موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (71-72)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

عَدْنٍ: أي: إِقامَةٍ وخُلدٍ، واستقرارٍ وثباتٍ، يُقال: عَدَن بالمكانِ، يَعْدِنُ عَدْنًا، إذا لَزِمه، ولم يبْرَح منه، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ .

 المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُؤمِنينَ والمؤمناتِ بَعضُهم أنصارُ بَعضٍ؛ يأمرونَ بالمعروفِ، وينهَونَ عن المُنكَرِ، ويؤدُّونَ الصَّلاةَ المفروضةَ كما يجِبُ، ويُعطونَ الزَّكاةَ لِمُستحقِّيها، ويُطيعونَ الله ورسولَه، أولئك سيرحَمُهم الله تعالى؛ إنَّ اللهَ عزيزٌ حَكيمٌ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه وَعَدَهم جناتٍ تَجري من تحتِ أشجارِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، ووَعَدَهم أن يُسكِنَهم منازِلَ حَسَنةً، لا عيبَ فيها، في جناتِ إقامةٍ دائمةٍ، لا يُخرجونَ منها، ورِضوانٌ منه تعالى عن المؤمنينِ والمؤمِناتِ أعظَمُ مِن نعيمِ الجنَّةِ، ذلك الذي وعَدَ اللهُ به المؤمنينَ والمؤمناتِ هو الفَوزُ العظيمُ.

تفسير الآيتين:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وصَف الله تعالى المُنافقين بالأعمالِ الفاسِدة، والأفعالِ الخَبيثةِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه أنواعَ الوَعيدِ في حقِّهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ ذكَرَ بعدَه- في هذه الآيةِ- كَونَ المُؤمِنينَ مَوصوفينَ بصِفاتِ الخَيرِ، وأعمالِ البِرِّ، على ضِدِّ صِفاتِ المُنافِقينَ .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ سبحانَه أنَّ المُنافِقينَ بَعضُهم من بعضٍ، وما توعَّدَهم به وما استَتبَعَه مِن تهديدِهم بإهلاكِ مَن شابَهوه، وختَمَ بما سبَّبَ هلاكَهم من إصرارِهم وعدَمِ اعتبارِهم- عطَفَ ببيانِ حالِ المؤمنينَ؛ ترغيبًا في التوبةِ، طَمَعًا في مِثلِ حالِهم ، فقال:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.
أي: وأمَّا المؤمِنونَ والمؤمناتُ فبَعضُهم أنصارُ بعضٍ، متحابُّونَ في اللهِ، مُتعاطِفونَ، غيرُ مُتفَرِّقينَ .
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ؛ يشُدُّ بعضُه بعضًا )) .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى )) .
ثمَّ بيَّن أوصافَهم الحميدةَ، كما بيَّن أوصافَ مَن قبلَهم مِن المنافقينَ، فقال :
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.
أي: المؤمنونَ والمؤمِناتُ يأمُرونَ النَّاسَ بكُلِّ خَيرٍ يُحبُّه اللهُ، مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ، ويَنهونَهم عن كلِّ شَرٍّ يُبغِضُه اللهُ، مِن الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي .
كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] .
وقال سبحانه: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112] .
وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
أي: ويؤدُّونَ الصَّلواتِ المفروضةَ بِشُروطِها وأركانِها وواجباتِها، ويُعطونَ زكاةَ أموالِهم لِمُستحِقِّيها .
وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: ويُلازِمونَ طاعةَ اللهِ تعالى فيما أمَرَهم به أو نهاهم عنه، ويُلازِمونَ طاعةَ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أمَرَهم به، أو نهاهم عنه .
أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ.
أي: هؤلاءِ الذينَ هذه صفتُهم سيرحَمُهم اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ .
إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى ذو عزَّةٍ، فمن أطاعه أعَزَّه، ومن عَصاه وكفَرَ به فإنَّه ينتقِمُ منه، لا يمنَعُه منه مانِعٌ، ولا ينصُرُه منه ناصِرٌ، فهو قَوِيٌّ قاهِرٌ، حكيمٌ في انتقامِه منهم، وفي جميعِ ما يفعَلُه، فيضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائقِ به .
وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الوَعدَ في الآيةِ الأُولَى على سبيلِ الإجمالِ؛ ذكَرَه في هذه الآيةِ على سبيلِ التَّفصيلِ؛ وذلك لأنَّه تعالى وعَدَ بالرَّحمةِ، ثمَّ بَيَّن في هذه الآيةِ أنَّ تلك الرحمةَ هي هذه الأشياءُ .
