موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (120-121)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

نَصَبٌ: أي: تَعَبٌ ومشَقَّةٌ .
مَخْمَصَةٌ: أي: مَجاعةٌ، مُشتقَّةٌ مِن خَمَصِ البَطنِ، أي: ضُمورِه، وأصلُ (خمص): يدلُّ على الضُّمرِ والتَّطامُنِ .
مَوْطِئًا: أي: أرضًا، أو مَنزِلًا، وأصلُ (وطأ): يدلُّ على تمهيدِ شَيءٍ وتَسهيلِه .
نَيْلًا: أي: قتلًا وهزيمةً أو أَسْرًا، وأصلُ (نيل): ما ينالُه الإنسانُ بِيَدِه .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ تعالى أنَّه ما كان ينبغي لأهلِ المَدينةِ ومَن حولَهم مِن سُكَّانِ البادِيةِ أن يتخَلَّفوا عن الخُروجِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ، ولا يترَفَّعوا بأنفُسِهم عن نَفسِه، ويَرضَوا لأنفُسِهم بالرَّاحةِ، وهو في تعَبٍ ومشقَّةٍ، ما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنَّه لا يُصيبُهم مِن عَطَشٍ ولا تعبٍ ولا مجاعةٍ شَديدةٍ في سبيلِ اللهِ، ولا يَطَؤونَ أرضًا يُغضِبُ الكُفَّارَ وَطؤُهم إيَّاها، ولا يُصيبونَ مِن عَدُوِّهم شيئًا مِن قَتلٍ أو هزيمةٍ ونحوِها، إلَّا كَتَبَ اللهُ لهم بذلك عمَلًا صالحًا؛ إنَّ اللهَ لا يضيعُ أجْرَ المُحسِنينَ.
ولا يُنفِقونَ نَفَقةً صَغيرةً ولا كبيرةً، ولا يقطعونَ في غَزوِهم واديًا، إلَّا كُتِبَ لهم ثوابُ ذلك؛ ليجزيَهم الله عليه، كأحسنِ ما يجزيهم على أحسنِ أعمالِهم التي كانوا يعملونها.

تفسير الآيتين:

مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بِقَولِه: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بوجوبِ الكونِ في مُوافَقةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في جميعِ الغَزَواتِ والمَشاهِدِ، أكَّدَ ذلك، فنهَى في هذه الآيةِ عن التخَلُّفِ عنه .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ المُؤمِنينَ بتَقوى اللهِ، وأمَرَ بكَينونَتِهم مع الصَّادِقينَ، وأفضَلُ الصَّادِقينَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ المُهاجِرونَ والأنصارُ؛ اقتضى ذلك مُوافَقةَ الرَّسولِ وصُحبَتَه أنَّى توجَّهَ مِن الغَزَواتِ والمَشاهِدِ، فعُوتِبَ العِتابَ الشَّديدَ مَن تخلَّفَ عن الرَّسولِ في غَزوةٍ، واقتضى ذلك الأمرَ لِصُحبَتِه، وبذلَ النُّفوسِ دُونَه .
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ.
أي: ما كان ينبغي للمُسلِمينَ مِن سُكَّانِ مَدينةِ النبيِّ ومَن حولَهم مِن سُكَّانِ البوادي أنْ يتخَلَّفوا عن الخُروجِ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةِ تَبوكَ .
وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ.
أي: وما كان ينبغي لهم أن يتَرَفَّعوا بأنفُسِهم عن نَفسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في صُحبَتِه في الجِهادِ، ويَرضَوا لأنفُسِهم بالرَّاحةِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تعَبٍ ومَشقَّةٍ !
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ.
أي: ما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنَّه لا يصيبُهم في الجهادِ مِن عَطَشٍ ولا تَعَبٍ .
وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: ولا يُصيبُهم مِن مجاعةٍ شَديدةٍ في جهادِهم لإعلاءِ كَلِمةِ الله .
وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ.
أي: ولا تَصِلُ أقدامُهم إلى أرضٍ يغضَبُ الكفَّارُ مِن وُصولِهم إليها .
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً.
أي: ولا يُصيبونَ من الكفَّارِ مِن شَيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ؛ من قتلٍ أو جراحٍ أو أسْرٍ، أو غنيمةٍ أو هزيمةٍ .
إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ.
أي: إلَّا كتَبَ اللهُ لهم بهذه الأعمالِ أعمالًا صالحةً وثوابًا جزيلًا .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الخيلُ ثلاثةٌ: هي لرَجُلٍ وِزرٌ، وهي لِرَجُلٍ سِترٌ، وهي لرجُلٍ أجْرٌ، فأمَّا التي هي له وِزرٌ، فرَجُلٌ ربَطَها رياءً وفَخرًا ونِواءً على أهلِ الإسلامِ، فهي له وِزرٌ، وأمَّا التي هي له سِترٌ، فرجلٌ رَبَطَها في سبيلِ اللهِ، ثمَّ لم ينسَ حَقَّ اللهِ في ظُهورِها ولا رِقابِها، فهي له سِترٌ، وأمَّا التي هي له أجرٌ، فرَجُلٌ ربَطَها في سبيلِ اللهِ لأهلِ الإسلامِ، في مَرجٍ وَرَوضةٍ ، فما أكلَتْ من ذلك المَرجِ أو الرَّوضةِ مِن شَيءٍ إلَّا كُتِبَ له عددَ ما أكَلَت حَسَناتٌ، وكُتِبَ له عددَ أرواثِها وأبوالِها حَسَناتٌ، ولا تَقطَعُ طِوَلَها ، فاستَنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفينِ ، إلَّا كتَبَ اللهُ له عدَدَ آثارِها وأرْواثِها حَسَناتٍ، ولا مَرَّ بها صاحِبُها على نهرٍ فشَرِبَت منه، ولا يريدُ أن يسقِيَها، إلَّا كتَبَ اللهُ له عدَدَ ما شَرِبَت حسناتٍ )) .
إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
أي: يُؤتَونَ تلك الأجورَ؛ لأنَّهم مُحسِنونَ، واللهُ لا يترُكُ إثابةَ مُحسِنٍ في عبادةِ اللهِ، مُحسِنٍ إلى عبادِ اللهِ .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال سُبحانه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] .
وقال عزَّ وجَلَّ: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 56] .
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها عَطفٌ على جُملةِ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو انتقالٌ مِن عِدادِ الكُلَفِ التي تَصدُرُ عنهم بلا قَصدٍ، في سبيلِ اللهِ، إلى بعضِ الكُلَفِ التي لا تخلو عن استشعارِ مَن تحُلُّ بهم بأنَّهم لَقُوها في سبيلِ اللهِ، فالنَّفقةُ في سبيلِ اللهِ لا تكونُ إلَّا عن قَصدٍ، يتذكَّرُ به المُنفِقُ أنَّه يسعى إلى ما هو وسيلةٌ لِنَصرِ الدِّينِ .
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ.
أي: ولا يُنفِقُ الغازونَ في سبيلِ اللهِ نَفقةً صَغيرةً ولا نَفَقةً كَبيرةً، ولا يُجاوِزونَ في غَزْوِهم واديًا ذاهِبينَ أو راجعينَ، إلَّا كُتِبَ لهم ثوابُ ذلك .
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ جَبرٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما اغبَرَّت قدَمَا عبدٍ في سبيلِ الله فتمَسَّه النَّارُ )) .
لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي:كُتِب لهم ثوابُ عملِهم ذلك؛ ليَجْزيَهم الله عليه، كأحْسنِ ما يَجزيهم على أحسنِ أعمالِهم التي كانوا يعملونها .
كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ مَن قصَدَ طاعةَ اللهِ، كان قيامُه وقُعودُه ومِشيَتُه وحَرَكتُه وسُكونُه، كلُّها حَسَناتٍ مكتوبةً عند الله، وكذا القَولُ في طَرَفِ المَعصيةِ، فما أعظَمَ بَرَكةَ الطاعةِ، وما أعظَمَ شُؤمَ المَعصيةِ !
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ فيه أشَدُّ تَرغيبٍ وتَشويقٍ للنُّفوسِ إلى الخُروجِ إلى الجهادِ في سَبيلِ الله، والاحتساب لِمَا يُصيبُهم فيه من المشَقَّاتِ، وأنَّ ذلك لهم رفعةُ دَرَجاتٍ، وأنَّ الآثارَ المترتِّبةَ على عملِ العبدِ، له فيها أجرٌ كبيرٌ .
3- النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَولَى بالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، فعلى كلِّ مُسلِمٍ أن يَفدِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِنَفسِه، ويُقَدِّمَه عليها؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أُمِروا بأن يَصحَبوه على البأساءِ والضَّرَّاءِ، وأن يُكابِدوا معه الأهوالَ بِرَغبةٍ ونَشاطٍ واغتِباطٍ، وأن يُلَقُّوا أنفُسَهم من الشَّدائِد ما تَلقاه نَفْسُه، عِلمًا بأنَّها أعزُّ نَفسٍ عندَ اللهِ وأكرَمُها عليه، فإذا تعَرَّضَت مع كرامَتِها وعِزَّتِها للخَوضِ في شِدَّةٍ وهَولٍ، وجَبَ على سائِرِ الأنفُسِ أن تتهافَتَ فيما تعَرَّضَت له، ولا يكتَرِثَ لها أصحابُها ولا يُقيموا لها وزْنًا، وتكون أخَفَّ شَيءٍ عليهم وأهوَنَه، فضلًا عن أن يَربَؤوا بأنفُسِهم عن مُتابَعتِها ومُصاحَبتِها، ويَضِنُّوا بها على ما سَمَحَ بنَفسِه عليه ، ففي قَولِه تعالى: وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أولى بالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، ومِن حقِّه أنَّه يجبُ أنْ يُؤثِرَه العطشانُ بالماءِ، والجائِعُ بالطَّعامِ، وأنَّه يجبُ أنْ يُوقَى بالأنفُسِ والأموالِ، وعُلِمَ بهذا أنَّ رغبةَ الإنسانِ بنَفْسِه أنْ يُصيبَه ما يُصيبُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن المشقَّةِ معه- حَرامٌ .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَايَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لعلَّه قلَّلَهم بصيغةِ القِلَّةِ بالنِّسبةِ إلى من أيَّدَه به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جُنودِه .
3- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمَّا كان العطَشُ أشَقَّ الأشياءِ المُؤذيةِ للمُسافِرِ بكَثرةِ الحَرَكةِ، وإزعاجِ النَّفسِ-وخصوصًا في شِدَّةِ الحَرِّ كغزوة تَبُوكَ- بُدِئَ به أوَّلًا، وثنَّى بالنَّصَبِ وهو التَّعَب؛ لأنَّه الكَلالُ الذي يلحَقُ المُسافِرَ، والإعياءُ النَّاشِئُ عن العطَشِ والسَّيرِ، وأتَى ثالثًا بالجُوعِ؛ لأنَّه حالةٌ يُمكِنُ الصَّبرُ عليها الأوقاتَ العديدةَ، بخلافِ العطَشِ والنَّصَبِ المُفضِيَينِ إلى الخلودِ والانقطاعِ عَن السَّفرِ، فكان الإخبارُ بما يَعرِضُ للمُسافِرِ أوَّلًا فثانيًا فثالثًا .
4- كلُّ ما يُؤلِمُ النُّفوسَ، ويَشُقُّ عليها، فإنَّه كفَّارةٌ للذُّنوبِ، وإنْ لم يكُنْ للإنسانِ فيه صُنعٌ ولا تسَبُّبٌ، كالمَرَضِ وغيره، كما دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ على ذلك، وأمَّا إن كان ناشِئًا عن فِعْلٍ هو طاعةٌ لله، فإنَّه يُكتَبُ لصاحِبِه به أجرٌ، وتُرفَعُ به دَرَجات، كالألمِ الحاصِلِ للمُجاهِدِ في سبيلِ الله تعالى؛ قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ .
5- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ استدَلَّ به من قال: إنَّ الفارِسَ يستحِقُّ سَهمَ الفَرَسِ بدُخولِ أرضِ الحَربِ، لا بالحيازةِ؛ لأنَّ وَطءَ دِيارِهم يُدخِلُ عليهم الذُّلَّ .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ دَلالةٌ على أنَّ مُغايظةَ الكُفَّارِ غايةٌ مَحبوبةٌ للرَّبِّ مَطلوبةٌ له .
