موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (7-11)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ

غريب الكلمات:

مُسْتَخْلَفِينَ: أي: مُمَلَّكِينَ، فجعَل المالَ في أيديكم خَلَفًا لِمَن قبلَكم، فكان لغيرِكم فملَكْتموه، وأصلُ (خلف): يدُلُّ على مَجيءِ شَيءٍ بعدَ شيءٍ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 452)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1067)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313). .
مِيثَاقَكُمْ: المِيثاقُ: عَقدٌ مُؤكَّدٌ بيَمينٍ، وهو مِفعالٌ مِنَ الوَثيقةِ، وأصلُ (وثق): يدُلُّ على عَقْدٍ وإحْكامٍ [123] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 133)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 454)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 63). .
لَرَءُوفٌ: أي: شديدُ الرَّحمةِ، أو ذو رحمةٍ واسعةٍ، والرَّأفةُ أعلَى معاني الرَّحمةِ، وأبلغُها وأرَقُّها، وأصلُ (رأف): يدُلُّ على رِقَّةٍ ورَحمةٍ [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/654) و(3/595)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 235)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/471)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 114). .
الْحُسْنَى: أي: الجَنَّةَ، وأصلُ الحسنِ ضِدُّ القُبحِ [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/396)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (11/7311). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى داعيًا عبادَه إلى الإيمانِ والثَّباتِ عليه، وإلى الإنفاقِ في سبيلِه: آمِنوا باللهِ تعالى فوَحِّدوه، وبرَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فصَدِّقوه واتَّبِعوه، وأنفِقوا مِن مالِ اللهِ الَّذي استَخلَفَكم فيه.
ثمَّ يُبيِّنُ ما لهم إذا فعَلوا ذلك، فيقولُ: فالَّذينَ آمَنوا باللهِ ورَسولِه مِنكم، وأنفَقوا في سَبيلِه؛ لهم ثوابٌ عَظيمٌ.
ثمَّ يُرغِّبُهم سبحانَه في الثَّباتِ على الإيمانِ، فيقولُ: وما لَكم لا تُؤْمِنونَ بالله، ورَسولُه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدعوكم إلى الإيمانِ برَبِّكم، وقد أخَذَ اللهُ منكم العَهدَ بالإيمانِ إنْ كُنتُم مُؤمِنينَ؟!
ثمَّ يقولُ سبحانَه مبينًا جانبًا مِن مظاهرِ فضلِه: اللهُ تعالى هو الَّذي يُنَزِّلُ على عَبدِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آياتِ القُرآنِ الواضِحاتِ؛ لِيُخرِجَكم بها مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وإنَّ اللهَ بكم -أيُّها النَّاسُ- لَرَؤوفٌ رَحيمٌ.
ثمَّ يحُضُّ على الإنفاقِ مرَّةً أخرَى، فيقولُ: وما الَّذي يَمنَعُكم مِنَ الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ مِمَّا رَزَقكم، وللهِ مِيراثُ السَّمَواتِ والأرضِ؟!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى تفاوُتَ الدَّرَجاتِ، على حسَبِ تفاوُتِ الأحوالِ والأعمالِ، فيقولُ: لا يَستَوي في الفَضلِ والأجْرِ مَن أنفَقَ مِنْكم -أيُّها المُؤمِنونَ- في سَبيلِ اللهِ قبْلَ الفَتحِ وقاتَلَ، مع مَنْ أنفَقَ بَعْدَ الفَتحِ وقاتَلَ؛ أولئك -الَّذين أنفَقوا قبْلَ الفَتحِ وقاتَلوا- أفضَلُ دَرَجةً عندَ اللهِ مِن الَّذين أنفَقوا مِن بَعدِ الفَتحِ وقاتَلوا.
ثمَّ يمدحُ الله تعالى كِلا الفريقَينِ، فيقولُ: وكُلًّا مِنهما وعَدَ اللهُ الفَوزَ بالجَنَّةِ، واللهُ بما تَعمَلونَ خَبيرٌ.
ثمَّ يحُثُّ الله سبحانَه على الإنفاقِ في وُجوهِ الخَيرِ، فيقولُ: مَن هذا الَّذي يُنفِقُ في سَبيلِ اللهِ مُبتَغِيًا به ما عِندَ رَبِّه بلا مَنٍّ ولا أذًى، فيُثيبَه اللهُ على ذلك الإنفاقِ أُجورًا كَثيرةً، وله ثوابٌ حَسَنٌ وجزاءٌ جَميلٌ؟!

تفسير الآيات:

آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى تَسبيحَ العالَمِ له، وما احْتَوى عليه مِن المُلكِ والتَّصرُّفِ، وما وصَفَ به نفْسَه مِن الصِّفاتِ العُلا، وخَتَمها بالعالِمِ بخَفيَّاتِ الصُّدورِ- أمَرَ تعالى عِبادَه المؤمنينَ بالثَّباتِ على الإيمانِ وإدامتِه، والنَّفقةِ في سَبيلِ اللهِ تعالى [126] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/101). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى أنواعًا مِنَ الدَّلائِلِ على التَّوحيدِ والعِلمِ والقُدرةِ؛ أتْبَعَها بالتَّكاليفِ، وبدأ بالأمرِ بالإيمانِ باللهِ ورَسولِه [127] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/449). .
وأيضًا لَمَّا قامت الأدِلَّةُ على تنزيهِه سُبحانَه؛ قال تعالى آمِرًا بالإذعانِ له ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [128] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/203). :
آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: آمِنوا باللهِ تعالى [129] قال ابن الجوزي: (آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال المفسِّرونَ: هذا الخِطابُ لكفَّارِ قُرَيشٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/232). وقال الشوكاني: (وهذا خِطابٌ لكفَّارِ العرَبِ، ويجوزُ أن يكونَ خِطابًا للجميعِ، ويكونَ المرادُ بالأمرِ بالإيمانِ في حقِّ المسلمينَ الاستِمرارَ عليه، أو الازديادَ منه). ((تفسير الشوكاني)) (5/200). وممَّن اختار أنَّه خِطابٌ للنَّاسِ وجميعِ العِبادِ: ابنُ جرير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 374). فوَحِّدوه، وآمِنوا برَسولِه مُحمَّدٍ فصَدِّقوه وأقِرُّوا برسالتِه وما جاء به واتَّبِعوه، وداوِموا على ذلك الإيمانِ واثبُتوا عليه [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((تفسير القرطبي)) (17/238)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11). .
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ.
أي: وأنفِقوا مِن مالِ اللهِ الَّذي استَخلَفَكم فيه وجعَلَه عِندَكم عارِيَّةً، فتصَدَّقوا منه في سَبيلِه [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((تفسير القرطبي)) (17/238)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838). قوله: مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ المرادُ: المالُ الَّذي أورثَكم عمَّن كان قبْلَكم، فخَلَفْتُموهم فيه وملكتُموه. وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير، والواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((البسيط)) للواحدي (21/279)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1067)، ((تفسير السمعاني)) (5/366)، ((تفسير البغوي)) (5/27)، ((تفسير الخازن)) (4/247)، ((تفسير العليمي)) (6/530). وقيل: المرادُ: أنَّ الأموالَ الَّتي بأيديكم إنَّما هي أموالُ الله، ولَسْتُم بأربابِها المالِكينَ لها على الحقيقةِ؛ لأنَّه خلَقها، وأباح لكم الانتِفاعَ بها، والاستِمتاعَ بمَنافِعِها، وجعَلَكم خُلَفاءَ بالتَّصرُّفِ فيها، فأنتم فيها بمَنزِلةِ الوُكَلاءِ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: الرَّسْعَنيُّ، وابنُ جُزَي، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/632)، ((تفسير ابن جزي)) (2/344)، ((تفسير الشوكاني)) (5/200). قال الماوَرْدي: (في «ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» قَولانِ؛ أحدُهما: يعني: ممَّا جعلَكم مُعَمَّرينَ فيه بالرِّزقِ، قاله مجاهِدٌ. الثَّاني: ممَّا جعَلَكم مُستَخلَفينَ فيه بوِراثَتِكم له عمَّن قبْلَكم، قاله الحسَنُ. ويحتمِلُ ثالثًا: ممَّا جعَلَكم مُستَخلَفينَ على القيامِ بأداءِ حُقوقِه). ((تفسير الماوردي)) (5/471). .
فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ تعالى بالإنفاقِ، ووَصَفه بما سَهَّله؛ سَبَّب عنه ما يُرَغِّبُ فيه، فقال تعالى [132] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/203). :
فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.
أي: فالَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه مِنكم، وأنفَقوا في سَبيلِه مِن أموالِهم الَّتي استَخلَفَهم فيها: لهم ثوابٌ عَظيمٌ [133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((تفسير القرطبي)) (17/238)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838). قال القُرطبي في قولِه: لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ: (هو الجنَّةُ). ((تفسير القرطبي)) (17/238). .