وأيضًا لَمَّا أعقَبَ المُنافِقينَ بذِكرِ ما وعَدَهم به من نارِ جهنَّمَ، أعقَبَ المؤمنينَ بذِكرِ ما وعَدَهم به من نعيمِ الجِنانِ .
وأيضًا لما ذكَرَ الله تعالى كَونَ المُؤمِنينَ مَوصوفينَ بصِفاتِ الخَيرِ، وأعمالِ البِرِّ؛ ذكَرَ بَعدَه أنواعَ ما أعَدَّ الله لهم من الثَّوابِ الدَّائمِ، والنَّعيمِ المُقيمِ .
وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: وعَدَ اللهُ المُؤمِنينَ والمؤمِناتِ بَساتينَ تجري من تحتِ أشجارِها أنهارُ الجنَّةِ، ماكثينَ فيها أبدًا .
كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57] .
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.
أي: ووعَد اللهُ المؤمنينَ والمؤمِناتِ أن يُسْكِنَهم منازِلَ حَسَنةً، لا عَيبَ فيها ، مبنيَّةً في بساتينِ إقامةٍ دائمةٍ، لا يُخرَجونَ منها .
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جنَّتانِ مِن فِضَّةٍ آنيَتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ مِن ذَهَبٍ آنيتُهما وما فيهما، وما بين القَومِ وبين أن ينظُروا إلى ربِّهم إلَّا رِداءُ الكِبرِ على وَجهِه، في جنَّةِ عَدْنٍ )) .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ للمُؤمِنِ في الجنَّةِ لَخَيمةً مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ مُجَوَّفةٍ، طُولها سِتُّون مِيلًا، للمُؤمِنِ فيها أهلُونَ، يطوفُ عليهم المؤمِنُ، فلا يرى بعضُهم بعضًا )) .
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ.
أي: ورضا الله تعالى عن المؤمِنينَ والمؤمناتِ أعظمُ وأفضَلُ ممَّا هم فيه مِن نَعيمِ الجنَّةِ .
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيك ربنا وسَعدَيك، والخَيرُ في يَدَيك، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضَى يا رَبِّ، وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلْقِك؟! فيقولُ: ألَا أعطِيكم أفضَلَ مِن ذلك؟ فيقولونَ: يا ربِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ من ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: هل تَشتَهونَ شَيئًا فأزيدَكم؟ فيقولونَ: ربَّنا، وما فوقَ ما أعطيتَنا؟! يقول: رِضواني أكبَرُ )) .
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: ما وعدَ اللهُ تعالى به المؤمنينَ والمُؤمِناتِ مِن النَّعيمِ والرِّضوانِ في الآخرةِ، هو النَّجاةُ العظيمةُ، والظَّفَر الكبيرُ الذي لا أكبَرَ ولا أعظَمَ منه .
كما قال تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 12] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 7-8] .

الفوائد التربوية:

1- دلَّ قولُه تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أنَّ المؤمنَ يحبُّ المؤمنَ، وينصُرُه بظَهرِ الغَيبِ، وإنْ تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعدَ الزَّمانُ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذه الأمورُ الخَمسةُ بها يتميَّزُ المؤمِنُ مِن المنافِقِ، فالمنافِقُ- على ما وصَفَه اللهُ تعالى في الآيةِ المتقَدِّمة- يأمرُ بالمنكَرِ، وينهى عن المعروفِ، والمؤمِنُ بالضِّدِّ منه. والمنافِقُ لا يقومُ إلى الصَّلاةِ إلَّا مع نوعٍ مِن الكسَلِ، والمؤمِنُ بالضِّدِّ منه. والمنافِقُ يبخَلُ بالزكاة وسائِرِ الواجباتِ، والمؤمنونَ يُؤتونَ الزَّكاةَ. والمنافِقُ إذا أمَرَه الله ورسولُه بالمسارعةِ إلى الجهادِ، فإنَّه يتخلَّفُ بنَفسِه، ويثَبِّطُ غَيرَه، والمؤمنونَ بالضدِّ منهم .
3- في قولِه تعالى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ دلالةٌ على أنَّ دخولَ المؤمنين الجنةَ إنَّما هو برحمتِه سبحانه لا بأعمالِهم؛ لأنَّه- تبارك وتعالى- بعدَ ما وصفَهم به مِن كثرةِ الأعمالِ، وَعَدَهم الرحمةَ قبلَ الجنةِ، حتى يكونَ دخولُهم إيَّاها برحمتِه لا بأعمالِهم؛ إِذْ أعمالُهم لو قِيْسَتْ ببعضِ النِّعَمِ لاستفرغَتْها؛ فلا يحصلُ لهم إلَّا رحمتُه، فلمَّا تغمدتْهم وأدخلَتْهم دارَ كرامتِه؛ عَطَفَ عليهم بفضلٍ جديدٍ، ونعمةٍ مثناةٍ .