7- قَولُ الله تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لَمَّا كان ربَّما تعنَّتَ مُتعَنِّتٌ فجعَلَ ذِكرَ (الصغيرة) قيدًا، قال: وَلَا كَبِيرَةً إعلامًا بأنَّه مُعتَدٌّ به؛ لئَلَّا يُترَكَ .
8- قال اللهُ تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ولم يقُل هاهنا «به» لأنَّ هذه أفعالٌ صادرةٌ عنهم .
9- قَولُه تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هذا يدُلُّ على أنَّ الجِهادَ مِن أحسَنِ أعمالِ العِبادِ . وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قولُه: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا... الآيةَ، استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، وفيه تَعريضٌ بالَّذين تَخلَّفوا مِن أهلِ المدينةِ ومِن الأعرابِ .
وصِيغةُ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خبرٌ مستعمَلٌ في إنشاءِ الأمرِ على طَريقِ المبالَغةِ؛ إذ جعَل التَّخلُّفَ ليس مِمَّا ثبَت لهم؛ فهُم بُرآءُ مِنه، فيَثبُتُ لهم ضِدُّه، وهو الخروجُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم إذا غزَا .
وخصَّ أهلَ المدينةِ ومَن حولَهم مِن الأعرابِ بالذِّكرِ معَ أنَّ كلَّ النَّاسِ في ذلك سواءٌ؛ لِقُربِهم مِنه، وأنَّه لا يَخْفى علَيهِم خُروجُه .
قولُه: ولَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ نهىٌ بليغٌ، معَ تقبيحٍ لأمرِهم، وتوبيخٍ لهم علَيه، وتهييجٍ لِمُتابعتِه بأنَفةٍ وحَميَّةٍ .
والباءُ في قولِه: بِأَنْفُسِهِمْ للمُلابَسةِ، حيثُ نزلَ الضَّنُّ بالأنفُسِ والحذَرُ مِن هَلاكِها بالتَّلبُّسِ بها في شدَّةِ التَّمكُّنِ؛ فاستُعمِلَ له حرفُ باءِ الملابَسةِ، وهذه ملابَسةٌ خاصَّةٌ، وإن كانَت النُّفوسُ في كلِّ حالٍ مُتلَبَّسًا بها، وهذا تركيبٌ بديعُ الإيجازِ، بالغُ الإعجازِ .
قولُه: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، بَدَأ في هاتَين الجملتَين بالأسبَقِ وهو الوَطْءُ، ثُمَّ ثَنَّى بالنَّيل مِن العدوِّ، وجاء العمومُ في الْكُفَّارَ بالألفِ واللَّامِ، وفي مِنْ عَدُوٍّ؛ لِكَونِه نكرة في سياقِ النَّفيِ، وبُدِئ أوَّلًا في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِما يَحُضُّ المسافِرَ في الجهادِ في نفسِه، ثمَّ ثانيًا بما يترتَّبُ على تَحمُّلِ تلك المشاقِّ مِن غيظِ الكفَّارِ، والنَّيلِ مِن العدوِّ .
وقولُه: وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا فيه تنكيرُ نَيْلًا؛ لِيَعُمَّ القليلَ والكثيرَ ممَّا يَسوؤُهم؛ قتلًا وأَسرًا وغنيمةً وهزيمةً .
قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ لـ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وتنبيهٌ على أنَّ الجهادَ إحسانٌ ، وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ تذييلٌ دلَّ على أنَّهم كانوا بتِلكَ الأعمالِ مُحسِنين، فدخَلوا في عُمومِ قضيَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بوجهِ الإيجازِ .
وفيه وضعُ المُظهَرِ موضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (لا يُضِيعُ أجْرَهم)- لِمَدْحِهم، والشَّهادةِ عليهم بالانتِظامِ في زُمرةِ المُحسِنين، وأنَّ أعمالَهم مِن قَبيلِ الإحسانِ .