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه ذَكَر السَّبَبَ الدَّاعيَ لهم إلى الإيمانِ، وعَدَمَ المانعِ منه [134] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 838). ، فقال:
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ.
أي: وما الَّذي يَحمِلُكم على عَدَمِ الإيمانِ باللهِ، والحالُ أنَّ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدْعوكم إلى الإيمانِ برَبِّكم المُحسِنِ إليكم [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389)، ((تفسير القرطبي)) (17/238)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/263، 264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838). ؟!
وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: والحالُ أنَّ اللهَ قد أخَذَ منكم العَهدَ بالإيمانِ [136] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/366)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838). قال القرطبي: (أيْ: أخَذ اللهُ ميثاقَكم. قال مجاهِدٌ: هو الميثاقُ الأوَّلُ الَّذي كان وهم في ظَهرِ آدَمَ بأنَّ اللهَ رَبَّكم لا إلَهَ لكم سِواه. وقيل: أخَذ مِيثاقَكم بأنْ رَكَّب فيكم العقولَ، وأقام عليكم الدَّلائلَ والحُجَجَ الَّتي تَدْعو إلى مُتابَعةِ الرَّسولِ). ((تفسير القرطبي)) (17/238). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/344). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ، وابن عطية، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/238)، ((تفسير السمرقندي)) (3/402)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/349)، ((الوسيط)) للواحدي (4/245)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1067)، ((تفسير ابن عطية)) (5/258)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/233)، ((تفسير الرسعني)) (7/632)، ((تفسير الخازن)) (4/247)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 719)، ((تفسير العليمي)) (6/531). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وعَطاءٌ، والكلبيُّ، ومقاتلُ بنُ حيَّانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/390)، ((البسيط)) للواحدي (21/279)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/50). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أي أنَّ ذلك الميثاقَ بنَصبِ الأدِلَّةِ، والتَّمكينِ مِن النَّظرِ-: الرازيُّ، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/451). ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((تفسير أبي السعود)) (8/205). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابِقَينِ: البِقاعي، فقال: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ أي: وَقَع أخْذُه، فصار في غايةِ القباحةِ تَركُ ما وقع التَّوثُّقُ بسَبَبِه بنَصبِ الأدِلَّةِ، والتَّمكينِ مِن النَّظَرِ بإبداعِ العُقولِ، وذلك كُلُّه منضَمٌّ إلى أخذِ الذُّرِّيَّةِ مِن ظَهرِ آدَمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإشهادِهم على أنفُسِهم، وإشهادِ الملائكةِ عليهم). ((نظم الدرر)) (19/264). وقال ابن عثيمين: (ما أعطانا عزَّ وجَلَّ مِنَ الفِطرةِ والعَقلِ والفَهمِ الَّذي نُدرِكُ به ما يَنفَعُنا ويَضُرُّنا، هذا هو الصَّحيحُ في معنى الميثاقِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 378). وقال القاسمي: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ أي: بالإيمانِ؛ إذ ركَّبَ فيكم العُقولَ، ونَصَب الأدِلَّةَ، ومكَّنَكم مِنَ النَّظَرِ، بل أودَعَ في فِطَرِكم ما يَضطرُّكم لذلك إذا نُبِّهْتُم، وقد حصَل ذلك بتذكيرِ الرَّسولِ، فما عليكم إلَّا أن تأخُذوا في سَبيلِه). ((تفسير القاسمي)) (9/142). وقيل: إنَّ ذلك ببَيعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وممَّن اختاره: ابنُ تيميَّةَ، وابنُ كثير. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/231)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11). قال ابن تيميَّة: (وإنَّما أَخَذ مِيثاقَ المؤمِنينَ ببَيعتِهم له؛ فإنَّ كُلَّ مَن كان مُسلِمًا مُهاجِرًا كان يُبايِعُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما بايَعه الأنصارُ لَيلةَ العَقَبةِ، وإنَّما دعاهم إلى تحقيقِ الإيمانِ وتكميلِه بأداءِ ما يجِبُ مِن تمامِه باطِنًا وظاهِرًا). ((مجموع الفتاوى)) (7/231). ، إنْ كُنتُم مُؤمِنينَ [137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/389، 390)، ((تفسير السمعاني)) (5/366)، ((تفسير القرطبي)) (17/238، 239)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/231)، ((تفسير ابن جزي)) (2/344)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11)، ((تفسير الشوكاني)) (5/201)، ((تفسير القاسمي)) (9/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 378). قال ابن عطية: (وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال الطَّبَريُّ: المعنى: إنْ كنتُم مؤمِنينَ في حالٍ مِن الأحوالِ فالآنَ. وهذا معنًى ليس في ألفاظِ الآيةِ، وفيه إضمارٌ كثيرٌ، وإنَّما المعنى عندي أنَّ قولَه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يَقتَضي أن يُقدَّرَ بأثَرِه: فأنتم في رُتَبٍ شريفةٍ وأقدارٍ رفيعةٍ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي: إنْ دُمْتُم على ما بدَأْتُم به). ((تفسير ابن عطية)) (5/258). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/390). وقال الشوكاني: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما أخَذ عليكم مِن الميثاقِ، أو بالحُجَجِ والدَّلائلِ، أو إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بسببٍ مِن الأسبابِ، فهذا مِن أعظَمِ أسبابِه، وأوضَحِ مُوجِباتِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/201). وقيل: إنْ كنتُم مؤمنينَ بالله خالِقِكم. وكانوا يَعترِفون بهذا. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/239). وقيل: إنْ كنتُم مؤمنينَ فالْزَموا الإيمانَ بالله ورسولِه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 378). .
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172، 173].
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تَوطِئةَ ما يُوجِبُ الإيمانَ، وذكَرَ دُعاءَ الرَّسولِ إيَّاهم للإيمانِ- ذكَرَ أنَّه تعالى هو المُنَزِّلُ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما دعا به إلى الإيمانِ [138] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/102). ، فقال:
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أي: اللهُ تعالى هو الَّذي يُنَزِّلُ على عَبدِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آياتِ القُرآنِ الواضِحةَ الدَّلالةِ على الحَقِّ؛ لِيُخرِجَكم بها مِن ظُلُماتِ الكُفرِ والشِّركِ والضَّلالِ والجَهلِ إلى نورِ الإيمانِ والتَّوحيدِ والهُدى واليَقينِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/391)، ((تفسير القرطبي)) (17/239)، ((تفسير ابن كثير)) (8/11، 12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/543)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 379). قال ابن عثيمين: (قَولُه: لِيُخْرِجَكُمْ يَحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ بذلك الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: يكونُ سَببًا في إخراجِكم مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، ويحتمِلُ أن يعودَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، أي: لِيُخرِجَكم اللهُ تعالى بهذه الآياتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وكِلا المعنَيَينِ حَقٌّ؛ قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257]، وقال الله تعالى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبَبٌ في إخراجِ النَّاسِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وأمَّا المُخرِجُ حَقيقةً فهو اللهُ عزَّ وجَلَّ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 379). وقال البِقاعي: (مِنَ الظُّلُمَاتِ الَّتي أنتم مُنغَمِسونَ فيها؛ مِنَ الحُظوظِ والنَّقائِصِ الَّتي جُبِلَ عليها الإنسانُ، والغَفلةِ والنِّسيانِ- الحامِلةِ على تَراكُمِ الجَهلِ؛ فمَن آتاه سُبحانَه العِلمَ والإيمانَ فقد أخرجه مِن هذه الظُّلُماتِ الَّتي طرَأَت عليه إِلَى النُّورِ الَّذي كان وَصفًا لِرُوحِه وفِطرتِه الأُولى السَّليمةِ). ((نظم الدرر)) (19/265). وقال ابن عثيمين: (المرادُ بالظُّلُماتِ: ظُلُماتُ الجَهلِ، وظُلُماتُ الشِّركِ، وظُلُماتُ العُدوانِ، وظُلُماتُ العِصيانِ، وكُلُّ ما خالف الحَقَّ فهو ظُلمةٌ، وكلُّ ما وافقَه فهو نُورٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 379). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
وقال سُبحانَه: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق: 10، 11].
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
أي: وإنَّ اللهَ لَبالِغُ الرَّأفةِ والرَّحمةِ بكم؛ حيثُ أنزَلَ كُتُبَه، وأرسَلَ رُسُلَه لهِدايتِكم [140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/391)، ((تفسير ابن كثير)) (8/12)، ((تفسير الشوكاني)) (5/201). .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ أوَّلًا بالإيمانِ وبالإنفاقِ، ثمَّ أكَّد في الآيةِ المتقَدِّمةِ إيجابَ الإيمانِ؛ أتْبَعَه في هذه الآيةِ بتأكيدِ إيجابِ الإنفاقِ، والمعنى: أنَّكم ستَموتونَ فتُورَثونَ؛ فهلَّا قَدَّمْتُموه في الإنفاقِ في طاعةِ اللهِ تعالى [141] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/452). ؟!