4- اللهُ تعالى جعلَ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، فَرْقَ ما بين المؤمِنينَ والمُنافِقينَ؛ لأنَّه قال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فثَبَت بذلك أنَّ أخَصَّ أوصافِ المُؤمِنينَ وأقواها دَلالةً على صِحَّةِ عَقْدِهم، وسلامةِ سَريرتِهم، هو الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَر، وهاتان الصِّفتانِ هما سِياجُ حِفظِ الفَضائِلِ، ومَنعِ فشُوِّ الرذائلِ، وقد فضَّلَ الله تعالى بهما أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سائرِ الأمَمِ في قَولِه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
5- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هؤلاء الآمِرونَ بالمَعروفِ، والنَّاهونَ عن المُنكَرِ أطبَّاءُ الأديانِ، الذين تشفَى بهم القلوبُ المريضةُ، وتهتدي بهم القُلوبُ الضالَّةُ، وتَرشُدُ بهم القلوبُ الغاويةُ، وتستقيمُ بهم القُلوبُ الزائغةُ، وهم أعلامُ الهدى ومصابيحُ الدُّجى .
6- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ مَنْ كان مُؤْمِنًا وجَبَتْ مُوالاتُه مِن أيِّ صِنْفٍ كان، ومَنْ كان كافِرًا وَجَبَتْ مُعاداتُه مِن أيِّ صِنْفٍ كان، ومَن كان فيه إيمانٌ وفيه فجورٌ، أُعطِيَ مِن المُوالاةِ بحسَبِ إيمانِه، ومِن البُغضِ بحسَبِ فُجورِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ وظيفةَ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ ليست خاصةً بالرِّجالِ، بل حتى النِّساءُ عليهنَّ أن يأمُرنَ بالمعروفِ، ويَنهَينَ عن المُنكَر، ليس في مجامِعِ الرِّجالِ، وفي أسواقِ الرِّجالِ، لكنْ في حقولِ النِّساءِ، ومُجتَمَعاتِ النِّساءِ .
2- قَولُه تبارك وتعالى: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: في سائِرِ الأمورِ، في مُقابلةِ وَصْفِ المنافقينَ بكَمالِ الفِسقِ، والخُروجِ عن الطَّاعةِ .
3- لا يُشرَعُ اجتماعُ طائفةٍ وتحزُّبُهم على التَّناصُرِ المُطلَق، بحيث ينصُرُ بعضُهم بعضًا في الحقِّ والباطلِ، بل الواجبُ على كلِّ أحدٍ اتِّباعُ كتابِ الله وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمؤمنونَ إخوةٌ يجِبُ موالاةُ بعضِهم بعضًا وتناصرُهم، وتعاونُهم على البِرِّ والتَّقوى، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الآيةُ نَصٌّ في مساواةِ النِّساءِ للرِّجالِ في نعيمِ الآخرةِ كُلِّه حتى أعلاه، بالتَّبَعِ؛ لِمُساهَمتِهنَّ لهم في التَّكليفِ ووَلايةِ الإيمان، إلَّا ما خَصَّهنَّ الشَّرعُ به لِضَعفِهنَّ، وانفِرادِهنَّ بوظائفِهنَّ الخاصَّةِ بهنَّ؛ إذ حَطَّ عنهنَّ وُجوبَ القتالِ، والصَّلاةَ والصِّيامَ في بعضِ الأحوالِ، وهذا من المعلومِ بالضَّرورةِ مِن أحكامِ الإسلام، وإنْ جَهِلَه أو تجاهَلَه أعداؤُه الطَّغام .
5- رِضا اللهِ عن العبدِ أكبَرُ مِن الجنَّةِ وما فيها؛ لأنَّ الرِّضا صفةُ اللهِ، والجنَّةُ خَلْقُه؛ قال الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ بعد قولِه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وهذا الرِّضا جزاءٌ على رِضاهم عنه في الدُّنيا، ولَمَّا كان هذا الجزاءُ أفضَلَ الجزاءِ، كان سبَبُه أفضَلَ الأعمالِ .
