موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (12-15)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ

غريب الكلمات:

بُشْرَاكُمُ: أي: بِشارَتُكم الَّتي تُبَشَّرون بها، والبُشرى تُطلَقُ على الإخبارِ بما يَسُرُّ، وما يُعطَى للمُبشَّرِ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجَمالٍ .
انْظُرُونَا: أي: انتَظِرُونا، مِنَ النَّظَرِ بمعنى الانتِظارِ، ومِنْه النَّظِرةُ: وهي التَّأخيرُ، وأصلُ (نظر): يدُلُّ على تأمُّلِ الشَّيءِ ومُعايَنتِه، ومنه الانتظارُ، كأنَّه يَنظُرُ إلى الوقتِ الَّذي يَأتي فيه .
نَقْتَبِسْ: أي: نَستَضِئْ، والقَبَسُ: شُعْلَةُ النَّارِ، وأصلُ (قبس): يدُلُّ على صِفةٍ مِن صِفاتِ النَّارِ .
مِنْ قِبَلِهِ: أي: مِنْ جِهَتِه، وقِبَلُ: أي: الجهةُ المقابِلةُ، ويُقالُ: فَعَل ذلك قِبَلًا، أيْ: مُواجَهةً. وهذا مِن قِبَلِ فُلانٍ، أيْ: مِن عِنْدِه، كأنَّه هو الَّذي أقْبَل به عليكَ، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أي: أهْلَكْتُموها وأضْلَلْتُموها بالنِّفاقِ، أو: أوقَعْتُموها في بَليَّةٍ وعذابٍ. وفِتنتُهم أنفُسَهم في هذا الموضعِ كانت النِّفاقَ، والفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رَداءتِه .
وَتَرَبَّصْتُمْ: أي: انتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حُلولَ الهلاكِ بهم، أو: تأخَّرْتُم بالتَّوبةِ، وأصلُ (ربص): يدُلُّ على الانتِظارِ .
وَارْتَبْتُمْ: أي: شَكَكْتُم، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ .
الْغَرُورُ: أي: الشَّديدُ التَّغريرِ والخِداعِ، والمرادُ به الشَّيطانُ، يقالُ: غَرَرتُ فُلانًا: إذا أصبْتَ غِرَّتَه ونِلتَ منه ما تُريدُه، مِنَ الغِرَّةِ: وهي الغَفلةُ .
فِدْيَةٌ: أي: عِوَضٌ وبَدَلٌ، وأصلُ (فدي): يدُلُّ على جَعْلِ شَيءٍ مكانَ شَيءٍ حِمًى له .
مَأْوَاكُمُ: أي: مَثْواكم ومَسكَنُكم، والمأوى: مكانُ كُلِّ شَيءٍ يَأْوِي إليه، وأصلُ (أوى): يدُلُّ على التَّجَمُّعِ .
مَوْلَاكُمْ: أي: مَصيرُكم، وأولَى بكم، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا فضلَ الإيمانِ واغتِباطَ أهلِه به يومَ القيامةِ: يومَ تَرى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَومَ القيامةِ يَسْعى نُورُهم مِن أمامِهم، وبأيمانِهم، يُقالُ لهم: بِشارتُكم العَظيمةُ اليَومَ جَنَّاتٌ لكم، تجري مِن تَحتِها الأنهارُ، ماكِثينَ فيها أبَدًا، ذلك هو الفَوزُ العَظيمُ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى سوءَ عاقِبةِ المنافِقِين، ويَذكُرُ جانبًا ممَّا يَدورُ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ مِن مُحاوَراتٍ، فيقول: يَومَ يَقولُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ للَّذِين آمَنوا: انتَظِرونا نَنَلْ قَبَسًا مِن نُورِكم، فيُقالُ لهم: ارجِعوا خَلْفَكم، فاطلُبوا مِن هُنالِك نُورًا لأنفُسِكم! فضُرِبَ بيْنَهم وبيْنَ المُؤمِنينَ حاجِزٌ يَفصِلُ بيْنَهم، له بابٌ باطِنُه مِن جِهةِ المُؤمِنينَ فيه الجنَّةُ، وظاهِرُه مِن جِهةِ المُنافِقينَ يأتِيهم مِن قِبَلِه العَذابُ.