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وما الَّذي يَمنَعُكم مِنَ الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ مِمَّا رَزَقكم، والحالُ أنَّ كلَّ أملاكِ الخَلقِ صائِرةٌ بعدَ مَوتِهم إلى اللهِ تعالى وَحْدَه؟! فلا معنى للبُخلِ بشَيءٍ لا تَملِكونَه حَقيقةً، وأنتم عنه زائِلونَ [142] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/391)، ((تفسير القرطبي)) (17/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 838). ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجُملةِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابن كثير: (أي: أنفِقوا ولا تَخشَوا فَقرًا وإقلالًا؛ فإنَّ الَّذي أنفَقتُم في سَبيلِه هو مالِكُ السَّمَواتِ والأرضِ، وبيَدِه مَقاليدُهما، وعندَه خَزائِنُهما، وهو مالِكُ العَرشِ بما حوى). ((تفسير ابن كثير)) (8/12). !
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ تعالى أنَّ الإنفاقَ فَضيلةٌ؛ بيَّنَ أنَّ المُسابَقةَ في الإنفاقِ تَمامُ الفَضيلةِ [143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/452). .
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ.
أي: لا يَتَساوى في الفَضلِ والأجْرِ مَن أنفَقَ منكم -أيُّها المُؤمِنونَ- في سَبيلِ اللهِ قبْلَ الفَتحِ [144] قيل: المرادُ بالفَتحِ هنا: صُلحُ الحُدَيْبِيَةِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّةَ، والسعديُّ، ومالَ إليه ابنُ عاشور، وذهب إليه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 395)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/374)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الشَّعبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/393)، ((تفسير ابن كثير)) (8/12). قال السعدي: (المرادُ بالفَتحِ هنا: هو فَتحُ الحُدَيبِيَةِ، حينَ جرى مِنَ الصُّلحِ بيْنَ الرَّسولِ وبيْنَ قُرَيشٍ مِمَّا هو أعظَمُ الفُتوحاتِ الَّتي حَصَل بها نَشرُ الإسلامِ، واختِلاطُ المُسلِمينَ بالكافِرِين، والدَّعوةُ إلى الدِّينِ مِن غيرِ مُعارِضٍ؛ فدَخَل النَّاسُ مِن ذلك الوَقتِ في دينِ اللهِ أفواجًا، واعتَزَّ الإسلامُ عِزًّا عَظيمًا، وكان المسلِمونَ قبْلَ هذا الفَتحِ لا يَقدِرونَ على الدَّعوةِ إلى الدِّينِ في غيرِ البُقعةِ الَّتي أسلَمَ أهلُها، كالمدينةِ وتوابِعِها، وكان مَن أسلَمَ مِن أهلِ مَكَّةَ وغَيرِها مِن ديارِ المُشرِكينَ يُؤذَى ويُخافُ؛ فلذلك كان مَن أسلَمَ قبْلَ الفَتحِ وأنفَقَ وقاتَلَ أعظَمَ دَرَجةً وأجرًا وثَوابًا مِمَّن لم يُسلِمْ ويُقاتِلْ ويُنفِقْ إلَّا بعدَ ذلك، كما هو مُقتضى الحِكمةِ؛ ولذلك كان السَّابِقونَ وفُضَلاءُ الصَّحابةِ غالِبُهم أسلَمَ قبْلَ الفَتحِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 839). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/25، 26). وقال ابن تيميَّةَ: (قال صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ: «لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فوالَّذي نفْسي بيَدِه، لو أنفَقَ أحَدُكم مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلَغ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه» [البخاري «3673»، ومسلم «2540»]. وهذا قاله لخالدِ بنِ الوليدِ لَمَّا تشاجَر هو وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ؛ لأنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عَوفٍ كان مِن السَّابِقينَ الأوَّلينَ، وهم الَّذين أنفَقوا مِن قبْلِ الفتحِ وقاتَلوا، وهو فتحُ الحُدَيبيَةِ، وخالدٌ هو وعَمرُو بنُ العاصِ وعُثمانُ بنُ طَلحةَ أسلَموا في مدَّةِ الهُدنةِ بعدَ الحُدَيبيَةِ وقبْلَ فتحِ مكَّةَ، فكانوا مِن المُهاجِرينَ التَّابِعينَ، لا مِن المهاجِرينَ الأوَّلينَ). ((مجموع الفتاوى)) (27/389). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/431)، ((تفسير ابن كثير)) (8/12). وقيل: المرادُ بالفَتحِ هنا: فَتحُ مَكَّةَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: الواحديُّ -ونسَبَه إلى جميعِ المفَسِّرينَ-، والزمخشريُّ، وابنُ جُزَي -وقال: (هو الأظهَرُ والأشهَرُ)-، وابنُ كثير -ونسَبَه إلى الجُمهورِ-، وذهب إليه البِقاعي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/280)، ((تفسير الزمخشري)) (4/474)، ((تفسير ابن جزي)) (2/344)، ((تفسير ابن كثير)) (8/12)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/268). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وزيدُ بنُ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 393)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/50). قيل: المُرادُ بهذا الفتحِ فتحُ مَكَّةَ؛ لأنَّ إطلاقَ لفظِ الفتحِ فِي المتعارَفِ يَنْصَرِفُ إليه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/452). وقاتَلَ أعداءَ الدِّينِ، مع مَنْ أنفَقَ بعْدَ الفَتحِ وقاتَلَ [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/395)، ((الاستذكار)) لابن عبد البَرِّ (5/106)، ((البسيط)) للواحدي (21/280)، ((تفسير الزمخشري)) (4/474)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/222)، ((تفسير ابن كثير)) (8/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/374)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). !
قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا.
أي: أولئك -الَّذين أنفَقوا قبْلَ الفَتحِ وقاتَلوا- أفضَلُ دَرَجةً عندَ اللهِ مِن الَّذين أنفَقوا مِن بَعدِ الفَتحِ وقاتَلوا [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/395)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/25، 26)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/268، 269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/374)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). .
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّفضيلُ مُفهِمًا اشتِراكَ الكُلِّ في الفَضلِ؛ صَرَّح به ترغيبًا في الإنفاقِ على كُلِّ حالٍ [147] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/269). .
وأيضًا لَمَّا كان التَّفضيلُ بيْن الأمورِ قد يُتوَهَّمُ منه نَقصٌ وقَدحٌ في المفضولِ؛ احتَرَز تعالى مِن هذا بقَولِه [148] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). :
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
أي: وكُلٌّ مِنَ القِسمَينِ قد وعَدَه اللهُ الفَوزَ بالجَنَّةِ، وإن كان السَّابِقونَ أفضَلَ مِن اللَّاحِقينَ [149] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/395)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/459)، ((تفسير ابن كثير)) (8/13)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان زَكاءُ الأعمالِ إنَّما هو بالنِّيَّاتِ، وكان التَّفضيلُ مَناطَ العِلمِ؛ قال مُرَغِّبًا في إحسانِ النِّيَّاتِ، مُرَهِّبًا مِنَ التَّقصيرِ فيها [150] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/269). :
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: واللهُ مُطَّلِعٌ على أعمالِكم ونيَّاتِكم فيها، وسيُجازيكم عليها [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/396)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/269، 270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). قال ابنُ كثير: (أي: فلِخِبرتِه فاوَتَ بيْنَ ثَوابِ مَن أنفَقَ مِن قَبلِ الفَتحِ وقاتَلَ، ومَن فَعَل ذلك بعدَ ذلك؛ وما ذلك إلَّا لعِلْمِه بقَصدِ الأوَّلِ وإخلاصِه التَّامِّ، وإنفاقِه في حالِ الجَهدِ والقِلَّةِ والضِّيقِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/14). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ اللهَ يَعلَمُ أسبابَ الإنفاقِ وأوقاتَه وأعذارَه، ويَعلَمُ أحوالَ الجِهادِ ونَوايا المجاهِدينَ، فيُعطي كُلَّ عامِلٍ على نِيَّةِ عَمَلِه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/376). .
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى حَثَّ على النَّفَقةِ في سَبيلِه؛ لأنَّ الجِهادَ مُتوَقِّفٌ على النَّفَقةِ فيه، وبَذْلِ الأموالِ في التَّجَهُّزِ له، فقال تعالى [152] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). :
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11).
