تَجْري في أسافِلِها، وهي الأوديةُ، وتَقِرُّ في قَراراتٍ وحِياضٍ وبُحَيراتٍ .