يُنادي المُنافِقونَ المُؤمِنينَ مِن وَراءِ السُّورِ الحاجِزِ بَيْنَهم: ألمْ نَكُنْ مَعَكم في الدُّنيا نُصَلِّي ونَصومُ، ونَفعَلُ ما تَفعَلونَ؟! قالوا لهم: بلَى قد كُنتُم معنا في الدُّنيا في الظَّاهِرِ، ولكِنْ بلا إيمانٍ صادِقٍ؛ فأهلَكْتُم أنفُسَكم، وانتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حُلولَ الهلاكِ بهم، وشَكَكْتُم في الحَقِّ، وخَدَعَتْكم أمانيُّكم الباطِلةُ، وخدَعكم باللهِ -تعالى- الشَّيطانُ!
فاليَومَ لا يُؤخَذُ مِنكم عِوَضٌ يُخَلِّصُكم مِن العَذابِ، ولا مِنَ الَّذين كَفَروا، مَنزِلُكم النَّارُ، هي مَوضِعُ قُربِكم، ومَصيرُكم، وبِئسَ المَصيرُ هي!

تفسير الآيات:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أن أمَرَ اللهُ تعالى بالإيمانِ والإنفاقِ في سبيلِه، وحَثَّ على كُلٍّ منهما بوُجودِ مُوجِباتِه؛ فحَثَّ على الإيمانِ بوُجودِ الأسبابِ الَّتي تُساعِدُ عليه، وهي وُجودُ الرَّسولِ بيْنَ أظهُرِهم، وكتابِه الَّذي يُتلَى بيْنَ أيديهم، وحَثَّ على الإنفاقِ فأبان أنَّ المالَ مالُ اللهِ، وهو عارِيَّةٌ بيْنَ أيديهم ثمَّ يُرَدُّ إليه، وأنَّهم يَنالونَ على إنفاقِه الأجرَ العظيمَ في جنَّاتِ النَّعيمِ، ثمَّ ذَكَر أنَّ المنفِقينَ أوَّلَ الإسلامِ لهم مِن الأجرِ أكثَرُ مِمَّن أنفَقوا مِن بَعْدُ حِينَ كَثُرَ النَّصيرُ والمُعِينُ- ذكَرَ هنا حالَ المؤمِنينَ المنفِقينَ يومَ القيامةِ .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
أي: يومَ ترَى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَومَ القيامةِ يَمضي نُورُهم معهم مِن أمامِهم، وبأيْمانِهم .
كما قال الله تبارك وتعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8].
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى نُفوذَهم فيما يُحِبُّونَ مِنَ الجِهاتِ، وتَيسيرَه لهم؛ أتْبَعَه ما يُقالُ لهم مِنَ المحبوبِ في سُلوكِهم لذلك المحبوبِ، فقال :
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: يُقالُ للمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ: بِشارتُكم العَظيمةُ هذا اليَومَ -أي: يومَ القيامةِ- جَنَّاتٌ لكم تَدخُلونَها، تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ؛ مِن الماءِ أو اللَّبَنِ، أو الخَمرِ أو العَسَلِ .
خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: ماكِثينَ في تلك الجَنَّاتِ، لا تَخرُجونَ منها أبَدًا .
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: دُخولُ تلك الجَنَّاتِ في الآخِرةِ والخُلودُ فيها: هو الرِّبحُ والنَّجاحُ العَظيمُ .
قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شَرَح تعالى حالَ المُؤمِنينَ في مَوقِفِ القيامةِ؛ أتْبَعَ ذلك بشَرحِ حالِ المُنافِقينَ، فقال تعالى :
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.
أي: يَومَ يَقولُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ لأولئك المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ: انتَظِرونا وأمْهِلونا؛ حتَّى نَلحَقَ بكم، ونَنالَ شُعْلةً مِن نُورِكم !
عن أبي هُرَيرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم قال: ((يَجمَعُ اللهُ النَّاسَ يَومَ القيامةِ فيَقولُ: مَن كان يَعبُدُ شَيئًا فلْيَتْبَعْه، فيَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ الشَّمسَ الشَّمسَ، ويَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، ويَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ الطَّواغِيتَ الطَّواغِيتَ، وتَبقى هذه الأُمَّةُ فيها مُنافِقوها )) .
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا.
