موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيتان (30-31)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

أَسَاوِرَ: جمعُ أسورةٍ، وأسورةٌ جمعُ سِوارٍ، وهو الذي يُلبَسُ في الذِّراعِ مِن ذهبٍ [535] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 68)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 164)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218).   .
سُنْدُسٍ: أي: رَقيقِ الحَريرِ [536] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 276)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 274)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 519).   .
وَإِسْتَبْرَقٍ: أي: غليظِ الحريرِ [537] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 442)، ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 276)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 274)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116).   .
الْأَرَائِكِ: أي: جمعُ أريكةٍ، وهي السريرُ في الحجالِ [538] الحَجَلَةُ: كالقُبَّةِ، وموضعٌ يُزَيَّنُ بالثيابِ والسُّتورِ للعَروسِ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 982).   ، وأصلُ (أرك) هنا: إقامةٌ، سُمِّيت بذلك؛ لكونِها مكانًا للإقامةِ [539] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 68)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/83)، ((المفردات)) للراغب (ص: 73)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 213)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). وقيل: تسميتُها بذلك لكونِها في الأرضِ متَّخذةً مِن أراكٍ، وهو شجرةٌ. يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 73).   .

المعنى الإجمالي:

يبينُ الله تعالى حسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ، إنَّا لا نُضيعُ أجورَهم ولا نَنقُصُها؛ لأنَّهم أحسَنوا عَمَلَهم، أولئك لهم جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ غُرَفِهم ومَنازِلِهم وأشجارِهم الأنهارُ العَذبةُ، يُحَلَّونَ فيها مِن أساوِرِ الذَّهبِ، ويَلْبَسونَ ثيابًا خَضراءَ مِن حريرٍ رَقيقٍ وغَليظٍ، يتَّكِئونَ فيها على الأسِرَّةِ المُزينةِ المغطَّاةِ بقُبَّةٍ مِن الثِّيابِ الفاخِرةِ، نِعْمَ الثوابُ تلك الجنَّاتُ، وحَسُنت مَنزِلًا ومَقرًّا لهم!

تفسير الآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ وَعيدَ المُبطِلينَ، أردَفَه بوَعدِ المُحِقِّينَ [540] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/460).   .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30).
أي: إنَّ الذين آمَنوا بكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ، إنَّا لا نُضيعُ جَزاءَهم؛ لأنَّهم أحسَنوا عَمَلَهم، ولا نُضيعُ جَزاءَ كُلِّ مَن أحسَنَ عمَلَه كذلك، فجعَلَه خالِصًا لله، واتَّبع فيه شَرْعَه على هَدْيِ رَسولِه [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/254)، ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/271)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 65).   .
كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران: 195] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120] .
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أن اللهَ تعالى لَمَّا أثبَتَ الأجرَ المُبهَمَ للمُحِقِّينَ، أردفه بالتَّفصيلِ مِن وُجوهٍ؛ أوَّلُها: صفةُ مكانِهم. وثانيها: لِباسُهم. وثالثُها: كيفيَّةُ جُلوسِهم [542] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/461).   .
وأيضًا لمَّا ذكَرَ مكانَ أهْلِ الكُفْرِ -وهو النَّارُ-، ذكَرَ مكانَ أهْلِ الإيمانِ، وهي جنَّاتُ عدْنٍ، ولمَّا ذكَرَ هناك ما يُغاثونَ به -وهو الماءُ كالمُهْلِ-، ذكَرَ هنا ما خَصَّ به أهْلَ الجنَّةِ من كونِ الأنهارِ تَجْري من تحتِهم، ثمَّ ذكَرَ ما أنعَمَ عليهم من التَّحليةِ واللِّباسِ اللَّذينِ هما زِينةٌ ظاهرةٌ [543] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/170).   .
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ.
أي: أولئك -الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ- لهم بساتينُ إقامةٍ دائِمةٍ، تجري الأنهارُ الكَثيرةُ بينَ أيديهم مِن تَحتِ غُرَفِهم ومَنازِلِهم وأشجارِهم [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/272)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 65).   .
كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] .
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ.