2- قولُه تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
قولُه: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ فيه إطنابٌ في عدِّ مَناقِبِهم في الغَزوِ؛ لِتَصويرِ ما بذَلوه في سَبيلِ اللهِ، والنَّفقةُ الكبيرةُ أدخَلُ في القَصْدِ؛ فلِذلك نبَّه عليها وعلى النَّفقةِ الصَّغيرةِ؛ لِيُعْلِمَ بذِكْرِ الكَبيرةِ حُكْمَ النَّفقةِ الصَّغيرةِ؛ لأنَّ العِلَّةَ في الكبيرةِ أظهَرُ ، وإنَّما قدَّم الصَّغيرةَ على سَبيلِ الاهتِمامِ، وإذا كتَب أجْرَ الصَّغيرةِ فأَحْرى أجرُ الكبيرةِ .
قولُه: وَلاَ كَبِيرَةً فيه تَوسيطُ (لَا)؛ للتَّنصيصِ على استِبْدادِ كُلٍّ مِنهما بالكَتْب والجَزاءِ، لا لِتَأكيدِ النَّفيِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا .
قَولُ الله تعالى: وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا الوادي: هو مَسيلُ الماءِ في مُنفَرَجاتِ الجِبالِ وأغوارِ الآكامِ، خَصَّه بالذِّكرِ؛ لِمَا فيه من المشَقَّةِ .
قولُه: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ في ذِكْرِ كَانُوا والإتيانِ بخبَرِها مُضارِعًا يَعْمَلُونَ: إفادةُ أنَّ مِثْلَ هذا العمَلِ كان دَيدنَهم .
وفي هذه الآيةِ: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في الآيةِ السَّابقةِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَل صَالِحٌ، وقال بعدَها في هذه الآيةِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بدونِ (عَمَلٌ صَالِحٌ)؛ وذلك لأنَّ ما في الآيةِ الأولى مُشتمِلٌ على ما هو مِن عَملِهم، وهو قولُه: وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغيظُ الكُفَّارَ...، وعلى ما ليس مِن عَملِهم، وهو قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ...؛ فتفَضَّل اللهُ بإجرائِه مُجْرى عمَلِهم في الثَّوابِ؛ فناسبَ ذلك زيادةُ قولِه بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ؛ ولهذا عمَّ عَقِبَه في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وأمَّا ما ذُكِرَ في الآيةِ الثَّانيةِ هنا، فهو مُختَصٌّ بما هو مِن عمِلِهم، وهو قولُه: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً...؛ ليُكتَبَ لهم ذلك بِعَينِه؛ ولهذا خَصَّهم عَقِبه في قولِه: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فالفَرقُ بينهما: أنَّ الأوَّلَ ليس مِن فِعْلِهم، وإنَّما تولَّدَ عنه، فكُتِبَ لهم به عمَلٌ صالِحٌ، والثَّاني نفسُ أعمالِهم، فكُتِبَ لهم .
وأيضًا تَأخَّرَت هاتانِ الجُملَتانِ: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، وقُدِّمَت تلك الجُمَلُ السَّابقةُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ؛ لأنَّها أشَقُّ على النَّفسِ، وأنْكَى في العدوِّ، وهاتانِ أهوَنُ؛ لأنَّهما في الأموالِ وقَطْعِ الأرضِ إلى العدُوِّ، سواءٌ حصَل غيظُ الكفَّارِ والنَّيلُ مِن العدوِّ أوْ لَم يَحصُلا، فهذا أعَمُّ وتلك أخَصُّ، وكان تعليلُ تلك آكَدَ؛ إذ جاء بالجُملةِ الاسميَّةِ المؤكَّدةِ بـ(إنَّ)، وذكَر فيه الأجْرَ ولفْظَ (الْمُحْسِنِينَ)؛ تنبيهًا على أنَّهم حازوا رُتَبَ الإحسانِ الَّتي هي أعلى رُتَبِ المؤمِنين، وفي هاتَينِ الجُملَتَينِ أتَى بِلامِ العِلَّةِ، وهي مُتعلِّقةٌ بـ(كُتِبَ)، والتَّقديرُ: أحسَنُ جَزاءِ الَّذي كانوا يَعمَلون؛ لأنَّ عمَلَهم له جزاءٌ حسَنٌ، وله جزاءٌ أحسَنُ، وهنا الجزاءُ أحسنُ جزاءٍ .