أي: يُقالُ لأولئك المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ؛ تَهكُّمًا بهم: ارجِعوا خَلْفَكم، فاطلُبوا مِن هُنالِك نُورًا لأنفُسِكم !
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ.
أي: فضَرَب اللهُ بيْنَ المُؤمِنينَ والمُنافِقينَ حاجِزًا يَفصِلُ بيْنَهم .
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ.
أي: لذلك السُّورِ الحاجِزِ بينَ المُؤمِنينَ والمنافِقينَ بابٌ يَدخُلُ منه المؤمِنونَ، داخلُ ذلك السُّورِ مِن جِهةِ المُؤمِنينَ: فيه الجنَّةُ، وخارِجُ السُّورِ مِن الجِهةِ الَّتي تَلي المُنافِقينَ وتَبدو لهم: يأتِيهم مِن قِبَلِه عَذابُ جهنَّمَ .
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14).
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ.
أي: يُنادي المُنافِقونَ المُؤمِنينَ مِن وَراءِ السُّورِ الحاجِزِ بَيْنَهم، وهم في الظُّلْمةِ والعَذابِ: ألمْ نَكُنْ مَعَكم في الدُّنيا نُصَلِّي ونَصومُ ونَذكُرُ اللهَ، ونَدِينُ بالإسلامِ، ونَفعَلُ مِثلَ ما تَفعَلونَ ؟!
قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.
أي: قال المؤمِنونَ لهم: قد كُنتُم معنا في الدُّنيا في الظَّاهِرِ، ولكِنْ بلا نِيَّةٍ صَحيحةٍ، ولا إيمانٍ صادِقٍ؛ فأهلَكْتُم أنفُسَكم بالنِّفاقِ الَّذي هو كُفرٌ باطِنٌ !
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء: 60، 61].
وَتَرَبَّصْتُمْ.
أي: وانتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حوادثَ الدَّهرِ ونوائبَه أن تُهلِكَهم !
كما قال تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة: 98].
وَارْتَبْتُمْ.
أي: وشَكَكْتُم في الحَقِّ الَّذي جاءَ مِن عِندِ اللهِ تعالى .
قال تعالى: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45] .
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ.
أي: وخَدَعَتْكم أمانيُّ نُفوسِكم الباطِلةُ، فصَرَفَتْكم عن اتِّباعِ الحَقِّ، حتَّى جاءَكم الموتُ !
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
أي: وخدَعكم باللهِ -تعالى- الشَّيطانُ .
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15).
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: يَقولُ المُؤمِنونَ للمُنافِقينَ الَّذين سَتَروا كُفْرَهم: ففي هذا اليَومِ -يومِ القيامةِ- لا يُؤخَذُ مِنكم عِوَضٌ مِنَ المالِ بَدَلًا مِن عَذابِ اللهِ؛ فيُخَلِّصَكم منه، ولا يُؤخَذُ أيضًا عِوَضٌ مِنَ الَّذين أظهَروا كُفْرَهم؛ فلا خَلاصَ لكم مِنَ النَّارِ، فأنتم جميعًا مُشتَرِكونَ في الكُفرِ !
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
مَأْوَاكُمُ النَّارُ.
أي: مَنزِلُكم ومُقامُكم الَّذي تَصيرونَ إليه وتَسكُنونَ فيه: النَّارُ .
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73] .
هِيَ مَوْلَاكُمْ.
أي: وتلك النَّارُ هي قَرينتُكم الَّتي تُلازِمُكم وتَضُمُّكم إليها، ومَوضِعُ قُربِكم، ومَصيرُكم؛ فلا قُربَ لكم إلى غَيرِها، ولا مَصيرَ إلى سِواها !
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: وبِئسَ المَرجِعُ النَّارُ !
الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:
قال اللهُ تعالى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مِن حَقِّ المؤمِنِ أن يَعتَبِرَ بما تضَمَّنَه قَولُه تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ الآيةَ، فلا يُماطِلَ التَّوبةَ، ولا يَقولَ: غَدًا غَدًا !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ إلى قَولِه في المُنافِقينَ: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أخبَرَ سُبحانَه أنَّ المُنافِقينَ يَفقِدونَ النُّورَ الَّذي كان المُؤمِنونَ يَمشُونَ به، ويَطلُبونَ الاقتِباسَ مِن نُورِهم، فيُحجَبونَ عن ذلك بحِجابٍ يُضرَبُ بيْنَهم وبيْن المؤمِنينَ، كما أنَّ المنافِقينَ لَمَّا فَقَدوا النُّورَ في الدُّنيا كان مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] .
2- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عَطفُ المُؤمِناتِ على المُؤمِنينَ، وكذا في نظائِرِه مِنَ القُرآنِ المَدَنيِّ. ووَجهُ ذلك: التَّنبيهُ على أنَّ حُظوظَ النِّساءِ في هذا الدِّينِ مُساويةٌ حُظوظَ الرِّجالِ، إلَّا فيما خُصِصْنَ به مِن أحكامٍ قَليلةٍ لها أدِلَّتُها الخاصَّةُ؛ وذلك لإبطالِ ما عندَ اليَهودِ مِن وَضعِ النِّساءِ في حالةِ مَلعوناتٍ ومَحروماتٍ مِن مُعظَمِ الطَّاعاتِ !
3- في قَولِه تعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ أنَّ هذا النُّورَ على حَسَبِ الإيمانِ؛ لأنَّ الحُكْمَ إذا عُلِّقَ بوَصفٍ كان قَويًّا بقُوَّةِ ذلك الوَصفِ، وضَعيفًا بضَعْفِه، إذَنْ نُورُهم على حَسَبِ إيمانِهم؛ الذَّكَرِ والأُنثى .
4- قال اللهُ تعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ في قَولِه: نُورُهُمْ غَلَبةُ المُذَكَّرِ على المؤنَّثِ، فلم يَقُلْ: «نُورُهُنَّ» .
5- قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ وَجْهُ عطْفِ المنافِقاتِ على المنافِقينَ هنا كعَطفِ المؤمناتِ على المُؤمنِينَ في الآيةِ السَّابقةِ قبْلَ هذِه، وهو التَّنبيهُ على أنَّ حُظوظَ النِّساءِ في هذا الدِّينِ مُساويةٌ حُظوظَ الرِّجالِ إلَّا فيما خُصِّصْنَ به مِن أحكامٍ قليلةٍ لها أدِلَّتُها الخاصَّةُ .
6- قال اللهُ تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ لعَلَّ جَعْلَ البابِ في سُورٍ واحِدٍ فيه ليمُرَّ منه أفواجُ المؤمِنينَ الخالِصينَ مِن وُجودِ منافِقينَ بيْنَهم بمرأًى مِن المنافِقينَ المحبوسين وراءَ ذلك السُّورِ؛ تنكيلًا بهم وحَسرةً حينَ يُشاهِدونَ أفواجَ المؤمِنينَ يُفتَحُ لهم البابُ الَّذي في السُّورِ؛ لِيَجتازُوا منه إلى النَّعيمِ الَّذي بباطِنِ السُّورِ .
7- المنافقونَ هم أشقَى الأشقياءِ، ولهذا يُستهزأُ بهم فى الآخرةِ، ويُعطَوْنَ نورًا يَتوسَّطون به على الصِّراطِ، ثمَّ يُطفئُ اللهُ نورَهم، ويُقالُ لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد: 13] ، ويُضرَبُ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ: بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 13] ، وهذا أشدُّ ما يكونُ مِن الحسرةِ والبَلاءِ: أن يُفتَحَ للعبدِ طريقُ النَّجاةِ والفَلاحِ، حتَّى إذا ظنَّ أنَّه ناجٍ ورأى مَنازِلَ السُّعداءِ اقتُطِع عنهم، وضُرِبَتْ عليه الشِّقْوةُ، ونعوذُ بالله مِن غضَبِه وعِقابِه .
8- في قَولِه تعالى: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ذِكْرُ أربعةِ أُصولٍ لهم، هي أسبابُ الخُسْرانِ؛ وهي: فِتنةُ أنفُسِهم، والتَّرَبُّصُ بالمُؤمِنينَ، والارتيابُ في صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاغتِرارُ بما تُمَوِّهُ إليهم أنفُسُهم. وهذه الأربعةُ هي أصولُ الخِصالِ المتفَرِّعةِ على النِّفاقِ .