أي: يُزيَّنُ المُؤمِنونَ في الجنَّةِ بأساورَ مِن ذَهَبٍ في أيديهم [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((تفسير ابن عطية)) (3/514)، ((تفسير الشوكاني)) (3/335). قال ابن عثيمين: (مِنْ في مِنْ أَسَاوِرَ إمَّا أن تكون للتبعيض: أي يُحلَّونَ فيها بعضَ أساوِرَ، أي: يُحلَّى كلُّ واحدٍ منهم شَيئًا من هذه الأساورِ، وحينئذٍ لا يكونُ إشكالٌ، وإمَّا أن تكون «للبيان» أي: بيان ما يُحَلَّون، وهو أساوِرُ، وليس قلائِدَ أو خُروصًا مثلًا، وأما قَولُه: مِنْ ذَهَبٍ فهي بيانيَّة، أي: لبيان الأساوِرِ أنَّها مِن ذَهَبٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 66).   .
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.
أي: ويَلبَسونَ ثيابًا خَضراءَ مِن الحريرِ الرَّقيقِ، ومِنَ الحَريرِ الغليظِ [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/313)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 67). قال ابن عاشور: (السندسُ: صِنفٌ مِن الثياب، وهو الدِّيباجُ الرَّقيقُ يُلبَسُ مُباشِرًا للجِلدِ؛ ليقيَه غِلَظَ الإستبرقِ. والإستبرق: الدِّيباجُ الغَليظُ المنسوجُ بخُيوطِ الذهب، يُلبَسُ فوق الثيابِ المباشِرةِ للجِلدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/313).   .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ.
أي: والحالُ أنَّهم متَّكِئونَ [547] قال ابنُ كثير: (قولُه: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ الاتكاءُ: قيل: الاضطجاعُ. وقيل: التربُّعُ في الجلوس، وهو أشبَهُ بالمراد هاهنا، ومنه الحديثُ في الصحيح: «أمَّا أنا، فلا آكُلُ مُتَّكِئًا» فيه القولان). ((تفسير ابن كثير)) (5/156). وقال البقاعي: (استأنفَ الوَصفَ عن حالِ جُلوسِهم فيها بأنَّه جُلوسُ الملوكِ المتمَكِّنينَ مِن النَّعيمِ، فقال تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيهَا أي: لأنَّهم في غايةِ الرَّاحةِ). ((نظم الدرر)) (12/55). وقال ابن عثيمين: (الاتكاءُ يدُلُّ على راحةِ النَّفسِ وعلى الطُّمأنينةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 67). في الجنَّةِ على السُّررِ المزيَّنةِ المغطَّاةِ بقُبَّةٍ مِن الثِّيابِ الفاخِرةِ [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 212، 213)، ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/314)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/272).   .
كما قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس: 55- 56] .
نِعْمَ الثَّوَابُ.
أي: نِعمَ ثَوابُ المؤمنينِ تلك الجنَّاتُ التي وصَفَ اللهُ بعضَ نَعيمِها؛ جزاءً لهم على أعمالِهم الصَّالحةِ [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/256)، ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476).   .
وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا.
أي: وحسُنَت تلك الجنَّاتُ مُقامًا ومَنزِلًا يَستَقِرُّ فيه الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ [550] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 476)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/270، 273).   .
قال تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 75- 76] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا إحسانُ العَمَلِ: أن يُريدَ العَبدُ العملَ لوَجهِ الله مُتَّبِعًا في ذلك شَرعَ اللهِ، فهذا العمَلُ لا يُضَيِّعُه اللهُ ولا شيئًا منه، بل يحفَظُه للعاملينَ، ويُوَفِّيهم مِن الأجرِ بحَسَبِ عَمَلِهم وفَضْلِه وإحسانِه [551] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 475).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ يدلُّ على أنَّ الحِليةَ في الجنةِ عامَّةٌ للذُّكورِ والإناثِ؛ لأنَّه أطلَقَها في قَولِه: يُحَلَّوْنَ، وكذلك الحريرُ ونَحوُه [552] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 475).   .
2- قال الله تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السُّندُسُ والإستِبرقُ نوعانِ مِن الحريرِ، وأحسَنُ الألوانِ الأخضَرُ، وأليَنُ اللباسِ الحريرُ؛ فجمَعَ لهم بين حُسنِ مَنظَرِ اللِّباسِ والْتذاذِ العَينِ به، وبين نُعومتِه والتذاذِ الجِسمِ به، وقال تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [553] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 197).   [الحج: 23] .