أي: مَن هذا الَّذي يُنفِقُ في سَبيلِ اللهِ مِن طَيِّبِ مالِه مُحتَسِبًا في نَفَقتِه، مُبتَغِيًا ما عِندَ رَبِّه بلا مَنٍّ ولا أذًى، فيُثيبَه اللهُ على ذلك الإنفاقِ أُجورًا كَثيرةً، قد تَبلُغُ سَبْعَمِئةِ ضِعْفٍ أو أكثَرَ، وله ثَوابٌ حَسَنٌ، وجزاءٌ جَميلٌ [153] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/396، 397)، ((تفسير القرطبي)) (17/242، 243)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 363)، ((تفسير ابن كثير)) (8/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 385). قال ابن كثير: (وقولُه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قال عمرُ بنُ الخطَّابِ: هو الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ. وقيل: هو النَّفَقةُ على العيالِ. والصَّحيحُ أنَّه أعَمُّ مِنْ ذلك، فكلُّ مَن أنْفَق في سبيلِ اللهِ بنِيَّةٍ خالِصةٍ وعزيمةٍ صادِقةٍ دَخَل في عُمومِ هذه الآيةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/14). قيل:  المرادُ بالأجرِ الكريمِ: الجنَّةُ، وممَّن اختاره: ابنُ جرير، وابن الجوزي، والقرطبيُّ، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/397)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/233)، ((تفسير القرطبي)) (17/243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/14)، ((تفسير الشوكاني)) (5/202). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يعني: جزاءً حسَنًا في الجنَّةِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/239). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/402)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 385). ؟!
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245] .
وقال سُبحانَه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما تَصَدَّقَ أحَدٌ بصَدَقةٍ مِن طَيِّبٍ -ولا يَقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذَها الرَّحمنُ بيَمينِه، وإنْ كانت تَمْرةً، فتَربو في كَفِّ الرَّحمنِ حتَّى تكونَ أعظَمَ مِنَ الجَبَلِ، كما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّه أو فَصِيلَه [154] الفَلُوُّ: المُهْرُ (وهو الصَّغِيرُ مِن أولادِ الفَرَسِ)؛ سُمِّيَ بذلك لأنَّه فليَ عن أُمِّه، أي: فُصِلَ وعُزِلَ. والفصيلُ: ولَدُ النَّاقةِ إذا فُصِل من إرضاعِ أمِّه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/99). ) [155] رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014) واللفظ له. .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دَليلٌ على أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يُحقِّقَ إيمانَه ويُثَبِّتَه، وكُلمَّا رأَى فيه تَزعزُعًا استعاذ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، ومضَى إلى سبيلِه، وأنْ يُنْفِقَ مِن المالِ، والمالُ محبوبٌ؛ قال اللهُ تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20] ، وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] ، ولا يمكِنُ أنْ يَبْذُلَ الإنسانُ شيئًا محبوبًا إليه إلَّا لِمَا هو أحَبُّ، فإذا بَذَلَ الإنسانُ المحبوبَ إليه ابتِغاءً لرِضوانِ اللهِ، عَلِمْنا أنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ رِضوانَ اللهِ أكثرَ مِن المالِ، وبذلك يَتَحَقَّقُ الإيمانُ [156] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 377). .
2- قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، قَولُه: مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ: أي: ليسَت لكم بالحَقيقةِ، وإنَّما انتَقَلتْ إليكم مِن غَيرِكم، وكما وصَلَتْ إليكم تَترُكونَها لغَيرِكم! وفيه تزهيدٌ فيما بيَدِ النَّاسِ؛ إذ مَصيرُه إلى غَيرِه، وليس له مِنه إلَّا ما جاء في الحَديثِ: ((يقولُ ابنُ آدَمَ: مالي مالي! وهل لك يا ابنَ آدَمَ مِن مالِك إلَّا ما أكَلْتَ فأفنَيتَ، أو لَبِسْتَ فأبلَيتَ، أو تصَدَّقْتَ فأمضَيتَ ؟!)) [157] أخرجه مسلم (2958) من حديث عبدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ رضيَ الله عنه. ، وقيل لأعرابيٍّ: لِمَن هذه الإبِلُ؟ فقال: هي للهِ تعالى، عندي [158] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/101). !
3- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى دَليلٌ على أنَّ كُلَّ عَمَلٍ صالحٍ يُسبَقُ إليه أفضَلُ مِمَّا يُؤَخَّرُ، مِن غيرِ أنْ نُلْحِقَ بالمتأخِّرِ تَقصيرًا [159] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/219). .
4- يَجِبُ أنْ نَكُفَّ عن مَساوِئِ الصَّحابةِ، فلا نَذكُرَهم إلَّا بما يَستَحِقُّونَه مِن الثَّناءِ الجَميلِ، وأنْ نُطَهِّرَ قُلوبَنا مِن الغِلِّ والحِقدِ على أحَدٍ منهم؛ لقَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، وقولِه فينا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [160] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/249). [الحشر: 10] .
5- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ دَلالةٌ على أنَّ فَضيلةَ العَمَلِ على قَدْرِ رُجوعِ مَنفَعتِه إلى الإسلامِ والمُسلِمينَ، أو لكَثرةِ المِحْنةِ به؛ لقِلَّةِ المُسلِمينَ وكَثرةِ الكُفَّارِ، وهو مِثلُ قَولِه تعالى: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [161] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/401)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 255). [التوبة: 117] . فالنَّفَقةُ قبْلَ الفَتحِ كانت أعظَمَ؛ لأنَّ حاجةَ النَّاسِ كانت أكثَرَ لضَعفِ الإسلامِ، وفِعْلَ ذلك كان على المُنفِقينَ حينَئذٍ أشَقَّ. واللهُ أعلَمُ [162] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/240). . ويُؤخَذُ مِن الآيةِ أنَّ مَن أنفَقَ في شِدَّةٍ أعظَمُ أجرًا مِمَّن أنفَقَ في حالِ الرَّخاءِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/344). .
6- قال الإمامُ مالِكٌ: (يَنبغي أن يُقَدَّمَ أهلُ الفَضلِ والعَزمِ؛ لِقَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) [164] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/178)، ((تفسير ابن عادل)) (18/462). .
7- في قَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ نَدْبٌ بَليغٌ مِن اللهِ تعالى إلى الإنفاقِ في سَبيلِه -بعْدَ الأمرِ به، والتَّوبيخِ على تَرْكِه، وبَيانِ دَرجاتِ المُنفِقينَ [165] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/206). -، وترغيبُ النَّاسِ في أن يُنفِقوا أموالَهم في نُصرةِ المُسلِمينَ، وقِتالِ الكافِرينَ، ومُواساةِ فُقَراءِ المُسلِمينَ [166] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/454). ، وسمَّى ذلك الإنفاقَ قرضًا حسنًا؛ حَثًّا للنُّفوسِ وبَعثًا لها على البَذلِ؛ لأنَّ الباذِلَ متى عَلِمَ أنَّ عَينَ مالِه يعودُ إليه -ولا بُدَّ- طَوَّعَت له نَفْسُه بَذْلَه، وسَهُلَ عليه إخراجُه، فإنْ عَلِمَ أنَّ المُستَقرِضَ مَلِيءٌ وَفِيٌّ مُحسِنٌ كان أبلَغَ في طِيبِ قَلبِه وسَماحةِ نَفْسِه، فإنْ عَلِمَ أنَّ المُستَقرِضَ يَتَّجِرُ له بما اقتَرَضه ويُنَمِّيه له ويُثَمِّرُه حتَّى يَصيرَ أضعافَ ما بَذَله، كان بالقَرضِ أسمَحَ وأسمَحَ، فإنْ عَلِمَ أنَّه مع ذلك كُلِّه يَزيدُه مِن فَضلِه وعَطائِه أجرًا آخَرَ مِن غَيرِ جِنسِ القَرضِ، وأنَّ ذلك الأجرَ حَظٌّ عَظيمٌ وعَطاءٌ كَريمٌ؛ فإنَّه لا يتخَلَّفُ عن قَرضِه إلَّا لآفةٍ في نَفْسِه مِنَ البُخلِ والشُّحِّ، أو عَدَمِ الثِّقةِ بالضَّمانِ! وذلك مِن ضَعفِ إيمانِه؛ ولهذا كانت الصَّدَقةُ بُرهانًا لصاحِبِها.