9- قال تعالى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ذكَر الله الكفَّار والمنافقينَ هنا وفي غيرِ موضعٍ مِن القرآنِ، كقولِه: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1، 48]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] ؛ لِيُمَيِّزَهم عنهم بإظهارِ الإسلامِ، وإلَّا فَهُم في الباطِنِ شَرٌّ مِن الكُفَّارِ، كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
10- في قَولِه تعالى: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ إجازةُ تَسميةِ المخلوقِ باسمِ الخالِقِ -وذلك فيما يكونُ له معنًى كُلِّيٌّ تَتفاوَتُ فيه أفرادُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ- ؛ إذْ قد دَلَّ على تَسميةِ النَّاسِ به، ثمَّ أجاز هاهنا تَسميةَ النَّارِ أيضًا به .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
- قولُه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: (اذكُرْ) تَعظيمًا لذلك اليَومِ، وتَنويهًا بما يَحصُلُ في ذلك اليومِ مِن ثَوابٍ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، ومِن حِرمانٍ للمنافِقينَ والمنافِقاتِ؛ ولذلك كُرِّر (يَوم) -يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ-؛ ليَختَصَّ كلُّ فريقٍ بذِكرِ ما هو مِن شُؤونِه في ذلك اليَومِ. وعلى هذا فالجُملةُ مُتَّصِلةٌ بالَّتي قبْلَها بسَببِ هذا التَّعلُّقِ، على أنَّه في نظْمِ الكلامِ يصِحُّ جَعْلُه ظرْفًا مُتعلِّقًا بـ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] ، على طَريقةِ التَّخلُّصِ لذِكرِ ما يَجْري في ذلك اليَومِ مِن الخَيراتِ لأهْلِها، ومِن الشَّرِّ لأهْلِه. وعلى الوجْهِ الأوَّلِ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا لِمُناسَبةِ ذِكرِ أجْرِ المُنفِقينَ، فعُقِّبَ ببَيانِ بَعضِ مَزايا المؤمنينَ، وعلى الوجْهِ الثَّاني فهي مُتَّصلةٌ بالَّتي قبْلَها بسَببِ التَّعلُّقِ .
- ومعنَى قولِه: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ: يَسْعى نُورُهم حينَ يَسعَون؛ فحُذِفَ ذلك لأنَّ النُّورَ إنَّما يَسْعى إذا سَعى صاحبُه، وإلَّا لانْفصَلَ عنه وترَكَه، وإضافةُ (نُور) إلى ضَميرِهم، وجَعْلُ مَكانِه بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يُبيِّنُ أنَّه نُورٌ لِذَواتِهم أُكرِموا به .
- وإنَّما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ لأنَّ السُّعداءَ يُؤتَون صَحائفَ أعمالِهم مِن هاتَينِ الجِهتَينِ، كما أنَّ الأشقياءَ يُؤتَونَها مِن شَمائلِهم ومِن وراءِ ظُهورِهم، فجُعِلَ النُّورُ في الجِهتَينِ شِعارًا لهم وآيةً . أو اقتُصِرَ على ذِكرِ الأيمانِ تَشريفًا لها، وهو مِن الاكتفاءِ ، أي: وبجانِبَيْهم .
- قولُه تَعالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وفي سُورةِ (التَّحريمِ): يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى [التحريم: 8] ؛ فقُدِّمَ الفعلُ في الأُولى يَسْعَى نُورُهُمْ، وأُخِّرَ في الثَّانيةِ نُورُهُمْ يَسْعَى! ووَجْهُ ذلك -واللهُ أعلَمُ-: أنَّ قولَه في سُورةِ (التَّحريمِ): وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يُفهِمُ -مِن حيث المعيَّةُ- قُرْبَ المَنزِلةِ، وعُلوَّ الحالِ، فتَقدَّمَ ثُبوتُه، فناسَبَ ذلك وُرودُ الجُملةِ الاسميَّةِ هنا؛ لِما تَقْتضيهِ مِن الثَّباتِ وتَقدُّمِه واستحكامِه، أمَّا قولُه في سُورةِ (الحديدِ): يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فبِشارةٌ للمؤمنينَ، ولم يأْتِ هنا كونُهم مع نَبيِّهم، فلمْ يَتحصَّلْ ما يُفهِمُ تَمكُّنَ المنزلةِ وثُبوتَها ما تَحصَّلَ في آيةِ التَّحريمِ، إنَّما هذه بِشارةٌ؛ فناسَبَها التَّجدُّدُ والحدوثُ، فناسَبَ ذلك الفعلُ بما يُعطِيه مِن المعْنى، فقيلَ: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ ليُفهَمَ التَّكرُّرُ وحُدوثُ الشَّيءِ بعْدَ الشَّيءِ، فوَرَدَ كلٌّ على ما ينُاسِبُ .