3- قولُه: وَإِسْتَبْرَقٍ. إنِ قيل: إنَّ (إستبرق) ليس بعربيٍّ، وغيرُ العربيِّ من الألفاظِ دونَ العربيِّ في الفصاحةِ والبلاغةِ؟
فالجوابُ: أنَّه لو اجتمَعَ فُصحاءُ العالَمِ، وأرادوا أنْ يَتْركوا هذا اللَّفظَ، ويأْتوا بلفظٍ يقومُ مقامَه في الفصاحةِ لَعَجزوا؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى إذا حَثَّ عِبادَه على الطَّاعةِ، فإنْ لم يُرغِّبْهم بالوعدِ الجميلِ، ويُخوِّفْهم بالعذابِ الوبيلِ، لا يكونُ حَثُّه على وجْهِ الحكمةِ، فالوعدُ والوعيدُ نظرًا إلى الفَصاحةِ واجبٌ، ثمَّ إنَّ الوعدَ بما يرغَبُ فيه العُقلاءُ، وهو مُنحصرٌ في: الأماكنِ، والمآكلِ، والمشاربِ، والملابسِ، والمناكحِ، ونحوِها ممَّا تتَّحِدُ فيه الطِّباعُ أو تختلِفُ فيه. وأرفَعُ الملابسِ في الدُّنيا الحريرُ، والحريرُ كلَّما كان ثوبُه أثقَلَ كان أرفَعَ، فحينئذٍ وجَبَ على الفصيحِ أنْ يَذكُرَ الأثقلَ والأثخنَ، ولا يترُكَه في الوعدِ. فإذا أُريدَ ذِكْرُ هذا، فالأحسَنُ أنْ يُذْكَرَ بلفظٍ واحدٍ موضوعٍ له صريحٍ، وذلك ليس إلَّا (الإستبرق) [554] يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (2/127- 128)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/313-314).   ، على أنَّ كونَ كلمةِ (إستبرق) غيرَ عربيةٍ هو موضعُ خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ، فمِنهم مَن يرَى أنَّها عربيةُ الأصلِ، فالمسألةُ خلافيةٌ [555] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/515)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/484)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (ص: 745).   .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مُستأنفٌ استئنافًا بَيانيًّا، مُراعًى فيه حالُ السَّامعينَ من المُؤمِنين؛ فإنَّهم حين يَسْمعونَ ما أُعِدَّ للمُشرِكين، تتشوَّفُ نُفوسُهم إلى معرفةِ ما أُعِدَّ للَّذين آمنوا ونَبَذوا الشِّركَ، فأُعْلِموا أنَّ عمَلَهم مَرْعيٌّ عندَ ربِّهم، وجرْيًا على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ الوعيدِ بالوعدِ، والتَّرهيبِ بالتَّرغيبِ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/309-310).   . وهو في مَحلِّ التَّعليلِ للحثِّ على الإيمانِ المفهومِ من التَّخييرِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ؛ كأنَّه قيل: (والَّذين آمَنوا) [557] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/220).   .
     - ولعلَّ تَغييرَ نظْمِه عن الكلامِ على الفَريقِ الآخرِ في قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا... الآيةَ؛ للإيذانِ بكَمالِ تَنافي مآلَيِ الفريقينِ، أي: إنَّ الَّذين آمَنوا بالحقِّ الَّذي أُوحِيَ إليك [558] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/220).   .
     - قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا افتُتِحَتِ الجُملةُ الأُولى بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لتَحقيقِ مَضمونِها. وإعادةُ حرْفِ (إنَّ) في الجُملةِ الثَّانيةِ المُخبَرِ بها عن المُبتدَأِ الواقعِ في الجُملةِ الأُولى؛ لمَزيدِ العِنايةِ والتَّحقيقِ. والجُملةُ الثَّانيةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا لها استقلالٌ بمَضمونِها من حيث هي مُفيدةٌ حُكمًا يعُمُّ ما وقعَتْ خبرًا عنه، وغيرَه مِن كلِّ مَن يُماثِلُ الخبَرَ عنهم في عمَلِهم؛ فذلك العُمومُ في ذاتِه حُكمٌ جَديرٌ بالتَّأكيدِ؛ لتَحقيقِ حُصولِه لأربابِه [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/310).   .