6- قال الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ قولُه: أَكْبَرُ تفضيلٌ لم يُذكَرْ معه المفضَّلُ عليه؛ لظهورِه مِن المقامِ، أي: أكبَرُ مِن الجنَّاتِ؛ لأنَّ رِضوانَ الله أصلٌ لجميعِ الخَيراتِ، وفيه دليلٌ على أنَّ السَّعاداتِ الرُّوحانيَّةَ أعلى وأشرَفُ مِن الجُثمانيَّة .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قولُه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عَبَّر عَنْ نِسبةِ المؤمنينَ بعْضِهم إلى بعضٍ بالوَلايةِ، وعن نِسْبةِ المُنافِقينَ بـمِنْ الاتِّصاليَّةِ؛ للإيذانِ بأنَّ نِسْبةَ هؤلاءِ-أي: المُؤمنِينَ- بطَريقِ القَرابةِ الدِّينيَّةِ، المبنيَّةِ على المُعاقَدةِ، المُسْتتبِعَةِ للآثارِ مِنَ المعونةِ والنُّصْرةِ وغيرِ ذلك، وأنَّ نِسْبةَ أولئكَ-أي: المُنافِقينَ- بمُقْتضَى الطَّبيعةِ والعادةِ ؛ فقولُه في المُؤمنِينَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ مُقابِلُ قولِه في الْمُنَافِقِينَ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وعَبَّرَ في جانِبِ المؤمنينَ والمؤمناتِ بأنَّهُمْ أولياءُ بَعْضٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّ اللُّحْمةَ الجامعةَ بَيْنَهُمْ هي وَلايةُ الإسلامِ؛ فهم فيها على السَّواءِ، ليس واحدٌ مِنْهم مُقلِّدًا للآخَرِ، ولا تابعًا له على غيرِ بصيرةٍ؛ لِما في مَعْنى الوَلايةِ مِنَ الإشعارِ بالإخلاصِ والتَّناصُرِ، بخِلافِ المنافقينَ، فكأنَّ بَعْضَهم ناشئٌ مِنْ بَعْضٍ في مَذامِّهِم .
قولُه: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمَّا وَصَفَ المؤمنينَ بقولِه: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ذَكَرَ بَعْدَه ما يجرِي كالتَّفسيرِ والشَّرْحِ له، وهي الخَمسةُ التي يُميَّزُ بها المؤمِنُ على المنافِقِ؛ فالمُنافِقُ يَأْمُرُ بالمُنْكَرِ، ويَنْهَى عَنِ المعروفِ، ولا يَقومُ إلى الصَّلاةِ إلَّا وهو كَسْلانُ، ويَبْخَلُ بالزَّكاةِ، ويَتخلَّفُ بنَفْسِهِ عَنِ الجِهادِ، وإذا أمَرَه اللهُ تَثبَّطَ وثَبَّطَ غيرَه، والمؤمنُ بضِدِّ ذلك كُلِّه .
وزِيدَ في وَصْفِ المؤمنينَ هُنا: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ تَنويهًا بأنَّ الصَّلاةَ هي أعظمُ المعروفِ ، ومُقابلةً لِمَا سَبَقَ مِنْ قولِهِ تَعالى: نَسُوا اللَّهَ .
قال اللهُ تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ خصَّصَ إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ بالذِّكرِ مِن جملةِ العباداتِ؛ لِكَونِهما الرُّكنَينِ العَظيمَينِ فيما يتعلَّقُ بالأبدانِ والأموالِ .
قولُه: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فيه الإتيانُ بالسِّينِ التي تَدُلُّ على اسْتِقبالِ الفِعْلِ؛ لأنَّ الرَّحْمةَ هنا عِبارةٌ عمَّا يَترتَّبُ على تِلْكَ الأعمالِ الصَّالِحةِ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ في الآخِرةِ ، وهذه السِّينُ تفيدُ تَأكيدَ حُصولِ الرَّحمةِ في المُسْتَقْبَلِ؛ فحَرْفُ الاسْتِقبالِ يُفيدُ مَعَ المُضارِعِ ما تُفيدُ (قَدْ) مَعَ الماضي .
واسْمُ الإشارةِ أُولئِكَ للدَّلالةِ على أنَّ ما سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارةِ صاروا أَحْرياءَ به مِنْ أجْلِ الأوصافِ المذكورةِ قَبْلَ اسْمِ الإشارةِ .
وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تعليلٌ لجُمْلةِ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، أي: إنَّهُ تعالى لِعزَّتِهِ يَنْفَعُ أولياءَه، وإنَّهُ لِحَكْمتِه يَضَعُ الجزاءَ لِمُسْتَحِقِّه . وقيل: هي تَعليلٌ للوَعْدِ اللَّاحِقَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ... .