- قولُه: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ مُقدَّرٌ بقَولٍ هو حالٌ أو استِئنافٌ، أيْ: يُقالُ لهم: بُشراكُم، أي: ما تُبشَّرونَ بهِ جنَّاتٌ، أو بُشراكم دُخولُ الجنَّةِ. والكلامُ على حذْفِ مُضافَينِ تَقديرُهما: إعلامٌ بدُخولِ جنَّاتٍ، كما دلَّ عليه قولُه: خَالِدِينَ فِيهَا .
- وقولُه: خَالِدِينَ فِيهَا بعْدَ قولِه: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ الْتِفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، ولو جَرى على الخِطابِ لَكان التَّركيبُ: (خالدًا أنتُم فيها) .
- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذييلٌ يدُلُّ على مَجموعِ مَحاسِنِ ما وقَعَتْ به البُشرَى، واسمُ الإشارةِ للتَّعظيمِ والتَّنبيهِ، وضَميرُ الفَصْلِ لتَقويةِ الخبَرِ .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ
- قولُه: لِلَّذِينَ آَمَنُوا تَغليبٌ للذُّكورِ؛ لأنَّ المخاطَبِينَ هم أصحابُ النُّورِ، وهو للمُؤمنينَ والمؤمناتِ .
- والأمرُ في قولِه: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ أمْرُ تَوبيخٍ وطرْدٍ، أي: ارْجِعوا إلى الموقفِ حيثُ أُعطِينا الفوزَ فالْتَمِسوه هناك، فمِن ثَمَّ يُقتبَسُ. أو ارْجِعوا إلى الدُّنيا والْتَمِسوا نُورًا، أي: بتَحصيلِ سَببِه، وهو الإيمانُ، أو ارْجِعوا خائبينَ وتَنحَّوا عنَّا، فالْتمِسوا نُورًا غيرَ هذا؛ فلا سَبيلَ لكم إلى الاقتباسِ منه. وقد عَلِموا أنْ لا نُورَ وراءَهم، وإنَّما هو تَخييبٌ وإقناطٌ لهم .
- قولُه: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ على القَولِ بأنَّه مِن كَلامِ الملائكةِ السَّائقينَ للمُنافِقِين؛ فمَقالةُ الملائكةِ للمنافِقِينَ تَهكُّمٌ؛ إذ لا نُورَ وَراءهم، وإنَّما أرادوا إطْماعَهم، ثم تَخييبَهم بضرْبِ السُّورِ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ؛ لأنَّ الخَيبةَ بعْدَ الطَّمعِ أشدُّ حَسرةً .
- ولفْظُ وَرَاءَكُمْ تأْكيدٌ لمعْنى ارْجِعُوا؛ إذِ الرُّجوعُ يَستلزمُ الوراءَ، وهذا كما يُقالُ: رجَعَ القَهْقرَى. ويَجوزُ أنْ يكونَ ظرْفًا لفِعلِ فَالْتَمِسُوا نُورًا، أي: في المكانِ الَّذي خلْفَكم، وتَقديمُه على عامِلِه للاهتِمامِ؛ فيَكونُ فيه معْنى الإغراءِ بالْتماسِ النُّورِ هناك، وهو أشدُّ في الإطماعِ؛ لأنَّه يُوهِمُ أنَّ النُّورَ يُتناوَلُ مِن ذلك المكانِ الَّذي صدَرَ منْه المؤمنونَ، وبذلك الإيهامِ لا يكونُ الكلامُ كذِبًا؛ لأنَّه مِن المَعاريضِ، لا سيَّما مع احتمالِ أنْ يكونَ وَرَاءَكُمْ تأْكيدًا لمعْنى ارْجِعُوا .
- وضُمِّن قولُه: فَضُرِبَ في الآيةِ معْنى الحَجْزِ؛ فعُدِّيَ بالباءِ، أي: ضُرِبَ بيْنهم سُورٌ للحجْزِ به بيْنَ المنافِقينَ والمؤمنينَ .