وهذه الأمورُ كُلُّها تحتَ هذه الألفاظِ الَّتى تضَمَّنَتْها الآيةُ؛ فإنَّه سُبحانَه سَمَّاه قَرضًا، وأخبَرَ أنَّه هو المُقتَرِضُ لا قَرْضَ حاجةٍ، ولكِنْ قَرْضَ إحسانٍ إلى المُقرِضِ، استدعاه لمُعامَلتِه، ولِيَعرِفَ مِقدارَ الرِّبحِ فهو الَّذي أعطاه مالَه، واستدعَى منه مُعامَلتَه به، ثمَّ أخبَرَ عمَّا يَرجِعُ إليه بالقَرْضِ، وهو الأضعافُ المُضاعَفةُ، ثمَّ أخبَرَ عَمَّا يُعطيه فَوقَ ذلك مِنَ الزِّيادةِ، وهو الأجرُ الكريمُ، وحيث جاء هذا القَرضُ في القُرآنِ قَيَّده بكَونِه حَسَنًا، وذلك يَجمَعُ أُمورًا ثلاثةً:
أحدُها: أن يكونَ مِن طَيِّبِ مالِه، لا مِن رَديئِه وخَبيثِه.
الثَّاني: أن يُخرِجَه طَيِّبةً به نَفْسُه، ثابتةً عندَ بَذلِه؛ ابتغاءَ مَرضاةِ اللهِ.
الثَّالِثُ: ألَّا يَمُنَّ به ولا يُؤذِيَ.
فالأوَّلُ: يَتعَلَّقُ بالمالِ، والثَّاني: يتعَلَّقُ بالمُنفِقِ بَيْنَه وبيْنَ اللهِ، والثَّالِثُ: بَيْنَه وبيْنَ الآخِذِ [167] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 363). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ لَمَّا حثَّهم على تجديدِ الإيمانِ على سبيلِ الاستِمرارِ بالتَّعجُّبِ مِن تركِ ذلك، وكان كلُّ واحدٍ يدَّعي العراقةَ في الخَيرِ؛ هيَّجهم وألهبَهم بقولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [168] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/265). .
2- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ أنَّ مِن لُطفِه سُبحانَه وعِنايتِه بكم أنَّه لم يَكتَفِ بمُجَرَّدِ دَعوةِ الرَّسولِ الَّذي هو أشرَفُ العالَمِ، بل أيَّده بالمُعجِزاتِ، ودَلَّكم على صِدقِ ما جاء به بالآياتِ البَيِّناتِ [169] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 838). .
3- قال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ في قَولِه تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إثباتُ العِلَلِ والحِكَمِ لأفعالِ اللهِ تعالى [170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 330). .
4- قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ هذا المعنى الَّذي تضَمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمةُ جاء مُبَيَّنًا في قَولِه تعالى في (الطَّلاقِ): فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق: 10، 11]، وآيةُ (الطَّلاقِ) هذه بَيَّنَت أنَّ آيةَ (الحَديدِ) مِن العامِّ المخصوصِ، وأنَّه لا يُخرَجُ بهذا القُرآنِ العَظيمِ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ إلَّا مَن وَفَّقَهم اللهُ تعالى للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ فقَولُه تعالى في (الحَديدِ): لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ، أي: بشَرطِ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، بدَليلِ قَولِه تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق: 11]؛ فالدَّعوةُ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ، والخُروجِ بنُورِه مِن ظُلُماتِ الكُفرِ: عامَّةٌ، ولكِنَّ التَّوفيقَ إلى الخُروجِ به مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ خاصٌّ بمَن وَفَّقَهم اللهُ تعالى [171] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/543). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أنَّ الرَّحمةَ بالمعنى الخاصِّ: للمُؤمِنينَ فقط [172] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 380). .
6- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على مُوجِبِ الإنفاقِ، وهذا مِن أبلَغِ البَعثِ على الإنفاقِ [173] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/102). .
7- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الإشارةُ إلى اسمِ اللهِ «الآخِرِ»؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو الأوَّلُ والآخِرُ، فإذا ثَبَتَ إرْثُه لهما لَزِمَ منه أنْ يكونَ هو الآخِرَ عزَّ وجلَّ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/487). .
8- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أنَّ الصَّحابةَ مَراتِبُ، وأنَّ الفَضلَ للسَّابِقِ، وفيه دليلٌ على تَنزيلِ النَّاسِ مَنازِلَهم [175] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/178)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 255)، ((تفسير القاسمي)) (9/143). ، وأنَّ الأعمالَ تَتفاوَتُ، والعُمَّالَ يَتفاوتونَ أيضًا؛ فَهُم كلُّهم صَحابةٌ، لكنْ لا يَستَوونَ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/150). . فهذه الآيةُ أصلٌ في تفاضُلِ أهلِ الفَضلِ فيما فُضِّلوا فيه، وأنَّ الفَضلَ ثابِتٌ للَّذين أسلَموا بعْدَ الفَتحِ مِن أهلِ مَكَّةَ وغَيرِهم [177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/376). .
9- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أنَّ السَّبْقَ إلى الإيمانِ وإلى العَمَلِ الصَّالحِ مَنقَبةٌ، ومِن أسبابِ الرُّتَبِ العاليةِ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 114). .
10- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ نفْيُ التَّساوي بيْنَ النَّاسِ، والعَجَبُ أنَّنا نَسمَعُ مَن يُدَندِنُ كثيرًا فيقولُ: «إنَّ دِيْنَ الإسلامِ دِينُ المُساواةِ»! وهذا غلَطٌ على دِينِ الإسلامِ؛ فدِينُ الإسلامِ ليس دِينَ المُساواةِ، ولكِنَّه دِينُ العَدْلِ، والعَدْلُ هو: إعطاءُ كلِّ أحَدٍ ما يَستَحِقُّه؛ ولذلك تَجِدُ أكثرَ ما في القرآنِ نَفيَ المُساواةِ، وليس إثباتَها! كقَولِه تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد: 16] ، وكقَولِه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/103). [الزمر: 9] .
11- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أنَّ السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ أفضَلُ مِن سائرِ الصَّحابةِ، والسَّابِقونَ الأوَّلُون هم الَّذين أنفَقوا مِن قبْلِ الفَتحِ وقاتَلوا، والمرادُ بالفَتحِ صُلْحُ الحُدَيبيَةِ؛ فإنَّه كان أوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ [180] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/222). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
12- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا دليلٌ على فَضيلةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لإنفاقِه مالَه على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قبْلَ الفَتحِ [181] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/219). .
13- في قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا أنَّه ليس كلُّ مَن لم يَكفُرْ أو مَن لم يأتِ بكَبيرةٍ أفضَلَ ممَّن تاب عنها مُطلَقًا، بل قد يكونُ التَّائِبُ مِن الكُفرِ والفُسوقِ أفضَلَ مِمَّن لم يَكفُرْ ولم يَفْسُقْ؛ فإنَّ اللهَ تعالى فضَّلَ الَّذين أنفَقوا مِن قبْلِ الفَتحِ وقاتَلوا على الَّذين أنفَقوا مِن بَعْدُ وقاتَلوا، وأولئك كلُّهم أسلَموا بعدَ الكُفرِ، وهؤلاء فيهم مَن وُلِدَ على الإسلامِ! وفَضَّلَ السَّابِقينَ الأوَّلينَ على التَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، وأولئك آمَنوا بعدَ الكُفرِ، وأكثرُ التَّابِعينَ وُلِدوا على الإسلامِ [182] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/134). .
14- في قَولِه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى دَلالةٌ على فَضلِ الصَّحابةِ كُلِّهم رَضِيَ الله عنهم؛ حيث شَهِدَ اللهُ لهم بالإيمانِ، ووعَدَهم الجَنَّةَ [183] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). .
15- قَولُه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى إنَّما نبَّه بهذا؛ لئلَّا يُهدَرَ جانِبُ الآخَرِ بمَدحِ الأوَّلِ دونَ الآخَرِ، فيَتوَهَّمَ مُتوَهِّمٌ ذَمَّه؛ فلهذا عَطَف بمَدحِ الآخَرِ والثَّناءِ عليه، مع تَفضيلِ الأوَّلِ عليه [184] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/14). ، فمِن بلاغةِ الكلامِ الاحتِراسُ بدَفعِ ما يُتَوَهَّمُ وُقوعُه [185] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/105). ، فلمَّا كان تفضيلُ السَّابِقينَ قد يُفهَمُ منه أنْ لا فَضْلَ للَّاحِقينَ قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، أي: كلٌّ مِن الَّذين أنفَقوا مِن قَبْلِ الفَتحِ وقاتَلوا، والَّذين أنفَقوا مِن بعدُ وقاتَلوا: وَعَدَهم اللهُ الحُسنى، يعني: الجَنَّةَ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 384). .
16- المُبهَمُ [187] المبهمُ: هو الرَّاوي الَّذي لم يُسَمَّ، أو مَن سُمِّيَ ولا تُعرَفُ عينُه. يُنظر: ((اختصار علوم الحديث)) لابن كثير (ص: 218). لا يُقبَلُ حديثُه حتَّى يُعْلمَ مَن هو؛ وذلك لِجَهالَتِنا بحالِه، إلَّا المُبهَمَ مِن الصَّحابةِ؛ فإنَّ إبهامَه لا يَضُرُّ حَديثَه؛ لأنَّ الصَّحابةَ كلَّهم عُدُولٌ ثِقاتٌ بشَهادةِ اللهِ تعالى لهم في قَولِه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، ولِتَزكيتِه إيَّاهم في قَولِه تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [188] يُنظر: ((شرح المنظومة البيقونية)) لابن عثيمين (ص: 73). [الفتح: 29] .