     - وقَولُه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أشار بإظهارِ ضَميرِهم إلى أنَّهم استحَقُّوا ذلك الوَصفَ بالإحسانِ [560] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/54).   .
2- قوله تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا
     - جُملةُ: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي... يجوزُ أنْ تكونَ خبَرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وتكونَ جُملةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ اعتراضًا، أو تكونَ مُستأنفةً استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما أُجْمِلَ من عدَمِ إضاعةِ أجْرِهم يَستشرِفُ بالسَّامعِ إلى ترقُّبِ ما يُبيِّنُ هذا الأجْرَ [561] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/720)، ((تفسير البيضاوي)) (3/280)، ((تفسير أبي حيان)) (7/170)، ((تفسير أبي السعود)) (5/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/311).   .
     - وافتتاحُ الجُملةِ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِما فيه من التَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جديرونَ لِما بعدَ اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ الأوصافِ المذكورةِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، وهي كونُهم آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/311).   .
     - وفي قولِه: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ أُوثِر إضافةُ (تحت) إلى ضَميرِهم دونَ ضَميرِ الجنَّاتِ؛ زِيادةً في تَقريرِ المعنى الَّذي أفادَتْه لامُ المِلْكِ؛ فاجتمَعَ في هذا الخبرِ عِدَّةُ مُقرِّراتٍ لمَضمونِه، وهي: ذِكْرُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ، ولامُ المِلْكِ، وجَرُّ اسمِ الجهةِ بـ (مِن)، وإضافةُ اسمِ الجِهةِ إلى ضَميرِهم، والمقصودُ من ذلك: التَّعريضُ بإغاظةِ المُشرِكين؛ لتَتقرَّرَ بِشارةُ المُؤمِنين أتَمَّ تَقرُّرٍ [563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/311).   .
     - قولُه: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ... نكَّرَ (أساورَ)؛ لإبهامِ أمْرِها في الحُسنِ. وجمَعَ بين السُّندسِ-وهو ما رَقَّ من الدِّيباجِ- وبين الإستبرقِ -وهو الغليظُ منه- جمْعًا بين النَّوعينِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ فيها ما تَشْتهي الأنفُسُ وتلَذُّ الأعينُ. وخَصَّ الاتِّكاءَ؛ لأنَّه هيئةُ المُنعَّمينَ والمُلوكِ على أسِرَّتِهم [564] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/720)، ((تفسير البيضاوي)) (3/280)، ((تفسير أبي حيان)) (7/171-172)، ((تفسير أبي السعود)) (5/220).   ، وذلك بعدَ أن وصَف الجنةَ بأنَّ الأنهارَ تجري خلالَها مِن تحتِهم، وهذا يُسمَّى الاستِتباعَ [565] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/591). والاستِتباع -ويُقالُ له أيضًا: الاستقصاء- مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو: تناوُلُ المُتكلِّمِ معنًى يَستقصيه؛ فيأتي بجميعِ عَوارضِه ولوازمِه، بعدَ أن يَستقصيَ جميعَ أوصافِه الذاتيةِ، بحيثُ لا يترُكُ بعدَه فيه مقالًا، ومثالُه: قولُه تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266] ؛ فإنَّه تعالى لو اقتصَر على قوله: جَنَّةٌ لكان كافيًا، فلم يقِفْ عندَ ذلك حتَّى قال في تفسيرِها: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ؛ فإنَّ مُصابَ صاحبها بها أعظمُ، ثم زاد تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ مُتمِّمًا لوَصْفها بذلك، ثم كَمَّل وصْفَها بعدَ التتميمينِ فقال: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ فأتى بكلِّ ما يكونُ في الجِنان؛ ليشتدَّ الأسفُ على إفسادها، ثم قال في وصْف صاحبها: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، ثم استقصَى المعنى في ذلك بما يُوجِبُ تعظيمَ المصابِ بقولِه بعد وصْفِه بالكبر: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ، ولم يقِفْ عند ذلك حتى وصَفَ الذريةَ بالضعفاءِ، ثم ذَكَر استئصالَ الجنةِ التي ليس لهذا المصابِ غيرُها بالهلاكِ في أسرعِ وقتٍ، حيث قال: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، ولم يَقتصرْ على ذِكرِه للعلم بأنه لا يحصُل سرعةُ الهلاك، فقال: فِيهِ نَارٌ، ثم لم يقِفْ عند ذلك حتى أخبَر باحتراقها؛ لاحتمالِ أنْ تكون النارُ ضعيفةً لا تفي باحتراقها لِما فيها من الأنهار ورُطوبة الأشجار؛ فاحترَس عن هذا الاحتمال بقوله: فَاحْتَرَقَتْ؛ فهذا أحسنُ استقصاءٍ وقَع في كلامٍ، وأتمُّه وأكملُه. يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/252)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/122).   .