- وضَمائرُ لَهُ بَابٌ وبَاطِنُهُ و(ظَاهِرُهُ) عائِدةٌ إلى السُّورِ، والجُملتانِ صِفتانِ لـ (سُورٍ)، وإنَّما عُطِفَت الجُملةُ الثَّالثةُ بالواوِ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ؛ لأنَّ المقصودَ مِن الصِّفةِ مَجموعُ الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ .
3- قولُه تعالَى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
- الاستِفهامُ في قولِه: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ تَقريريٌّ، استُعمِلَ كِنايةً عن طلَبِ اللَّحاقِ بهم، والانضمامِ إليهم كما كانوا معَهم في الدُّنيا يَعمَلون أعمالَ الإسلامِ مع المُسلِمينَ .
- قولُه: قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، هذا الجوابُ إقرارٌ بأنَّ المنافِقِين كانوا يَعمَلون أعمالَهم معهم، ولَمَّا كان هذا الإقرارُ يُوهِمُ أنَّه قولٌ بمُوجَبِ الاستِفهامِ التَّقريريِّ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أعْقَبوا جَوابَهم الإقراريَّ بالاستِدراكِ الرَّافعِ لِما تَوهَّمَه المنافِقون مِن أنَّ الموافقةَ للمؤمنِينَ في أعمالِ الإسلامِ تَكفِي في الْتِحاقِهم بهم في نَعيمِ الجنَّةِ، فبيَّنوا لهم أسبابَ التَّباعُدِ بيْنَهم .
- والتَّربُّصُ: انتظارُ شَيءٍ، ويَتعدَّى فِعلُه إلى المفعولِ بنَفْسِه، ويَتعلَّقُ به ما زادَ على المفعولِ بالباءِ، وحُذِفَ هنا مَفعولُه ومُتعلَّقُه؛ ليَشملَ عِدَّةَ الأمورِ الَّتي يَنتظِرُها المنافِقون في شأْنِ المؤمنينَ، وهي كثيرةٌ، مَرجِعُها إلى أذى المسلمينَ والإضرارِ بهم، فيَتربَّصون هَزيمةَ المسلمينَ في الغزَواتِ ونحْوِها مِن الأحداثِ؛ قال تعالى في بعضِهم: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة: 98] ، ويَتربَّصون انقِسامَ المؤمنِينَ؛ فقدْ قالوا لفَريقٍ مِنَ الأنصارِ يُندِّمونهم على مَن قُتِلَ مِن قَومِهم في بعضِ الغزَواتِ: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران: 168] .
- والمَقصودُ مِن الغايةِ بقولِه: حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ التَّنديدُ عليهم بأنَّهم لم يَرْعَوُوا عن غَيِّهم معَ طُولِ مُدَّةِ أعمارِهم، وتَعاقُبِ السِّنينَ عليهم وهم لم يَتدبَّروا في العواقِبِ، كما قال تعالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] .
- وجُملةُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ عطْفٌ على جُملةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ؛ تَحقيرًا لغُرورِهم وأمانِيِّهم بأنَّها مِن كَيدِ الشَّيطانِ؛ ليَزدادوا حَسرةً حينَئذٍ .
- والغَرورُ -بفتْحِ الغَينِ-: مُبالَغةٌ في المُتَّصِفِ بالتَّغريرِ، والمرادُ به الشَّيطانُ، أي: بإلقائِه خَواطرَ النِّفاقِ في نُفوسِهم بتَلوينِه في لَونِ الحقِّ، وإرضاءِ دِينِ الكفْرِ. أو عُبِّرَ عَنِ الشَّيطانِ بصِيغةِ المبالَغةِ الْغَرُورُ الَّتي هي المفعولُ؛ لكَثرةِ غُرورِه لبني آدَمَ، كما قال تَعالى: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] ، ويَجوزُ أنْ يُرادَ جِنسُ الغارِّينَ، أي: وغرَّكم باللهِ أئمَّةُ الكفْرِ، وقادةُ النِّفاقِ .