17- في قَولِه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى أنَّ كلَّ مَن لم يكُنْ -مِن الصَّحابةِ- مِن المنافقِينَ فهو مِن أهلِ الجَنَّةِ يَقينًا؛ لأنَّه قد وَعَدَهم اللهُ تعالى الحُسنى كلَّهم، وأخبَرَ أنَّه لا يُخلِفُ وَعْدَه، وأنَّ مَن سَبَقَتْ له الحُسنى فهو مُبعَدٌ مِن النَّارِ، لا يَسمَعُ حَسيسَها، ولا يَحزُنُه الفَزَعُ الأكبَرُ، وهو فيما اشتَهَى خالِدٌ [189] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/117)، ((الإصابة)) لابن حجر (1/163). .
18- قَولُه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يُؤَيِّدُ حديثَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ -جلَّ جلالُه- يُرَبِّي صَدَقةَ المتصدِّقِ كما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّه، أو فَصيلَه )) [190] رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014) واللفظ له. ؛ فقد ذَكَر مُضاعَفتَها قبْلَ أجْرِها؛ لِيَكونَ الأجرُ على ما ربَّاه وأعظَمَه، لا على صَغيرِ ما أقرَضَه؛ جُودًا منه وكَرَمًا، وهو أعلَمُ [191] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/220). .
19- قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ في تسميةِ الصَّدقةِ بالقَرضِ، وإضافتِها إلى نفْسِه، وهي واصِلةٌ إلى غيرِه: إفادتُنا أنَّ المُتَقَرِّبَ إلى اللهِ بإعطاءِ الفَقيرِ مُعَظِّمٌ حَقَّه، فيَخْرُجُ مِنه: أنَّ المُتحَرِّيَ مَسَرَّةَ رَجُلٍ بإرفادِ مَن يُحِبُّه هو مُكرِمُه بذلك الرِّفْدِ، ومُستَوجِبٌ مِن عِندِه المكافأةَ على فِعْلِه [192] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/221). .
20- في قَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا كَرَمُ اللهِ تعالى؛ حيثُ سَمَّاه قَرضًا، والمالُ مالُه، والعَبدُ عَبدُه، ووَعَد بالمُضاعَفةِ عليه أضعافًا كَثيرةً، وهو الكَريمُ الوَهَّابُ [193] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). .
21- في قَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ إشارةٌ إلى شَيئَينِ: إلى الإخلاصِ، في قَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ يعني: لا يَرى سِوى اللهِ عزَّ وجلَّ. وإلى المُتابَعةِ، في قَولِه تعالى: حَسَنًا؛ لأنَّ العَمَلَ الحَسَنَ ما كان مُوافِقًا للشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.
والإخلاصُ والمُتابَعةُ هما شَرطانِ في كلِّ عَمَلٍ: الإخلاصُ لله سبحانَه وتعالى، والمتابعةُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم [194] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 385). .
22- القَرضُ الحَسَنُ في قَولِه تعالى: قَرْضًا حَسَنًا: هو القَرضُ المُستَكمِلُ مَحاسِنَ نَوعِه؛ مِن كَونِه عن طِيبِ نَفسٍ، وبَشاشةٍ في وَجهِ المُستَقرِضِ، وخُلُوٍّ عن كُلِّ ما يُعَرِّضُ بالمِنَّةِ، أو بتَضييقِ أجَلِ القَضاءِ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/377). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/454)، ((تفسير الخازن)) (4/248). .
23- قال عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ في قَولِه تعالى: أَجْرٌ سَمَّى اللهُ عزَّ وجلَّ الثَّوابَ أجرًا؛ لأنَّه لا بُدَّ أنْ يَنالَه العامِلُ، فهو كأُجرةِ الأجيرِ؛ فلا بُدَّ أنْ يَنالَها العامِلُ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 57). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
- هو استِئنافٌ وقَعَ مَوقعَ النَّتيجةِ بعْدَ الاستدلالِ؛ فإنَّ أوَّلَ السُّورةِ قرَّرَ خُضوعَ الكائناتِ إلى اللهِ تعالى، وأنَّه تعالى المُتصرِّفُ فيها بالإيجادِ والإعدامِ وغيرِ ذلك؛ فهو القديرُ عليها، وأنَّه عليمٌ بأحوالِهم، مُطَّلِعٌ على ما تُضمِرُه ضَمائرُهم، وأنَّهم صائرونَ إليه فمُحاسِبُهم؛ فلا جَرَمَ تَهيَّأَ المقامُ لإبلاغِهم التَّذكيرَ بالإيمانِ به إيمانًا لا يَشوبُه إشراكٌ، والإيمانِ برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ قد تَبيَّن صِدقُه بالدَّلائلِ الماضيةِ الَّتي دلَّت على صِحَّةِ ما أخبَرَهم به ممَّا كان مَحلَّ ارتيابِهم وتَكذيبِهم، كما أشار إليه قولُه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ [الحديد: 8] ، فذلك وجْهُ عَطفِ وَرَسُولِهِ على مُتعلَّقِ الإيمانِ، مع أنَّ الآياتِ السَّابِقةَ ما ذَكَرَت إلَّا دَلائلَ صِفاتِ اللهِ دونِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فالخِطابُ بـ آَمَنُوا للمُشرِكين [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/368). .
- قولُه: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فيه تَخصيصُ الإنفاقِ بالذِّكرِ؛ للتَنويهِ بشأْنِه هنا [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/368). .
- وجِيءَ بالمَوصولِ في قولِه: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دونَ أنْ يقولَ: (وأنْفِقوا مِن أموالِكم)، أو (ممَّا رزَقَكم اللهُ)؛ لِمَا في صِلةِ الموصولِ مِن التَّنبيهِ على غفْلةِ السَّامِعينَ عن كَونِ المالِ للهِ، فلمَّا أمَرَهم بالإنفاقِ منه على عِبادِه، كان حقًّا عليهم أنْ يَمتثِلوا لذلك، كما يَمتثِلُ الخازنُ أمْرَ صاحبِ المالِ إذا أمَرَه بإنفاذِ شَيءٍ منه إلى مَن يُعَيِّنُه. وأيضًا وُضِعَ قولُه: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ مَوضِعَ (ممَّا رزَقْناكم) -كما في سائرِ المواضِعِ- تَسهيلًا على بَذْلِها، وإيذانًا بأنَّ الأموالَ عَواريُّ ودُوَلٌ [199] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/473)، ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/235)، ((تفسير أبي السعود)) (8/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 369). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في مُسْتَخْلَفِينَ للمُبالَغةِ في حُصولِ الفِعلِ، لا للطَّلَبِ؛ لاستِفادةِ الطلَبِ مِن فِعلِ جَعَلَكُمْ. ويَجوزُ أنْ تكونَ لتَأكيدِ الطَّلَبِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/369). .
- والفاءُ في قولِه: فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ تَفريعٌ وتَسبُّبٌ على الأمرِ بالإيمانِ والإنفاقِ؛ لإفادةِ تَعليلِه، كأنَّه قِيل: لأنَّ الَّذين آمَنوا وأنْفَقوا أعدَدْنا لهم أجْرًا كَبيرًا [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/369). .
- وقولُه: مِنْكُمْ (مِن) للتَّبعيضِ، أي: الَّذين آمَنوا، وهم بَعضُ قومِكم، وفي هذا إغراءٌ لهم بأنْ يُماثِلوهم [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/369). .
- ويجوزُ أنْ يكونَ فِعلَا المُضِيِّ (آمَنوا - أنفَقوا) في قولِه: فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا مُستعمَلَينِ في معْنى المضارعِ؛ للتَّنبيهِ على إيقاعِ ذلك [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/369). .
- قولُه: فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعْدٌ بالأجرِ، وفيه مُبالَغاتٌ؛ بجَعْلِ الجُملةِ اسميَّةً، وإعادةِ ذِكرِ الإيمانِ والإنفاقِ، وبِناءِ الحكْمِ على الضَّميرِ، وتَنكيرِ الأجْرِ، ووصْفِه بالكُبْرِ [204] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((تفسير أبي السعود)) (8/204، 205). .