وقيل: لأنَّه لا يرحمُ إلا مَن ليس فوقَه أحدُ يردُّ عليه حُكمَه، وهو العزيزُ؛ لأنَّ العزيزَ في صفاتِ الله هو الغالبُ، ووصف بالحكيم أيضًا؛ لأنَّ الحكيمَ مَن يضعُ الشيءَ في محلِّه، فالله تعالى كذلك، إلَّا أنَّه قد يُخفي وجهَ الحكمةِ في بعضِ أفعالِه، فيتوهمُ الضعفاءُ أنَّه خارجٌ عن الحكمةِ، فكان في الوصفِ بالحكيمِ احتراسٌ حسنٌ .
وقيل: ختَم الآيةَ بوصفِ العزةِ والحكمةِ؛ ليناسبَ افتتاحَها بالموالاةِ، وتعقيبَها بآيةِ الجهادِ .
وقيل: إنَّ قولَه: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يوجبُ المبالغةَ في الترغيبِ والترهيبِ؛ لأنَّه عزيزٌ لا يمنعُ مِن مرادِه في عبادِه مِن رحمةٍ أو عقوبةٍ، وحكيمٌ يدبرُ أمرَ عبادِه على ما يقتضيه العدلُ والصوابُ .
ولولا أنَّ الوعدَ هنا للمُقابلةِ بالوعيدِ الَّذي قبلَه، لكانَ المناسِبُ أنْ يُقالَ: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
2- قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قولُه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَفصيلٌ لآثارِ رَحْمتِهِ الأخرويَّةِ إِثْرَ ذِكْرِ رَحْمتِهِ الدُّنيويَّةِ، وفيه إظهارٌ في مَوقِعِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: وَعَدَهم اللهُ-؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، والإشعارِ بعِلِّيَّةِ وَصْفِ الإيمانِ لحُصولِ ما تَعلَّقَ به الوَعْدُ، وعَدَمُ التَّعرُّضِ لذِكْرِ ما مَرَّ مِن الأمرِ بالمعروفِ وغيرِ ذلك؛ للإيذانِ بأنَّهُ مِنْ لوازِمِه ومُسْتَتْبعاتِه .
قولُه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..... ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه تفصيلٌ للوعدِ الإجماليِّ الذي في قولِه: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ؛ تَنْبيهًا على أنَّ تِلْكَ الرَّحْمةَ هي هذه الأشياءُ .
قولُه: وَرِضْوانٌ مُنَكَّرٌ للتَّنويعِ، يَدُلُّ على جِنْسِ الرِّضوانِ، وإنَّما لَمْ يُقْرَنْ بلامِ تَعريفِ الجِنْسِ؛ ليُتوسَّلَ بالتَّنكيرِ إلى الإشعارِ بالتَّعظيمِ؛ فإنَّ رِضوانَ اللهِ تعالى عظيمٌ ، وتأمَّلْ كيف جاء بالرِّضوانِ مُبتدأً مُنكَّرًا في سِياقِ الإثباتِ، مُخبَرًا عنه بأنَّه أكبَرُ مِن كُلِّ ما وُعِدوا به فأيُّ شَيءٍ كان مِن رضاه عن عَبدِه، وأيسَرُ شَيءٍ مِن رضوانِه؛ أكبَرُ مِن الجنَّاتِ وما فيها مِن المساكِنِ الطَّيِّبةِ وما حَوَتْه ، وعَدَمُ نَظْمِه في سِلكِ الوَعْدِ مع عِزَّتِه في نَفْسِه؛ لأنَّه مُتحقِّقٌ في ضِمْنِ كُلِّ موعودٍ، ولأنَّه مُسْتَمِرٌّ في الدَّارينِ .
قولُه: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه التعبيرُ باسْمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِنْ معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ دَرَجتِهِ في العِظَمِ والفخامةِ .
وفيه التأكيدُ بضميرِ الفَصلِ هُوَ وبالجملةِ الاسميَّةِ، والوصفِ بـ العَظِيمُ المفيدِ للأهميَّة، وكذلك أُتِي بضمير الفصل هُوَ لتخصيصِ الفوزِ بالفضلِ المشارِ إليه، وهو قصرٌ لإفادةِ معنى الكمالِ، كأنَّه لا فوزَ غَيرُه ، ودخولُ ضميرِ الفصلِ هُوَ أيضًا فيه تَنْبِيهٌ على عِظَمِ شَأنِ الْمَذْكُورِ .