4- قولُه تعالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ لَمَّا كان قولُه: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ معلومًا عندَهم قد شاهَدوا دَلائلَه، فرَّعوا لهم عليه قولَهم: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ؛ قَطعًا لطَمَعِهم أنْ يَكونوا مع المؤمنينَ يومَئذٍ كما كانوا معَهم في الحياةِ .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ هذا الكلامُ مِن تَتِمَّةِ خِطابِ المؤمنينَ للمنافِقِين؛ استِمرارًا في التَّوبيخِ والتَّنديمِ، فمَوقعُ فاءِ التَّفريعِ بيِّنٌ، والعِلمُ للمؤمنينَ بأنْ لا تُؤخَذُ فِديةٌ مِن المنافِقينَ والَّذين كَفَروا حاصِلٌ ممَّا يَسمَعون في ذلك اليَومِ مِن الأقضيةِ الإلهيَّةِ بيْنَ الخلْقِ بحيث صار مَعلومًا لأهلِ المحشَرِ، أو هو عِلمٌ مُتقرِّرٌ في نُفوسِهم ممَّا عَلِموه في الدُّنيا مِن أخبارِ القُرآنِ وكلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك مُوجِبُ عطْفِ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَعبيرًا عمَّا عَلِموه بأسْرِه، وهو عطْفٌ مُعترِضٌ جرَّتْه المناسَبةُ. ويجوزُ أنْ يكونَ كلامًا صادرًا مِن جانبِ اللهِ تعالى للمنافِقِين؛ تأْييسًا لهم مِن الطَّمَعِ في نَوالِ حظٍّ مِن نُورِ المؤمنينَ، فيَكونَ الفاءُ مِن عطْفِ التَّلقينِ عاطِفةً كلامَ أحدٍ على كَلامِ غيرِه؛ مِن أجْلِ اتِّحادِ مكانِ المُخاطَبةِ، ويكونَ عطْفُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا جمْعًا للفريقَينِ في تَوبيخٍ وتَنديمٍ واحدٍ؛ لاتِّحادِهما في الكُفْرِ .
- وإقحامُ كَلمةِ فَالْيَوْمَ؛ لتَذكيرِهم بما كانوا يُضمِرونه في الدُّنيا حِينَ يُنفِقونَ معَ المؤمنِينَ رِياءً وتَقِيَّةً، وهو ما حَكاهُ اللهُ عنهم بقولِه: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة: 98] .
- وفي قولِه: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ كُنِّيَ بنَفْيِ أخْذِ الفِديةِ عن تَحقُّقِ جَزائِهِم على الكُفرِ؛ وإلَّا فإنَّهم لم يَبذُلوا فِدْيةً، ولا كان النِّفاقُ مِن أنواعِ الفِدْيةِ، ولكنَّ الكلامَ جرى على الكِنايةِ؛ لِما هو مَشهورٌ مِن أنَّ الأسيرَ والجانيَ قد يَتخلَّصانِ مِن المؤاخَذةِ بفِديةٍ تُبذَلُ عنهما؛ فعَطْفُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ منه تَعليلُ أنْ لا مَحيصَ لهم مِن عَذابِ الكُفْرِ مِثلَ الَّذين كَفَروا، أي: الَّذين أعْلَنوا الكُفْرَ حتَّى كان حالةً يُعرَفون بها، وهذا يَقْتضي أنَّ المنافقينَ كانوا هم والكافِرونَ في صَعيدٍ واحدٍ عندَ أبوابِ جَهنَّمَ؛ ففيه احتِراسٌ مِن أنْ يَتوهَّمَ الكافرونَ الصُّرحاءُ مِن ضَميرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أنَّ ذلك حُكْمٌ خاصٌّ بالمنافِقينَ تَعلُّقًا بأقلِّ طمَعٍ؛ فليس ذِكرُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجرَّدَ استطرادٍ .
- والمأْوى: هو المكانُ الَّذي يُؤْوَى إليه، أي: يُصارُ إليه ويُرجَعُ، وكُنِّيَ به عن الاستِمرارِ والخُلودِ، وأُكِّدَ ذلك بالصَّريحِ بجُملةِ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ، أي: تَرجِعون إليها كما يَرجِعُ المُستنصِرُ إلى مَولاهُ لِيَنصُرَه أو يُفادِيَ عنه، فعُبِّرَ بالمَولى عن المَقَرِّ على طَريقةِ التَّهكُّمِ .
- وقولُه: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذييلٌ يَشملُ جَميعَ ما يَصِيرون إليه مِن العذابِ .