- وحُذِفَ مَفعولُ (أَنْفَقُوا)؛ للمُبالَغةِ في الحَثِّ على الإنفاقِ، وعدَمِ البُخلِ بالمالِ [205] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/456). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- قولُه: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّه ... استِئنافٌ مَسوقٌ لتَوبيخِهم على ترْكِ الإيمانِ حسَبَما أُمِروا به، بإنكارِ أنْ يكونَ لهم في ذلك عُذرٌ ما في الجُملةِ، على أنَّ لَا تُؤْمِنُونَ حالٌ مِن الضَّميرِ في لَكُمْ، والعاملُ ما فيه مِن مَعْنى الاستِقرارِ، أيْ: أيُّ شَيءٍ حصَلَ لكُم غيرَ مؤمنينَ؟! على تَوجيهِ الإنكارِ والنَّفيِ إلى السَّببِ فقطْ مع تَحقُّقِ المسبَّبِ، لا إلى السَّببِ والمسبَّبِ جميعًا، فيَكونُ مَضمونُ الجُملةِ الحاليةِ مُحقَّقًا؛ فإنَّ كُلًّا مِن عدَمِ الإيمانِ وعدَمِ الرَّجاءِ أمرٌ مُحقَّقٌ قد أُنكِرَ ونُفِيَ سَببُه [206] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/473)، ((تفسير أبي السعود)) (8/205)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/369، 370). .
- قولُه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حالٌ مِن ضَميرِ لَا تُؤْمِنُونَ، وهي مُفيدةٌ لتَوبيخِهم على الكُفرِ معَ تَحقُّقِ ما يُوجِبُ عدَمَه، بعْدَ تَوبيخِهم عليهِ مع عدَمِ ما يُوجِبُه، أيْ: وأيُّ عذْرٍ في ترْكِ الإيمانِ والرَّسولُ يَدعُوكم إليهِ، ويُنبِّهُكم عليه [207] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/205). ؟!
- وجُملةُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُستأنَفةٌ، وجَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/370). .
- واسمُ الفاعلِ في قولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُستعمَلٌ في المُستقبَلِ، بقَرينةِ وُقوعِه في سِياقِ الشَّرطِ، أي: فقدْ حصَلَ ما يَقتضي أنْ تُؤمِنوا مِن السَّببِ الظَّاهرِ، والسَّببِ الخفِيِّ المُرتكِزِ في الجِبِلَّةِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/370). . وذلك على قولٍ.
3- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ استِئنافٌ ثالثٌ انتقَلَ به الخِطابُ إلى المؤمنينَ، والخطابُ هنا وإنْ كان صالحًا لتَقريرِ ما أفادَتْه جُملةُ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ [الحديد: 8] ، ولكنَّ أُسلوبَ النَّظمِ وما عُطِفَ على هذه الجُملةِ يَقتضيانِ أنْ تكونَ استئنافًا انتقاليًّا، هو مِن حُسْنِ التَّخلُّصِ [210] حُسنُ التَّخَلُّصِ: هو الانتِقالُ ممَّا ابتُدئَ به الكلامُ إلى المقصودِ، أو مِن مَوضوعٍ إلى موضوعٍ آخَرَ بأسلوبٍ حَسَنٍ مُستطابٍ، على وَجهٍ سَهلٍ دَقيقِ المعنى، بحيث لا يَشعُرُ السَّامِعُ بالانتقالِ مِن المعنى الأوَّلِ إلَّا وقد وقعَ عليه الثَّاني؛ لشِدَّةِ الالتِئامِ بيْنَهما. وحُسنُ التَّخَلُّصِ مُتشابِهٌ جِدًّا مع الاستِطرادِ، إلَّا أنَّ بيْنَهما فَرقًا دقيقًا، بيانُه: أنَّ التَّخَلُّصَ تَركُ ما كان الكلامُ فيه بالكُلِّيَّةِ، والإقبالُ على ما تُخُلِّصَ إليه. والاستِطرادُ: مُرورٌ بذِكرِ الأمرِ الَّذي استُطرِدَ إليه مُرورًا كالبَرقِ الخاطِفِ، ثمَّ تَرْكُه والعودةُ إلى ما كان فيه، كأنَّ المتكَلِّمَ لم يَقصِدْه، وإنَّما عرَضَ عُروضًا. يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/329)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/373)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/561). إلى خِطابِ المسلِمينَ، مع الدَّلالةِ على تَقريرِ ما قبْلَه، ولا تَفوتُه الدَّلالةُ على تَقريرِ ما قبْلَه؛ لأنَّ التَّقريرَ يَحصُلُ مِن انتِسابِ المعْنيَينِ: معنْى الجُملةِ السَّابقةِ، ومعْنى هذه الجُملةِ المواليةِ؛ فهذه الجُملةُ بمَوقعِها ومعْناها وعِلَّتِها وما عُطِفَ عليها؛ أفادتْ بَيانًا، وتأْكيدًا، وتَعليلًا، وتَذييلًا [211] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). ، وتَخلُّصًا لغرَضٍ جديدٍ، وهي أغراضٌ جمَعَتْها جمْعًا بلَغَ حدَّ الإعجازِ في الإيجازِ، مع أنَّ كلَّ جُملةٍ منها مُستقِلَّةٌ بمعنًى عظيمٍ مِن الاستدلالِ والتَّذكيرِ والإرشادِ والامتنانِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/371). .
-وفي قَولِه: يُنَزِّلُ خُصوصيَّتَينِ؛ إحداهُما: التَّعبيرُ بصيغةِ (فعَّل) الدَّالَّةِ على التَّكريرِ، والثَّانيةُ: التَّعبيرُ بصيغةِ المُضارِعِ الدَّالَّةِ على التَّجدُّدِ والاستِمرارِ؛ لأنَّ المَقامَ للتَّبشيرِ بزيادةِ الإخراجِ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ يَومًا فيَومًا، وفي كلِّ حالٍ. وانظُرْ قَولَه في الآيةِ الأُخرى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران: 3] ، فلا تَجِدُ في نَزَّلَ إلَّا خُصوصيَّةً واحِدةً، وهي: التَّعبيرُ بصيغةِ (فعَّل)؛ لأنَّ المَقامَ للامتِنانِ، والامتِنانُ يَكونُ بما وقَعَ، لا بما سيَقَعُ [213] يُنظر: ((موجز البلاغة)) ابن عاشور (ص: 9، 10). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) واللَّامِ في قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ؛ لأنَّ المُشرِكين في إعراضِهم عن دَعوةِ الإسلامِ قد حَسِبوها إساءةً لهم ولآبائِهم وآلهَتِهم؛ فقد قالوا: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/372). [الفرقان: 41، 42].
4- قولُه تعالَى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
- قولُه: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... الآيةَ، الخِطابُ مُوجَّهٌ للمؤمنينَ، فقد أُعِيدَ الخِطابُ بلَونٍ غيرِ الَّذي ابتُدِئَ به في قولِه: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، ومِن لَطائفِه أنَّه مُوجَّهٌ إلى المنافِقين الَّذين ظاهِرُهم أنَّهم مُسلِمونَ وهمْ في الباطنِ مُشرِكون، فهمُ الذين شَحُّوا بالإنفاقِ، ووَجْهُ إلحاقِ هذه الآيةِ وهي مَدنيَّةٌ بالمكِّيِّ مِن السُّورةِ -على قولٍ-: مُناسَبةُ استيعابِ أحوالِ المُمسِكينَ عن الإنفاقِ مِن الكُفَّارِ والمؤمنينَ؛ تَعريضًا بالتَّحذيرِ مِن خِصالِ أهلِ الكفْرِ؛ إذ قد سبَقَها قولُه: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/372). [الحديد: 7].
- وهو تَوبيخٌ لهم على تَرْكِ الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ تَوبيخِهم على ترْكِ الإيمانِ بإنكارِ أنْ يكونَ لهم في ذلكَ أيضًا عُذْرٌ مِن الأعذارِ [216] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/206). .
- و(ما) استفهاميَّةٌ، مُستعمَلةٌ في اللَّومِ والتَّوبيخِ على عدَمِ إنفاقِهم في سَبيلِ اللهِ، و(أنْ) مَصدريَّةٌ، والمَصدرُ المُنسبِكُ منها والفِعلِ المنصوبِ بها في مَحلِّ جَرٍّ باللَّامِ، أو بـ(في) مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: ما حصَلَ لكمْ في عدَمِ إنفاقِكم؟! أي: ذلك الحاصلُ أمرٌ مُنكَرٌ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/373). .
- وحُذِفَ مفعولُ تُنْفِقُوا؛ لظُهورِ أنَّه الَّذي بُيِّنَ حالُه فيما سبَقَ، وللمُبالَغةِ في الحثِّ على الإنفاقِ، وعدَمِ البُخلِ بالمالِ [218] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/206). .