     - وبِناءُ فعْلِ يُحَلَّوْنَ فِيهَا للمفعولِ الَّذي لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ إشعارًا بأنَّهم يُكْرَمون بذلك، ولا يَتَعاطَون ذلك بأنفُسِهم. وأسنَدَ اللِّباسَ وَيَلْبَسُونَ إليهم؛ لأنَّ الإنسانَ يَتعاطى ذلك بنفْسِه، خُصوصًا لو كان باديَ العورةِ [566] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/171)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/312).   .
     - وقُدِّمتِ التَّحليةُ على اللِّباسِ؛ لأنَّ الحُلِيَّ في النَّفسِ أعظَمُ، وإلى القلْبِ أحبُّ، وفي القيمةِ أغلَى، وفي العينِ أحلَى [567] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/171).   . أو قُدِّمَ ذِكْرُ الحُليِّ على اللِّباسِ هنا؛ لأنَّ ذلك وقَعَ صِفَةً للجنَّاتِ ابتداءً، وكانت مَظاهِرُ الحُليِّ أبهَجَ للجنَّاتِ، فقُدِّمَ ذِكْرُ الحُليِّ، وأُخِّرَ اللِّباسُ؛ لأنَّ اللِّباسَ أشَدُّ اتِّصالًا بأصحابِ الجنَّةِ لا بمَظاهِرِ الجنَّةِ، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ الإنسانِ في قولِه: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ [الإنسان: 21] ؛ لأنَّ الكلامَ هُنالك جَرى على صِفاتِ أصحابِ الجنَّةِ [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/314).   .
     - قولُه: مِنْ أَسَاوِرَ الأساورُ: أصْلُه جمْعُ (أسورةٍ) الَّذي هو جمْعُ سِوارٍ؛ فصيغَةُ جمْعِ الجمْعِ للإشارةِ إلى اختلافِ أشكالِ ما يُحلَّون به منها؛ فإنَّ الحِليةَ تكونُ مُرصَّعةً بأصنافِ اليواقيتِ. وقيل: جمْعُ (سِوارٍ) على غيرِ قياسٍ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/312).   .
     - قولُه: مِنْ ذَهَبٍ في الكلامِ اكتفاءٌ، أي: من ذهَبٍ وفِضَّةٍ، كما اكْتَفى في آيةِ سُورةِ الإنسانِ بذِكْرِ الفِضَّةِ عن ذِكْرِ الذَّهبِ بقولِه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21] ، ولكلٍّ من المَعدنينِ جَمالُه الخاصُّ [570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/312).   .
     - قولُه: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا خُصَّ الأخضرُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه أعدلُ الألوانِ وأنفعُها عندَ البصرِ، وأشدُّ ما يكونُ راحةً للعينِ؛ ففيه جمالٌ، وفيه راحةٌ للعينِ، وكان مِن شعارِ الملوكِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/312)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 67).   .
     - قولُه: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا جُملةُ نِعْمَ الثَّوَابُ استئنافُ مدْحٍ، ومَخصوصُ فعْلِ المدحِ محذوفٌ؛ لدَلالةِ ما تقدَّمَ عليه. والتَّقديرُ: نِعْمَ الثَّوابُ الجنَّاتُ الموصوفةُ. وعُطِفَ عليه فعْلُ إنشاءٍ ثانٍ وهو وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا؛ لأنَّ (حسُنَ) و(ساء) مُستعملانِ استعمالَ (نِعْمَ) و(بئْس)؛ فعَمِلا عمَلَهما؛ ولذلك كان التَّقديرُ: وحسُنَتِ الجنَّاتُ مُرتفقًا. وهذا مُقابِلُ قولِه في حكايةِ حالِ أهْلِ النَّارِ: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/314).   .