- وقولُه: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حالٌ مِن فاعلِ (لَا تُنْفِقُوا) ومَفعولِه، مُؤكِّدةٌ للتَّوبيخِ؛ فإنَّ ترْكَ الإنفاقِ بغيرِ سَببٍ قَبيحٌ مُنكَرٌ، ومع تَحقُّقِ ما يُوجِبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبْحِ، وأدخَلُ في الإنكارِ؛ فإنَّ بَيانَ بَقاءِ جَميعِ ما في السَّمواتِ والأرضِ مِن الأموالِ بالآخِرةِ للهِ عزَّ وجلَّ مِن غيرِ أنْ يَبقَى مِن أصحابِها أحدٌ؛ أقْوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم مِن بَيانِ أنَّها للهِ تعالى في الحقيقةِ، أو أنَّها انتقَلت إليهم مِن غيرِهم، كأنَّه قيلَ: وما لَكم في ترْكِ إنفاقِها في سَبيلِ الله والحالُ أنَّه لا يَبقَى لكُم منها شَيءٌ، بل تَبقى كلُّها للهِ تعالَى [219] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/474)، ((تفسير أبي حيان)) (10/102)، ((تفسير أبي السعود)) (8/206)، ((تفسير الألوسي)) (14/171). ؟!
- قولُه: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فيه إظهارُ الاسمِ الجَليلِ في مَوقِعِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، وتَربيةِ المَهابةِ [220] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/206). .
- وإضافةُ مِيرَاثُ إلى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِن إضافةِ المصدَرِ إلى المفعولِ، وهو على حذْفِ مُضافٍ، تَقديرُه: أهْلِها، وليس المُرادُ مِيراثَ ذاتِ السَّمواتِ والأرضِ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يَحصُلُ بعْدَ انقراضِ النَّاسِ، فلا يُؤثِّرُ في المقصودِ مِن حثِّهم على الإنفاقِ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/373). .
- قولُه: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ تَفاوُتِ درَجاتِ المُنفِقينَ حسَبَ تَفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ، بعْدَ بَيانِ أنَّ لهم أجرًا كَبيرًا على الإطلاقِ؛ حثًّا لهم على تَحرِّي الأفْضلِ [222] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((تفسير أبي السعود)) (8/206)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/455). .
- وهو استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عمَّا يَجولُ في خَواطرِ كثيرٍ مِن السَّامعينَ مِن أنَّهم تأخَّروا عن الإنفاقِ غيرَ ناوينَ تَرْكَه، ولكنَّهم سيَتدارَكونه. وأُدمِجَ [223] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). فيه تَفضيلُ جِهادِ بَعضِ المجاهِدينَ على بَعضٍ؛ لِمُناسَبةِ كَونِ الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ يَشملُ إنفاقَ المجاهِدِ على نفْسِه في العُدَّةِ والزَّادِ، وإنفاقَه على غيرِه ممَّن لم يَستكمِلْ عُدَّتَه ولا زادَهُ؛ ولأنَّ مِن المسلمينَ مَن يَستطيعُ الجهادَ ولا يَستطيعُ الإنفاقَ، فأُرِيدَ ألَّا يُغفَلَ ذِكْرُه في عِدادِ هذه الفضيلةِ؛ إذ الإنفاقُ فيها وَسيلةٌ لها [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/374). .
- وعطْفُ القِتالِ على الإنفاقِ للاستِطرادِ [225] الاستطراد: خروجُ المتكلِّمِ مِن الغرضِ الَّذي كان يتكلَّمُ فيه إلى غيرِه لِمُناسَبةٍ بيْنَهما، ثمَّ يرجِعُ إلى الأوَّل. ويكونُ المرورُ بذكرِ الأمرِ الَّذي استطرد إليه مرورًا كالبَرقِ الخاطِفِ ثمَّ تركه والعودة إلى ما كان فيه، كأنَّ المتكلِّمَ لم يَقصِدْه، وإنَّما عرَض عروضًا. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/373، 374)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 115). ، أو للإيذانِ بأنَّه مِن أهمِّ مَوادِّ الإنفاقِ مع كَونِه في نفْسِه مِن أفضَلِ العباداتِ، وأنَّه لا يَخلُو مِن الإنفاقِ أصلًا [226] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((تفسير أبي السعود)) (8/206). .
- ونفْيُ التَّسويةِ مُرادٌ به نفْيُها في الفَضيلةِ والثَّوابِ؛ فإنَّ نفْيَ التَّسويةِ في وصْفٍ يَقْتضي ثُبوتَ أصلِ ذلك الوصْفِ لجَميعِ مَن نُفِيَت عنهم التَّسويةُ، فنفْيُ التَّسويةِ كِنايةٌ عن تَفضيلِ أحدِ جانبَينِ، وتَنقيصِ الجانبِ الآخَرِ نقْصًا مُتفاوِتًا [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/375). .
- وحُذِفَ ثانِي الاستِواءَينِ -وهو قَسيمُ مَن أنفَقَ مِن قبْلِ الفتْحِ- إيجازًا؛ لأنَّ الاستِواءَ لا يتِمُّ إلَّا بعدَ شَيئينِ مُقدَّرينِ، وتَقديرُهما: لا يَستوي منكم مَن أنفَقَ مِن قبْلِ فتْحِ مكَّةَ وقوَّةِ الإسلامِ، ومَن أنفَقَ مِن بعْدِ الفتْحِ، فحُذِفَ؛ لوُضوحِ الدَّلالةِ عليه فيما بعْدَه [228] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/474)، ((تفسير البيضاوي)) (5/186)، ((تفسير أبي حيان)) (10/103)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 552)، ((تفسير أبي السعود)) (8/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/375)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/456). .
- وقولُه: مِنْكُمْ حالٌ مِن مَنْ أَنْفَقَ أصْلُه نعْتٌ، قُدِّمَ للاهتِمامِ؛ تَعجيلًا بهذا الوصْفِ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/376). .
- وجِيءَ باسمِ الإشارةِ في قولِه: أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً دونَ الضَّميرِ؛ لِما تُؤْذِنُ به الإشارةُ مِن التَّنويهِ والتَّعظيمِ، والإشعارِ ببُعدِ مَنزلتِهم، وعُلوِّ طَبقتِهم في الفضلِ، وللتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بما يُذكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ مِن أجْلِ ما ذُكِرَ قبْلَه مِن الإخبارِ [230] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/376). .
- قولُه: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى احتِراسٌ مِن أنْ يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ اسمَ التَّفضيلِ مَسلوبُ المُفاضَلةِ للمُبالَغةِ، وعُبِّرَ بلَفظِ الْحُسْنَى لبَيانِ أنَّ الدَّرجةَ هي دَرجةُ الحُسنَى؛ ليَكونَ للاحتِراسِ معْنًى زائدٌ على التَّأكيدِ، وهو ما فيه مِن البَيانِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/375، 376). .
- جُملةُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذييلٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/376). .
5- قولُه تعالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، مَوقعُ هذه الجُملةِ مَوقعُ التَّعليلِ والبَيانِ لجُملةِ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10] ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/377). .
- و(مَن) استِفهاميَّةٌ، والَّذِي يُقْرِضُ خبَرُها، وذَا مُعترِضةٌ لاستِحضارِ حالِ المُقترِضِ بمَنزلةِ الشَّخصِ الحاضرِ القريبِ. أو ذَا صِلةٌ، أي: زائدةٌ لمُجرَّدِ التأْكيدِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/377). .
- والفاءُ في جُملةِ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ فاءُ السَّببيَّةِ؛ لأنَّ المُضاعَفةَ مُسبَّبةٌ على القرْضِ، والمعْنى التَّحريضُ على الإقراضِ، وتَحصيلِ المُضاعَفةِ؛ لأنَّ الإقراضَ سَببُ المضاعَفةِ، فالعملُ لحُصولِ الإقراضِ كأنَّه عمَلٌ لحُصولِ المُضاعفةِ. أو على اعتبارِ مُبتدأٍ مَحذوفٍ؛ لِتَكونَ الجُملةُ اسميَّةً في التَّقديرِ، فيَقَعَ الخبرُ الفِعليُّ بعْدَ المبتدأِ مُفيدًا تَقويةَ الخبَرِ، وتأْكيدَ حُصولِه، واعتبارِ هذه الجُملةِ جوابًا لـ (مَن) المَوصولةِ بإشرابِ الموصولِ معْنى الشَّرطِ، وهو إشرابٌ كثيرٌ في القرآنِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/377، 378). .
- وضَميرُ النَّصبِ في فَيُضَاعِفَهُ عائدٌ إلى القرْضِ الحسَنِ، والكلامُ على حذْفِ مُضافٍ، تَقديرُه: فيُضاعِفَ جَزاءَه له [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/378). .
- وجُعِلَ الأجْرُ الكَريمُ مُقابِلَ القَرْضِ الحسَنِ؛ فقُوبِلَ بهذا مَوصوفٌ وصِفتُه بمِثْلِهما [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/378). .